سورة مريم | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 307 من المصحف
قوله تعالى: "فكلي واشربي وقري عينا" أي فكلي من الجني، وأشربي من السري، وقري عينا برؤية الولد النبي. وقرئ بفتح القاف وهي قراءة الجمهور. وحكى الطبري قراءة "وقري" بكسر القاف وهي لغة نجد. يقال: قر عينا يقر ويقر بضم القاف وكسرها وأقر الله عينه فقرت. وهو مأخوذ من القر والقرة وهما البرد. ودمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة. وضعف فرقة هذا وقالت: الدمع كله حار، فمعنى أقر الله عينه أي سكن الله عينه بالنظر إلى من يحبه حتى تقر وتسكن؛ وفلان قرة عيني؛ أي نفسي تسكن بقربه. وقال الشيباني: "وقري عينا" معناه نامي حضها على الأكل والشرب والنوم. قال أبو عمرو: أقر الله عينه أي أنام عينه، وأذهب سهره. و"عينا" نصب على التمييز؛ كقولك: طب نفسا. والفعل في الحقيقة إنما هو للعين فنقل ذلك إلى ذي العين؛ وينصب الذي كان فاعلا في الحقيقة على التفسير. ومثله طبت نفسا، وتفقأت شحما، وتصببت عرقا، ومثله كثير.
قوله تعالى: "فإما ترين" الأصل في ترين ترأيين فحذفت الهمزة كما حذفت من ترى ونقلت فتحتها إلى الراء فصار "تريين" ثم قلبت الياء الأولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فاجتمع ساكنان الألف المنقلبة عن الياء وياء التأنيث، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار ترين، ثم حذفت النون علامة للجزم لأن إن حرف شرط وما صلة فبقي تري، ثم دخله نون التوكيد وهي مثقلة، فكسر ياء التأنيث لالتقاء الساكنين؛ لأن النون المثقلة بمنزلة نونين الأولى ساكنة فصار ترين وعلى هذا النحو قول ابن دريد:
إما تري رأسي حاكى لونه
وقول الأفوه:
إما تري رأسي أزرى به
وإنما دخلت النون هنا بتوطئة "ما" كما يوطئ لدخولها أيضا لام القسم. وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة "ترين" بسكون الياء وفتح النون خفيفة؛ قال أبو الفتح: وهى شاذة.
قوله تعالى: "فقولي إني نذرت" هذا جواب الشرط وفيه إضمار؛ أي فسألك عن ولدك "فقولي إني نذرت للرحمن صوما" أي صمتا؛ قاله ابن عباس وأنس بن مالك. وفي قراءة أبي بن كعب "إني نذرت للرحمن صوما صمتا" وروي عن أنس. وعنه أيضا "وصمتا" بواو، واختلاف اللفظين يدل على أن الحرف ذكر تفسيرا لا قرآنا؛ فإذا أتت معه واو فممكن أن يكون غير الصوم. والذي تتابعت به الأخبار عن أهل الحديث ورواة اللغة أن الصوم هو الصمت؛ لأن الصوم إمساك والصمت إمساك عن الكلام. وقيل: هو الصوم والمعروف، وكان يلزمهم الصمت يوم الصوم إلا بالإشارة. وعلى هذا تخرج قراءة أنس "وصمتا" بواو، وأن الصمت كان عندهم في الصوم ملتزما بالنذر، كما أن من نذر منا المشي إلى البيت اقتضى ذلك الإحرام بالحج أو العمرة. ومعنى هذه الآية أن الله تعالى أمرها على لسان جبريل عليه السلام - أو ابنها على الخلاف المتقدم - بأن تمسك عن مخاطبة البشر، وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها، وتتبين الآية فيقوم عذرها. وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الألفاظ التي في الآية، وهو قول الجمهور. وقالت فرقة: معنى "قولي" بالإشارة لا بالكلام. الزمخشري: وفيه أن السكوت عن السفيه واجب، ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها.
من التزم بالنذر ألا يكلم أحدا من الآدميين فيحتمل أن يقال إنه قربة فيلزم بالنذر، ويحتمل أن يقال: ذلك لا يجوز في شرعنا لما فيه من التضييق وتعذيب النفس؛ كنذر القيام في الشمس ونحوه. وعلى هذا كان نذر الصمت في تلك الشريعة لا في شريعتنا؛ وقد تقدم. وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق بالكلام. وهذا هو الصحيح لحديث أبي إسرائيل، خرجه البخاري عن ابن عباس. وقال ابن زيد والسدي: كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام.
قلت: ومن سنتنا نحن في الصيام الإمساك عن الكلام القبيح؛ قال عليه الصلاة والسلام: (إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم). وقال عليه الصلاة والسلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).
الآيتان: 27 - 28 {فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا، يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغي}
قوله تعالى: "فأتت به قومها تحمله" روى أن مريم لما اطمأنت بما رأت من الآيات، وعلمت أن الله تعالى سيبين عذرها، أتت به تحمله من المكان القصي الذي كانت انتبذت فيه. قال ابن عباس: خرجت من عندهم حين أشرقت الشمس، فجاءتهم عند الظهر ومعها صبي تحمله، فكان الحمل والولادة في ثلاث ساعات من النهار. وقال الكلبي: ولدت حيث لم يشعر بها قومها، ومكثت أربعين يوما للنفاس، ثم أتت قومها تحمله، فلما رأوها ومعها الصبي حزنوا وكانوا أهل بيت صالحين؛ فقالوا منكرين: "قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا" أي جئت بأمر عظيم كالآتي بالشيء يفتريه. قال مجاهد: "فريا" عظيما. وقال سعيد بن مسعدة: أي مختلقا مفتعلا؛ يقال: فريت وأفريت بمعنى واحد. والولد من الزنى كالشيء المفترى. قال الله تعالى: "ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن" [الممتحنة: 12] أي بولد بقصد إلحاقه بالزوج وليس منه. يقال: فلان يفري الفري أي يعمل العمل البالغ، وقال أبو عبيدة: الفري العجيب النادر، وقاله الأخفش قال: فريا عجيبا. والفري القطع كأنه مما يخرق العادة، أو يقطع القول بكونه عجيبا نادرا. وقال قطرب: الفري الجديد من الأسقية؛ أي جئت بأمر جديد بديع لم تسبقي إليه. وقرأ أبو حيوة: "شيئا فريا" بسكون الراء. وقال السدي ووهب بن منبه: لما أتت به قومها تحمله تسامع بذلك بنو إسرائيل، فاجتمع رجالهم ونساؤهم، فمدت امرأة يدها إليها لتضربها فأجف الله شطرها فحملت كذلك. وقال آخر: ما أراها إلا زنت فأخرسه الله تعالى؛ فتحامى الناس من أن يضربوها، أو يقولوا لها كلمة تؤذيها، وجعلوا يخفضون إليها القول ويلينون؛ فقالوا: "يا مريم لقد جئت شيئا فريا" أي عظيما قال الراجز:
أطعمتني دقلا حوليا مسوسا مدودا حجريا
قد كنت تفرين به الفريا
أي [تعظمينه].
