تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 3 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 3

002

ذكر سبحانه فريق الشر بعد الفراغ من ذكر فريق الخير قاطعاً لهذا الكلام عن الكلام الأول، معنوناً له بما يفيد أن شأن جنس الكفرة عدم إجداء الإنذار لهم، وأنه لا يترتب عليهم ما هو المطلوب منهم من الإيمان، وأن وجود ذلك كعدمه. 
6- و"سواء" اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر، والهمزة وأم مجردتان لمعنى الاستواء غير مراد بهما ما هو أصلهما من الاستفهام، وصح الابتداء بالفعل والإخبار عنه بقوله: "سواء"، هجراً لجانب اللفظ إلى جانب المعنى، كأنه قال: الإنذار وعدمه سواء، كقولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه: أي سماعك. وأصل الكفر في اللغة: الستر والتغطية، قال الشاعر: في ليلة كفر النجوم غمامها أي سترها، ومنه سمي الكافر كافراً لأنه يغطي بكفره ما يجب أن يكون عليه من الإيمان. والإنذار: الإبلاغ والإعلام. قال القرطبي: واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقيل: هي عامة ومعناها الخصوص فيمن سبقت عليه كلمة العذاب، وسبق في علم الله أنه يموت على كفره. أراد الله تعالى أن يعلم الناس أن فيهم من هذا حاله دون أن يعين أحداً. وقال ابن عباس والكلبي: نزلت في رؤساء اليهود حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظرائهما. وقال الربيع بن أنس: نزلت فيمن قتل يوم بدر من قادة الأحزاب، والأول أصح، فإن من عين أحداً فإنما مثل بمن كشف الغيب بموته على الكفر انتهى. وقوله: "لا يؤمنون" خبر مبتدأ محذوف: أي هم لا يؤمنون، وهي جملة مستأنفة لأنها جواب سؤال مقدر كأنه قيل: هؤلاء الذي استوى حالهم مع الإنذار وعدمه ماذا يكون منهم؟ فقيل: "لا يؤمنون": أي هم لا يؤمنون: وقال في الكشاف: إنها جملة مؤكدة للجملة الأولى، أو خبر لأن والجملة قبلها اعتراض انتهى. والأولى ما ذكرناه، لأن المقصود الإخبار عن عدم الاعتداد بإنذارهم، وأنه لا يجدي شيئاً بل بمنزلة العدم، فهذه الجملة هي التي وقعت خبراً لأن، وما بعدها من عدم الإيمان متسبب عنها لا أنه المقصود. وقد قال بمثل قول الزمخشري والقرطبي. وقال ابن كيسان: إن خبر إن سواء، وما بعده يقوم مقام الصلة. وقال محمد بن يزيد المبرد: سواء رفع بالابتداء، وخبره "أأنذرتهم أم لم تنذرهم"، والجملة خبر إن، والختم: مصدر ختمت الشيء، ومعناه: التغطية على الشيء والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء، ومنه ختم الكتاب والباب وما يشبه ذلك حتى لا يوصل إلى ما فيه ولا يوضع فيه غيره. والغشاوة: الغطاء، ومنه غاشية السرج، والمراد بالختم والغشاوة هنا هما المعنويان لا الحسيان: أي لما كانت قلوبهم غير واعية لما وصل إليها، والأسماع غير مؤدية لما يطرقها من الآيات البينات إلى العقل على وجه مفهوم، والأبصار غير مهدية للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته جعلت بمنزلة الأشياء المختوم عليها ختماً حسياً، والمستوثق منها استيثاقاً حقيقياً، والمغطاة بغطاء مدرك استعارة أو تمثيلاً، وإسناد الختم إلى الله قد احتج به أهل السنة على المعتزلة، وحاولوا دفع هذه الحجة بمثل ما ذكره صاحب الكشاف، والكلام على مثل هذا متقرر في مواطنه.
