تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 316 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 316

316- تفسير الصفحة رقم316 من المصحف
الآيتان: 65 - 66 {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى، قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى}
قوله تعالى: "قالوا يا موسى" يريد السحرة. "إما أن تلقي" عصاك من يدك "وإما أن نكون أول من ألقى" تأدبوا مع موسى فكان ذلك سبب إيمانهم. "قال بل ألقوا فإذا حبالهم" في الكلام حذف، أي فألقوا؛ دل عليه المعنى. وقرأ الحسن "وعصيهم" بضم العين. قال هارون القارئ: لغة بني تميم "وعصيتم" وبها يأخذ الحسن. الباقون بالكسر اتباعا لكسرة الصاد. ونحوه دلي وقسي وقسي. "يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى" وقرأ ابن عباس وأبو حيوة وابن ذكوان وروح عن يعقوب "تخيل" بالتاء؛ وردوه إلى العصي والحبال إذ هي مؤنثة. وذلك أنهم لطخوا العصي بالزئبق، فلما أصابها حر الشمس ارتهشت واهتزت. قال الكلبي: خيل إلى موسى أن الأرض حيات وأنها تسعى على بطنها. وقرئ "تخيل" بمعنى تتخيل وطريقه طريق "تخيل" ومن قرأ "يخيل" بالياء رده إلى الكيد. وقرئ "نخيل" بالنون على أن الله هو المخيل للمحنة والابتلاء. وقيل: الفاعل "أنها تسعى" فـ "أن" في موضع رفع؛ أي يخيل إليه سعيها؛ قال الزجاج. وزعم الفراء أن موضعها موضع نصب؛ أي بأنها ثم حذف الباء. والمعنى في الوجه الأول: تشبه إليه من سحرهم وكيدهم حتى ظن أنها تسعى. وقال الزجاج ومن قرأ بالتاء جعل "أن" في موضع نصب أي تخيل إليه ذات سعي، قال: ويجوز أن تكون في موضع رفع بدلا من الضمير في "تخيل" وهو عائد على الحبال والعصي، والبدل فيه بدل اشتمال. و"تسعى" معناه تمشي.
الآيتان: 67 - 68 {فأوجس في نفسه خيفة موسى، قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى}
قوله تعالى: "فأوجس في نفسه خيفة موسى" أي أضمر. وقيل: وجد. وقيل: أحس. أي من الحيات وذلك على ما يعرض من طباع البشر على ما تقدم. وقيل: خاف أن يفتتن الناس قبل أن يلقي عصاه. وقيل: خاف حين أبطأ عليه الوحي بإلقاء العصا أن يفترق الناس قبل ذلك فيفتتنوا. وقال بعض أهل الحقائق: إن كان السبب أن موسى عليه السلام لما التقى بالسحرة وقال لهم: "ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب" التفت فإذا جبريل على يمينه فقال له يا موسى ترفق بأولياء الله. فقال موسى: يا جبريل هؤلاء سحرة جاؤوا بسحر عظيم ليبطلوا المعجزة، وينصروا دين فرعون، ويردوا دين الله، تقول: ترفق بأولياء الله! فقال جبريل: هم من الساعة إلى صلاة العصر عندك، وبعد صلاة العصر في الجنة. فلما قال له ذلك، أوجس موسى وخطر أن ما يدريني ما علم الله في، فلعلي أكون الآن في حالة، وعلم الله في على خلافها كما كان هؤلاء. فلما علم الله ما في قلبه أوحى الله إليه "لا تخف إنك أنت الأعلى" أي الغالب في الدنيا، وفي الدرجات العلا في الجنة؛ للنبوة والاصطفاء الذي آتاك الله به. وأصل "خيفة" خوفة الواو ياء لانكسار الخاء.