قوله تعالى: "يا أخت هارون" اختلف الناس في معنى هذه الأخوة ومن هارون؟ فقيل: هو هارون أخو موسى؛ والمراد من كنا نظنها مثل هارون في العبادة تأتي بمثل هذا. وقيل: على هذا كانت مريم من ولد هارون أخي موسى فنسبت إليه بالأخوة لأنها من ولده؛ كما يقال للتميمي: يا أخا تميم وللعربي يا أخا العرب وقيل كان لها أخ من أبيها اسمه هارون؛ لأن هذا الاسم كان كثيرا في بني إسرائيل تبركا باسم هارون أخي موسى، وكان أمثل رجل في بني إسرائيل؛ قاله الكلبي. وقيل: هارون هذا رجل صالح في ذلك الزمان تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا كلهم اسمه هارون. وقال قتادة: كان في ذلك الزمان في بني إسرائيل عابد منقطع إلى الله عز وجل يسمى هارون فنسبوها إلى أخوته من حيث كانت على طريقته قبل؛ إذ كانت موقوفة على خدمة البيع؛ أي يا هذه المرأة الصالحة ما كنت أهلا لذلك. وقال كعب الأحبار بحضرة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: إن مريم ليست بأخت هارون أخي موسى؛ فقالت له عائشة: كذبت. فقال لها: يا أم المؤمنين إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فهو أصدق وأخبر، وإلا فإني أجد بينهما من المدة ستمائة سنة. قال: فسكتت. وفي صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة قال: لما قدمت نجران سألوني فقال إنكم تقرؤون "يا أخت هارون" وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك، فقال: (إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم). وقد جاء في بعض طرقه في غير الصحيح أن النصارى قالوا له: إن صاحبك يزعم أن مريم هي أخت هارون وبينهما في المدة ستمائة سنة؟ ! قال المغيرة: فلم أدر ما أقول؛ وذكر الحديث. والمعنى أنه اسم وافق اسما. ويستفاد من هذا جواز التسمية بأسماء الأنبياء؛ والله أعلم.
قلت: فقد دل الحديث الصحيح أنه كان بين موسى وعيسى وهارون زمان مديد. الزمخشري: كان بينهما وبينه ألف سنة أو أكثر فلا يتخيل أن مريم كانت أخت موسى وهارون؛ وإن صح فكما قال السدي لأنها كانت من نسله؛ وهذا كما تقول للرجل من قبيلة: يا أخا فلان. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أخا صداء قد أذن فمن أذن فهو يقيم) وهذا هو القول الأول. ابن عطية: وقالت فرقة بل كان في ذلك الزمان رجل فاجر اسمه هارون فنسبوها إليه على جهة التعيير والتوبيخ؛ ذكره الطبري ولم يسم قائله.
قلت: ذكره الغزنوي عن سعيد بن جبير أنه كان فاسقا مثلا في الفجور فنسبت إليه. والمعنى: ما كان أبوك ولا أمك أهلا لهذه الفعلة فكيف جئت أنت بها؟ ! وهذا من التعريض الذي يقوم مقام التصريح. وذلك يوجب عندنا الحد وسيأتي في سورة "النور" القول فيه إن شاء الله تعالى. وهذا القول الأخير يرده الحديث الصحيح، وهو نص صريح فلا كلام لأحد معه، ولا غبار عليه. والحمد لله. وقرأ عمر بن لجأ التيمي (ما كان أباك امرؤ سوء).
الآيات: 29 - 33 {فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا، قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا، وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا، وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا، والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حي}
قوله تعالى: "فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا" التزمت مريم عليها السلام ما أمرت به من ترك الكلام، ولم يرد في هذه الآية أنها نطقت بـ "إني نذرت للرحمن صوما" وإنما ورد بأنها أشارت، فيقوى بهذا قول من قال: إن أمرها بـ "قولي" إنما أريد به الإشارة. ويروى أنهم لما أشارت إلى الطفل قالوا: استخفافها بنا أشد علينا من زناها، ثم قالوا لها على جهة التقرير "كيف نكلم من كان في المهد صبيا" و"كان" هنا ليس يراد بها الماضي؛ لأن كل واحد قد كان في المهد صبيا، وإنما هي في معنى هو (الآن). وقال أبو عبيدة: (كان) هنا لغو؛ كما قال:
وجيران لنا كانوا كرام
وقيل: هي بمعنى الوجود والحدوث كقوله: "وإن كان ذو عسرة" وقد تقدم. وقال ابن الأنباري: لا يجوز أن يقال زائدة وقد نصبت "صبيا" ولا أن يقال "كان" بمعنى حدث، لأنه لو كانت بمعنى الحدوث والوقوع لاستغنى فيه عن الخبر، تقول: كان الحر وتكتفي به. والصحيح أن "من" في معنى الجزاء و"كان" بمعنى يكن؛ التقدير: من يكن في المهد صبيا فكيف نكلمه؟ ! كما تقول: كيف أعطي من كان لا يقبل عطية؛ أي من يكن لا يقبل. والماضي قد يذكر بمعنى المستقبل في الجزاء؛ كقوله تعالى "تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار" أي إن يشأ يجعل. وتقول: من كان إلي منه إحسان كان إليه مني مثله، أي من يكن منه إلي إحسان يكن إليه مني مثله. "والمهد" قيل: كان سريرا كالمهد وقيل "المهد" ههنا حجر الأم. وقيل: المعنى كيف نكلم من كان سبيله أن ينوم في المهد لصغره، فلما سمع عيسى عليه السلام كلامهم قال لهم من مرقده "إني عبد الله" فقيل: كان عيسى عليه السلام يرضع فلما سمع كلامهم ترك الرضاعة وأقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره، وأشار إليهم بسبابته اليمنى، و"قال إني عبدالله" فكان أول ما نطق به الاعتراف بعبوديته لله تعالى وربوبيته، ردا على من غلا من بعده في شأنه. والكتاب الإنجيل؛ قيل: آتاه في تلك الحالة الكتاب، وفهمه وعلمه، وآتاه النبوة كما علم آدم الأسماء كلها، وكان يصوم ويصلي. وهذا في غاية الضعف على ما نبينه في المسألة بعد هذا. وقيل: أي حكم لي بإيتاء الكتاب والنبوة في الأزل، وإن لم يكن الكتاب منزلا في الحال؛ وهذا أصح. "وجعلني مباركا أين ما كنت" أي ذا بركات ومنافع في الدين والدعاء إليه ومعلما له. التستري: وجعلني آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأرشد الضال، وأنصر المظلوم، وأغيث الملهوف. "وأوصاني بالصلاة والزكاة" أي لأؤديهما إذا أدركني التكليف، وأمكنني أداؤهما، على القول الأخير الصحيح. "ما دمت حيا" في موضع نصب على الظرف أي دوام حياتي. "وبرا بوالدتي" قال ابن عباس: لما قال "وبرا بوالدتي" ولم يقل بوالدي علم أنه شيء من جهة الله تعالى. "ولم يجعلني جبارا" أي متعظما متكبرا يقتل ويضرب على الغضب. وقيل: الجبار الذي لا يرى لأحد عليه حقا قط "شقيا" أي خائبا من الخير. ابن عباس: عاقا. وقيل: عاصيا لربه. وقيل: لم يجعلني تاركا لأمره فأشقى كما شقي إبليس لما ترك أمره.
قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى في هذه الآية: ما أشدها على أهل القدر! أخبر عيسى عليه السلام بما قضي من أمره، وبما هو كائن إلى أن يموت. وقد روي في قصص هذه الآية عن ابن زيد وغيره أنهم لما سمعوا كلام عيسى أذعنوا وقالوا: إن هذا لأمر عظيم. وروي أن عيسى عليه السلام إنما تكلم في طفولته بهذه الآية، ثم عاد إلى حالة الأطفال، حتى مشى على عادة البشر إلى أن بلغ مبلغ الصبيان فكان نطقه إظهار براءة أمه لا أنه كان ممن يعقل في تلك الحالة، وهو كما ينطق الله تعالى الجوارح يوم القيامة. ولم ينقل أنه دام نطقه، ولا أنه كان يصلي وهو ابن يوم أو شهر، ولو كان يدوم نطقه وتسبيحه ووعظه وصلاته في صغره بن وقت الولادة لكان مثله مما لا ينكتم، وهذا كله مما يدل على فساد القول الأول، ويصرح بجهالة قائله. ويدل أيضا على أنه تكلم في المهد خلافا لليهود والنصارى. والدليل على ذلك إجماع الفرق على أنها لم تحد. وإنما صح براءتها من الزنى بكلامه في المهد. ودلت هذه الآية على أن الصلاة والزكاة وبر الوالدين كان واجبا على الأمم السالفة، والقرون الخالية الماضية، فهو مما يثبت حكمه ولم ينسخ في شريعة أمره. وكان عيسى عليه السلام في غاية التواضع؛ يأكل الشجر، ويلبس الشعر، ويجلس على التراب، ويأوي حيث جنه الليل، لا مسكن له، صلى الله عليه وسلم.
الإشارة بمنزلة الكلام، وتفهم ما يفهم القول. كيف لا وقد أخبر الله تعالى عن مريم فقال: "فأشارت إليه" وفهم منها القوم مقصودها وغرضها فقالوا: (كيف نكلم) وقد مضى هذا في "آل عمران" مستوفى.
قال الكوفيون: لا يصح قذف الأخرس ولا لعانه. وروي مثله عن الشعبي، وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق، وإنما يصح القذف عندهم بصريح الزنى دون معناه، وهذا لا يصح من الأخرس ضرورة، فلم يكن قاذفا؛ بالإشارة بالزنى من الوطء الحلال والشبهة. قالوا: واللعان عندنا شهادات، وشهادة الأخرس لا تقبل بالإجماع. قال ابن القصار: قولهم إن القذف لا يصح إلا بالتصريح فهو باطل بسائر الألسنة ما عدا العربية، فكذلك إشارة الأخرس. وما ذكروه من الإجماع في شهادة الأخرس فغلط. وقد نص مالك أن شهادته مقبولة إذا فهمت إشارته، وأنها تقوم مقام اللفظ بالشهادة، وأما مع القدرة باللفظ فلا تقع منه إلا باللفظ. قال ابن المنذر: والمخالفون يلزمون الأخرس الطلاق والبيوع وسائر الأحكام، فينبغي أن يكون القذف مثل ذلك. قال المهلب: وقد تكون الإشارة في كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام مثل قوله عليه الصلاة والسلام: (بعثت أنا والساعة كهاتين) نعرف قرب ما بينهما بمقدار زيادة الوسطى على السبابة. وفي إجماع العقول على أن العيان أقوى من الخبر دليل على أن الإشارة قد تكون في بعض المواضع أقوى من الكلام. "والسلام علي" أي السلامة علي من الله تعالى. قال الزجاج: ذكر السلام قبل هذا بغير ألف ولام فحسن في الثانية ذكر الألف واللام. وقوله: "يوم ولدت" يعني في الدنيا. وقيل: من همز الشيطان كما تقدم في "آل عمران". "ويوم أموت" يعني في القبر "ويوم أبعث حيا" يعني في الآخرة. لأن له أحواله ثلاثة في الدنيا حيا، وفي القبر ميتا، وفي الآخرة مبعوثا؛ فسلم في أحواله كلها وهو قول الكلبي. ثم انقطع كلامه في المهد حتى بلغ مبلغ الغلمان. وقال قتادة: ذكر لنا أن عيسى عليه السلام رأته امرأة يحيى الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص في سائر آياته فقالت: طوبى للبطن الذي حملك، والثدي الذي أرضعك؛ فقال لها عيسى عليه السلام: طوبى لمن تلا كتاب الله تعالى واتبع ما فيه وعمل به.
الآية: 34 - 40 {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون، ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون، وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم، فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم، أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين، وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون، إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون}
قوله تعالى: "ذلك عيسى ابن مريم" أي ذلك الذي ذكرناه عيسى بن مريم فكذلك اعتقدوه، لا كما تقول اليهود إنه لغير رشدة وأنه ابن يوسف النجار، ولا كما قالت النصارى: إنه الإله أو ابن الإله. "قول الحق" قال الكسائي: "قول الحق" نعت لعيسى أي ذلك عيسى ابن مريم "قول الحق" وسمي قول الحق كما سمي كلمة الله؛ والحق هو الله عز وجل. وقال أبو حاتم: المعنى هو قول الحق. وقيل: التقدير هذا الكلام قول الحق. قال ابن عباس: (يريد هذا كلام عيسى صلى الله عليه وسلم قول الحق ليس بباطل؛ وأضيف القول إلى الحق كما قال: (وعد الصدق الذي كانوا يوعدون) [الأحقاف: 16] أي الوعد والصدق. وقال: "وللدار الآخرة خير" [الأنعام:32] أي ولا الدار الآخرة. وقرأ عاصم وعبدالله بن عامر "قول الحق" بالنصب على الحال؛ أي أقول قولا حقا. والعامل معنى الإشارة في (ذلك). الزجاج: هو مصدر أي أقول قول الحق لأن ما قبله يدل عليه. وقيل: مدح. وقيل: إغراء. وقرأ عبدالله "قال الحق" وقرأ الحسن "قول الحق" بضم القاف، وكذلك في "الأنعام" "قول الحق" والقول والقال والقول بمعنى واحد، كالرهب والرهب والرهب. "الذي" من نعت عيسى. "فيه يمترون" أي يشكون؛ أي ذلك عيسى بن مريم الذي فيه يمترون القول الحق. وقيل: "يمترون" يختلفون. ذكر عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى (ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون) قال: اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر، أخرج كل قوم عالمهم فامتروا في عيسى حين رفع؛ فقال أحدهم: هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية. فقالت الثلاثة: كذبت. ثم قال اثنان منهم للثالث: قل فيه، قال: هو ابن الله وهم النسطورية، فقال الاثنان كذبت، ثم قال أحد الاثنين للآخر قل فيه، فقال: هو ثالث ثلاثة، الله إله وهو إله، وأمه إله، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى. قال الرابع: كذبت بل هو عبدالله ورسول وروحه وكلمته وهم المسلمون، فكان لكل رجل منهم أتباع - على ما قال - فاقتتلوا فظهر على المسلمين، فذلك قول الله تعالى: (ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس) [آل عمران:21]. وقال قتادة: وهم الذين قال الله تعالى فيهم: (فاختلف الأحزاب من بينهم) اختلفوا فيه فصاروا أحزابا فهذا معنى قول (الذي فيه تمترون) بالتاء المعجمة من فوق وهي قراءة أبي عبدالرحمن السلمي وغيره قال ابن عباس فمر بمريم ابن عمها ومعها ابنها إلى مصر فكانوا فيها اثنتي عشرة سنة حتى مات الملك الذي كانوا يخافونه؛ ذكره الماوردي.