وقد اختلف في قوله تعالى: 7- "وعلى سمعهم" هل هو داخل في حكم الختم فيكون معطوفاً على القلوب أو في حكم التغشية، فقيل: إن الوقف على قوله: "وعلى سمعهم" تام، وما بعده كلام مستقل، فيكون الطبع على القلوب والأسماع، والغشاوة على الأبصار كما قاله جماعة، وقد قرئ: "غشاوة" بالنصب. قال ابن جرير: يحتمل أنه نصبها بإضمار فعل تقديره: وجعل على أبصارهم غشاوة، ويحتمل أن يكون نصبها على الإتباع على محل وعلى سمعهم، كقوله تعالى: "وحور عين" وقول الشاعر: علفتها تبناً وماء بارداً إنما وحد السمع مع جمع القلوب والأبصار، لأنه مصدر يقع على القليل والكثير. والعذاب: هو ما يؤلم، وهو مأخوذ من الحبس والمنع، يقال في اللغة أعذبه عن كذا: حبسه ومنعه، ومنه عذوبة الماء لأنها حبست في الإناء حتى صفت. وقد أخرج ابن جريروابن أبي حاتم والطبراني في الكبير وإبن مردويه والبيهقي عن ابن عباس في قوله "سواء عليهم أأنذرتهم" قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أيضاً في تفسير الآية: أنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق، فكيف يسمعون منك إنذاراً وتحذيراً، وقد كفروا بما عندهم من علمك. "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "إن الذين كفروا" قال: نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب، وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية: "ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً" قال: فهم الذين قتلوا يوم بدر، ولم يدخل القادة في الإسلام إلا رجلان: أبو سفيان، والحكم بن العاص. وأخرج ابن المنذر عن السدي في قوله: "أأنذرتهم أم لم تنذرهم" قال: أوعظتهم أم لم تعظهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في هذه الآية قال: أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم، فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون هدى، ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: الختم على قلوبهم وعلى سمعهم والغشاوة على أبصارهم. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم فلا يعقلون ولا يسمعون، وجعل على أبصارهم: يعني أعينهم غشاوة فهم لا يبصرون. وروى ذلك السدي عن جماعة من الصحابة. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: الختم على القلب والسمع، والغشاوة على البصر، قال الله تعالى: "فإن يشإ الله يختم على قلبك" وقال: "وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة". قال ابن جرير في معنى الختم: والحق عندي في ذلك ما صح نظيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر إسناداً متصلاً بأبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كان نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تغلق قلبه" فذلك الران الذي قال الله: "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون". وقد رواه من هذا الوجه الترمذي وصححه والنسائي. ثم قال ابن جرير فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله سبحانه والطبع فلا يكون إليها مسلك ولا للكفر منها مخلص، فذلك هو الختم الذي ذكره الله في قوله: "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم" نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها، فذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم إلا بعد فض خاتمه، وحل رباطه عنها.
8- " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين " ذكر سبحانه وتعالى في أول هذه السورة المؤمنين الخلص، ثم ذكر بعدهم الكفرة الخلص، ثم ذكر ثالثاً المنافقين وهم الذين لم يكونوا من إحدى الطائفتين، بل صاروا فرقة ثالثة لأنهم وافقوا في الظاهر الطائفة الأولى وفي الباطن الطائفة الثانية، ومع ذلك فهم أهل الدرك الأسفل من النار. وأصل ناس حذفت همزته تخفيفاً، وهو من النوس وهو الحركة، يقال: ناس ينوس: أي تحرك، وهو من أسماء الجموع جمع إنسان وإنسانة على غير لفظه، واللام الداخلة عليه للجنس، ومن تبعيضية، أي بعض الناس، ومن موصوفة: أي ومن الناس ناس يقول. والمراد باليوم الآخر: الوقت الذي لا ينقطع، بل هو دائم أبداً.
