تفسير الطبري تفسير الصفحة 316 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 316
317
315
 الآية : 65 و 66
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالُواْ يَمُوسَىَ إِمّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمّآ أَن نّكُونَ أَوّلَ مَنْ أَلْقَىَ * قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيّهُمْ يُخَيّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنّهَا تَسْعَىَ }.
يقول تعالـى ذكره: فأجمعت السحرة كيدهم, ثم أتوا صفـا فقالوا لـموسى: يا مُوسعى إمّا أنْ تُلْقِـيَ وإمّا أنْ نَكُونَ أوّلَ مَنْ ألْقَـى وترك ذكر ذلك من الكلام اكتفـاء بدلالة الكلام علـيه.
واختلف فـي مبلغ عدد السحرة الذين أتوا يومئذٍ صفـا, فقال بعضهم: كانوا سبعين ألف ساحر, مع كلّ ساحر منهم حبل وعصا. ذكر من قال ذلك:
18260ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن علـية, عن هشام الدستوائي, قال: حدثنا القاسم بن أبـي بزّة, قال: جمع فرعون سبعين ألف ساحر, فألقوا سبعين ألف حبل, وسبعين ألف عصا فألقـى موسى عصاه, فإذا هي ثعبـان مبـين فـاغر به فـاه, فـابتلع حبـالهم وعصيهم, فَأُلْقِـيَ السّحَرَةُ سُجّدا عند ذلك, فما رفعوا رءوسهم حتـى رأوا الـجنة والنار وثواب أهلهما, فعند ذلك قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلـى ما جاءنا مِنَ البَـيّنات.
وقال آخرون: بل كانوا نـيفـا وثلاثـين ألف رجل. ذكر من قال ذلك:
18261ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: قَالو يا مُوسَى إمّا أنْ تُلْقِـيَ وَإمّا أنْ نَكونَ نـحْنُ الـمُلْقِـينَ قالَ لهُمْ مُوسَى: ألقوا, فألقوا حبـالهم وعصيهم, وكانوا بضعة وثلاثـين ألف رجل لـيس منهم رجل إلا ومعه حبل وعصا.
وقال آخرون: بل كانوا خمسة عشر ألفـا. ذكر من قال ذلك:
18262ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: حدثت عن وهب بن منبه, قال: صف خمسة عشر ألف ساحر, مع كلّ ساحر حبـاله وعصيه.
وقال آخرون: كانوا تسع مئة. ذكر من قال ذلك:
18263ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: كان السحرة ثلاث مئة من العريش, وثلاث مئة من فـيوم, ويشكون فـي ثلاث مئة من الإسكندرية فقالوا لـموسى: إما أن تلقـي ما معك قبلنا, وإما أن نلقـي ما معنا قبلك, وذلك قوله: وإمّا أنْ نَكُونَ أوّلَ مَنْ ألْقَـى وأنّ فـي قوله: إمّا أنْ فـي موضع نصب, وذلك أن معنى الكلام: اختر يا موسى أحد هذين الأمرين: إما أن تلقـي قبلنا, وإما أن نكون أوّل من ألقـي, ولو قال قائل: هو رفع, كان مذهبـا, كأنه وجّهه إلـى أنه خبر, كقول القائل:
فَسِيرَا فإمّا حاجَةً تَقْضِيانِهاوإمّا مَقِـيـلٌ صَالِـحٌ وصَدِيقُ
وقوله: قالَ بَلْ ألْقُوا يقول تعالـى ذكره: قال موسى للسحرة: بل ألقوا أنتـم ما معكم قبلـي. وقوله: فإذَا حِبـالُهُمْ وَعصِيّهُمْ يُخَيّـلُ إلَـيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أنّهَا تَسْعَى, وفـي هذا الكلام متروك, وهو: فألقوا ما معهم من الـحبـال والعصيّ, فإذا حبـالهم, ترك ذكره استغناء بدلالة الكلام الذي ذكر علـيه عنه. وذُكر أن السحرة سحروا عين موسى وأعين الناس قبل أن يـلقوا حبـالهم وعصيهم, فخيـل حينئذٍ إلـى موسى أنها تسعى, كما:
18264ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: حُدثت عن وهب بن منبه, قال: قالوا يا موسى, إمّا أنْ تُلْقِـيَ وَإمّا أنْ نَكُونَ أوّلَ مَنْ ألْقَـى قالَ بَلْ ألْقُوا فكان أوّل ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون, ثم أبصار الناس بعد, ثم ألقـى كلّ رجل منهم ما فـي يده من العصي والـحبـال, فإذا هي حيات كأمثال الـحبـال, قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا.