قلت ووقع في تاريخ مصر فيما رأيت وجاء في الإنجيل الظاهر أن السيد المسيح لما ولد في بيت لحم كان هيرودس في ذلك الوقت ملكا وأن الله تعالى أوعى إلى يوسف النجار في الحلم وقال له قم فخذ الصبي وأمه واذهب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك، فإن هيرودس مزمع أن يطلب عيسى ليهلكه فقام من نومه وامتثل أمر ربه وأخذ السيد المسيح ومريم أمه وجاء إلى مصر، وفي حال مجيئه إلى مصر نزل ببئر البلسان التي بظاهر القاهرة وغسلت ثيابه على ذلك البئر فالبلسان لا يطلع ولا ينبت إلا في تلك الأرض ومنه يخرج الدهن الذي يخالط الزيت الذي تعمد به النصارى ولذلك كانت قارورة واحدة في أيام المصريين لها مقدار عظيم، وتقع في نفوس ملوك النصارى مثل ملك القسطنطينية وملك صقلية وملك الحبشة وملك النوبة وملك الفرنجة وغيرهم من الملوك عندما يهاديهم به ملوك مصر موقعا جليلا جدا وتكون أحب إليهم من كل هدية لها قدر وفي تلك السفرة وصل السيد المسيح إلى مدينة الأشمونين وقسقام المعروفة الآن بالمحرقة فلذلك يعظمها النصارى إلى الآن، ويحضروا إليها في عيد الفصح من كل مكان؛ لأنها نهاية ما وصل إليها من أرض مصر، ومنها عاد إلى الشام. والله أعلم.
قوله تعالى: "ما كان لله" أي ما ينبغي له ولا يجوز "أن يتخذ من ولد" "من" صلة للكلام؛ أي أن يتخذ ولدا. و"أن" في موضع رفع اسم "كان" أي ما كان لله أن يتخذ ولدا؛ أي ما كان من صفته اتخاذ الولد، ثم نزه نفسه تعالى عن مقالتهم فقال: "سبحانه" أن يكون له "إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون" تقدم. "وإن الله ربي وربكم" قرأ أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو بفتح "أن" وأهل الكوفة "وإن" بكسر الهمزة على أنه مستأنف. تدل عليه قراءة أبي "كن فيكون. إن الله" بغير واو على العطف على "قال إني عبدالله" وفي الفتح أقوال: فمذهب الخليل وسيبويه أن المعنى؛ ولأن الله ربي وربكم، وكذا "وأن المساجد لله" فـ "أن" في موضع نصب عندهما. وأجاز الفراء أن يكون في موضع خفض على حذف اللام، وأجاز أن يكون أيضا في موضع خفض بمعنى وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبأن الله ربي وربكم؛ وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بمعنى؛ والأمر أن الله ربي وربكم. وفيها قول خامس حكى أبو عبيد أن أبا عمرو بن العلاء قاله، وهو أن يكون المعنى: وقضى أن الله ربي وربكم؛ فهي معطوفة على قوله: "أمرا" من قوله: "إذا قضى أمرا" والمعنى إذا قضى أمرا وقضى أن الله. ولا يبتدأ بـ "أن" على هذا التقدير، ولا على التقدير الثالث. ويجوز الابتداء بها على الأوجه الباقية. "هذا صراط مستقيم" أي دين قويم لا اعوجاج فيه.
قوله تعالى: "فاختلف الأحزاب من بينهم" "من" زائدة أي اختلف الأحزاب بينهم. وقال قتادة: أي ما بينهم فاختلفت الفرق أهل الكتاب في أمر عيسى عليه السلام فاليهود بالقدح والسحر. والنصارى قالت النسطورية منهم: هو ابن الله. والملكانية ثالث ثلاثة. وقالت اليعقوبية: هو الله؛ فأفرطت النصار وغلت، وفرطت اليهود وقصرت. وقد تقدم هذا في "النساء" وقال ابن عباس: المراد من الأحزاب الذين تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوه من المشركين. "فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم" أي من شهود يوم القيامة، والمشهد بمعنى المصدر، والشهود الحضور ويجوز أن يكون الحضور لهم، ويضاف إلى الظرف لوقوعه فيه، كما يقال: ويل لفلان من قتال يوم كذا؛ أي من حضوره ذلك اليوم. وقيل: المشهد بمعنى الموضع الذي يشهده الخلائق، كالمحشر للموضع الذي يحشر إليه الخلق. وقيل: فويل للذين كفروا من حضورهم المشهد العظيم الذي اجتمعوا فيه للتشاور، فأجمعوا على الكفر بالله، وقولهم: إن الله ثالث ثلاثة.
قوله تعالى: "أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا" قال أبو العباس: العرب تقول هذا في موضع التعجب؛ فتقول أسمع بزيد وأبصر بزيد أي ما أسمعه وأبصره. قال: فمعناه أنه عجب نبيه منهم. قال الكلبي: لا أحد أسمع يوم القيامة ولا أبصر، حين يقول الله تبارك وتعالى لعيسى: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) [المائدة: 116]. وقيل: "أسمع" بمعنى الطاعة؛ أي ما أطوعهم لله في ذلك اليوم "لكن الظالمون اليوم" يعني في الدنيا "في ضلال مبين" وأي ضلال أبين من أن يعتقد المرء في شخص مثله حملته الأرحام، وأكل وشرب، وأحدث واحتاج أنه إله؟ ! ومن هذا وصفه أصم أعمى ولكنه سيبصر ويسمع في الآخرة إذا رأى العذب، ولكنه لا ينفعه ذلك؛ قال معناه قتادة وغيره.
قوله تعالى: "وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر" روي عن عبدالله بن مسعود أنه قال: ما من أحد يدخل النار إلا وله بيت في الجنة فيتحسر عليه. وقيل: تقع الحسرة إذا أعطي كتابه بشماله. "إذ قضي الأمر" أي فرغ من الحساب، وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال يأهل الجنة هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت - قال - ثم يقال يأهل النار هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت - قال - فيؤمر به فيذبح ثم يقال يأهل الجنة خلود فلا موت ويأهل النار خلود فلا موت - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - "وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون" خرجه البخاري بمعناه عن ابن عمر، وابن ماجة من حديث أبي هريرة والترمذي عن أبي سعيد يرفعه وقال فيه حديث حسن صحيح. وقد ذكرنا ذلك في كتاب "التذكرة" وبينا هناك أن الكفار مخلدون بهذه الأحاديث والآي ردا على من قال: إن صفة الغضب تنقطع، وإن إبليس ومن تبعه من الكفرة كفرعون وهامان وقارون وأشباههم يدخلون الجنة.
قوله تعالى: "إنا نحن نرث الأرض ومن عليها" أي نميت سكانها فنرثها. "وإلينا يرجعون" يوم القيامة فنجازي كلا بعمله، وقد تقدم هذا في "الحجر" وغيرها.
تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 307
307- تفسير الصفحة رقم307 من المصحفقوله تعالى: "فكلي واشربي وقري عينا" أي فكلي من الجني، وأشربي من السري، وقري عينا برؤية الولد النبي. وقرئ بفتح القاف وهي قراءة الجمهور. وحكى الطبري قراءة "وقري" بكسر القاف وهي لغة نجد. يقال: قر عينا يقر ويقر بضم القاف وكسرها وأقر الله عينه فقرت. وهو مأخوذ من القر والقرة وهما البرد. ودمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة. وضعف فرقة هذا وقالت: الدمع كله حار، فمعنى أقر الله عينه أي سكن الله عينه بالنظر إلى من يحبه حتى تقر وتسكن؛ وفلان قرة عيني؛ أي نفسي تسكن بقربه. وقال الشيباني: "وقري عينا" معناه نامي حضها على الأكل والشرب والنوم. قال أبو عمرو: أقر الله عينه أي أنام عينه، وأذهب سهره. و"عينا" نصب على التمييز؛ كقولك: طب نفسا. والفعل في الحقيقة إنما هو للعين فنقل ذلك إلى ذي العين؛ وينصب الذي كان فاعلا في الحقيقة على التفسير. ومثله طبت نفسا، وتفقأت شحما، وتصببت عرقا، ومثله كثير.
قوله تعالى: "فإما ترين" الأصل في ترين ترأيين فحذفت الهمزة كما حذفت من ترى ونقلت فتحتها إلى الراء فصار "تريين" ثم قلبت الياء الأولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فاجتمع ساكنان الألف المنقلبة عن الياء وياء التأنيث، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار ترين، ثم حذفت النون علامة للجزم لأن إن حرف شرط وما صلة فبقي تري، ثم دخله نون التوكيد وهي مثقلة، فكسر ياء التأنيث لالتقاء الساكنين؛ لأن النون المثقلة بمنزلة نونين الأولى ساكنة فصار ترين وعلى هذا النحو قول ابن دريد:
إما تري رأسي حاكى لونه
وقول الأفوه:
إما تري رأسي أزرى به
وإنما دخلت النون هنا بتوطئة "ما" كما يوطئ لدخولها أيضا لام القسم. وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة "ترين" بسكون الياء وفتح النون خفيفة؛ قال أبو الفتح: وهى شاذة.
قوله تعالى: "فقولي إني نذرت" هذا جواب الشرط وفيه إضمار؛ أي فسألك عن ولدك "فقولي إني نذرت للرحمن صوما" أي صمتا؛ قاله ابن عباس وأنس بن مالك. وفي قراءة أبي بن كعب "إني نذرت للرحمن صوما صمتا" وروي عن أنس. وعنه أيضا "وصمتا" بواو، واختلاف اللفظين يدل على أن الحرف ذكر تفسيرا لا قرآنا؛ فإذا أتت معه واو فممكن أن يكون غير الصوم. والذي تتابعت به الأخبار عن أهل الحديث ورواة اللغة أن الصوم هو الصمت؛ لأن الصوم إمساك والصمت إمساك عن الكلام. وقيل: هو الصوم والمعروف، وكان يلزمهم الصمت يوم الصوم إلا بالإشارة. وعلى هذا تخرج قراءة أنس "وصمتا" بواو، وأن الصمت كان عندهم في الصوم ملتزما بالنذر، كما أن من نذر منا المشي إلى البيت اقتضى ذلك الإحرام بالحج أو العمرة. ومعنى هذه الآية أن الله تعالى أمرها على لسان جبريل عليه السلام - أو ابنها على الخلاف المتقدم - بأن تمسك عن مخاطبة البشر، وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها، وتتبين الآية فيقوم عذرها. وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الألفاظ التي في الآية، وهو قول الجمهور. وقالت فرقة: معنى "قولي" بالإشارة لا بالكلام. الزمخشري: وفيه أن السكوت عن السفيه واجب، ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها.
من التزم بالنذر ألا يكلم أحدا من الآدميين فيحتمل أن يقال إنه قربة فيلزم بالنذر، ويحتمل أن يقال: ذلك لا يجوز في شرعنا لما فيه من التضييق وتعذيب النفس؛ كنذر القيام في الشمس ونحوه. وعلى هذا كان نذر الصمت في تلك الشريعة لا في شريعتنا؛ وقد تقدم. وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق بالكلام. وهذا هو الصحيح لحديث أبي إسرائيل، خرجه البخاري عن ابن عباس. وقال ابن زيد والسدي: كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام.
قلت: ومن سنتنا نحن في الصيام الإمساك عن الكلام القبيح؛ قال عليه الصلاة والسلام: (إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم). وقال عليه الصلاة والسلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).
الآيتان: 27 - 28 {فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا، يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغي}
قوله تعالى: "فأتت به قومها تحمله" روى أن مريم لما اطمأنت بما رأت من الآيات، وعلمت أن الله تعالى سيبين عذرها، أتت به تحمله من المكان القصي الذي كانت انتبذت فيه. قال ابن عباس: خرجت من عندهم حين أشرقت الشمس، فجاءتهم عند الظهر ومعها صبي تحمله، فكان الحمل والولادة في ثلاث ساعات من النهار. وقال الكلبي: ولدت حيث لم يشعر بها قومها، ومكثت أربعين يوما للنفاس، ثم أتت قومها تحمله، فلما رأوها ومعها الصبي حزنوا وكانوا أهل بيت صالحين؛ فقالوا منكرين: "قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا" أي جئت بأمر عظيم كالآتي بالشيء يفتريه. قال مجاهد: "فريا" عظيما. وقال سعيد بن مسعدة: أي مختلقا مفتعلا؛ يقال: فريت وأفريت بمعنى واحد. والولد من الزنى كالشيء المفترى. قال الله تعالى: "ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن" [الممتحنة: 12] أي بولد بقصد إلحاقه بالزوج وليس منه. يقال: فلان يفري الفري أي يعمل العمل البالغ، وقال أبو عبيدة: الفري العجيب النادر، وقاله الأخفش قال: فريا عجيبا. والفري القطع كأنه مما يخرق العادة، أو يقطع القول بكونه عجيبا نادرا. وقال قطرب: الفري الجديد من الأسقية؛ أي جئت بأمر جديد بديع لم تسبقي إليه. وقرأ أبو حيوة: "شيئا فريا" بسكون الراء. وقال السدي ووهب بن منبه: لما أتت به قومها تحمله تسامع بذلك بنو إسرائيل، فاجتمع رجالهم ونساؤهم، فمدت امرأة يدها إليها لتضربها فأجف الله شطرها فحملت كذلك. وقال آخر: ما أراها إلا زنت فأخرسه الله تعالى؛ فتحامى الناس من أن يضربوها، أو يقولوا لها كلمة تؤذيها، وجعلوا يخفضون إليها القول ويلينون؛ فقالوا: "يا مريم لقد جئت شيئا فريا" أي عظيما قال الراجز:
أطعمتني دقلا حوليا مسوسا مدودا حجريا
قد كنت تفرين به الفريا
أي [تعظمينه].
