تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 316 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 316

315

وجملة 65- "قالوا يا موسى إما أن تلقي" مستأنفة جواباً لسؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا فعلوا بعدما قالوا فيما بينهم ما قالوا؟ فقيل: "قالوا يا موسى إما أن تلقي"، وإن مع ما في حيزها في محل نصب بفعل مضمر: أي اختر إلقاءك أولاً أو إلقاءنا، ويجوز أن تكون في محل رفع على أنها وما بعدها خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر إلقاؤك، أو إلقاءنا، ويجوز أن تكون في محل رفع على أنها وما بعدها خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر إلقاؤك، أو إلقاءنا، ويجوز أن تكون في محل رفع على أنها وما بعدها خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر إلقاؤك، أو إلقاؤنا، ومفعول تلقي محذوف، والتقدير: إما أن تلقي ما تلقيه أولاً "وإما أن نكون" نحن "أول من ألقى" ما يلقيه، أو أول من يفعل الإلقاء، والمراد إلقاء العصي على الأرض، وكانت السحرة معهم عصي، وكان موسى قد ألقى عصاه يوم دخل على فرعون، فلما أراد السحرة معارضته قالوا له هذا القول.
فـ 66- "قال" لهم موسى "بل ألقوا" أمرهم بالإلقاء أولاً لتكون معجزته أظهر إذا ألقوا هم ما معهم ثم يلقي هو عصاه فتبتلع ذلك، وإظهاراً لعدم المبالاة بسحرهم "فإذا حبالهم وعصيهم" في الكلام حذف، والتقدير: فألقوا فإذا حبالهم، والفاء فصيحة، وإذا للمفاجأة أو ظرفية. والمعنى: فألقوا ففاجأ موسى وقت أن "يخيل إليه" سعي حبالهم وعصيهم، وقرأ الحسن عصيهم بضم العين وهي لغة بني تميم، وقرأ الباقون بكسرها اتباعاً لكسرة الصاد، وقرأ ابن عباس وابن ذكوان وروح عن يعقوب تخيل بالمثناة، لأن العصي والحبال مؤنثة، وذلك أنهم لطخوها بالزئبق، فلما أصابها حر الشمس ارتعشت واهتزت، وقرئ نخيل بالنون على أن الله سبحانه هو المخيل لذلك، وقرئ يخيل بالياء التحتية مبنياً للفاعل على أن المخيل هو الكيد، وقيل المخيل هو أنها تسعى، فإن في موضع رفع: أي يخيل إليه سعيها، ذكر معناه الزجاج. وقال الفراء: إنها في موضع نصب: أي بأنها ثم حذف الباء. قال الزجاج: ومن قرأ بالتاء: يعني الفوقية جعل أن في موضع نصب: أي تخل إليه ذات سعي. قال: ويجوز أن يكون في موضع رفع بدلاً من الضمير في تخيل، وهو عائد على الحبال والعصي، والبدل فيه اشتمال، يقال خيل إليه إذا شبه له وأدخل عليه البهمة والشبة.
67- "فأوجس في نفسه خيفة موسى" أي أحس، وقيل وجد، وقيل أضمر، وقيل خاف، وذلك لما يعرض من الطباع البشرية عند مشاهدة ما يخشى منه، وقيل خاف أن يفتتن الناس قبل أن يلقي عصاه، وقيل إن سبب خوفه هو أن سحرهم كان من جنس ما أراهم في العصا، فخاف أن يلتبس أمره على الناس فلا يؤمنوا.
فأذهب الله سبحانه ما حصل معه من الخوف بما بشره به بقوله: 68- "قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى" أي المستعلي عليهم بالظفر والغلبة، والجملة تعليل للنهي عن الخوف.
69- "وألق ما في يمينك" يعني العصا، وإنما أبهمها تعظيماً وتفخيماً، وجزم "تلقف ما صنعوا" على أنه جواب الأمر قرئ بتشديد القاف، والأصل تتلقف فحذف إحدى التاءين، وقرئ تلقف بكسر اللام من لقفه إذا ابتلعه بسرعة، وقرئ تلقف بالرفع على تقدير فإنها تتلقف، ومعنى "ما صنعوا" الذي صنعوه من الحبال والعصي. قال الزجاج: القراءة بالجزم جواب الأمر، ويجوز الرفع على معنى الحال، كأنه قال: ألقها متلقفة، وجملة "إنما صنعوا كيد ساحر" تعليل لقوله تلقف، وارتفاع كيد على أنه خبر لإن، وهي قراءة الكوفيين إلا عاصماً. وقرأ هؤلاء "سحر" بكسر السين وسكون الحاء، وأضافة الكيد أي السحر على الاتساع من غير تقدير، أو بتقدير ذي سحر. وقرأ الباقون "كيد ساحر" "ولا يفلح الساحر حيث أتى" أي لا يفلح جنس الساحر حيث أتى وأين توجه، وهذا من تمام التعليل.
