تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 323 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 323

323- تفسير الصفحة رقم323 من المصحف
الآيات: 11 - 16 {وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين، فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون، لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون، قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين، فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين}
قوله تعالى: "وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة" يريد مدائن كانت باليمن. وقال أهل التفسير والأخبار: إنه أراد أهل حضور وكان بعث إليهم نبي اسمه شعيب بن ذي مهدم، وقبر شعيب هذا باليمن بجبل يقال له ضنن كثير الثلج، وليس بشعيب صاحب مدين؛ لأن قصة حضور قبل مدة عيسى عليه السلام، وبعد مئين من السنين من مدة سليمان عليه السلام، وأنهم قتلوا نبيهم وقتل أصحاب الرسول في ذلك التاريخ نبيا لهم اسمه حنظلة بن صفوان، وكانت حضور بأرض الحجاز من ناحية الشام، فأوحى الله إلى أرميا أن أيت بختنصر فأعلمه أني قد سلطته على أرض العرب وأني منتقم بك منهم، وأوحى الله إلى أرميا أن احمل معد بن عدنان على البراق إلى أرض العراق؛ كي لا تصيبه النقمة والبلاء معهم، فإني مستخرج من صلبه نبيا في آخر الزمان اسمه محمد، فحمل معدا وهو ابن اثنتا عشرة سنة، فكان مع بني إسرائيل إلى أن كبر وتزوج امرأة اسمها معانة؛ ثم إن بختنصر نهض بالجيوش، وكمن للعرب في مكان - وهو أول من اتخذ المكامن فيما ذكروا - ثم شن الغارات على حضور فقتل وسبى وخرب العامر، ولم يترك بحضور أثرا، ثم نصرف راجعا إلى السواد. و"كم" في موضع نصب بـ "قصمنا". والقصم الكسر؛ يقال: قصمت ظهر فلان وانقصمت سنه إذا انكسرت والمعني به ههنا الإهلاك. وأما الفصم (بالفاء) فهو الصدع في الشيء من غير بينونة؛ قال الشاعر:
كأنه دملج من فضه نبه في ملعب من عذاري الحي مفصوم
ومنه الحديث (فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا). وقوله: "كان ظالمة" أي كافرة؛ يعني أهلها. والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وهم وضعوا الكفر موضع الإيمان.
قوله تعالى: "وأنشأنا" أي أوجدنا وأحدثنا بعد إهلاكهم "فلما أحسوا" أي رأوا عذابنا؛ يقال: أحسست منه ضعفا. وقال الأخفش: "أحسوا" خافوا وتوقعوا. "إذا هم منها يركضون" أي يهربون ويفرون. والركض العدو بشدة الوطء. والركض تحريك الرجل؛ ومنه قوله تعالى: "اركض برجلك" [ص: 42] وركضت الفرس برجلي استحثثته ليعدو ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا وليس بالأصل، والصواب ركض الفرس على ما لم يسم فاعله فهوم مركوض.
قوله تعالى: "لا تركضوا" أي لا تفروا. وقيل: إن الملائكة نادتهم لما انهزموا استهزاء بهم وقالت: "لا تركضوا" "وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم" أي إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم، والمترف المتنعم؛ يقال: أترف على فلان أي وسع عليه في معاشه. وإنما أترفهم الله عز وجل كما قال: "وأترفناهم في الحياة الدنيا" [المؤمنون: 33]. "لعلكم تسألون" أي لعلكم تسألون شيئا من دنياكم؛ استهزاء بهم؛ قاله قتادة. وقيل: المعنى "لعلكم تسألون" عما نزل بكم من العقوبة فتخبرون به. وقيل: المعنى "لعلكم تسألون" أي تؤمنوا كما كنتم تسألون ذلك قبل نزول البأس بكم؛ قيل لهم ذلك استهزاء وتقريعا وتوبيخا. "قالوا يا ويلنا" لما قالت لهم الملائكة: "لا تركضوا" ونادت بالثارات الأنبياء! ولم يروا شخصا يكلمهم عرفوا أن الله عز وجل هو الذي سلط عليهم عدوهم بقتلهم النبي الذي بعث فيهم، فعند ذلك قالوا "يا ويلنا إن كنا ظالمين" فاعترفوا بأنهم ظلموا حين لا ينفع الاعتراف. "فما زالت تلك دعواهم" أي لم يزالوا يقولون: "يا ويلتا إنا كنا ظالمين". "حتى جعلناهم حصيدا" أي بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل؛ قال مجاهد. وقال الحسن: أي بالعذاب. "خامدين" أي ميتين. والخمود الهمود كخمود النار إذا طفئت فشبه خمود الحياة بخمود النار كما يقال لمن مات قد طفئ تشبيها بانطفاء النار.