قوله تعالى: "يا أخت هارون" اختلف الناس في معنى هذه الأخوة ومن هارون؟ فقيل: هو هارون أخو موسى؛ والمراد من كنا نظنها مثل هارون في العبادة تأتي بمثل هذا. وقيل: على هذا كانت مريم من ولد هارون أخي موسى فنسبت إليه بالأخوة لأنها من ولده؛ كما يقال للتميمي: يا أخا تميم وللعربي يا أخا العرب وقيل كان لها أخ من أبيها اسمه هارون؛ لأن هذا الاسم كان كثيرا في بني إسرائيل تبركا باسم هارون أخي موسى، وكان أمثل رجل في بني إسرائيل؛ قاله الكلبي. وقيل: هارون هذا رجل صالح في ذلك الزمان تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا كلهم اسمه هارون. وقال قتادة: كان في ذلك الزمان في بني إسرائيل عابد منقطع إلى الله عز وجل يسمى هارون فنسبوها إلى أخوته من حيث كانت على طريقته قبل؛ إذ كانت موقوفة على خدمة البيع؛ أي يا هذه المرأة الصالحة ما كنت أهلا لذلك. وقال كعب الأحبار بحضرة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: إن مريم ليست بأخت هارون أخي موسى؛ فقالت له عائشة: كذبت. فقال لها: يا أم المؤمنين إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فهو أصدق وأخبر، وإلا فإني أجد بينهما من المدة ستمائة سنة. قال: فسكتت. وفي صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة قال: لما قدمت نجران سألوني فقال إنكم تقرؤون "يا أخت هارون" وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك، فقال: (إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم). وقد جاء في بعض طرقه في غير الصحيح أن النصارى قالوا له: إن صاحبك يزعم أن مريم هي أخت هارون وبينهما في المدة ستمائة سنة؟ ! قال المغيرة: فلم أدر ما أقول؛ وذكر الحديث. والمعنى أنه اسم وافق اسما. ويستفاد من هذا جواز التسمية بأسماء الأنبياء؛ والله أعلم.
قلت: فقد دل الحديث الصحيح أنه كان بين موسى وعيسى وهارون زمان مديد. الزمخشري: كان بينهما وبينه ألف سنة أو أكثر فلا يتخيل أن مريم كانت أخت موسى وهارون؛ وإن صح فكما قال السدي لأنها كانت من نسله؛ وهذا كما تقول للرجل من قبيلة: يا أخا فلان. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أخا صداء قد أذن فمن أذن فهو يقيم) وهذا هو القول الأول. ابن عطية: وقالت فرقة بل كان في ذلك الزمان رجل فاجر اسمه هارون فنسبوها إليه على جهة التعيير والتوبيخ؛ ذكره الطبري ولم يسم قائله.
قلت: ذكره الغزنوي عن سعيد بن جبير أنه كان فاسقا مثلا في الفجور فنسبت إليه. والمعنى: ما كان أبوك ولا أمك أهلا لهذه الفعلة فكيف جئت أنت بها؟ ! وهذا من التعريض الذي يقوم مقام التصريح. وذلك يوجب عندنا الحد وسيأتي في سورة "النور" القول فيه إن شاء الله تعالى. وهذا القول الأخير يرده الحديث الصحيح، وهو نص صريح فلا كلام لأحد معه، ولا غبار عليه. والحمد لله. وقرأ عمر بن لجأ التيمي (ما كان أباك امرؤ سوء).
الآيات: 29 - 33 {فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا، قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا، وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا، وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا، والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حي}
قوله تعالى: "فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا" التزمت مريم عليها السلام ما أمرت به من ترك الكلام، ولم يرد في هذه الآية أنها نطقت بـ "إني نذرت للرحمن صوما" وإنما ورد بأنها أشارت، فيقوى بهذا قول من قال: إن أمرها بـ "قولي" إنما أريد به الإشارة. ويروى أنهم لما أشارت إلى الطفل قالوا: استخفافها بنا أشد علينا من زناها، ثم قالوا لها على جهة التقرير "كيف نكلم من كان في المهد صبيا" و"كان" هنا ليس يراد بها الماضي؛ لأن كل واحد قد كان في المهد صبيا، وإنما هي في معنى هو (الآن). وقال أبو عبيدة: (كان) هنا لغو؛ كما قال:
وجيران لنا كانوا كرام
وقيل: هي بمعنى الوجود والحدوث كقوله: "وإن كان ذو عسرة" وقد تقدم. وقال ابن الأنباري: لا يجوز أن يقال زائدة وقد نصبت "صبيا" ولا أن يقال "كان" بمعنى حدث، لأنه لو كانت بمعنى الحدوث والوقوع لاستغنى فيه عن الخبر، تقول: كان الحر وتكتفي به. والصحيح أن "من" في معنى الجزاء و"كان" بمعنى يكن؛ التقدير: من يكن في المهد صبيا فكيف نكلمه؟ ! كما تقول: كيف أعطي من كان لا يقبل عطية؛ أي من يكن لا يقبل. والماضي قد يذكر بمعنى المستقبل في الجزاء؛ كقوله تعالى "تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار" أي إن يشأ يجعل. وتقول: من كان إلي منه إحسان كان إليه مني مثله، أي من يكن منه إلي إحسان يكن إليه مني مثله. "والمهد" قيل: كان سريرا كالمهد وقيل "المهد" ههنا حجر الأم. وقيل: المعنى كيف نكلم من كان سبيله أن ينوم في المهد لصغره، فلما سمع عيسى عليه السلام كلامهم قال لهم من مرقده "إني عبد الله" فقيل: كان عيسى عليه السلام يرضع فلما سمع كلامهم ترك الرضاعة وأقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره، وأشار إليهم بسبابته اليمنى، و"قال إني عبدالله" فكان أول ما نطق به الاعتراف بعبوديته لله تعالى وربوبيته، ردا على من غلا من بعده في شأنه. والكتاب الإنجيل؛ قيل: آتاه في تلك الحالة الكتاب، وفهمه وعلمه، وآتاه النبوة كما علم آدم الأسماء كلها، وكان يصوم ويصلي. وهذا في غاية الضعف على ما نبينه في المسألة بعد هذا. وقيل: أي حكم لي بإيتاء الكتاب والنبوة في الأزل، وإن لم يكن الكتاب منزلا في الحال؛ وهذا أصح. "وجعلني مباركا أين ما كنت" أي ذا بركات ومنافع في الدين والدعاء إليه ومعلما له. التستري: وجعلني آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأرشد الضال، وأنصر المظلوم، وأغيث الملهوف. "وأوصاني بالصلاة والزكاة" أي لأؤديهما إذا أدركني التكليف، وأمكنني أداؤهما، على القول الأخير الصحيح. "ما دمت حيا" في موضع نصب على الظرف أي دوام حياتي. "وبرا بوالدتي" قال ابن عباس: لما قال "وبرا بوالدتي" ولم يقل بوالدي علم أنه شيء من جهة الله تعالى. "ولم يجعلني جبارا" أي متعظما متكبرا يقتل ويضرب على الغضب. وقيل: الجبار الذي لا يرى لأحد عليه حقا قط "شقيا" أي خائبا من الخير. ابن عباس: عاقا. وقيل: عاصيا لربه. وقيل: لم يجعلني تاركا لأمره فأشقى كما شقي إبليس لما ترك أمره.
قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى في هذه الآية: ما أشدها على أهل القدر! أخبر عيسى عليه السلام بما قضي من أمره، وبما هو كائن إلى أن يموت. وقد روي في قصص هذه الآية عن ابن زيد وغيره أنهم لما سمعوا كلام عيسى أذعنوا وقالوا: إن هذا لأمر عظيم. وروي أن عيسى عليه السلام إنما تكلم في طفولته بهذه الآية، ثم عاد إلى حالة الأطفال، حتى مشى على عادة البشر إلى أن بلغ مبلغ الصبيان فكان نطقه إظهار براءة أمه لا أنه كان ممن يعقل في تلك الحالة، وهو كما ينطق الله تعالى الجوارح يوم القيامة. ولم ينقل أنه دام نطقه، ولا أنه كان يصلي وهو ابن يوم أو شهر، ولو كان يدوم نطقه وتسبيحه ووعظه وصلاته في صغره بن وقت الولادة لكان مثله مما لا ينكتم، وهذا كله مما يدل على فساد القول الأول، ويصرح بجهالة قائله. ويدل أيضا على أنه تكلم في المهد خلافا لليهود والنصارى. والدليل على ذلك إجماع الفرق على أنها لم تحد. وإنما صح براءتها من الزنى بكلامه في المهد. ودلت هذه الآية على أن الصلاة والزكاة وبر الوالدين كان واجبا على الأمم السالفة، والقرون الخالية الماضية، فهو مما يثبت حكمه ولم ينسخ في شريعة أمره. وكان عيسى عليه السلام في غاية التواضع؛ يأكل الشجر، ويلبس الشعر، ويجلس على التراب، ويأوي حيث جنه الليل، لا مسكن له، صلى الله عليه وسلم.
الإشارة بمنزلة الكلام، وتفهم ما يفهم القول. كيف لا وقد أخبر الله تعالى عن مريم فقال: "فأشارت إليه" وفهم منها القوم مقصودها وغرضها فقالوا: (كيف نكلم) وقد مضى هذا في "آل عمران" مستوفى.
قال الكوفيون: لا يصح قذف الأخرس ولا لعانه. وروي مثله عن الشعبي، وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق، وإنما يصح القذف عندهم بصريح الزنى دون معناه، وهذا لا يصح من الأخرس ضرورة، فلم يكن قاذفا؛ بالإشارة بالزنى من الوطء الحلال والشبهة. قالوا: واللعان عندنا شهادات، وشهادة الأخرس لا تقبل بالإجماع. قال ابن القصار: قولهم إن القذف لا يصح إلا بالتصريح فهو باطل بسائر الألسنة ما عدا العربية، فكذلك إشارة الأخرس. وما ذكروه من الإجماع في شهادة الأخرس فغلط. وقد نص مالك أن شهادته مقبولة إذا فهمت إشارته، وأنها تقوم مقام اللفظ بالشهادة، وأما مع القدرة باللفظ فلا تقع منه إلا باللفظ. قال ابن المنذر: والمخالفون يلزمون الأخرس الطلاق والبيوع وسائر الأحكام، فينبغي أن يكون القذف مثل ذلك. قال المهلب: وقد تكون الإشارة في كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام مثل قوله عليه الصلاة والسلام: (بعثت أنا والساعة كهاتين) نعرف قرب ما بينهما بمقدار زيادة الوسطى على السبابة. وفي إجماع العقول على أن العيان أقوى من الخبر دليل على أن الإشارة قد تكون في بعض المواضع أقوى من الكلام. "والسلام علي" أي السلامة علي من الله تعالى. قال الزجاج: ذكر السلام قبل هذا بغير ألف ولام فحسن في الثانية ذكر الألف واللام. وقوله: "يوم ولدت" يعني في الدنيا. وقيل: من همز الشيطان كما تقدم في "آل عمران". "ويوم أموت" يعني في القبر "ويوم أبعث حيا" يعني في الآخرة. لأن له أحواله ثلاثة في الدنيا حيا، وفي القبر ميتا، وفي الآخرة مبعوثا؛ فسلم في أحواله كلها وهو قول الكلبي. ثم انقطع كلامه في المهد حتى بلغ مبلغ الغلمان. وقال قتادة: ذكر لنا أن عيسى عليه السلام رأته امرأة يحيى الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص في سائر آياته فقالت: طوبى للبطن الذي حملك، والثدي الذي أرضعك؛ فقال لها عيسى عليه السلام: طوبى لمن تلا كتاب الله تعالى واتبع ما فيه وعمل به.
الآية: 34 - 40 {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون، ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون، وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم، فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم، أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين، وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون، إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون}
قوله تعالى: "ذلك عيسى ابن مريم" أي ذلك الذي ذكرناه عيسى بن مريم فكذلك اعتقدوه، لا كما تقول اليهود إنه لغير رشدة وأنه ابن يوسف النجار، ولا كما قالت النصارى: إنه الإله أو ابن الإله. "قول الحق" قال الكسائي: "قول الحق" نعت لعيسى أي ذلك عيسى ابن مريم "قول الحق" وسمي قول الحق كما سمي كلمة الله؛ والحق هو الله عز وجل. وقال أبو حاتم: المعنى هو قول الحق. وقيل: التقدير هذا الكلام قول الحق. قال ابن عباس: (يريد هذا كلام عيسى صلى الله عليه وسلم قول الحق ليس بباطل؛ وأضيف القول إلى الحق كما قال: (وعد الصدق الذي كانوا يوعدون) [الأحقاف: 16] أي الوعد والصدق. وقال: "وللدار الآخرة خير" [الأنعام:32] أي ولا الدار الآخرة. وقرأ عاصم وعبدالله بن عامر "قول الحق" بالنصب على الحال؛ أي أقول قولا حقا. والعامل معنى الإشارة في (ذلك). الزجاج: هو مصدر أي أقول قول الحق لأن ما قبله يدل عليه. وقيل: مدح. وقيل: إغراء. وقرأ عبدالله "قال الحق" وقرأ الحسن "قول الحق" بضم القاف، وكذلك في "الأنعام" "قول الحق" والقول والقال والقول بمعنى واحد، كالرهب والرهب والرهب. "الذي" من نعت عيسى. "فيه يمترون" أي يشكون؛ أي ذلك عيسى بن مريم الذي فيه يمترون القول الحق. وقيل: "يمترون" يختلفون. ذكر عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى (ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون) قال: اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر، أخرج كل قوم عالمهم فامتروا في عيسى حين رفع؛ فقال أحدهم: هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية. فقالت الثلاثة: كذبت. ثم قال اثنان منهم للثالث: قل فيه، قال: هو ابن الله وهم النسطورية، فقال الاثنان كذبت، ثم قال أحد الاثنين للآخر قل فيه، فقال: هو ثالث ثلاثة، الله إله وهو إله، وأمه إله، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى. قال الرابع: كذبت بل هو عبدالله ورسول وروحه وكلمته وهم المسلمون، فكان لكل رجل منهم أتباع - على ما قال - فاقتتلوا فظهر على المسلمين، فذلك قول الله تعالى: (ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس) [آل عمران:21]. وقال قتادة: وهم الذين قال الله تعالى فيهم: (فاختلف الأحزاب من بينهم) اختلفوا فيه فصاروا أحزابا فهذا معنى قول (الذي فيه تمترون) بالتاء المعجمة من فوق وهي قراءة أبي عبدالرحمن السلمي وغيره قال ابن عباس فمر بمريم ابن عمها ومعها ابنها إلى مصر فكانوا فيها اثنتي عشرة سنة حتى مات الملك الذي كانوا يخافونه؛ ذكره الماوردي.
