سورة الأنبياء | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 331 من المصحف
قوله تعالى: "لا يسمعون حسيسها" أي حس النار وحركة لهبها. والحسيس والحس الحركة. وروى ابن جريج عن عطاء قال قال أبو راشد الحروري لابن عباس: "لا يسمعون حسيسها" فقال ابن عباس: أمجنون أنت؟ فأين قوله تعالى: "وإن منكم إلا واردها" وقوله تعالى: "فأوردهم النار" [هود: 98] وقوله: "إلى جهنم وردا" [مريم: 86]. ولقد كان من دعاء من مضى: اللهم أخرجني من النار سالما، وأدخلني الجنة فائزا. وقال أبو عثمان النهدي: على الصراط حيات تلسع أهل النار فيقولون: حس حس. وقيل: إذا دخل أهل الجنة لم يسمعوا حس أهل النار وقبل ذلك يسمعون؛ فالله أعلم. "وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون" أي دائمون وهم فيما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. وقال "ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون" [فصلت: 31].
قوله تعالى: "لا يحزنهم الفزع الأكبر" وقرأ أبو جعفر وابن محيصن "لا يحزنهم" بضم الياء وكسر الزاي. الباقون بفتح الياء وضم الزاي. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بهما. والفزع الأكبر أهوال يوم القيامة والبعث؛ عن ابن عباس. وقال الحسن: هو وقت يؤمر بالعباد إلى النار. وقال ابن جريح وسعيد بن جبير والضحاك: هو إذا أطبقت النار على أهلها، وذبح الموت بين الجنة والنار وقال ذو النون المصري: هو القطيعة والفراق. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يوم القيامة في كثيب من المسك الأذفر ولا يحزنهم الفزع الأكبر رجل أم قوما محتسبا وهم له رضوان ورجل أذن لقوم محتسبا ورجل ابتلى برق الدنيا فلم يشغله عن طاعة ربه). وقال أبو سلمة بن عبدالرحمن: مررت برجل يضرب غلاما له، فأشار إليّ الغلام، فكلمت مولاه حتى عفا عنه؛ فلقيت أبا سعيد الخدري فأخبرته، فقال: يا ابن أخي من أغاث مكروبا أعتقه الله من النار يوم الفزع الأكبر) سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. "وتتلقاهم الملائكة" أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون لهم: "هذا يومكم الذي كنتم توعدون" وقيل: تستقبلهم ملائكة الرحمة عند خروجهم من القبور عن ابن عباس "هذا يومكم" أي ويقولون لهم؛ فحذف. "الذي كنتم توعدون" فيه الكرامة.
الآية: 104 {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين}
قوله تعالى: "يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب" قرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح والأعرج والزهري "تُطوى" بتاء مضمومة "السماء" رفعا على ما لم يسم فاعله. مجاهد "يطوي" على معنى يطوي الله السماء. الباقون "نطوي" بنون العظمة. وانتصاب "يوم" على البدل من الهاء المحذوفة في الصلة؛ التقدير: الذي كنتم توعدونه يوم نطوي السماء. أو يكون منصوبا بـ "نعيد" من قول "كما بدأنا أول خلق نعيده". أو بقول: "لا يحزنهم" أي لا يحزنهم الفزع الأكبر في اليوم الذي نطوي فيه السماء. أو على إضمار واذكر، وأراد بالسماء الجنس؛ دليله: "والسموات مطويات بيمنه" [الزمر: 67]. "كطي السجل للكتاب" قال ابن عباس ومجاهد: أي كطي الصحيفة على ما فيها؛ فاللام بمعنى "على". وعن ابن عباس أيضا اسم كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بالقوي؛ لأن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفون ليس هذا منهم، ولا في أصحابه من اسمه السجل. وقال ابن عباس أيضا وابن عمر والسدي: "السجل" ملك، وهو الذي يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه. ويقال: إنه في السماء الثالثة، ترفع إليه أعمال العباد، يرفعها إليه الحفظة الموكلون بالخلق في كل خميس واثنين، وكان من أعوانه فيما ذكروا هاروت وماروت. والسجل الصك، وهو اسم مشتق من السجالة وهي الكتابة؛ وأصلها من السجل وهو الدلو؛ تقول: ساجلت الرجل إذا نزعت دلوا ونزع دلوا، ثم استعيرت فسميت المكاتبة والمراجعة مساجلة. وقد سجل الحاكم تسجيلا. وقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:
من يساجلني يساجل ماجدا يملأ الدلو إلى عقد الكرب