واختلفت القراءة فـي قراءة قوله: يُخَيّـلُ إلَـيْهِ فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار يُخَيّـلُ إلَـيْهِ بـالـياء بـمعنى: يخيـل إلـيهم سعيها. وإذا قرىء ذلك كذلك, كانت «أن» فـي موضع رفع. ورُوي عن الـحسن البصري أنه كان يقرؤه: «تُـخَيّـلُ» بـالتاء, بـمعنى: تـخيـل حبـالهم وعصيهم بأنها تسعى. ومن قرأ ذلك كذلك, كانت «أن» فـي موضع نصب لتعلق تـخيـل بها. وقد ذُكر عن بعضهم أنه كان يقرؤه: «تُـخَيّـلُ إلَـيْهِ» بـمعنى: تتـخيـل إلـيه. وإذا قرىء ذلك كذلك أيضا ف«أن» فـي موضع نصب بـمعنى: تتـخيـل بـالسعي لهم.
والقراءة التـي لا يجوز عندي فـي ذلك غيرها يُخَيّـلُ بـالـياء, لإجماع الـحجة من القراء علـيه.
الآية : 67 - 69
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مّوسَىَ * قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنّكَ أَنتَ الأعْلَىَ * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوَاْ إِنّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أَتَىَ }.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: فأوجس فـي نفسه خوفـا موسى فوجده. وقوله: قُلْنا لا تَـخَفْ إنّكَ أنْتَ الأعْلَـى يقول تعالـى ذكره: قلنا لـموسى إذ أوجس فـي نفسه خيفة: لا تَـخَفْ إنّكَ أنْتَ الأَعْلَـى علـى هؤلاء السحرة, وعلـى فرعون وجنده, والقاهر لهم وألْقِ ما فِـي يَـمينِكَ تَلْقَـفْ ما صَنَعُوا يقول: وألق عصاك تبتلع حبـالهم وعصيهم التـي سحروها حتـى خيـل إلـيك أنها تسعى.
وقوله: إنّـمَا صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله, فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة إنّـمَا صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ برفع كيد وبـالألف فـي ساحر بـمعنى: إن الذي صنعه هؤلاء السحرة كيد من ساحر. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: «إنّـمَا صَنَعُوا كَيْدُ سِحْرٍ» برفع الكيد وبغير الألف فـي السحر بـمعنى إن الذي صنعوه كيد سحر.
والقول فـي ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا الـمعنى, وذلك أن الكيد هو الـمكر والـخدعة, فـالساحر مكره وخدعته من سحر يسحر, ومكر السحر وخدعته: تـخيـله إلـى الـمسحور, علـى خلاف ما هو به فـي حقـيقته, فـالساحر كائد بـالسحر, والسحر كائد بـالتـخيـيـل, فإلـى أيهما أضفت الكيد فهو صواب. وقد ذُكر عن بعضهم أنه قرأ: «كَيْدَ سِحْرٍ» بنصب كميد. ومن قرأ ذلك كذلك, جعل إنـما حرفـا واحدا وأعمل صنعوا فـي كيد.
قال أبو جعفر: وهذه قراءة لا أستـجيز القراءة بها لإجماع الـحجة من القرّاء علـى خلافها.
وقوله: وَلا يُفْلِـحُ السّاحِرُ حَيْثُ أتَـى يقول: ولا يظفر الساحر بسحره بـما طلب أين كان. وقد ذُكر عن بعضهم أنه كان يقول: معنى ذلك: أن الساحر يُقتل حيث وُجد. وذكر بعض نـحويـي البصرة, أن ذلك فـي حرف ابن مسعود: «وَلا يُفْلِـحُ السّاحِرُ أيْنَ أَتَـى» وقال: العرب تقول: جئتك من حيث لا تعلـم, ومن أين لا تعلـم. وقال غيره من أهل العربـية الأول: جزاء يقتل الساحر حيث أتـى وأين أتـى وقال: وما قول العرب: جئتك من حيث لا تعلـم, ومن أين لا تعلـم, فإنـما هو جواب لـم يفهم, فـاستفهم كما قالوا: أي الـماء والعشب.
الآية : 70 و 71
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَأُلْقِيَ السّحَرَةُ سُجّداً قَالُوَاْ آمَنّا بِرَبّ هَارُونَ وَمُوسَىَ * قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنّهُ لَكَبِيرُكُمُ الّذِي عَلّمَكُمُ السّحْرَ فَلاُقَطّعَنّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلاُصَلّبَنّكُمْ فِي جُذُوعِ النّخْلِ وَلَتَعْلَمُنّ أَيّنَآ أَشَدّ عَذَاباً وَأَبْقَىَ }.