قلت ووقع في تاريخ مصر فيما رأيت وجاء في الإنجيل الظاهر أن السيد المسيح لما ولد في بيت لحم كان هيرودس في ذلك الوقت ملكا وأن الله تعالى أوعى إلى يوسف النجار في الحلم وقال له قم فخذ الصبي وأمه واذهب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك، فإن هيرودس مزمع أن يطلب عيسى ليهلكه فقام من نومه وامتثل أمر ربه وأخذ السيد المسيح ومريم أمه وجاء إلى مصر، وفي حال مجيئه إلى مصر نزل ببئر البلسان التي بظاهر القاهرة وغسلت ثيابه على ذلك البئر فالبلسان لا يطلع ولا ينبت إلا في تلك الأرض ومنه يخرج الدهن الذي يخالط الزيت الذي تعمد به النصارى ولذلك كانت قارورة واحدة في أيام المصريين لها مقدار عظيم، وتقع في نفوس ملوك النصارى مثل ملك القسطنطينية وملك صقلية وملك الحبشة وملك النوبة وملك الفرنجة وغيرهم من الملوك عندما يهاديهم به ملوك مصر موقعا جليلا جدا وتكون أحب إليهم من كل هدية لها قدر وفي تلك السفرة وصل السيد المسيح إلى مدينة الأشمونين وقسقام المعروفة الآن بالمحرقة فلذلك يعظمها النصارى إلى الآن، ويحضروا إليها في عيد الفصح من كل مكان؛ لأنها نهاية ما وصل إليها من أرض مصر، ومنها عاد إلى الشام. والله أعلم.
قوله تعالى: "ما كان لله" أي ما ينبغي له ولا يجوز "أن يتخذ من ولد" "من" صلة للكلام؛ أي أن يتخذ ولدا. و"أن" في موضع رفع اسم "كان" أي ما كان لله أن يتخذ ولدا؛ أي ما كان من صفته اتخاذ الولد، ثم نزه نفسه تعالى عن مقالتهم فقال: "سبحانه" أن يكون له "إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون" تقدم. "وإن الله ربي وربكم" قرأ أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو بفتح "أن" وأهل الكوفة "وإن" بكسر الهمزة على أنه مستأنف. تدل عليه قراءة أبي "كن فيكون. إن الله" بغير واو على العطف على "قال إني عبدالله" وفي الفتح أقوال: فمذهب الخليل وسيبويه أن المعنى؛ ولأن الله ربي وربكم، وكذا "وأن المساجد لله" فـ "أن" في موضع نصب عندهما. وأجاز الفراء أن يكون في موضع خفض على حذف اللام، وأجاز أن يكون أيضا في موضع خفض بمعنى وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبأن الله ربي وربكم؛ وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بمعنى؛ والأمر أن الله ربي وربكم. وفيها قول خامس حكى أبو عبيد أن أبا عمرو بن العلاء قاله، وهو أن يكون المعنى: وقضى أن الله ربي وربكم؛ فهي معطوفة على قوله: "أمرا" من قوله: "إذا قضى أمرا" والمعنى إذا قضى أمرا وقضى أن الله. ولا يبتدأ بـ "أن" على هذا التقدير، ولا على التقدير الثالث. ويجوز الابتداء بها على الأوجه الباقية. "هذا صراط مستقيم" أي دين قويم لا اعوجاج فيه.
قوله تعالى: "فاختلف الأحزاب من بينهم" "من" زائدة أي اختلف الأحزاب بينهم. وقال قتادة: أي ما بينهم فاختلفت الفرق أهل الكتاب في أمر عيسى عليه السلام فاليهود بالقدح والسحر. والنصارى قالت النسطورية منهم: هو ابن الله. والملكانية ثالث ثلاثة. وقالت اليعقوبية: هو الله؛ فأفرطت النصار وغلت، وفرطت اليهود وقصرت. وقد تقدم هذا في "النساء" وقال ابن عباس: المراد من الأحزاب الذين تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوه من المشركين. "فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم" أي من شهود يوم القيامة، والمشهد بمعنى المصدر، والشهود الحضور ويجوز أن يكون الحضور لهم، ويضاف إلى الظرف لوقوعه فيه، كما يقال: ويل لفلان من قتال يوم كذا؛ أي من حضوره ذلك اليوم. وقيل: المشهد بمعنى الموضع الذي يشهده الخلائق، كالمحشر للموضع الذي يحشر إليه الخلق. وقيل: فويل للذين كفروا من حضورهم المشهد العظيم الذي اجتمعوا فيه للتشاور، فأجمعوا على الكفر بالله، وقولهم: إن الله ثالث ثلاثة.
قوله تعالى: "أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا" قال أبو العباس: العرب تقول هذا في موضع التعجب؛ فتقول أسمع بزيد وأبصر بزيد أي ما أسمعه وأبصره. قال: فمعناه أنه عجب نبيه منهم. قال الكلبي: لا أحد أسمع يوم القيامة ولا أبصر، حين يقول الله تبارك وتعالى لعيسى: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) [المائدة: 116]. وقيل: "أسمع" بمعنى الطاعة؛ أي ما أطوعهم لله في ذلك اليوم "لكن الظالمون اليوم" يعني في الدنيا "في ضلال مبين" وأي ضلال أبين من أن يعتقد المرء في شخص مثله حملته الأرحام، وأكل وشرب، وأحدث واحتاج أنه إله؟ ! ومن هذا وصفه أصم أعمى ولكنه سيبصر ويسمع في الآخرة إذا رأى العذب، ولكنه لا ينفعه ذلك؛ قال معناه قتادة وغيره.
قوله تعالى: "وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر" روي عن عبدالله بن مسعود أنه قال: ما من أحد يدخل النار إلا وله بيت في الجنة فيتحسر عليه. وقيل: تقع الحسرة إذا أعطي كتابه بشماله. "إذ قضي الأمر" أي فرغ من الحساب، وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال يأهل الجنة هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت - قال - ثم يقال يأهل النار هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت - قال - فيؤمر به فيذبح ثم يقال يأهل الجنة خلود فلا موت ويأهل النار خلود فلا موت - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - "وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون" خرجه البخاري بمعناه عن ابن عمر، وابن ماجة من حديث أبي هريرة والترمذي عن أبي سعيد يرفعه وقال فيه حديث حسن صحيح. وقد ذكرنا ذلك في كتاب "التذكرة" وبينا هناك أن الكفار مخلدون بهذه الأحاديث والآي ردا على من قال: إن صفة الغضب تنقطع، وإن إبليس ومن تبعه من الكفرة كفرعون وهامان وقارون وأشباههم يدخلون الجنة.
قوله تعالى: "إنا نحن نرث الأرض ومن عليها" أي نميت سكانها فنرثها. "وإلينا يرجعون" يوم القيامة فنجازي كلا بعمله، وقد تقدم هذا في "الحجر" وغيرها.
الصفحة رقم 307 من المصحف تحميل و استماع mp3