تفسير السعدي تفسير الصفحة 316 من المصحف

 فلله درهم ما أصلبهم في باطلهم، وأشدهم فيه، حيث أتوا بكل سبب، ووسيلة وممكن، ومكيدة يكيدون بها الحق، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ويظهر الحق على الباطل،.فلما تمت مكيدتهم، وانحصر مقصدهم، ولم يبق إلا العمل قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ عصاك وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى خيروه، موهمين أنهم على جزم من ظهورهم عليه بأي: حالة كانت، فقال لهم موسى: بَلْ أَلْقُوا فألقوا حبالهم وعصيهم، فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أي: إلى موسى مِنْ سِحْرِهِمْ البليغ أَنَّهَا تَسْعَى أي: أنها حيات تسعى فلما خيل إلى موسى ذلك.
( أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ) كما هو مقتضى الطبيعة البشرية، وإلا فهو جازم بوعد الله ونصره.
قُلْنَا له تثبيتا وتطمينا: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى عليهم، أي: ستعلو عليهم وتقهرهم، ويذلوا لك ويخضعوا.
وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ أي: عصاك تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى أي: كيدهم ومكرهم، ليس بمثمر لهم ولا ناجح، فإنه من كيد السحرة، الذين يموهون على الناس، ويلبسون الباطل، ويخيلون أنهم على الحق، فألقى موسى عصاه، فتلقفت ما صنعوا كله وأكلته، والناس ينظرون لذلك الصنيع، فعلم السحرة علما يقينا أن هذا ليس بسحر، وأنه من الله، فبادروا للإيمان.
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ فوقع الحق وظهر وسطع وبطل السحر والمكر والكيد في ذلك المجمع العظيم
فصارت بينة ورحمة للمؤمنين وحجة على المعاندين فـ قَالَ فرعون للسحرة آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي كيف أقدمتم على الإيمان من دون مراجعة مني ولا إذن؟
استغرب ذلك منهم لأدبهم معه وذلهم وانقيادهم له في كل أمر من أمورهم وجعل هذا من ذاك
ثم استلج فرعون في كفره وطغيانه بعد هذا البرهان واستخف عقول قومه وأظهر لهم أن هذه الغلبة من موسى للسحرة ليس لأن الذي معه الحق بل لأنه تمالأ هو والسحرة ومكروا ودبروا أن يخرجوا فرعون وقومه من بلادهم فقبل قومه هذا المكر منه وظنوه صدقا فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ مع أن هذه المقالة التي قالها لا تدخل عقل من له أدنى مسكة من عقل ومعرفة بالواقع فإن موسى أتى من مدين وحيدا وحين أتى لم يجتمع بأحد من السحرة ولا غيرهم بل بادر إلى دعوة فرعون وقومه وأراهم الآيات فأراد فرعون أن يعارض ما جاء به موسى فسعى ما أمكنه وأرسل في مدائنه من يجمع له كل ساحر عليم
فجاءوا إليه ووعدهم الأجر والمنزلة عند الغلبة وهم حرصوا غاية الحرص وكادوا أشد الكيد على غلبتهم لموسى وكان منهم ما كان فهل يمكن أن يتصور مع هذا أن يكونوا دبروا هم وموسى واتفقوا على ما صدر؟ هذا من أمحل المحال ثم توعد فرعون السحرة فقال فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ
كما يفعل بالمحارب الساعي بالفساد يقطع يده اليمنى ورجله اليسرى وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أي لأجل أن تشتهروا وتختزوا وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى يعني بزعمه هو أو الله وأنه أشد عذابا من الله وأبقى قلبا للحقائق وترهيبا لمن لا عقل له
ولهذا لما عرف السحرة الحق ورزقهم الله من العقل ما يدركون به الحقائق أجابوه بقولهم
لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ أي لن نختارك وما وعدتنا به من الأجر والتقريب على ما أرانا الله من الآيات البينات الدالات على أن الله هو الرب المعبود وحده المعظم المبجل وحده وأن ما سواه باطل ونؤثرك على الذي فطرنا وخلقنا هذا لا يكون فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ مما أوعدتنا به من القطع والصلب والعذاب
إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا أي إنما توعدنا به غاية ما يكون في هذه الحياة الدنيا ينقضي ويزول ولا يضرنا بخلاف عذاب الله لمن استمر على كفره فإنه دائم عظيم
وهذا كأنه جواب منهم لقوله وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى وفي هذا الكلام من السحرة دليل على أنه ينبغي للعاقل أن يوازن بين لذات الدنيا ولذات الآخرة وبين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا أي كفرنا ومعاصينا فإن الإيمان مكفر للسيئات والتوبة تجب ما قبلها وقولهم وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ الذي عارضنا به الحق هذا دليل على أنهم غير مختارين في عملهم المتقدم وإنما أكرههم فرعون إكراها
والظاهر - والله أعلم- أن موسى لما وعظهم كما تقدم في قوله وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ أثر معهم ووقع منهم موقعا كبيرا ولهذا تنازعوا بعد هذا الكلام والموعظة ثم إن فرعون ألزمهم ذلك وأكرههم على المكر الذي أجروه ولهذا تكلموا بكلامه السابق قبل إتيانهم حيث قالوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا فجروا على ما سنه لهم وأكرههم عليه ولعل هذه النكتة التي قامت بقلوبهم من كراهتهم لمعارضة الحق بالباطل وفعلهم ما فعلوا على وجه الإغماض هي التي أثرت معهم ورحمهم الله بسببها ووفقهم للإيمان والتوبة وَاللَّهُ خَيْرٌ مما وعدتنا من الأجر والمنزلة والجاه وأبقى ثوابا وإحسانا لا ما يقول فرعون وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى يريد أنه أشد عذابا وأبقى وجميع ما أتى من قصص موسى مع فرعون يذكر الله فيه إذا أتى على قصة السحرة أن فرعون توعدهم بالقطع والصلب ولم يذكر أنه فعل ذلك ولم يأت في ذلك حديث صحيح والجزم بوقوعه أو عدمه يتوقف على الدليل والله أعلم بذلك وغيره ولكن توعده إياهم بذلك مع اقتداره دليل على وقوعه ولأنه لو لم يقع لذكره الله ولاتفاق الناقلين على ذلك
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا ( 74 ) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى ( 75 ) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ( 76 ) .
يخبر تعالى أن من أتاه، وقدم عليه مجرما - أي: وصفه الجرم من كل وجه، وذلك يستلزم الكفر- واستمر على ذلك حتى مات، فإن له نار جهنم، الشديد نكالها، العظيمة أغلالها، البعيد قعرها، الأليم حرها وقرها، التي فيها من العقاب ما يذيب الأكباد والقلوب، ومن شدة ذلك أن المعذب فيها لا يموت ولا يحيا، لا يموت فيستريح، ولا يحيا حياة يتلذذ بها، وإنما حياته محشوة بعذاب القلب والروح والبدن، الذي لا يقدر قدره، ولا يفتر عنه ساعة، يستغيث فلا يغاث، ويدعو فلا يستجاب له.
نعم إذا استغاث، أغيث بماء كالمهل يشوي الوجوه، وإذا دعا، أجيب بـ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ .
ومن يأت ربه مؤمنا به مصدقا لرسله، متبعا لكتبه ( قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ ) الواجبة والمستحبة، ( فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلا ) أي: المنازل العاليات، وفي الغرف المزخرفات، واللذات المتواصلات، والأنهار السارحات، والخلود الدائم، والسرور العظيم، فيما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
( وَذَلِكَ ) الثواب، ( جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ) أي: تطهر من الشرك والكفر والفسوق والعصيان، إما أن لا يفعلها بالكلية، أو يتوب مما فعله منها، وزكى أيضا نفسه، ونماها بالإيمان والعمل الصالح، فإن للتزكية معنيين، التنقية، وإزالة الخبث، والزيادة بحصول الخير، وسميت الزكاة زكاة، لهذين الأمرين.