الآيات: 16 - 18 {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين، لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين، بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون}
قوله تعالى: "وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين" أي عبثا وباطلا؛ بل للتنبيه على أن لها خالقا قادرا يجب امتثال أموه، وأنه يجازي المسيء والمحسن أي ما خلقنا السماء والأرض ليظلم بعض الناس بعضا ويكفر بعضهم، ويخالف بعضهم ما أمر به ثم يموتوا ولا يجازوا، ولا يؤمروا في الدنيا بحسن ولا ينهوا عن قبيح. وهذا اللعب المنفي عن الحكيم ضده الحكمة.
قوله تعالى: "لو أردنا أن نتخذ لهوا" لما اعتقد قوم أن له ولدا قال: "لو أردنا أن نتخذ لهوا" واللهو المرأة بلغة اليمن؛ قاله قتادة. وقال عقبة بن أبي جسرة - وجاء طاووس وعطاء ومجاهد يسألونه عن قوله تعالى: "لو أردنا أن نتخذ لهوا" - فقال: اللهو الزوجة؛ وقال الحسن. وقال ابن عباس: اللهو الولد؛ وقاله الحسن أيضا. قال الجوهري: وقد يكنى باللهو عن الجماع.
قلت: ومنه قول امرئ القيس:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي
وإنما سمي الجماع لهوا لأنه ملهى للقلب، كما قال:
وفيهن ملهى للصديق ومنظر
الجوهري: قوله تعالى: "لو أردنا أن نتخذ لهوا" قالوا امرأة، ويقال: ولدا. "لاتخذناه من لدنا" أي من عندنا لا من عندكم. قال ابن جريج: من أهل السماء لا من أهل الأرض. قيل: أراد الرد على من قال إن الأصنام بنات الله؛ أي كيف يكون منحوتكم ولدا لنا. وقال ابن قتيبة: الآية رد على النصارى. "إن كنا فاعلين" قال قتادة ومقاتل وابن. جريح والحسن: المعنى ما كنا فاعلين؛ مثل "إن أنت إلا نذير" [فاطر: 23] أي ما أنت إلا نذير. و"إن" بمعنى الجحد وتم الكلام عند قوله: "لاتخذناه من لدنا". وقيل: إنه على معنى الشرط؛ أي إن كنا فاعلين ذلك ولكن لسنا بفاعلين ذلك لاستحالة أن يكون لنا ولد؛ إذ لو كان ذلك لم نخلق جنة ولا نارا ولا موتا ولا بعثا ولا حسابا. وقيل: لو أردنا أن نتخذ ولدا على طريق التبني لاتخذناه من عندنا من الملائكة. ومال إلى هذا قوم؛ لأن الإرادة قد تتعلق بالتبني فأما اتخاذ الولد فهو محال، والإرادة لا تتعلق بالمستحيل؛ ذكره القشيري.
قوله تعالى: "بل نقذف بالحق على الباطل" القذف الرمي؛ أي نرمي بالحق على الباطل. "فيدمغه" أي يقهره ويهلكه. وأصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ، ومنه الدامغة. والحق هنا القرآن، والباطل الشيطان في قول مجاهد؛ قال: وكل ما في القرآن من الباطل فهو الشيطان. وقيل: الباطل كذبهم ووصفهم الله عز وجل بغير صفاته من الولد وغيره. وقيل: أراد بالحق الحجة، وبالباطل شبههم. وقيل: الحق المواعظ، والباطل المعاصي؛ والمعنى متقارب. والقرآن يتضمن الحجة والموعظة. "فإذا هو زاهق" أي هالك وتالف؛ قاله قتادة. "ولكم الويل" أي العذاب في الآخرة بسبب وصفكم الله بما لا يجوز وصفه. وقال ابن عباس: الويل واد في جهنم؛ وقد تقدم. "مما تصفون "أي مما تكذبون؛ عن قتادة ومجاهد؛ نظيره" سيجزيهم وصفهم" [الأنعام: 139] أي بكذبهم. وقيل: مما تصفون الله به من المحال وهو اتخاذه سبحانه الولد.