وفـي هذا الكلام متروك قد استغنى بدلالة ما ترك علـيه هو: فألقـى موسى عصاه, فتلقـفت ما صنعوا فأُلْقـيَ السّحَرَةُ سُجّدا قالُوا آمَنّا بِرَبّ هارُونَ وَمُوسَى وذكر أن موسى لـما ألقـى ما فـي يده تـحوّل ثعبـانا, فـالتقم كلّ ما كانت السحرة ألقته من الـحبـال والعصيّ. ذكر الرواية عمن قال ذلك:
18265ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد, قال: لـما اجتـمعوا وألقوا ما فـي أيديهم من السحر, خيـل إلَـيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أنّها تَسْعَى فأوْجَسَ فِـي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنا لا تَـخَفْ إنّكَ أنْتَ الأعْلَـى وألْقِ ما فِـي يَـمِينِكَ تَلْقَـفْ ما صَنَعُوا فألقـى عصاه فإذا هي ثعبـان مبـين. قال: فتـحت فما لها مثل الدّحْل, ثم وضعت مشفرها علـى الأرض ورفعت الاَخر, ثم استوعبت كلّ شيء ألقوه من السحر, ثم جاء إلـيها فقبض علـيها, فإذا هي عصا, فخرّ السحرة سجدا قالُوا آمَنّا بِرَبّ هارُونَ وَموسَى قالَ آمَنْتُـمْ لَهُ قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكُمْ إنّهُ لَكَبِـيرُكُمْ الّذِي عَلّـمَكُمُ السّحْرَ فَلأُقَطّعَنّ أيْدِيَكُمْ وَأرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ قال: فكان أوّل من قطع الأيدي والأرجل من خلاف فرعون وَلأُصَلّبَنّكُمْ فِـي جُذُوعِ النّـخْـلِ قال: فكان أوّل من صلب فـي جذوع النـخـل فرعون.
18266ـ حدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ فأوْجَسَ فِـي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى فأوحى الله إلـيه لا تَـخَفْ وألْقِ ما فـي يَـمِينَكَ تَلْقَـف ما يأفِكُونَ فألْقَـى عَصَاهُ فأكلت كلّ حية لهم فلـما رأوا ذلك سجدوا وقَالُوا آمَنّا بِرَبّ الْعَالَـمِينَ رَبّ هَارُونَ وَمُوسَى.
18267ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: حُدثت عن وهب بن منبه فأوْجَسَ فِـي نَفْسِهِ خيفَةً مُوسَى لـما رأى ما ألقوا من الـحبـال والعصيّ وخيـل إلـيه أنها تسعى, وقال: والله إن كانت لعصيا فـي أيديهم, ولقد عادت حيات, وما تعدو عصاي هذه, أو كما حدّث نفسه, فأوحى الله إلـيه أن ألْقِ ما فـي يَـمِينكَ تَلْقَـفْ ما صَنَعُوا إنّـمَا صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِـحُ السّاحرِ حَيْثُ أتَـى وفرح موسى فألقـى عصاه من يده, فـاستعرضت ما ألقوا من حبـالهم وعصيهم, وهي حيات فـي عين فرعون وأعين الناس تسعى, فجعلت تلقـفها, تبتلعها حية حية, حتـى ما يرى بـالوادي قلـيـل ولا كثـير مـما ألقوا, ثم أخذها موسى فإذا هي عصا فـي يده كما كانت, ووقع السحرة سجدا, قالوا: آمنا بربّ هارون وموسى, لو كان هذا سحر ما غلبنا.