70- "فألقي السحرة سجداً" أي فألقى ذلك الأمر الذي شاهدوه من موسى والعصا والعصا السحرة سجداً لله تعالى، وقد مر تحقيق هذا في سورة الأعراف "قالوا آمنا برب هارون وموسى" إنما قدم هارون على موسى في حكاية كلامهم رعاية لفواصل الآي وعناية بتوافق رؤوسها. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فيسحتكم بعذاب" قال: يهلككم. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة "فيسحتكم" قال: يستأصلكم. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي صالح قال: فيذبحكم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي "ويذهبا بطريقتكم المثلى" قال: يصرفا وجوه الناس إليهما. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: يقول أمثلكم، وهم بنو إسرائيل. وأخرج عبد بن حميد وعبد الرزاق في قوله: "تلقف ما صنعوا" ما يأفكون، عن قتادة قال: ألقاها موسى فتحولت حية تأكل حبالهم وما صنعوا. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة أن سحرة فرعون كانوا تسعمائة، فقالوا لفرعون: إن يكن هذان ساحران فإنا نغلبهما فإنه لا أسحر منا، وإن كانا من رب العالمين فإنه لا طاقة لنا برب العالمين، فلما كان من أمرهم أن خروا سجداً أراهم الله في سجودهم منازلهم التي إليها يصيرون فعندها "قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات" إلى قوله: "والله خير وأبقى".
قوله: 71- "قال آمنتم له" يقال آمن له وآمن به، فمن الأول قوله: "فآمن له لوط"، ومن الثاني، قوله في الأعراف: "آمنتم به قبل أن آذن لكم" وقيل إن الفعل هنا متضمن معنى الاتباع، وقرئ على الاستفهام التوبيخي: أي كيف آمنتم به من غير إذن مني لكم بذلك "إنه لكبيركم الذي علمكم السحر" أي إن موسى لكبيركم: أي أسحركم وأعلاكم درجة في صناعة السحر، أو معلمكم وأستاذكم كما يدل عليه قوله: "الذي علمكم السحر" قال الكسائي: الصبي بالحجاز إذا جاء من عند معلمه قال: جئت من عند كبيري. وقال محمد بن إسحاق: إنه لغظيم السحر. قال الواحدي: والكبير في اللغة الرئيس، ولهذا يقال للمعلم الكبير. أراد فرعون بهذا القول أن يدخل الشبهة على الناس حتى لا يؤمنوا، وإلا فقد علم أنهم لم يتعلموا من موسى، ولا كان رئيساً لهم، ولا بينه وبينهم مواصلة "فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف" أي والله لأفعلن بكم ذلك، والتقطيع للأيدي والأرجل من خلاف هو قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، ومن للابتداء "ولأصلبنكم في جذوع النخل" أي على جذوعها كقوله: "أم لهم سلم يستمعون فيه" أي عليه، ومنه قول سويد بن أبي كاهل: هم صلبوا العبدي في جذع نخلة فلا عطست شيبان إلا بأجدعا وإنما آثر كلمة في للدلالة على استقرارهم عليها كاستقرار المظروف في الظرف "ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى" أراد لتعلمن هل أنا أشد عذاباً لكم أم موسى؟ ومعنى أبقى أدوم، وهو يريد بكلامه هذا الاستهزاء بموسى، لأن موسى لم يكن من التعذيب في شيء، ويمكن أن يريد العذاب الذي توعدهم به موسى إن لم يؤمنوا، وقيل أراد بموسى رب موسى على حذف المضاف.
72- "قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات" أي لن نختارك على ما جاءنا به موسى من البينات الواضحة من عند الله سبحانه كاليد والعصا، وقيل إنهم أرادوا بالبينات ما رأوه في سجودهم من المنازل المعدة لهم في الجنة "والذي فطرنا" معطوف على ما جاءنا أي لن نختارك على ما جاءنا به موسى من البينات وعلى الذي فطرنا: أي خلقنا، وقيل هو قسم: أي والله الذي فطرنا لن نؤثرك، أو لا نؤثرك، وهذان الوجهان في تفسير الآية ذكرهما الفراء والزجاج " فاقض ما أنت قاض " هذا جواب منهم لفرعون لما قال لهم لأقطعن إلخ، والمعنى: فاصنع ما أنت صانع، واحكم ما أنت حاكم، والتقدير: ما أنت صانعه "إنما تقضي هذه الحياة الدنيا" أي إنما سلطانك علينا ونفوذ أمرك فينا في هذه الدنيا ولا سبيل لك علينا فيما بعدها، فاسم الإشارة في محل نصب على الظرفية أو على المفعولية وما كافة، وأجاز الفراء الرفع على أن تجعل ما بمعنى الذي: أي أن الذي تقضيه هذه الحياة الدنيا فقضاؤك وحكمك منحصر في ذلك.