الآيات: 19 - 21 {وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون}
قوله تعالى: "وله من في السماوات والأرض" أي ملكا وخلقا فكيف يجوز أن يشرك به ما هو عبده وخلقه. "ومن عنده" يعني الملائكة الذين ذكرتم أنهم بنات الله. "لا يستكبرون" أي لا يأنفون "عن عبادته" والتذلل له. "ولا يستحسرون" أي يعيون؛ قال قتادة. مأخوذ من الحسير وهو البعير المنقطع بالأعياء والتعب، [يقال]: حسر البعير يحسر حسورا أعيا وكل، واستحسر وتحسر مثله، وحسرته أنا حسرا يتعدى ولا يتعدى، وأحسرته أيضا فهو حسير. وقال ابن زيد: لا يملون. ابن عباس: لا يستنكفون. وقال أبو زيد: لا يكلون. وقيل: لا يفشلون؛ ذكره ابن الأعرابي؛ والمعنى واحد. "يسبحون الليل والنهار" أي يصلون ويذكرون الله وينزهونه دائما. "لا يفترون" أي لا يضعفون ولا يسأمون، يلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النفس. قال عبدالله بن الحرث سألت كعبا فقلت: أما لهم شغل عن التسبيح؟ أما يشغلهم عنه شيء؟ فقال: من هذا؟ فقلت: من بني عبدالمطلب؛ فضمني إليه وقال: يا ابن أخي هل يشغلك شيء عن النفس؟! إن التسبيح لهم بمنزلة النفس. وقد استدل بهذه الآية من قال: إن الملائكة أفضل من بني آدم. وقد تقدم والحمد لله.
قوله تعالى: "أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون" قال المفضل: مقصود هذا الاستفهام الجحد، أي لم يتخذوا آلهة تقدر على الإحياء. وقيل: "أم" بمعنى "هل" أي هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض يحيون الموتى. ولا تكون "أم" هنا بمعنى بل؛ لأن ذلك يوجب لهم إنشاء الموتى إلا أن تقدر "أم" مع الاستفهام فتكون "أم" المنقطعة فيصح المعنى؛ قاله المبرد. وقيل: "أم "عطف على المعنى أي أفخلقنا السماء والأرض لعبا، أو هذا الذي أضافوه إلينا من عندنا فيكون لهم موضع شبهة؟ أو هل ما اتخذوه من الآلهة في الأرض يحيي الموتى فيكون موضع شبهة؟. وقيل: "لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون" [الأنبياء: 10] ثم عطف عليه بالمعاتبة، وعلى هذين التأويلين تكون "أم" متصلة. وقرأ الجمهور "ينشرون" بضم الياء وكسر الشين من أنشر الله الميت فنشر أي أحياه فحيي. وقرأ الحسن بفتح الياء؛ أي يحيون ولا يموتون.
الآيات: 22 - 24 {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون}
قوله تعالى: "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" أي لو كان في السموات والأرضين آلهة غير الله معبودون لفسدتا. قال الكسائي وسيبويه: "إلا" بمعنى غير فلما جعلت إلا في موضع غير أعرب الاسم الذي بعدها بإعراب كما غير، كما قال:
وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان
وحكى سيبويه: لو كان معنا رجل إلا زيد لهلكنا. وقال الفراء: "إلا" هنا في موضع سوى، والمعنى: لو كان فيهما آلهة سوى الله لفسد أهلها. وقال غيره: أي لو كان فيهما إلهان لفسد التدبير؛ لأن أحدهما إن أراد شيئا والآخر ضده كان أحدهما عاجزا. وقيل: معنى "لفسدتا" أي خربتا وهلك من فيهما بوقوع التنازع بالاختلاف الواقع بين الشركاء. "فسبحان الله رب العرش عما يصفون" نزه نفسه وأمر العباد أن ينزهوه عن أن يكون له شريك أو ولد.
