تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 323 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 323

323 : تفسير الصفحة رقم 323 من القرآن الكريم

** لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَلَمّآ أَحَسّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مّنْهَا يَرْكُضُونَ * لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُوَاْ إِلَىَ مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُواْ يَوَيْلَنَآ إِنّا كُنّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتّىَ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ
يقول تعالى منبهاً على شرف القرآن ومحرضاً لهم على معرفة قدره: {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم} قال ابن عباس: شرفكم. وقال مجاهد: حديثكم. وقال الحسن: دينكم, {أفلا تعقلون} أي هذه النعمة, وتتلقونها بالقبول, كما قال تعالى: {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون}. وقوله {وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة} هذه صيغة تكثير, كما قال: {وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح} وقال تعالى: {وكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشه} الاَية.
وقوله {وأنشأنا بعدها قوماً آخرين} أي أمة أخرى بعدهم {فلما أحسوا بأسن} أي تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة كما وعدهم نبيهم {إذا هم منها يركضون} أي يفرون هاربين {لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم} هذا تهكم بهم نزراً, أي قيل لهم نزراً لا تركضوا هاربين من نزول العذاب, وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور والمعيشة والمساكن الطيبة. قال قتادة استهزاء بهم, {لعلكم تسألون} أي عما كنتم فيه من أداء شكر النعم, {قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين} اعترفوا بذنوبهم حين لا ينفعهم ذلك, {فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيداً خامدين} أي ما زالت تلك المقالة, وهي الاعتراف بالظلم هجيراهم حتى حصدناهم حصداً, وخمدت حركاتهم وأصواتهم خموداً.

** وَمَا خَلَقْنَا السّمَآءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَآ أَن نّتّخِذَ لَهْواً لاّتّخَذْنَاهُ مِن لّدُنّآ إِن كُنّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ * وَلَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبّحُونَ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ
يخبر تعالى أنه خلق السموات والأرض بالحق, أي بالعدل والقسط, {ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا, ويجزي الذي أحسنوا بالحسنى}, وأنه لم يخلق ذلك عبثاً ولا لعباً كما قال: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار} وقوله تعالى: {لو أردنا أن نتخذ لهواً لا تخذناه من لدنا إن كنا فاعلين} قال ابن أبي نجيح عن مجاهد {لو أردنا أن نتخذ لهواً لا تخذناه من لدن} يعني من عندنا, يقول: وما خلقنا جنة ولا ناراً ولا موتاً ولا بعثاً ولا حساباً. وقال الحسن وقتادة وغيرهما {لو أردنا أن نتخذ لهو} اللهو المرأة بلسان أهل اليمن. وقال إبراهيم النخعي {لا تخذناه} من الحور العين. وقال عكرمة والسدي: والمراد باللهو ههنا الولد, وهذا والذي قبله متلازمان, وهو كقوله تعالى: {لو أراد الله أن يتخذ ولداً لا صطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار} فنزه نفسه عن اتخاذ الولد مطلقاً ولا سيما عما يقولون من الإفك والباطل من اتخاذ عيسى أو العزير أو الملائكة سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.
وقوله: {إن كنا فاعلين} قال قتادة والسدي وإبراهيم النخعي ومغيرة بن مقسم: أي ما كنا فاعلين. وقال مجاهد كل شيء في القرآن {إن} فهو إنكار. وقوله: {بل نقذف بالحق على الباطل} أي نبين الحق فيدحض الباطل, ولهذا قال: {فيدمغه فإذا هو زاهق} أي ذاهب مضمحل {ولكم الويل} أي أيها القائلون لله ولد {مما تصفون} أي تقولون وتفترون. ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له ودأبهم في طاعته ليلاً ونهاراً, فقال: {وله من في السموات والأرض ومن عنده} يعني الملائكة {لا يستكبرون عن عبادته} أي لا يستنكفون عنها, كما قال: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون * ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميع}.
وقوله: {ولايستحسرون} أي لا يتعبون ولا يملون {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} فهم دائبون في العمل ليلاً ونهاراً, مطيعون قصداً وعملاً, قادرون عليه, كما قال تعالى: {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن أبي دلامة البغدادي, أنبأنا عبد الوهاب بن عطاء حدثنا سعيد عن قتادة عن صفوان بن محرز عن حكيم بن حزام قال: بينا رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه إذ قال لهم «هل تسمعون ما أسمع ؟» قالوا: ما نسمع من شيء, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لأسمع أطيط السماء, وما تلام أن تئط وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم» غريب, ولم يخرجوه, ثم رواه ـ أعني ابن أبي حاتم ـ من طريق يزيد بن أبي زريع عن سعيد عن قتادة مرسلاً. وقال أبو إسحاق عن حسان بن مخارق عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: جلست إلى كعب الأحبار وأنا غلام, فقلت له: أرأيت قول الله تعالى للملائكة: {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} أما يشغلهم عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل. فقال: من هذا الغلام ؟ فقالوا من بني عبد المطلب, قال فقبل رأسي ثم قال: يا بني إنه جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس أليس تتكلم وأنت تتنفس وتمشي وأنت تتنفس ؟)

** أَمِ اتّخَذُوَاْ آلِهَةً مّنَ الأرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ * لاَ يُسْأَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ
ينكر تعالى على من اتخذ من دونه آلهة فقال: {أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون} أي أهم يحيون الموتى وينشرونهم من الأرض, أي لا يقدرون على شيء من ذلك, فكيف جعلوها لله نداً وعبدوها معه ؟ ثم أخبر تعالى أنه لو كان في الوجود آلهة غيره لفسدت السموات والأرض, فقال: {لو كان فيهما آلهة} أي في السموات والأرض {لفسدت} كقوله تعالى: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون} وقال ههنا: {فسبحان الله رب العرش عما يصفون} أي عما يقولون أن له ولداً أو شريكاً سبحانه وتعالى وتقدس وتنزه عن الذي يفترون ويأفكون علواً كبيراً.
وقوله {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} أي هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه, ولا يعترض عليه أحد لعظمته وجلاله وكبريائه وعمله وحكمته وعدله ولطفه, {وهم يسألون} أي وهو سائل خلقه عما يعملون كقوله: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} وهذا كقوله تعالى: {وهو يجير ولا يجار عليه}.

** أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ هَـَذَا ذِكْرُ مَن مّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقّ فَهُمْ مّعْرِضُونَ * وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ إِلاّ نُوحِيَ إِلَيْهِ أَنّهُ لآ إِلَـَهَ إِلاّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ
يقول تعالى: {أم اتخذوا من دونه آلهة قل} يا محمد {هاتوا برهانكم} أي دليلكم على ما تقولون {هذا ذكر من معي} يعني القرآن {وذكر من قبلي} يعني الكتب المتقدمة على خلاف ما تقولونه وتزعمون, فكل كتاب أنزل على كل نبي أرسل ناطق بأنه لا إله إلا الله, ولكن أنتم أيها المشركون لا تعملون الحق فأنتم معرضون عنه, ولهذا قال: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله أنا فاعبدون} كما قال: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} وقال {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} فكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له, والفطرة شاهدة بذلك أيضاً, والمشركون لا برهان لهم, وحجتهم داحضة عند ربهم, وعليهم غضب, ولهم عذاب شديد.