تفسير الطبري تفسير الصفحة 325 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 325
326
324
 الآية : 36
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَإِذَا رَآكَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِن يَتّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً أَهَـَذَا الّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرّحْمَـَنِ هُمْ كَافِرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: وَإذَا رآكَ يا مـحمد الّذِينَ كَفَرُوا بـالله, إنْ يَتّـخِذُونَكَ إلاّ هُزُوا يقول: ما يتـخذونك إلا سخرّيا يقول بعضهم لبعض: أهَذَا الّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ يعنـي بقوله: يذكر آلهتكم بسوء ويعيبها, تعجبـا منهم من ذلك. يقول الله تعالـى ذكره: فـيعجبون من ذكرك يا مـحمد آلهتهم التـي لا تضرّ ولا تنفع بسوء. وَهُمْ بِذِكْرِ الرّحْمَنِ الذي خـلقهم وأنعم علـيهم, ومنه نَفْعُهم, وبـيده ضرّهم, وإلـيه مرجعهم بـما هو أهله منهم أن يذكروه به كَافِرُونَ والعرب تضع الذكر موضع الـمدح والذمّ, فـيقولون: سمعنا فلانا يذكر فلانا, وهم يريدون سمعناه يذكره بقبـيح ويعيبه ومن ذلك قول عنترة:
لا تَذْكُرِي مُهْرِي وَما أطْعَمْتُهُفـيَكُونَ جِلْدُكِ مثِلَ جِلْدِ الأجْرَبِ
يعنـي بذلك: لا تعيبـي مُهْري. وسمعناه يُذكر بخير.
الآية : 37 و 38
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ * وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَـَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: خُـلِقَ الإنْسانُ يعنـي آدم مِنْ عَجَلٍ.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـله, فقال بعضهم: معناه: من عَجَل فـي بنـيته وخـلقته كان من العجلة, وعلـى العجلة. ذكر من قال ذلك:
18568ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن يـمان, عن أشعث, عن جعفر, عن سعيد فـي قوله: خُـلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ قال: لـما نفخ فـيه الروح فـي ركبتـيه ذهب لـينهض, فقال الله: خُـلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ.
18569ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: لـما نُفخ فـيه يعنـي فـي آدم الروح, فدخـل فـي رأسه عطس, فقالت الـملائكة: قل الـحمد لله فقال: الـحمد لله. فقال الله له: رحمك ربك فلـما دخـل الروح فـي عينـيه نظر إلـى ثمار الـجنة, فلـما دخـل فـي جوفه اشتهى الطعام, فوثب قبل أن تبلغ الروح رجلـيه عجلان إلـى ثمار الـجنة فذلك حين يقول: خُـلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ يقول: خـلق الإنسان عجولاً.
18570ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة: خُـلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ قال: خـلق عجولاً.
وقال آخرون: معناه: خـلق الإنسان من عجل, أي من تعجيـل فـي خـلق الله إياه ومن سرعة فـيه وعلـى عجل. وقالوا: خـلقه الله فـي آخر النهار يوم الـجمعة قبل غروب الشمس علـى عجل فـي خـلقه إياه قبل مغيبها. ذكر من قال ذلك:
18571ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: خُـلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ قال: قول آدم حين خُـلق بعد كلّ شيء آخر النهار من يوم خـلق الـخـلق, فلـما أحيا الروح عينـيه ولسانه ورأسه ولـم تبلغ أسفله, قال: يا ربّ استعجل بخـلقـي قبل غروب بـالشمس.
حدثنـي الـحارث, قال حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قال مـجاهد: خُـلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ قال آدم حين خُـلق بعد كلّ شيء ثم ذكر نـحوه, غير أنه قال فـي حديثه: استعجلْ بخـلقـي فقد غربت الشمس.
18572ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: خُـلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ قال: علـى عجل آدم آخر ذلك الـيوم من ذينك الـيومين, يريد يوم الـجمعة, وخـلقه علـى عجل, وجعله عجولاً.
وقال بعض أهل العربـية من أهل البصرة مـمن قال نـحو هذه الـمقالة: إنـما قال: خُـلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ وهو يعنـي أنه خـلقه من تعجيـل من الأمر, لأنه قال: إنّـمَا قَوْلُنا لِشَيْء إذَا أرَدْناهُ أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ قال: فهذا العجل. وقوله: فَلا تَسْتَعْجِلُونِ إنّـي سأُرِيكُمْ آياتـي.