ثم بني هذا الاسم على فعل مثل حمر وطمر وبلي. وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير "كطي السجل" بضم السين والجيم وتشديد اللام. وقرأ الأعمش وطلحة "كطي السجل" بفتح السين وإسكان الجيم وتخفيف اللام. قال النحاس: والمعنى واحد إن شاء الله تعالى. والتمام عند قوله: "للكتاب". والطي في هذه الآية يحتمل معنيين: أحدهما: الدرج الذي هو ضد النشر، قال الله تعالى: "والسموات مطويات بيمينه" [الزمر: 67]. والثاني: الإخفاء والتعمية والمحو؛ لأن الله تعالى يمحو ويطمس رسومها ويكدر نجومها. قال الله تعالى: "إذا الشمس كورت. وإذا النجوم انكدرت" [التكوير: 1 - 2] "وإذا السماء كشطت" [التكوير: 11]. "للكتاب" وتم الكلام. وقراءة الأعمش وحفص وحمزة والكسائي ويحي وخلف: "للكتب" جمعا ثم استأنف الكلام فقال: "كما بدأنا أول خلق نعيده" أي نحشرهم حفاة عراة غرلا كما بدؤوا في البطون. وروى النسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلا أول الخلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام - ثم قرأ - "كما بدأنا أول خلق نعيده" أخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: (يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا "كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين" ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام) وذكر الحديث. وقد ذكرنا هذا الباب في كتاب "التذكرة" مستوفى. وذكر سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن عبدالله بن مسعود قال: يرسل الله عز وجل ماء من تحت العرش كمني الرجال فتنبت منه لحمانهم وجسمانهم كما تنبت الأرض بالثرى. وقرأ "كما بدأنا أول خلق نعيده". وقال ابن عباس: المعنى. نهلك كل شيء ونفنيه كما كان أول مرة؛ وعلى هذا فالكلام متصل بقوله: "يوم نطوي السماء" أي نطويها فنعيدها إلى الهلاك والفناء فلا تكون شيئا. وقيل: نفني السماء ثم نعيدها مرة أخرى بعد طيها وزوالها؛ كقول: "يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات" [إبراهيم: 48] والقول الأول أصح وهو نظير قوله: "ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة" [الأنعام: 94] وقوله عز وجل: "وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة" "وعدا" نصب على المصدر؛ أي وعدنا وعدا "علينا" إنجازه والوفاء به أي من البعث والإعادة ففي الكلام حذف. ثم أكد ذلك بقول جل ثناؤه: "إنا كنا فاعلين" قال الزجاج: معنى "إنا كنا فاعلين" إنا كنا قادرين على ما نشاء. وقيل "إنا كنا فاعلين" أي ما وعدناكم وهو كما قال: "كان وعده مفعولا" [المزمل: 18]. وقيل: "كان" للإخبار بما سبق من قضائه. وقيل: صلة.
الآيتان: 105 - 106 {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين}
قوله تعالى: "ولقد كتبنا في الزبور" الزبور والكتاب واحد؛ ولذلك جاز أن يقال للتوراة والإنجيل زبور. زبرت أي كتبت وجمعة زبر. وقال سعيد بن جبير: "الزبور" التوراة والإنجيل والقرآن. "من بعد الذكر" الذي في السماء "أن الأرض" أرض الجنة "يرثها عبادي الصالحون" رواه سفيان عن الأعمش عن سعيد بن جبير. الشعبي: "الزبور" زبور داود، و"الذكر" توراة موسى عليه السلام. مجاهد وابن زيد "الزبور" كتب الأنبياء عليهم السلام، و"الذكر" أم الكتاب الذي عند الله في السماء. وقال ابن عباس: "الزبور" الكتب التي أنزلها الله من بعد موسى على أنبيائه، و"الذكر" التوراة المنزلة على موسى. وقرأ حمزة "في الزبور" بضم الزاي جمع زبر "أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" أحسن ما قيل فيه أنه يراد بها أرض الجنة كما قال سعيد بن جبير؛ لأن الأرض في الدنيا قال قد يرثها الصالحون وغيرهم. وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقال مجاهد وأبو العالية: ودليل هذا التأويل قوله تعالى: "وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض" [الزمر: 74] وعن ابن عباس أنها الأرض المقدسة. وعنه أيضا: أنها أرض الأمم الكافرة ترثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالفتوح. وقيل: إن المراد بذلك بنو إسرائيل؛ بدليل قوله تعالى: "وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها" [الأعراف: 137] وأكثر المفسرين على أن المراد بالعباد الصالحين أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقرأ حمزة "عبادي الصالحون" بتسكين الياء. "إن في هذا" أي فيما جرى ذكره في هذه السورة من الوعظ والتنبيه. وقيل: إن في القرآن "لبلاغا لقوم عابدين" قال أبو هريرة وسفيان الثوري: هم أهل الصلوات الخمس. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "عابدين" مطيعين. والعابد المتذلل الخاضع. قال القشيري: ولا يبعد أن يدخل فيه كل عاقل؛ لأنه من حيث الفطرة متذلل للخالق، وهو بحيث لو تأمل القرآن واستعمله لأوصله ذلك إلى الجنة. وقال ابن عباس أيضا: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يصلون الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان. وهذا هو القول الأول بعينه.