الآية: 69 {وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى}
قوله تعالى: "وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا" ولم يقل وألق عصاك، فجائز أن يكون تصغيرا لها؛ أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك، فإنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها، وصغره وعظمها. وجائز أن يكون تعظيما لها أي لا تحفل بهذه الأجرام الكثيرة الكبيرة فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عندها؛ فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها. و"تلقف" بالجزم جواب الأمر؛ كأنه قال: إن تلقه تتلقف؛ أي تأخذ وتبتلع. وقرأ السلمي وحفص "تلقف" ساكنة اللام من لقف يلقف لقفا. وقرأ ابن ذكوان وأبو حيوة الشامي ويحيى بن الحرث "تلقف" بحذف التاء ورفع الفاء، على معنى فإنها تتلقف. والخطاب لموسى. وقيل: للعصا. واللقف الأخذ بسرعة، يقال: لقفت الشيء "بالكسر" ألقفه لقفا، وتلقفته أيضا أي تناولته بسرعة. عن يعقوب: يقال رجل لقف ثقف أي خفيف حاذف. واللقف "بالتحريك" سقوط الحائط. ولقد لقف الحوض لقفا أي تهور من أسفله وأتسع. وتلقف وتلقم وتلهم بمعنى. لقمت اللقمة "بالكسر" لقما، وتلقمتها إذا ابتلعتها في مهلة وكذلك لهمه "بالكسر" إذا ابتلعه. "ما صنعوا" أي الذي صنعوه. وكذا "إنما صنعوا" أي إن الذي صنعوه "كيد سحر" بالرفع "سِحْر" بكسر السين وإسكان الحاء؛ وهى قراءة الكوفيين إلا عاصما. وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون الكيد مضافا إلى السحر على الأتباع من غير تقدير حذف. والثاني: أن يكون في الكلام حذف أي كيد ذي سحر. وقرأ الباقون "كيد" بالنصب بوقوع الصنع عليه و"ما" كافة ولا تضمر هاء "ساحر" بالإضافة. والكيد في الحقيقة على هذه القراءة مضاف للساحر لا للسحر. ويجوز فتح "أن" على معنى لأن ما صنعوا كيد ساحر. "ولا يفلح الساحر حيث أتى" أي لا يفوز ولا ينجو حيث أتى من الأرض. وقيل: حيث احتال. وقد تقدم.
الآيتان: 70 - 71 {فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى، قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى}
قوله تعالى: "فألقي السحرة سجدا" لما رأوا من عظيم الأمر وخرق العادة في العصا؛ فإنها ابتلعت جميع ما احتالوا به من الحبال والعصي؛ وكانت حمل ثلثمائة بعير ثم عادت عصا لا يعلم أحد أين ذهبت الحبال والعصي إلا الله تعالى. "قالوا آمنا برب هارون وموسى" أي به؛ يقال: آمن له وآمن به؛ ومنه "فآمن له لوط" [العنكبوت: 26] وفي الأعراف. "قال آمنتم له قبل أن آذن لكم" إنكار منه عليهم؛ أي تعديتم وفعلتم ما لم آمركم به. "إنه لكبيركم الذي علمكم السحر" أي رئيسكم في التعليم، وإنما غلبكم لأنه أحذق به منكم. وإنما أراد فرعون بقول هذا ليشبه على الناس حتى لا يتبعوهم فيؤمنوا كإيمانهم، وإلا فقد علم فرعون أنهم لم يتعلموا من موسى، بل قد علموا السحر قبل قدوم موسى وولادته. "فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل" أي على جذوع النخل. قال سويد بن أبي كاهل:
هم صلبوا العبدي في جذع نخلة فلا عطست شيبان إلا بأجدعا
فقطع وصلب حتى ماتوا رحمهم الله تعالى. وقرأ ابن محيصن هنا وفي الأعراف "فلأقطعن" "ولأصلبنكم" بفتح الألف والتخفيف من قطع وصلب. "ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى" يعني أنا أم رب موسى.
الآيتان: 72 - 73 {قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا، إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى}
قوله تعالى: "قالوا" يعني السحرة "لن نؤثرك" أي لن نختارك "على ما جاءنا من البينات" قال ابن عباس: يريد من اليقين والعلم. وقال عكرمة وغيره: لما سجدوا أراهم الله في سجودهم منازلهم في الجنة؛ فلهذا قالوا "لن نؤثرك". وكانت امرأة فرعون تسأل من غلب، فقيل لها: غلب موسى وهارون؛ فقالت: آمنت برب موسى وهارون. فأرسل إليها فرعون فقال: انظروا أعظم صخرة فإن مضت على فولها فألقوها عليها؛ فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فأبصرت منزلها في الجنة، فمضت على قولها فانتزع روحها، وألقيت الصخرة على جسدها وليس في جسدها روح. وقيل: قال مقدم السحرة لمن يثق به لما رأى من عصا موسى ما رأى: انظر إلى هذه الحية هل تخوفت فتكون