والخداع في أصل اللغة: الفساد حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي، وأنشد: أبيض اللون رقيق طعمه طيب الريق إذا الريق خدع وقيل: أصله الإخفاء، ومنه مخدع البيت الذي يحرز فيه الشيء، حكاه ابن فارس وغيره. والمراد من مخادعتهم لله أنهم صنعوا معه صنع المخادعين، وإن كان العالم الذي لا يخفى عليه شيء لا يخدع. وصيغة فاعل تفيد الاشتراك في أصل الفعل، فكونهم يخادعون الله والذين آمنوا يفيد أن الله سبحانه والذين آمنوا يخادعونهم. والمراد بالمخادعة من الله: أنه لما أجرى عليهم أحكام الإسلام مع أنهم ليسوا منه في شيء، فكأنه خادعهم بذلك كما خادعوه بإظهار الإسلام وإبطان الكفر مشاكلة لما وقع منهم بما وقع منه. والمراد بمخادعة المؤمنين لهم: هو أنهم أجروا عليهم ما أمرهم الله به من أحكام الإسلام ظاهراً وإن كانوا يعلمون فساد بواطنهم، كما أن المنافقين خادعوهم بإظهار الإسلام وإبطان الكفر. والمراد بقوله تعالى: 9- " وما يخدعون إلا أنفسهم " الإشعار بأنهم لما خادعوا من لا يخدع كانوا مخادعين لأنفسهم، لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن. وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه وما يشعر بذلك، ومن هذا قول من قال: من خادعته فانخدع لك فقد خدعتك. وقد قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو يخادعون في الموضعين، وقرأن حمزة وعاصم والكسائي وابن عامر في الثاني يخدعون. والمراد بمخادعتهم أنفسهم: أنهم يمنونها الأماني الباطلة وهي كذلك تمنيهم. قال أهل اللغة: شعرت بالشيء فطنت. قال في الكشاف: والشعور علم الشيء علم حس، من الشعار -ومشاعر الإنسان: حواسه. والمعنى: أن لحوق ضرر ذلك لهم كالمحسوس، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له. والمراد بالأنفس هنا ذواتهم لا سائر المعاني التي تدخل في مسمى النفس كالروح والدم والقلب. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم المنافقون من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال: والمراد بهذه الآية المنافقون. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة مثله. وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين قال: لم يكن عندهم شيء أخوف من هذه الآية: "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين". وأخرج ابن سعد عن حذيفة أنه قيل له: ما النفاق؟ قال: أن يتكلم بالإسلام ولا يعمل به. وأخرج أحمد بن منيع في مسنده بسند ضعيف عن رجل من الصحابة "أن قائلاً من المسلمين قال: يا رسول الله ما النجاة غداً؟ قال: لا تخادع الله قال: وكيف نخادع الله؟ قال: أن تعمل بما أمرك الله به تريد به غيره، فاتقوا الرياء فإنه الشرك بالله، فإن المرائي ينادي يوم القيامة على رؤوس الخلائق بأربعة أسماء: يا كافر يا فاجر يا خاسر يا غادر، ضل عملك وبطل أجرك فلا خلاف ذلك اليوم عند الله، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع، وقرأ آيات من القرآن "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً" الآية، و"إن المنافقين يخادعون الله" الآية". وأخرج ابن جرير عن ابن وهب قال: سألت ابن زيد عن قوله: "يخادعون الله والذين آمنوا" قال: هؤلاء المنافقون يخادعون الله ورسوله، والذين آمنوا أنهم يؤمنون بما أظهروه. وعن قوله: " وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون " أنهم ضروا أنفسهم بما أضمروا من الكفر والنفاق. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله: "يخادعون الله" قال: يظهرون لا إله إلا الله يريدون أن يحزروا بذلك دماءهم وأموالهم وفي أنفسهم غير ذلك.
المرض: كل ما يخرج به الإنسان عن حد الصحة من علة أو إنفاق أو تقصير في أمر، قاله ابن فارس، وقيل: هو الألم، فيكون على هذا مستعاراً للفساد الذي في عقائدهم إما شكاً ونفاقاً، أو جحداً وتكذيباً، وتقديم الخبر للإشعار بأن المرض مختص بها بمبالغة في تعلق هذا الداء بتلك القلوب لما كانوا عليه من شدة الحسد وفرط العداوة. والمراد بقوله: 10- "فزادهم الله مرضاً" الإخبار بأنهم كذلك بما يتجدد لرسول الله صلى الله عليه وسلم من النعم، ويتكرر له من منن الله الدنيوية والدينية. ويحتمل أن يكون دعاء عليهم بزيادة الشك وترادف الحسرة وفرط النفاق. والأليم المؤلم: أي الموجع، وما في قوله: "بما كانوا يكذبون" مصدرية: أي بتكذيبهم وهو قولهم: "آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين" والقراء مجمعون على فتح الراء من قوله: مرض، إلا ما رواه الأصمعي عن أبي عمرو أنه قرأ بإسكان الراء، وقرأ حمزة وعاصم والكسائي "يكذبون" بالتخفيف، والباقون بالتشديد. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: "في قلوبهم مرض" قال: شك "فزادهم الله مرضاً" قال شكاً. وأخرج عنه ابن جرير وابن أبي حاتم في قوله: "في قلوبهم مرض" قال النفاق: "ولهم عذاب أليم" قال: نكال موجع "بما كانوا يكذبون" قال: يبدلون ويحرفون. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود مثل ما قاله ابن عباس أولاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كل شيء في القرآن أليم فهو الموجع. وأخرج أيضاً عن أبي العالية مثله. وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله أيضاً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة "في قلوبهم مرض" أي ريبة وشك في أمر الله "فزادهم الله مرضاً" ريبة وشكاً "ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون" قال: إياكم والكذب فإنه باب النفاق. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: هذا مرض في الدين وليس مرضاً في الأجساد وهم المنافقون. والمرض: الشك الذي دخل في الإسلام. وروي عن عكرمة وطاوس أن المرض: الرياء.