73- "إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا" التي سلفت منا من الكفر وغيره "وما أكرهتنا عليه من السحر" معطوف على خطايانا: أي ويغفر لنا الذي أكرهتنا عليه من عمل السحر في معارضة موسى فما في محل نصب على المفعولية وقيل هي نافية، قال النحاس: والأول أولى. قيل ويجوز أن يكون في محل رفع بالابتداء والخبر مقدر: أي وما أكرهتنا عليه من السحر موضوع عنا "والله خير وأبقى" أي خير منك ثواباً وأبقى منك عقاباً، وهذا جواب قوله: "ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى".
74- "إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا" المجرم هو المتلبس بالكفر والمعاصي، ومعنى لا يموت فيها ولا يحيا أنه لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة تنفعه. قال المبرد: لا يموت ميتة مريحة ولا يحيا حياة ممتعة، فهو يألم كما يألم الحي ويبلغ به حال الموت في المكروه إلا أنه لا يبطل فيها عن إحساس الألم، والعرب تقول: فلان لا حي ولا ميت إذا كان غير منتفع بحياته، وأنشد ابن الأنباري في مثل هذا: ألا من لنفس لا تموت فينقضي شقاها ولا تحيا حياة لها طعم وهذه الآية من جملة ما حكاه الله سبحانه من قول السحرة، وقيل هو ابتداء كلام، والضمير في إنه على هذا الوجه للشأن.
75- "ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات" أي ومن يأت ربه مصدقاً به قد عمل الصالحات: أي الطاعات، والموصوف محذوف، والتقدير الأعمال الصالحات، وجملة قد عمل في محل نصب على الحال وهكذا مؤمناً منتصب على الحال، والإشارة بـ "أولئك" إلى من باعتبار معناه "لهم الدرجات العلى" أي المنازل الرفيعة التي قصرت دونها الصفات.
76- "جنات عدن" بيان للدرجات أو بدل منها، والعدن الإقامة وقد تقدم بيانه، وجملة "تجري من تحتها الأنهار" حال من الجنات، لأنها مضافة إلى عدن، وعدن علم للإقامة كما سبق، وانتصاب "خالدين فيها" على الحال من ضمير الجماعة في لهم: أي ماكثين دائمين، "و" الإشارة "بذلك" إلى ما تقدم لهم من الأجر، وهو مبتدأ، و"جزاء من تزكى" خبره: أي جزاء من تطهر من الكفر والمعاصي الموجبة للنار. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وما أكرهتنا عليه من السحر" قال: أخذ فرعون أربعين غلاماً من بني إسرائيل، فأمر أن يعلموا السحر بالفرما، قال: علموهم تعليماً لا يغلبهم أحد في الأرض. قال ابن عباس: فهم من الذين آمنوا بموسى، وهم الذين قالوا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي في قوله: "والله خير وأبقى" قال: خير منك إن أطيع وأبقى منك عذاباً إن عصي. وأخرج أحمد ومسلم وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فأتى على هذه الآية " إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أهلها الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، وأما الذين ليسوا بأهلها فإن النار تميتهم إماتة، ثم يقوم الشفعاء فيشفعون، فيؤتى بهم ضبائر على نهر يقال له الحياة أو الحيوان، فينبتون كما ينبت الغثاء في حميل السيل". وأخرج أبو داود وابن مردويه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما"، وفي الصحيحين بلفظ "إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء".
هذا شروع في إنجاء بني إسرائيل وإهلاك عدوهم، وقد تقدم في البقرة، وفي الأعراف، وفي يونس. واللام في لقد هي الموطئة للقسم، وفي ذلك من التأكيد ما لا يخفى، و77- "أن" في "أن أسر بعبادي" إما المفسرة لأن في الوحي معنى القول، أو مصدرية: أي بأن أسر أي أسر بهم من مصر. وقد تقدم هذا مستوفى "فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً" أي اجعل لهم طريقاً، ومعنى يبساً يابساً وصف به الفاعل مبالغة، وذلك أن الله تعالى أيبس لهم تلك الطريق حتى لم يكن فيها ماء ولا طين. وقرئ يبسا بسكون الباء على أنه مخفف من يبسا المحرك، أو وجمع يابس كصحب في صاحب، وجملة "لا تخاف دركاً" في محل نصب على الحال: أي آمنا من أن يدرككم العدو، أو صفة أخرى لطريق، والدرك اللحاق بهم من فرعون وجنوده. وقرأ حمزة "لا تخف" على أنه جواب الأمر، والتقدير: إن تضرب لا تخف، ولا تخشى على هذه القراءة مستأنف: أي ولا أنت تخشى من فرعون أو من البحر. وقرأ الجمهور "لا تخاف" وهي أرجح لعدم الجزم في تخشى، ويجوز أن تكون هذه الجملة على قراءة الجمهور صفة أخرى لطريق: أي لا تخاف منه ولا تخشى منه.