وعلـى قول صاحب هذه الـمقالة, يجب أن يكون كلّ خـلق الله خُـلق علـى عجل, لأن كل ذلك خـلق بأن قـيـل له كن فكان.
فإذا كان ذلك كذلك, فما وجه خصوص الإنسان إذا بذكر أنه خُـلق من عجل دون الأشياء كلها وكلها مخـلوق من عجل؟ وفـي خصوص الله تعالـى ذكره الإنسان بذلك الدلـيـل الواضح, علـى أن القول فـي ذلك غير الذي قاله صاحب هذه الـمقالة.
وقال آخرون منهم: هذا من الـمقلوب, وإنـما خُـلق العَجَل من الإنسان, وخُـلقت العجلة من الإنسان. وقالوا: ذلك مثل قوله: ما إنّ مَفـاتِـحَهُ لَتَنُوءُ بـالعُصْبَةِ أُولـي القُوّةِ إنـما هو: لَتنوء العصبة بها متثاقلة. وقالوا: هذا وما أشبهه فـي كلام العرب كثـير مشهور. قالوا: وإنـما كلـم القوم بـما يعقلون. قالوا: وذلك مثل قولهم: عرَضتُ الناقة, وكقولهم: إذا طلعت الشعرى واستوت العود علـى الـحِرْبـاء أي استوت الـحربـاء علـى العود, كقول الشاعر:
وتَرْكَبُ خَيْلاً لا هَوَادَة بَـيْنَهاوَتَشْقَـى الرماحُ بـالضياطِرَةِ الـحُمْرِ
وكقول ابن مقبل:
حَسَرْتُ كَفّـي عَنِ السّرْبـالِ آخُذُهُفَرْدا يُجَرّ عَلـى أيْدِي الـمُفَدّينا
يريد: حسرت السربـال عن كفّـي, ونـحو ذلك من الـمقلوب. وفـي إجماع أهل التأويـل علـى خلاف هذا القول, الكفـاية الـمغنـية عن الاستشهاد علـى فساده بغيره.
قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي تأويـل ذلك عندنا الذي ذكرناه عمن قال معناه: خُـلق الإنسان من عجل فـي خـلقه أيْ علـى عجل وسرعة فـي ذلك. وإنـما قـيـل ذلك كذلك, لأنه بُودر بخـلقه مغيب الشمس فـي آخر ساعة من نهار يوم الـجمعة, وفـي ذلك الوقت نفخ فـيه الروح.
وإنـما قلنا أولـى الأقوال التـي ذكرناها فـي ذلك بـالصواب, لدلالة قوله تعالـى: سأُرِيكُمْ آياتِـي فَلا تَسْتَعْجِلُونَ علـيّ ذلك, وأن أبـا كريب:
18573ـ حدثنا قال: حدثنا ابن إدريس, قال: أخبرنا مـحمد بن عمرو, عن أبـي سلـمة, عن أبـي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ فِـي الـجُمُعَةِ لَساعَةً» يُقَلّلُها, قال: «لا يَوَافِقُها عَبْدٌ مُسْلِـمٌ يَسأَلُ اللّهَ فِـيها خَيْرا إلاّ آتاهُ اللّهُ إيّاهُ» فقال عبد الله بن سلام: قد علـمت أيّ ساعة هي, هي آخر ساعات النهار من يوم الـجمعة. قال الله: خُـلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سأُرِيكُمْ آياتِـي فَلا تَسْتَعْجِلُونَ.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا الـمـحاربـي وعبدة بن سلـيـمان وأسير بن عمرو, عن مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو سلـمة, عن أبـي هريرة, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم بنـحوه, وذكر كلام عبد الله بن سلام بنـحوه.
فتأويـل الكلام إذا كان الصواب فـي تأويـل ذلك ما قلنا بـما به استشهدنا خُـلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ, ولذلك يستعجل ربه بـالعذاب. سأُرِيكُمْ آياتِـي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ أيها الـمستعجلون ربهم بـالاَيات القائلون لنبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم: بل هو شاعر, فلـيأتنا بآية كما أرسل الأوّلون آياتـي, كما أريتها من قبلكم من الأمـم التـي أهلكناها بتكذيبها الرسل, إذا أتتها الاَيات: فلا تَسْتَعْجِلُونِ يقول: فلا تستعجلوا ربكم, فإنا سنأتـيكم بها ونريكموها.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: خُـلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ فقرأته عامة قرّاء الأمصار: خُـلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ بضمّ الـخاء علـى مذهب ما لـم يسِمّ فـاعله. وقرأه حُميد الأعرج: «خَـلَقَ» بفتـحها, بـمعنى: خـلق الله الإنسان. والقراءة التـي علـيها قرّاء الأمصار, هي القراءة التـي لا أستـجيز خلافها.