جنيا أو لم تتخوف فهي من صنعة الصانع الذي لا يعزب عليه مصنوع؛ فقال: ما تخوفت؛ فقال: آمنت برب هارون وموسى. "والذي فطرنا" قيل: هو معطوف على "ما جاءنا من البينات" أي لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات ولا على الذي فطرنا أي خلقنا. وقيل: هو قسم أي والله لن نؤثرك. "فاقض ما أنت قاض" التقدير ما أنت قاضيه. وليست "ما" ها هنا التي تكون مع الفعل بمنزلة المصدر؛ لأن تلك توصل بالأفعال، وهذه موصولة بابتداء وخبر. قال ابن عباس: فاصنع ما أنت صانع. وقيل: فاحكم ما أنت حاكم؛ أي من القطع والصلب. وحذفت الياء من قاض الوصل لسكونها وسكون التنوين. واختار سيبويه إثباتها في الوقف لأنه قد زالت علة الساكنين. "إنما تقضي هذه الحياة الدنيا" أي إنما ينفذ أمرك فيها. وهي منصوبة على الظرف، والمعنى: إنما تقضي في متاع هذه الحياة الدنيا. أو وقت هذه الحياة الدنيا، فتقدر حذف المفعول. ويجوز أن يكون التقدير: إنما تقضي أمور هذه الحياة الدنيا، فتنتصب انتصاب المفعول و"ما" كافة لإن. وأجاز الفراء الرفع على أن تجعل "ما" بمعنى الذي وتحذف الهاء من تقضي ورفعت "هذه الحياة الدنيا". "إنا آمنا بربنا" أي صدقنا بالله وحده لا شريك له وما جاءنا به موسى. "ليغفر لنا خطايانا" يريدون الشرك الذي كانوا عليه. "وما أكرهتنا عليه من السحر" "ما" في موضع نصب معطوفة على الخطايا. وقيل: لا موضع لها وهى نافية؛ أي ليغفر لنا خطايانا من السحر وما أكرهتنا عليه. النحاس: والأول أولى. المهدوي: وفيه بعد؛ لقولهم: "إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين" وليس هذا بقول مكرهين؛ ولأن الإكراه ليس بذنب، وإن كان يجوز أن يكونوا أكرهوا على تعليمه صغارا. قال الحسن: كانوا يعلمون السحر أطفالا ثم عملوه مختارين بعد. ويجوز أن يكون "ما" في موضع رفع بالابتداء ويضمر الخبر، والتقدير: وما أكرهتنا عليه من السحر موضوع عنا. و"من السحر" على هذا القول والقول الأول يتعلق بـ "أكرهتنا". وعلى أن "ما" نافية يتعلق بـ "خطايانا". "والله خير وأبقى" أي ثوابه خير وأبقى فحذف المضاف؛ قاله ابن عباس. وقيل: الله خير لنا منك وأبقى عذابا لنا من عذابك لنا. وهو جواب قوله "ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى" وقيل: الله خير لنا إن أطعناه، وأبقى عذابا منك إن عصيناه.
الآيات: 74 - 76 {إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى، ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى، جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى}
قوله تعالى: "إنه من يأت ربه مجرما" قيل هو من قول السحرة لما آمنوا. وقيل ابتداء كلام من الله عز وجل. والكناية في "إنه" ترجع إلى الأمر والشأن. ويجوز إن من يأت، ومنه قول الشاعر:
إن من يدخل الكنيسة يوما يلق فيها جآذرا وظباء
أراد إنه من يدخل؛ أي أن الأمر هذا؛ أن المجرم يدخل النار، والمؤمن يدخل الجنة. والمجرم الكافر. وقيل: الذي يقترف المعاصي ويكتسبها. والأول أشبه؛ لقوله: "فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا" وهذه صفة الكافر المكذب الجاحد - على ما تقدم بيانه في سورة "النساء" وغيرها - فلا ينتفع بحياته ولا يستريح بموته. قال الشاعر:
ألا من لنفس لا تموت فينقضي شقاها ولا تحيا حياة لها طعم
وقيل: نفس الكافر معلقة في حنجرته أخبر الله تعالى عنه فلا يموت بفراقها، ولا يحيا باستقرارها. ومعنى "من يأت ربه مجرما" من يأت موعد ربه. ومعنى "ومن يأته مؤمنا" أي يمت عليه ويوافيه مصدقا به. "قد عمل" أي وقد عمل "الصالحات" أي الطاعات وما أمر به ونهى عنه. "فأولئك لهم الدرجات العلا" أي الرفيعة التي قصرت دونها الصفات. ودل قوله: "ومن يأته مؤمنا" على أن المراد بالمجرم المشرك.
قوله تعالى: "جنات عدن" بيان للدرجات وبدل منها، والعدن الإقامة. "تجري من تحتها" أي من تحت غرفها وسررها "الأنهار" من الخمر والعسل واللبن والماء. "خالدين فيها" أي ماكثين دائمين. "وذلك جزاء من تزكى" أي من تطهر من الكفر والمعاصي. ومن قال هذا من قول السحرة قال: لعل السحرة سمعوه من موسى أو من بني إسرائيل إذ كان فيهم بمصر أقوام، وكان فيهم أيضا المؤمن من آل فرعون.
قلت: ويحتمل أن يكون ذلك إلهاما من الله لهم أنطقهم بذلك لما آمنوا؛ والله أعلم.