وقوله: قالَ آمَنْتُـمْ لَهُ قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكُمْ يقول جلّ ثناؤه: وقال فرعون للسحرة: أصدّقتـم وأقررتـم لـموسى بـما دعاكم إلـيه من قبل أن أطلق ذلك لكم إنّهُ لكَبـيركُم يقول: إن موسى لعظيـمكم الّذي عَلّـمَكُمُ السّحْرَ. كما:
18268ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: حُدثت عن وهب بن منبه, قال: لـما قالت السحرة: آمَنّا بِرَبّ هارُونَ وَمُوسَى قال لهم فرعون, وأسف ورأى الغلبة والبـينة: آمَنْتُـمْ لَهُ قَبْلع أنْ آذَنَ لَكُمْ إنّهُ لَكَبِـيرُكُمْ الّذِي عَلّـمَكُمُ السّحْرَ: أي لعظيـم السحار الذي علـمكم. وقوله: فَلأُقَطّعَنّ أيْدِيَكُمْ وأرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ يقول: فلأقطعنّ أيديكم وأرجلكم مخالفـا بـين قطع ذلك, وذلك أن يقطع يـمنى الـيدين ويسرى الرجلـين, أو يسرى الـيدين, ويـمنى الرجلـين, فـيكون ذلك قطعا من خلاف, وكان فـيـما ذُكر أوّل من فعل ذلك فرعون, وقد ذكرنا الرواية بذلك. وقوله: وَلأُصَلّبَنّكُمْ فِـي جُذُوعِ النّـخْـلِ يقول: ولأصلبنكم علـى جذوع النـخـل, كما قال الشاعر:
هُمْ صَلَبُوا العَبْدِيّ فِـي جِذْعِ نَـخْـلَةٍفَلا عَطَسَتْ شَيْبـانُ إلاّ بأجْدَعا
يعنـي علـى جذع نـخـلة, وإنـما قـيـل: فـي جذوع, لأن الـمصلوب علـى الـخشبة يرفع فـي طولها, ثم يصير علـيها, فـيقال: صلب علـيها.
18269ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلأُصَلّبَنّكُمْ فِـي جُذُوعِ النّـخْـلِ لـما رأى السحرة ما جاء به عرفوا أنه من الله فخروا سجدا, وآمنوا عند ذلك, قال عدوّ الله: فَلأُقَطّعَنّ أيْدِيَكُمْ وَأرْجُلَكمْ مِنْ خِلافٍ... الاَية.
18270ـ حدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال فرعون: لأَقْطّعَنّ أيْدِيَكُمْ وأرْجُلَكُمْ مِن خِلافٍ وَلأُصَلّبَنّكُمْ فِـي جُذُوعِ النّـخْـلِ فقتلهم وقطعهم, كما قال عبد الله بن عبـاس حين قالوا: رَبّنا أفْرِغْ عَلَـيْنا صَبْرا وَتَوَفّنا مُسْلِـمِينَ وقال: كانوا فـي أوّل النهار سحرة, وفـي آخر النهار شهداء.
وقوله: وَلَتَعْلَـمُنّ أيّنا أشَدّ عَذَابـا وأبْقَـى يقول: ولتعلـمنّ أيها السحرة أينا أشدّ عذابـا لكم, وأدوم, أنا أو موسى.
الآية : 72 و 73
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالُواْ لَن نّؤْثِرَكَ عَلَىَ مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَالّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنّمَا تَقْضِي هَـَذِهِ الْحَيَاةَ الدّنْيَآ * إِنّآ آمَنّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السّحْرِ وَاللّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ }.
يقول تعالـى ذكره: قالت السحرة لفرعون لـما توعدهم بـما توعّدهم به: لَنْ نُؤْثِرَكَ فنتبعك ونكذّب من أجلك موسى عَلـى ما جاءَنا مِنَ البّـيّناتِ يعنـي من الـحجج والأدلة علـى حقـيقة ما دعاهم إلـيه موسى. وَالّذِي فَطَرَنا يقول: قالوا: لن نؤثرك علـى الذي جاءنا من البـينات, وعلـى الذي فطرنا. ويعنـي بقوله: فَطَرنا خـلقنا فـالذي من قوله: وَالّذِي فَطَرنا خفض علـى قوله: ما جاءَنا, وقد يحتـمل أن يكون قوله: وَالّذِي فَطَرنا خفضا علـى القسم, فـيكون معنى الكلام: لن نؤثرك علـى ما جاءنا من البـيّنات والله. وقوله: فـاقْضِ ما أنْتَ قاضٍ يقول: فـاصنع ما أنت صانع, واعمل بنا ما بدا لك إنـما تَقْضِي هَذِهِ الـحَياةَ الدّنـيا يقول: إنـما تقدر أن تعذّبنا فـي هذه الـحياة الدنـيا التـي تفنى. ونصب الـحياة الدنـيا علـى الوقت وجعلت إنـما حرفـا واحدا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18271ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: حُدثت عن وهب بن منبه لَنْ نُؤْثرَكَ عَلـى ما جاءَنا مِنَ البَـيّناتِ وَالّذِي فَطَرَنا أي علـى الله علـى ما جاءنا من الـحجج مع بـينة فـاقْضِ ما أنْتَ قاضٍ: أي اصنع ما بدا لك إنّـمَا تَقْضِي هَذِهِ الـحَيَاةَ الدّنـيا أي لـيس سلطان إلا فـيها, ثم لا سلطان لك بعده.