11- "إذا" في موضع نصب على الظرف والعامل فيه قالوا: المذكور بعده. وفيه معنى الشرط. والفساد ضد الصلاح، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدها. فسد الشيء يفسد فساداً وفسوداً فهو فاسد وفسيد. والمراد في الآية: "لا تفسدوا في الأرض" بالنفاق وموالاة الكفرة وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، فإنكم إذا فعلتم ذلك فسد ما في الأرض بهلاك الأبدان وخراب الديار وبطلان الذرائع، كما هو مشاهد عند ثوران الفتن والتنازع. وإنما من أدوات القصر كما هو مبين في علم المعاني. والصلاح ضد الفساد. لما نهاهم الله عن الفساد الذي هو دأبهم أجابوا بهذه الدعوى العريضة، ونقلوا أنفسهم من الاتصاف بما هي عليه حقيقة وهو الفساد، إلى الاتصاف بما هو ضد لذلك وهو الصلاح، ولم يقفوا عند هذا الكذب البحت والزور المحض حتى جعلوا صفة الصلاح مختصة بهم خالصة لهم، فرد الله عليهم ذلك أبلغ رد لما يفيده حرف التنبيه من تحقق ما بعده، ولما في إن من التأكيد، وما في تعريف الخبر مع توسيط ضمير الفصل من الحصر المبالغ فيه بالجمع بين أمرين من الأمور المفيدة له، وردهم إلى صفة الفساد التي هي متصفون بها في الحقيقة رداً مؤكداً مبالغاً فيه بزيادة على ما تضمنته دعواهم الكاذبة من مجرد الحصر المستفاد من إنما. وأما نفي الشعور عنهم فيحتمل أنهم لما كانوا يظهرون الصلاح مع علمهم أنهم على الفساد الخالص، ظنوا أن ذلك ينفق على النبي صلى الله عليه وسلم وينكتم عنه بطلان ما أضمروه، ولم يشعروا بأنه عالم به، وأن الخبر يأتيه بذلك من السماء، فكان نفي الشعور عنهم من هذه الحيثية لا من جهة أنهم لا يشعرون بأنهم على الفساد. ويحتمل أن فسادهم كان عندهم صلاحاً لما استقر في عقولهم من محبة الكفر وعداوة الإسلام. وقد أخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال: الفساد هنا هو الكفر والعمل بالمعصية. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إنما نحن مصلحون" أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في تفسير هذه الآية قال: إذا ركبوا معصية فقيل لهم: لا تفعلوا كذا قالوا: إنما نحن على الهدى. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن سلمان أنه قرأ هذه الآية فقال: لم تجئ أهل هذه الآية بعد. قال ابن جرير: يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فساداً من الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لا أنه غنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد انتهى. ويحتمل أن سلمان يرى أن هذه الآية ليست في المنافقين، بل يحملها على مثل أهل الفتن التي يدين أهلها بوضع السيف في المسلمين، كالخوارج وسائر من يعتقد في فساده أنه صلاح لما يطرأ عليه من الشبه الباطلة.
12- "ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون".
أي وإذا قيل للمنافقين: آمنوا كما آمن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار أجابوا بأحمق جواب وأبعده عن الحق والصواب، فنسبوا إلى المؤمنين السفه استهزاءً واستخفافاً، فتسببوا بذلك إلى تسجيل الله عليهم بالسفه بأبلغ عبارة وآكد قول. وحصر السفاهة وهي رقة الحلوم وفساد البصائر وسخافة العقول فيهم مع كونهم لا يعلمون أنهم كذلك إما حقيقة أو مجازاً، تنزياً لإصرارهم على السفه منزلة عدم العلم بكونهم عليه وأنهم متصفون به، ولما ذكر الله هنا السفه ناسبه نفي العلم عنهم لأنه لا يتسافه إلا جاهل. والكاف في موضع نصب لأنها نعت لمصدر محذوف: أي إيماناً كإيمان الناس. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: 13- "وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس" أي صدقوا كما صدق أصحاب محمد أنه نبي ورسول، وأن ما أنزل عليه حق، "قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء" يعنون أصحاب محمد "ألا إنهم هم السفهاء" يقول: الجهال: "ولكن لا يعلمون" يقول: لا يعقلون. وروي عن ابن عساكر في تاريخه بسند واه أنه قال: آمنوا كما آمن الناس أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: "كما آمن السفهاء" قال: يعنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج عن الربيع وابن زيد مثله. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت في شأن اليهود: أي إذا قيل لهم: يعني اليهود "آمنوا كما آمن الناس" عبد الله بن سلام وأصحابه "قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء".