وقوله: وَيَقُولُونَ مَتـى هَذَا الوَعْدُ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ يقول تعالـى ذكره: ويقول هؤلاء الـمستعجلون ربهم بـالاَيات والعذاب لـمـحمد صلى الله عليه وسلم: متـى هذا الوعد؟ يقول: متـى يجيئنا هذا الذي تعدنا من العذاب إن كنتـم صادقـين فـيـما تعدوننا به من ذلك؟ وقـيـل: هَذَا الوَعْدُ والـمعنى الـموعود لـمعرفة السامعين معناه. وقـيـل: إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ كأنهم قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللـمؤمنـين به. و«متـى» فـي موضع نصب, لأن معناه: أي وقت هذا الوعد وأيّ يوم هو فهو نصب علـى الظرف لأنه وقت.
الآية : 39
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { لَوْ يَعْلَمُ الّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: لو يعلـم هؤلاء الكفـار الـمستعجلون عذاب ربهم ماذا لهم من البلاء حين تلفح وجوههم النار, وهم فـيها كالـحون, فلا يكفّون عن وجوههم النار التـي تلفحها, ولا عن ظهورهم فـيدفعونها عنها بأنفسهم وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يقول: ولا لهم ناصر ينصرهم, فـيستنقذهم حينئذ من عذاب الله لـما أقاموا علـى ما هم علـيه مقـيـمون من الكفر بـالله, ولسارعوا إلـى التوبة منه والإيـمان بـالله, ولـما استعجلوا لأنفسهم البلاء.
الآية : 40
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: لا تأتـي هذه النار التـي تلفح وجوه هؤلاء الكفـار الذين وصف أمرهم فـي هذه السورة حين تأتـيهم عن علـم منهم بوقتها, ولكنها تأتـيهم مفـاجأة لا يشعرون بـمـجيئها فتَبْهَتُهُمْ يقول: فتغشاهم فجأة, وتلفح وجوههم معاينة كالرجل يبهت الرجل فـي وجهه بـالشيء, حتـى يبقـى الـمبهوت كالـحيران منه. فلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدّها يقول: فلا يطيقون حين تبغتهم فتبهتهم دفعها عن أنفسهم. وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يقول: ولا هم وإن لـم يطيقوا دفعها عن أنفسهم يؤخرون بـالعذاب بها لتوبة يحدثونها وإنابة ينـيبون, لأنها لـيست حين عمل وساعة توبة وإنابة, بل هي ساعة مـجازاة وإثابة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: إن يتـخذك يا مـحمد هؤلاء القائلون لك: هل هذا إلا بشر مثلكم, أفتأتون السحر وأنتـم تبصرون, إذ رأوك هُزُوا ويقولون: هذا الذي يذكر آلهتكم كفرا منهم بـالله, واجتراء علـيه. فلقد استهزىء برسل من رسلنا الذين أرسلناهم من قبلك إلـى أمـمهم, يقول: فوجب ونزل بـالذين استهزءوا بهم, وسخروا منهم من أمـمهم ما كَانُوا به يَسْتْهِزءُونَ يقول جلّ ثناؤه: حلّ بهم الذي كانوا به يستهزءون من البلاء والعذاب الذي كانت رسلهم تـخوّفهم نزوله بهم, يستهزءون: يقول جلّ ثناؤه, فلن يعدو هؤلاء الـمستهزءون بك من هؤلاء الكفرة أن يكونوا كأسلافهم من الأمـم الـمكذّبة رسلها, فـينزل بهم من عذاب الله وسخطه بـاستهزائهم بك نظير الذي نزل بهم.