الآيات: 107 - 109 {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين، قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون، فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون}
قوله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع الناس فمن آمن به وصدق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق. وقال ابن زيد: أراد بالعالمين المؤمنين خاصة.
قوله تعالى: "قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد" فلا يجوز الإشراك به. "فهل أنتم مسلمون" أي منقادون لتوحيد الله تعالى؛ أي فأسلموا؛ كقوله تعالى: "فهل أنتم منتهون" [المائدة: 91] أي انتهوا.
قوله تعالى: "فإن تولوا" أي إن أعرضوا عن الإسلام "فقل آذنتكم على سواء" أي أعلمتكم على بيان أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا؛ كقوله تعالى: "وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء" [الأنفال: 58] أي أعلمهم أنك نقضت العهد نقضا، أي استويت أنت وهم فليس لفريق عهد ملتزم في حق الفريق الآخر. وقال الزجاج: المعنى أعلمتكم بما يوحى إلي على استواء في العلم به، ولم أظهر لأحد شيئا كتمته عن غيره. "وإن أدري" "إن" نافيه بمعنى "ما" أي وما أدري. "أقريب أم بعيد ما توعدون" يعني أجل يوم القيامة لا يدريه أحد لا نبي مرسل ولا ملك مقرب؛ قاله ابن عباس. وقيل: آذنتكم بالحرب ولكني لا أدري متى يؤذن لي في محاربتكم.
الآيات: 110 - 112 {إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين، قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون}
قوله تعالى: "إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون" أي من الشرك وهو المجازي عليه. "وإن أدري لعله" أي لعل الإمهال "فتنة لكم" أي اختبار ليرى كيف صنيعكم وهو أعلم. "ومتاع إلى حين" قيل: إلى انقضاء المدة. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بني أمية في منامه يلون الناس، فخرج الحكم من عنده فأخبر بني أمية بذلك؛ فقالوا له: ارجع فسله متى يكون دلك. فأنزل الله تعالى "وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون" "وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين" يقول لنبيه عليه السلام قل لهم ذلك.
قوله تعالى: "قال رب احكم بالحق" ختم السورة بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتفويض الأمر إليه وتوقع الفرج من عنده، أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين وانصرني عليهم. روى سعيد عن قتادة قال: كانت الأنبياء تقول: "ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق" [الأعراف: 89] فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: "رب احكم بالحق" فكان إذا لقي العدو يقول وهو يعلم أنه على الحق وعدوه على الباطل "رب احكم بالحق" أي اقض به. وقال أبو عبيدة: الصفة ههنا أقيمت مقام الموصوف والتقدير: رب احكم بحكمك الحق. و"رب" في موضع نصب، لأنه نداء مضاف. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وابن محيصن "قل ربُّ احكم بالحق" بضم الباء. قال النحاس: وهذا لحن عند النحويين؛ لا يجوز عندهم رجل أقبل، حتى تقول يا رجل أقبل أو ما أشبهه. وقرأ الضحاك وطلحة ويعقوب "قال ربي أَحكَم بالحق" بقطع الألف مفتوحة الكاف والميم مضمومة. أي قال محمد ربي أحكم بالحق من كل حاكم. وقرأ الجحدري "قل ربي أحكم" على معنى أحكم الأمور بالحق. "وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون" أي تصفونه من الكفر والتكذيب. وقرأ المفضل والسلمي "على ما يصفون" بالياء على الخبر. الباقون بالتاء على الخطاب.
تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 331
331- تفسير الصفحة رقم331 من المصحفقوله تعالى: "لا يسمعون حسيسها" أي حس النار وحركة لهبها. والحسيس والحس الحركة. وروى ابن جريج عن عطاء قال قال أبو راشد الحروري لابن عباس: "لا يسمعون حسيسها" فقال ابن عباس: أمجنون أنت؟ فأين قوله تعالى: "وإن منكم إلا واردها" وقوله تعالى: "فأوردهم النار" [هود: 98] وقوله: "إلى جهنم وردا" [مريم: 86]. ولقد كان من دعاء من مضى: اللهم أخرجني من النار سالما، وأدخلني الجنة فائزا. وقال أبو عثمان النهدي: على الصراط حيات تلسع أهل النار فيقولون: حس حس. وقيل: إذا دخل أهل الجنة لم يسمعوا حس أهل النار وقبل ذلك يسمعون؛ فالله أعلم. "وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون" أي دائمون وهم فيما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. وقال "ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون" [فصلت: 31].
قوله تعالى: "لا يحزنهم الفزع الأكبر" وقرأ أبو جعفر وابن محيصن "لا يحزنهم" بضم الياء وكسر الزاي. الباقون بفتح الياء وضم الزاي. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بهما. والفزع الأكبر أهوال يوم القيامة والبعث؛ عن ابن عباس. وقال الحسن: هو وقت يؤمر بالعباد إلى النار. وقال ابن جريح وسعيد بن جبير والضحاك: هو إذا أطبقت النار على أهلها، وذبح الموت بين الجنة والنار وقال ذو النون المصري: هو القطيعة والفراق. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يوم القيامة في كثيب من المسك الأذفر ولا يحزنهم الفزع الأكبر رجل أم قوما محتسبا وهم له رضوان ورجل أذن لقوم محتسبا ورجل ابتلى برق الدنيا فلم يشغله عن طاعة ربه). وقال أبو سلمة بن عبدالرحمن: مررت برجل يضرب غلاما له، فأشار إليّ الغلام، فكلمت مولاه حتى عفا عنه؛ فلقيت أبا سعيد الخدري فأخبرته، فقال: يا ابن أخي من أغاث مكروبا أعتقه الله من النار يوم الفزع الأكبر) سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. "وتتلقاهم الملائكة" أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون لهم: "هذا يومكم الذي كنتم توعدون" وقيل: تستقبلهم ملائكة الرحمة عند خروجهم من القبور عن ابن عباس "هذا يومكم" أي ويقولون لهم؛ فحذف. "الذي كنتم توعدون" فيه الكرامة.
الآية: 104 {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين}
قوله تعالى: "يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب" قرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح والأعرج والزهري "تُطوى" بتاء مضمومة "السماء" رفعا على ما لم يسم فاعله. مجاهد "يطوي" على معنى يطوي الله السماء. الباقون "نطوي" بنون العظمة. وانتصاب "يوم" على البدل من الهاء المحذوفة في الصلة؛ التقدير: الذي كنتم توعدونه يوم نطوي السماء. أو يكون منصوبا بـ "نعيد" من قول "كما بدأنا أول خلق نعيده". أو بقول: "لا يحزنهم" أي لا يحزنهم الفزع الأكبر في اليوم الذي نطوي فيه السماء. أو على إضمار واذكر، وأراد بالسماء الجنس؛ دليله: "والسموات مطويات بيمنه" [الزمر: 67]. "كطي السجل للكتاب" قال ابن عباس ومجاهد: أي كطي الصحيفة على ما فيها؛ فاللام بمعنى "على". وعن ابن عباس أيضا اسم كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بالقوي؛ لأن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفون ليس هذا منهم، ولا في أصحابه من اسمه السجل. وقال ابن عباس أيضا وابن عمر والسدي: "السجل" ملك، وهو الذي يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه. ويقال: إنه في السماء الثالثة، ترفع إليه أعمال العباد، يرفعها إليه الحفظة الموكلون بالخلق في كل خميس واثنين، وكان من أعوانه فيما ذكروا هاروت وماروت. والسجل الصك، وهو اسم مشتق من السجالة وهي الكتابة؛ وأصلها من السجل وهو الدلو؛ تقول: ساجلت الرجل إذا نزعت دلوا ونزع دلوا، ثم استعيرت فسميت المكاتبة والمراجعة مساجلة. وقد سجل الحاكم تسجيلا. وقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:
من يساجلني يساجل ماجدا يملأ الدلو إلى عقد الكرب
ثم بني هذا الاسم على فعل مثل حمر وطمر وبلي. وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير "كطي السجل" بضم السين والجيم وتشديد اللام. وقرأ الأعمش وطلحة "كطي السجل" بفتح السين وإسكان الجيم وتخفيف اللام. قال النحاس: والمعنى واحد إن شاء الله تعالى. والتمام عند قوله: "للكتاب". والطي في هذه الآية يحتمل معنيين: أحدهما: الدرج الذي هو ضد النشر، قال الله تعالى: "والسموات مطويات بيمينه" [الزمر: 67]. والثاني: الإخفاء والتعمية والمحو؛ لأن الله تعالى يمحو ويطمس رسومها ويكدر نجومها. قال الله تعالى: "إذا الشمس كورت. وإذا النجوم انكدرت" [التكوير: 1 - 2] "وإذا السماء كشطت" [التكوير: 11]. "للكتاب" وتم الكلام. وقراءة الأعمش وحفص وحمزة والكسائي ويحي وخلف: "للكتب" جمعا ثم استأنف الكلام فقال: "كما بدأنا أول خلق نعيده" أي نحشرهم حفاة عراة غرلا كما بدؤوا في البطون. وروى النسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلا أول الخلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام - ثم قرأ - "كما بدأنا أول خلق نعيده" أخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: (يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا "كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين" ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام) وذكر الحديث. وقد ذكرنا هذا الباب في كتاب "التذكرة" مستوفى. وذكر سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن عبدالله بن مسعود قال: يرسل الله عز وجل ماء من تحت العرش كمني الرجال فتنبت منه لحمانهم وجسمانهم كما تنبت الأرض بالثرى. وقرأ "كما بدأنا أول خلق نعيده". وقال ابن عباس: المعنى. نهلك كل شيء ونفنيه كما كان أول مرة؛ وعلى هذا فالكلام متصل بقوله: "يوم نطوي السماء" أي نطويها فنعيدها إلى الهلاك والفناء فلا تكون شيئا. وقيل: نفني السماء ثم نعيدها مرة أخرى بعد طيها وزوالها؛ كقول: "يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات" [إبراهيم: 48] والقول الأول أصح وهو نظير قوله: "ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة" [الأنعام: 94] وقوله عز وجل: "وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة" "وعدا" نصب على المصدر؛ أي وعدنا وعدا "علينا" إنجازه والوفاء به أي من البعث والإعادة ففي الكلام حذف. ثم أكد ذلك بقول جل ثناؤه: "إنا كنا فاعلين" قال الزجاج: معنى "إنا كنا فاعلين" إنا كنا قادرين على ما نشاء. وقيل "إنا كنا فاعلين" أي ما وعدناكم وهو كما قال: "كان وعده مفعولا" [المزمل: 18]. وقيل: "كان" للإخبار بما سبق من قضائه. وقيل: صلة.
الآيتان: 105 - 106 {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين}
قوله تعالى: "ولقد كتبنا في الزبور" الزبور والكتاب واحد؛ ولذلك جاز أن يقال للتوراة والإنجيل زبور. زبرت أي كتبت وجمعة زبر. وقال سعيد بن جبير: "الزبور" التوراة والإنجيل والقرآن. "من بعد الذكر" الذي في السماء "أن الأرض" أرض الجنة "يرثها عبادي الصالحون" رواه سفيان عن الأعمش عن سعيد بن جبير. الشعبي: "الزبور" زبور داود، و"الذكر" توراة موسى عليه السلام. مجاهد وابن زيد "الزبور" كتب الأنبياء عليهم السلام، و"الذكر" أم الكتاب الذي عند الله في السماء. وقال ابن عباس: "الزبور" الكتب التي أنزلها الله من بعد موسى على أنبيائه، و"الذكر" التوراة المنزلة على موسى. وقرأ حمزة "في الزبور" بضم الزاي جمع زبر "أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" أحسن ما قيل فيه أنه يراد بها أرض الجنة كما قال سعيد بن جبير؛ لأن الأرض في الدنيا قال قد يرثها الصالحون وغيرهم. وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقال مجاهد وأبو العالية: ودليل هذا التأويل قوله تعالى: "وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض" [الزمر: 74] وعن ابن عباس أنها الأرض المقدسة. وعنه أيضا: أنها أرض الأمم الكافرة ترثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالفتوح. وقيل: إن المراد بذلك بنو إسرائيل؛ بدليل قوله تعالى: "وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها" [الأعراف: 137] وأكثر المفسرين على أن المراد بالعباد الصالحين أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقرأ حمزة "عبادي الصالحون" بتسكين الياء. "إن في هذا" أي فيما جرى ذكره في هذه السورة من الوعظ والتنبيه. وقيل: إن في القرآن "لبلاغا لقوم عابدين" قال أبو هريرة وسفيان الثوري: هم أهل الصلوات الخمس. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "عابدين" مطيعين. والعابد المتذلل الخاضع. قال القشيري: ولا يبعد أن يدخل فيه كل عاقل؛ لأنه من حيث الفطرة متذلل للخالق، وهو بحيث لو تأمل القرآن واستعمله لأوصله ذلك إلى الجنة. وقال ابن عباس أيضا: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يصلون الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان. وهذا هو القول الأول بعينه.