14- "لقوا" أصله يلقوا، نقلت الضمة إلى القاف وحذفت الياء لالتقاء الساكنين. ومعنى لقيته ولاقيته: استقبلته قريباً. وقرأ محمد بن السميفع اليماني وأبو حنيفة لاقوا، وأصله لاقيوا تحركت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفاً. ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. وخلوت بفلان وإليه: إذا انفردت به. وإنما عدي بإلى وهو يتعدى بالباء فقال: خلوت به لا خلوت إليه، لتضمنه معنى ذهبوا وانصرفوا. والشياطين جمع شيطان على التكسير. وقد اختلف كلام سيبويه في نون الشيطان فجعلها في موضع من كتابه أصلية وفي آخر زائدة، فعلى الأول هو من شطن أي بعد عن الحق، وعلى الثاني من شط: أي بعد أو شاط: أي بطل، وشاط: أي احترق، وأشاط: إذا هلك قال: وقد يشيط على أرماحنا البطل أي يهلك. وقال آخر: وأبيض ذي تاج أشاطت رماحنا لمعترك بين الفوارس أقتما أي أهلكت. وحكى سيبويه أن العرب تقول: تشيطن فلان: إذا فعل أفعال الشياطين. ولو كان من شاط لقالوا: تشيط، ومنه قول أمية بن أبي الصلت: أيما شاطن عصاه عكا ه ورماه في السجن والأغلال وقوله: "إنا معكم" معناه مصاحبوكم في دينكم وموافقوكم عليه. والهزؤ: السخرية واللعب. قال الراجز: قد هزئت مني أم طيسله قالت أراه معدماً لا مال له قال في الكشاف: وأصل الباب الخفة من الهزء وهو القتل السريع، وهزأ يهزأ: مات على المكان. عن بعض العرب مشيت فلغبت فظننت لأهزأن على مكاني، وناقته تهزأ به: أي تسرع وتخف انتهى. وقيل: أصله الانتقام، قال الشاعر: قد استهزءوا منهم بألفي مدجج سراتهم وسط الصحاصح جثم فأفاد قولهم: "إنا معكم" أنهم ثابتون على الكفر، وأفاد قولهم: " إنما نحن مستهزئون " ردهم للإسلام ورفعهم للحق، وكأنه جواب سؤال مقدر ناشئ من قولهم إنا معكم: أي إذا كنتم معنا فما بالكم إذا لقيتم المسلمين وافقتموهم؟ فقالوا: إنما نحن مستهزئون بهم في تلك الموافقة، ولم تكن بواطننا موافقة لهم ولا مائلة إليهم.
فرد الله ذلك عليهم بقوله: 15- "الله يستهزئ بهم" أي ينزل بهم الهوان والحقارة وينتقم منهم ويستخف بهم انتصافاً منهم لعباده المؤمنين، وإنما جعل سبحانه ما وقع منه استهزاءً مع كونه عقوبة ومكافأة مشاكلة: وقد كانت العرب إذا وضعت لفظاً بإزاء لفظ جواباً له وجزاءً ذكرته بمثل ذلك اللفظ وإن كان مخالفاً له في معناه. وورد في ذلك في القرآن كثيراً، ومنه "وجزاء سيئة سيئة مثلها" "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" والجزاء لا يكون سيئة. والقصاص لا يكون اعتداءً لأنه حق، ومنه "ومكروا ومكر الله" " إنهم يكيدون كيدا * وأكيد كيدا "، "يخادعون الله والذين آمنوا"، "يخادعون الله وهو خادعهم"، "تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك". وهو في السنة كثير كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يمل حتى تملوا" وإنما قال: "الله يستهزئ بهم" لأنه يفيد التجدد وقتاً بعد وقت، وهو أشد عليهم وأنكأ لقلوبهم وأوجع لهم من الاستهزاء الدائم الثابت المستفاد من الجملة الإسمية، لما هو محسوس من أن العقوبة الحادثة وقتاً بعد وقت، والمتجددة حيناً بعد حين، أشد على من وقعت عليه من العذاب الدائم المستمر لأنه يألفه ويوطن نفسه عليه. والمد: الزيادة. قال يونس بن حبيب: يقال مد في الشر وأمد في الخير، ومنه "وأمددناكم بأموال وبنين"، " وأمددناهم بفاكهة ولحم ". وقال الأخفش: مددت له إذا تركته، وأمددت: إذا أعطيته. وقال الفراء واللحياني: مددت فيما كانت زيادته زيادته من مثله، يقال: مد النهر، ومنه "والبحر يمده من بعده سبعة أبحر" وأمددت فيما كانت زيادته من غيره، ومنه "يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة" والطغيان مجاوزة الحد والغلو في الكفر ومنه " إنا لما طغى الماء " أي تجاوز المقدار الذي قدرته الخزان، وقوله في فرعون: "إنه طغى" أي أسرف في