الآية : 41
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: لا تأتـي هذه النار التـي تلفح وجوه هؤلاء الكفـار الذين وصف أمرهم فـي هذه السورة حين تأتـيهم عن علـم منهم بوقتها, ولكنها تأتـيهم مفـاجأة لا يشعرون بـمـجيئها فتَبْهَتُهُمْ يقول: فتغشاهم فجأة, وتلفح وجوههم معاينة كالرجل يبهت الرجل فـي وجهه بـالشيء, حتـى يبقـى الـمبهوت كالـحيران منه. فلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدّها يقول: فلا يطيقون حين تبغتهم فتبهتهم دفعها عن أنفسهم. وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يقول: ولا هم وإن لـم يطيقوا دفعها عن أنفسهم يؤخرون بـالعذاب بها لتوبة يحدثونها وإنابة ينـيبون, لأنها لـيست حين عمل وساعة توبة وإنابة, بل هي ساعة مـجازاة وإثابة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: إن يتـخذك يا مـحمد هؤلاء القائلون لك: هل هذا إلا بشر مثلكم, أفتأتون السحر وأنتـم تبصرون, إذ رأوك هُزُوا ويقولون: هذا الذي يذكر آلهتكم كفرا منهم بـالله, واجتراء علـيه. فلقد استهزىء برسل من رسلنا الذين أرسلناهم من قبلك إلـى أمـمهم, يقول: فوجب ونزل بـالذين استهزءوا بهم, وسخروا منهم من أمـمهم ما كَانُوا به يَسْتْهِزءُونَ يقول جلّ ثناؤه: حلّ بهم الذي كانوا به يستهزءون من البلاء والعذاب الذي كانت رسلهم تـخوّفهم نزوله بهم, يستهزءون: يقول جلّ ثناؤه, فلن يعدو هؤلاء الـمستهزءون بك من هؤلاء الكفرة أن يكونوا كأسلافهم من الأمـم الـمكذّبة رسلها, فـينزل بهم من عذاب الله وسخطه بـاستهزائهم بك نظير الذي نزل بهم.
الآية : 42
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالْلّيْلِ وَالنّهَارِ مِنَ الرّحْمَـَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مّعْرِضُونَ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد لهؤلاء الـمستعجلـيك بـالعذاب, القائلـين: متـى هذا الوعد إن كنتـم صادقـين: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ أيّها القَوْمُ, يقول: من يحفظكم ويحرسكم بـاللـيـل إذا نـمتـم, وبـالنهار إذا تصرّفتـم من الرحمن؟ يقول: من أمر الرحمن إن نزل بكم, ومن عذابه إن حلّ بكم. وترك ذكر «الأمر» وقـيـل «من الرحمن» اجتزاء بـمعرفة السامعين لـمعناه من ذكره.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18574ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس, فـي قوله: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بـاللّـيْـلِ والنّهارِ مِنَ الرّحْمَنِ قال: يحرسكم.
18575ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بـاللّـيْـلِ والنّهارِ مِنَ الرّحْمَنِ قل من يحفظكم بـاللـيـل والنهار من الرحمن.
يقال منه: كلأت القوم: إذا حرستهم, أكلؤهم كما قال ابن هَرْمة:
إنّ سُلَـيْـمَى وَاللّهُ يَكْلَؤُهاضَنّتْ بِشَيْءٍ ما كانَ يَرْزَؤُها
قوله: بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبّهِمْ مُعْرِضُونَ وقوله بل: تـحقـيق لـجحد قد عرفه الـمخاطبون بهذا الكلام, وإن لـم يكن مذكورا فـي هذا الـموضع ظاهرا. ومعنى الكلام: وما لهم أن لا يعلـموا أنه لا كالـىء لهم من أمر الله إذا هو حلّ بهم لـيلاً أو نهارا, بل هم عن ذكر مواعظ ربهم وحججه التـي احتـجّ بها علـيهم معرضون لا يتدبرون ذلك فلا يعتبرون به, جهلاً منهم وسفها.
الآية : 43
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مّنّا يُصْحَبُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ألهؤلاء الـمستعجلـي ربهم بـالعذاب آلهة تـمنعهم, إن نـحن أحللنا بهم عذابنا, وأنزلنا بهم بأسنا من دوننا؟ ومعناه: أم لهم آلهة من دوننا تـمنعهم منا؟ ثم وصف جلّ ثناؤه الاَلهة بـالضعف والـمهانة, وما هي به من صفتها, فقال: وكيف تستطيع آلهتهم التـي يدعونها من دوننا أن تـمنعهم منا وهي لا تستطيع نصر أنفسها. وقوله: وَلا هُمْ مِنّا يُصْحَبُونَ اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيّ بذلك, وفـي معنى «يُصْحَبُون», فقال بعضهم: عنـي بذلك الاَلهة, وأنها لا تصحب من الله بخير. ذكر من قال ذلك:
18576ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: أمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَـمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أنْفُسِهِمْ يعنـي الاَلهة. وَلا هُمْ مِنّا يُصْحَبُونَ يقول: لا يُصحبون من الله بخير.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا هم منا ينصرون. ذكر من قال ذلك:
18577ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا أبو ثور, عن معمر, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَلا هُمْ مِنّا يُصْحَبُونَ قال: لا ينصرون.