الآيات: 107 - 109 {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين، قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون، فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون}
قوله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع الناس فمن آمن به وصدق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق. وقال ابن زيد: أراد بالعالمين المؤمنين خاصة.
قوله تعالى: "قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد" فلا يجوز الإشراك به. "فهل أنتم مسلمون" أي منقادون لتوحيد الله تعالى؛ أي فأسلموا؛ كقوله تعالى: "فهل أنتم منتهون" [المائدة: 91] أي انتهوا.
قوله تعالى: "فإن تولوا" أي إن أعرضوا عن الإسلام "فقل آذنتكم على سواء" أي أعلمتكم على بيان أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا؛ كقوله تعالى: "وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء" [الأنفال: 58] أي أعلمهم أنك نقضت العهد نقضا، أي استويت أنت وهم فليس لفريق عهد ملتزم في حق الفريق الآخر. وقال الزجاج: المعنى أعلمتكم بما يوحى إلي على استواء في العلم به، ولم أظهر لأحد شيئا كتمته عن غيره. "وإن أدري" "إن" نافيه بمعنى "ما" أي وما أدري. "أقريب أم بعيد ما توعدون" يعني أجل يوم القيامة لا يدريه أحد لا نبي مرسل ولا ملك مقرب؛ قاله ابن عباس. وقيل: آذنتكم بالحرب ولكني لا أدري متى يؤذن لي في محاربتكم.
الآيات: 110 - 112 {إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين، قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون}
قوله تعالى: "إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون" أي من الشرك وهو المجازي عليه. "وإن أدري لعله" أي لعل الإمهال "فتنة لكم" أي اختبار ليرى كيف صنيعكم وهو أعلم. "ومتاع إلى حين" قيل: إلى انقضاء المدة. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بني أمية في منامه يلون الناس، فخرج الحكم من عنده فأخبر بني أمية بذلك؛ فقالوا له: ارجع فسله متى يكون دلك. فأنزل الله تعالى "وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون" "وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين" يقول لنبيه عليه السلام قل لهم ذلك.
قوله تعالى: "قال رب احكم بالحق" ختم السورة بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتفويض الأمر إليه وتوقع الفرج من عنده، أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين وانصرني عليهم. روى سعيد عن قتادة قال: كانت الأنبياء تقول: "ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق" [الأعراف: 89] فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: "رب احكم بالحق" فكان إذا لقي العدو يقول وهو يعلم أنه على الحق وعدوه على الباطل "رب احكم بالحق" أي اقض به. وقال أبو عبيدة: الصفة ههنا أقيمت مقام الموصوف والتقدير: رب احكم بحكمك الحق. و"رب" في موضع نصب، لأنه نداء مضاف. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وابن محيصن "قل ربُّ احكم بالحق" بضم الباء. قال النحاس: وهذا لحن عند النحويين؛ لا يجوز عندهم رجل أقبل، حتى تقول يا رجل أقبل أو ما أشبهه. وقرأ الضحاك وطلحة ويعقوب "قال ربي أَحكَم بالحق" بقطع الألف مفتوحة الكاف والميم مضمومة. أي قال محمد ربي أحكم بالحق من كل حاكم. وقرأ الجحدري "قل ربي أحكم" على معنى أحكم الأمور بالحق. "وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون" أي تصفونه من الكفر والتكذيب. وقرأ المفضل والسلمي "على ما يصفون" بالياء على الخبر. الباقون بالتاء على الخطاب.
الصفحة رقم 331 من المصحف تحميل و استماع mp3