وقوله: إنّا آمَنّا بِرَبّنا لِـيَغْفِرَ لَنا خَطايانا يقول تعالـى ذكره: إنا أقررنا بتوحيد ربنا, وصدقنا بوعده ووعيده. وأن ما جاء به موسى حقّ لِـيَغْفِرَ لَنا خَطايانا يقول: لـيعفو لنا عن ذنوبنا فـيسترها علـينا وَما أكْرَهْتَنا عَلَـيْهِ مِن السّحْرِ يقول: لـيغفر لنا ذنوبنا, وتعلـمنا ما تعلـمناه من السحر, وعملنا به الذي أكرهتنا علـى تعلّـمه والعمل به. وذُكر أن فرعون كان أخذهم بتعلـيـم السحر. ذكر من قال ذلك:
18272ـ حدثنـي موسى بن سهل, قال: حدثنا نعيـم بن حماد, قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة, عن أبـي سعيد, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, فـي قول الله تبـارك وتعالـى: وَما أكْرَهْتَنا عَلَـيْهِ مِنَ السّحْرِ قال: غلـمان دفعهم فرعون إلـى السحرة, تعلـمهم السحر بـالفَرَما.
18273ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَما أكْرَهْتَنا عَلَـيْهِ مِنَ السّحْرِ قال: أمرهم بتعلـم السحر, قال: تركوا كتاب الله, وأمروا قومهم بتعلـيـم السحر.
وَما أكْرَهْتَنا عَلَـيْهِ مِنَ السّحْرِ قال: أمرتنا أن نتعلـمه.
وقوله: وَاللّهُ خَيْرٌ وأبْقَـى يقول: والله خير منك يا فرعون جزاء لـمن أطاعه, وأبقـى عذابـا لـمن عصاه وخالف أمره, كما:
18274ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق وَاللّه خَيْرٌ وأبْقَـى: خير منك ثوابـا, وأبقـى عذابـا.
18275ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي معشر, عن مـحمد بن كعب, ومـحمد بن قـيس فـي قول الله: وَاللّهُ خَيْرٌ وأبْقَـى قالا: خيرا منك إن أُطِيع, وأبقـى منك عذابـا إن عُصي.

الآية : 74 و 75
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { إِنّهُ مَن يَأْتِ رَبّهُ مُجْرِماً فَإِنّ لَهُ جَهَنّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىَ * وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصّالِحَاتِ فَأُوْلَـَئِكَ لَهُمُ الدّرَجَاتُ الْعُلَىَ }.
يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قـيـل السحرة لفرعون: إنّهُ مَنْ يأْتِ ربه من خـلقه مُـجْرِما يقول: مكتسبـا الكفر به, فإنّ لَهُ جَهَنّـمَ يقول: فإن له جهنـم مأوى ومسكنا, جزاء له علـى كفره لا يَـمُوتُ فِـيها فتـخرج نفسه وَلا يَحْيا فتستقرّ نفسه فـي مقرّها فتطمئنّ, ولكنها تتعلق بـالـحناجر منهم وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنا موحدا لا يُشرك به قَدْ عَمِلَ الصّالِـحاتِ يقول: قد عمل ما أمره به ربه, وانتهى عما نهاه عنه فأُولَئِكَ لَهُمُ الدّرَجاتُ العُلَـى يقول: فأولئك الذين لهم درجات الـجنة العُلَـى.
الآية : 76
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكّىَ }.
يقول تعالـى ذكره: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنا قَدْ عَمِلَ الصّالِـحاتِ فأُولَئِكَ لَهُمُ الدّرَجاتُ العُلَـى. ثم بـين تلك الدرجات العلـى ما هي, فقال: هن جَنّاتُ عَدْنٍ يعنـي: جنات إقامة لا ظعن عنها ولا نفـاد لها ولا فناء تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهَارُ يقول: تـجري من تـحت أشجارها الأنهار خالِدِينَ فِـيها يقول: ماكثـين فـيها إلـى غير غاية مـحدودة فـالـجنات من قوله جَنّاتُ عَدْنٍ مرفوعة بـالردّ علـى الدرجات, كما:
18276ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, فـي قوله: وَمَنْ يأْتِهِ مُؤْمِنا قَدْ عَمِلَ الصّالِـحاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدّرَجاتُ العُلـى قال: عَدْن