18578ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس, قوله: أمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَـمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا إلـى قوله: يُصْحَبُونَ قال: ينصرون. قال: قال مـجاهد: ولا هم يُحْفظون.
18579ـ حدثنا علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَلا هُمْ مِنّا يُصْحَبُونَ يُجَارُون...
ذكر من قال ذلك:
18580ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَلا هُمْ مِنّا يُصْحَبُونَ يقول: ولا هم منا يجارون, وهو قوله: وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَـيْهِ يعنـي الصاحب, وهو الإنسان يكون له خفـير مـما يخاف, فهو قوله يصحبون.
قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال هذا القول الذي حكيناه عن ابن عبـاس, وأن هُمْ من قوله: وَلا هُمْ من ذكر الكفـار, وأن قوله: يُصْحَبُونَ بـمعنى: يُجارون يُصْحبون بـالـجوار لأن العرب مـحكيّ عنها: أنا لك جار من فلان وصاحب, بـمعنى: أجيرك وأمنعك, وهم إذا لـم يصحبوا بـالـجوار, ولـم يكن لهم مانع من عذاب الله مع سخط الله علـيهم, فلـم يصحبوا بخير ولـم ينصروا.
الآية : 44
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { بَلْ مَتّعْنَا هَـَؤُلآءِ وَآبَآءَهُمْ حَتّىَ طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ما لهؤلاء الـمشركين من آلهة تـمنعهم من دوننا, ولا جار يجيرهم من عذابنا, إذا نـحن أردنا عذابهم, فـاتكلوا علـى ذلك, وعصوا رسلنا اتكالاً منهم علـى ذلك ولكنا متّعناهم بهذه الـحياة الدنـيا وآبـاءهم من قبلهم حتـى طال علـيهم العمر, وهم علـى كفرهم مقـيـمون, لا تأتـيهم منا واعظة من عذاب ولا زاجرة من عقاب علـى كفرهم وخلافهم أمرنا وعبـادتهم الأوثان والأصنام, فنسوا عهدنا وجهلوا موقع نعمتنا علـيهم, ولـم يعرفوا موضع الشكر. وقوله: أفَلا يَرَوْنَ أنّا نَأْتِـي الأرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أطْرَافِها يقول تعالـى ذكره: أفلا يرى هؤلاء الـمشركون بـالله السائلو مـحمد صلى الله عليه وسلم الاَيات الـمستعجلو بـالعذاب, أنا نأتـي الأرض نـخرّبها من نواحيها بقهرنا أهلها, وغَلَبَتِنَاهم, وإجلائهم عنها, وقتلهم بـالسيوف, فـيعتبروا بذلك ويتعظوا به, ويحذروا منا أن ننزل من بأسنا بهم نـحو الذي قد أنزلنا بـمن فعلنا ذلك به من أهل الأطراف؟ وقد تقدم ذكر القائلـين بقولنا هذا ومخالفـيه بـالروايات عنهم فـي سورة الرعد بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
وقوله: أفَهُمُ الغالِبُونَ يقول تبـارك وتعالـى: أفهؤلاء الـمشركون الـمستعجلو مـحمد بـالعذاب الغالبونا, وقد رأوا قهرنا من أحللنا بساحته بأسنا فـي أطراف الأرضين؟ لـيس ذلك كذلك, بل نـحن الغالبون. وإنـما هذا تقريع من الله تعالـى لهؤلاء الـمشركين به بجهلهم, يقول: أفـيظنون أنهم يغلبون مـحمدا ويقهرونه, وقد قهر من ناوأه من أهل أطراف الأرض غيرهم؟ كما:
18581ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: أفَهُمُ الغالِبُونَ يقول: لـيسوا بغالبـين, ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الغالب