قوله تعالى: "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون" قاصمة للقدرية وغيرهم. قال ابن جريج: المعنى لا يسأل الخلق عن قضائه في خلقه وهو يسأل الخلق عن عملهم؛ لأنهم عبيد. بين بهذا أن من يسأل غدا عن أعماله كالمسيح والملائكة لا يصلح للألهية. وقيل: لا يؤاخذ على أفعاله وهم يؤاخذون. وروي عن علي رضي عنه أن رجلا قال له يا أمير المؤمنين: أيحب ربنا أن يعصى؟ قال: أفيعصى ربنا قهرا؟ قال: أرأيت إن منعني الهدى ومنحني الردى أأحسن إلي أم أساء؟ قال: إن منعك حقك فقد أساء، وإن منعك فضله فهو يؤتيه من يشاء. ثم تلا الآية: "لا يسأل عمال يفعل يفعل وهم يسألون". وعن ابن عباس قال: لما بعث الله عز وجل موسى وكلمه، وأنزل عليه التوراة، قال: اللهم إنك رب عظيم، لو شئت أن تطاع لأطعت، ولو شئت ألا تعصى ما عصيت، وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تعصى فكيف هذا يا رب؟ فأوحي الله إليه: إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون.
قوله تعالى: "أم اتخذوا من دونه آلهة" أعاد التعجب في اتخاذ الآلهة من دون الله مبالغة في التوبيخ، أي صفتهم كما تقدم في الإنشاء والإحياء، فتكون "أم" بمعنى هل على ما تقدم، فليأتوا بالبرهان على ذلك. وقيل: الأول احتجاج. من حيث المعقول؛ لأنه قال: "هم ينشرون" ويحيون الموتى؛ هيهات! والثاني احتجاج بالمنقول، أي هاتوا برهانكم من هذه الجهة، ففي أي كتاب نزل هذا؟ في القران، أم في الكتب المنزلة سائر الأنبياء؟ "هذا ذكر من معي" بإخلاص التوحيد في القرآن "وذكر من قبلي" في التوراة والإنجيل، وما أنزل الله من الكتب؛ فانظروا هل في كتاب من هذه الكتب أن الله أمر باتخاذ آلهة سواه؟ فالشرائع لم تختلف فيما يتعلق بالتوحيد، وإنما اختلفت في الأوامر والنواهي. وقال قتادة: الإشارة إلى القرآن؛ المعنى: "هذا ذكر من معي" بما يلزمهم من الحلال والحرام "وذكر من قبلي" من الأمم ممن نجا بالإيمان وهلك بالشرك. وقيل: "ذكر من معي" بما لهم من الثواب على الإيمان والعقاب على الكفر "وذكر من قبلي" من الأمم السالفة فيما يفعل بهم في الدنيا، وما يفعل بهم في الآخرة. وقيل: معنى الكلام الوعيد والتهديد، أي افعلوا ما شئتم فعن قريب ينكشف الغطاء. وحكى أبو حاتم: أن يحيى بن يعمر وطلحة بن مصرف قرأ "هذا ذكر من معي وذكر من قبلي" بالتنوين وكسر الميم، وزعم أنه لا وجه لهذا. وقال أبو إسحاق الزجاج في هذه القراءة: المعنى؛ هذا ذكر مما أنزل إلي ومما هو معي وذكر من قبلي. وقيل: ذكر كائن من قبلي، أي جئت بما جاءت به الأنبياء من قبلي. "بل أكثرهم لا يعلمون الحق" وقرأ ابن محيصن والحسن "الحق" بالرفع بمعنى هو الحق وهذا هو الحق. وعلى هذا يوقف على "لا يعلمون" ولا يوقف عليه على قراءة النصب. "فهم معرضون" أي عن الحق وهو القرآن، فلا يتأملون حجة التوحيد.