الدعوى حيث قال: "أنا ربكم الأعلى". والعمه والعامه: الحائر المتردد، وذهبت إبله لعمهي: إذا لم يدر أين ذهبت، والعمه في القلب كالعمى في العين. قال في الكشاف: العمه مثل العمى، إلا أن العمى في البصر والرأي، والعمه في الرأي خاصة انتهى. والمراد أن الله سبحانه يطيل لهم المدة ويمهلهم كما قال: "إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً". قال ابن جرير: "في طغيانهم يعمهون" في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم يترددون حيارى ضلالاً لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً، لأن الله قط طبع على قلوبهم وختم عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً. وقد أخرج الواحدي والثعلبيبسند واه، لأن فيه محمد بن مروان وهو متروك، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه، وذكر قصة وقعت لهم مع أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو بعضهم قالوا: إنا على دينكم "وإذا خلوا إلى شياطينهم" وهم إخوانهم قالوا: "إنا معكم" على مثل ما أنتم عليه " إنما نحن مستهزئون " بأصحاب محمد "الله يستهزئ بهم" قال: يسخر بهم للنقمة منهم "ويمدهم في طغيانهم" قال: في كفرهم "يعمهون" قال: يترددون. وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه بمعناه وأطول منه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه بنحو الأول. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: "وإذا خلوا إلى شياطينهم" قال: رؤسائهم في الكفر. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال: "وإذا خلوا" أي مضوا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحو ما قاله ابن مسعود، وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: "ويمدهم" قال: يملي لهم "في طغيانهم يعمهون" قال: في كفرهم يتمادون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحو ما قاله ابن مسعود في تفسير يعمهون. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد "يمدهم" يزيدهم "في طغيانهم يعمهون" قال: يلعبون ويترددون في الضلالة. وأخرج أحمد في المسند عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن، فقلت: يا رسول الله وللإنس شياطين؟ قال: نعم.
قال سيبويه: صحت الواو في 16- "اشتروا" فرقاً بينها وبين الواو الأصلية في نحو " وألو استقاموا ". وقال الزجاج: حركت بالضم كما يفعل في نحن. وقرأ يحيى بن يعمر بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين. وقرأ أبو السماك العدوى بفتحها لخفة الفتحة. وأجاز الكسائي همز الواو. والشراء هنا مستعار للاستبدال: أي استبدلوا الضلالة بالهدى كقوله تعالى: "فاستحبوا العمى على الهدى" فأما أن يكون معنى الشراء المعاوضة كما هو أصله حقيقة فلا، لأن المنافقين لم يكونوا مؤمنين فيبيعوا إيمانهم، والعرب قد تستعمل ذلك في كل من استبدل شيئاً بشيء. قال أبو ذؤيب: فإن تزعميني كنت أجهل فيكمو فإن شريت الحلم بعدك بالجهل وأصل الضلالة الحيرة والجور عن القصد وفقد الاهتداء، وتطلق على النسيان، ومنه قوله تعالى: "قال فعلتها إذاً وأنا من الضالين"، وعلى الهلاك كقوله: " وقالوا أإذا ضللنا في الأرض " وأصل الربح الفضل. والتجارة: صناعة التاجر، وأسند الربح إليها على عادة العرب في قولهم: ربح بيعك وخسرت صفقتك، وهو من الإسناد المجازي، وهو إسناد الفعل إلى ملابس للفاعل كما هو مقرر في علم المعاني. والمراد: ربحوا وخسروا. والاهتداء قد سبق تحقيقه: أي وما كانوا مهتدين في شرائهم الضلالة، وقيل: في سابق علم الله. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "اشتروا الضلالة بالهدى". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال: استحبوا الضلالة على الهدى، قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة.