تفسير الطبري تفسير الصفحة 331 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 331
332
330
 الآية : 102
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: لا يسمع هؤلاء الذين سبقت لهم منا الـحسنى حَسِيس النار, ويعنـي بـالـحسيس: الصوت والـحسّ.
فإن قال قائل: فكيف لا يسمعون حسيسها, وقد علـمت ما رُوي من أن جهنـم يُؤْتَـي بها يوم القـيامة فتزفر زفرة لا يبقـى ملك مقرّب ولا نبـيّ مرسل إلا جثا علـى ركبتـيه خوفـا منها؟ قـيـل: إن الـحال التـي لا يسمعون فـيها حسيسها هي غير تلك الـحال, بل هي الـحال التـي:
18784ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِـيـما اشْتَهَتْ أنْفُسُهُمْ خالِدُونَ يقول: لا يسمع أهل الـجنة حسيس النار إذا نزلوا منزلهم من الـجنة.
وقوله: وَهُمْ فِـيـما اشْتَهَتْ أنْفُسُهُمْ خالِدُونَ يقول: وهم فـيـما تشتهيه نفوسهم من نعيـمها ولذّاتها ماكثون فـيها, لا يخافون زوالاً عنها ولا انتقالاً عنها.
الآية : 103
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ هَـَذَا يَوْمُكُمُ الّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ }.
اختلف أهل التأويـل فـي الفزع الأكبر أيّ الفزع هو؟ فقال بعضهم: ذلك النار إذا أطبقت علـى أهلها. ذكر من قال ذلك:
18785ـ حدثنا أبو هشام, قال: حدثنا يحيى بن يـمان, قال: حدثنا سفـيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبـير: لا يَحْزُنهُمْ الفَزَعُ الأكْبَرُ قال: النار إذا أطبقت علـى أهلها.
18786ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, قوله: لا يَحْزُنهُمُ الفَزَعُ الأكْبَرُ قال: حين يطبق جهنـم, وقال: حين ذُبح الـموت.
وقال آخرون: بل ذلك النفخة الاَخرة. ذكر من قال ذلك:
18787ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: لا يَحْزُنهُمُ الفَزَعُ الأكْبَرُ يعنـي النفخة الاَخرة.
وقال آخرون: بل ذلك حين يؤمر بـالعبد إلـى النار. ذكر من قال ذلك:
18788ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن رجل, عن الـحسن: لا يَحْزُنهُمُ الفَزَعُ الأكْبَرُ قال: انصراف العبد حين يُؤْمر به إلـى النار.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب, قول من قال: ذلك عند النفخة الاَخرة وذلك أن من لـم يحزنه ذلك الفزع الأكبر وأمن منه, فهو مـما بعدَه أحْرَى أن لا يفزَع, وأن من أفزعه ذلك فغير مأمون علـيه الفزع مـما بعده.
وقوله: وَتَتَلَقّاهُمُ الـمَلائِكَةُ يقول: وتستقبلهم الـملائكة يهنئونهم يقولون: هَذَا يَوْمُكُمُ الّذِي كُنْتُـمْ تُوعَدُونَ فـيه الكرامة من الله والـحِبـاء والـجزيـل من الثواب علـى ما كنتـم تنصَبون فـي الدنـيا لله فـي طاعته.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال ابن زيد.
18789ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: هَذَا يَوْمُكُمُ الّذِي كُنْتُـمْ تُوعَدُونَ قال: هذا قبل أن يدخـلوا الـجنة.

الآية : 104
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { يَوْمَ نَطْوِي السّمَآءَ كَطَيّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوّلَ خَلْقٍ نّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنّا كُنّا فَاعِلِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: لا يحزنهم الفزع الأكبر, يوم نطوي السماء. ف «يوم» صلة من «يحزنهم».
واختلف أهل التأويـل فـي معنى السجلّ الذي ذكره الله فـي هذا الـموضع, فقال بعضهم: هو اسم ملَك من الـملائكة. ذكر من قال ذلك:
18790ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن يـمان, قال: حدثنا أبو الوفـاء الأشجعيّ, عن أبـيه, عن ابن عمر, فـي قوله: يَوْمَ نَطْوِي السّماءَ كَطَيّ السّجلّ للْكِتَابِ قال: السجِلّ: مَلَك, فإذا صعد بـالاستغفـار قال: اكتبها نورا.
18791ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, قال: سمع السديّ يقول, فـي قوله: يَوْمَ نَطْوِي السّماءَ كَطَيّ السّجِلّ قال: السجلّ: ملَك.
وقال آخرون: السجل: رجل كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
18792ـ حدثنا نصر بن علـيّ, قال: حدثنا نوح بن قـيس, قال: حدثنا عمرو بن مالك, عن أبـي الـجوزاء, عن ابن عبـاس فـي هذه الاَية: يَوْمَ نَطْوِي السّماءَ كَطَيّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ قال: كان ابن عبـاس يقول: هو الرجل.
قال: حدثنا نوح بن قـيس, قال: حدثنا يزيد بن كعب, عن عمرو بن مالك, عن أبـي الـجوزاء, عن ابن عبـاس, قال: السجلّ: كاتب كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: بل هو الصحيفة التـي يُكتب فـيها. ذكر من قال ذلك:
18793ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: كَطَيّ السّجِلّ للْكِتابِ يقول: كطيّ الصحيفة علـى الِكتاب.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: يَوْمَ نَطْوِي السّماءَ كَطَيّ السّجِلّ للْكِتابِ يقول: كطيّ الصحف.
18794ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: السّجلّ: الصحيفة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, قوله: يَوْمَ نَطْوِي السّماءَ كَطَيّ السّجِلّ لِلْكِتابِ قال: السجل: الصحيفة.
وأولـى الأقوال فـي ذلك عندنا بـالصواب قول من قال: السجلّ فـي هذا الـموضع الصحيفة لأن ذلك هو الـمعروف فـي كلام العرب, ولا يعرف لنبـينا صلى الله عليه وسلم كاتب كان اسمه السجلّ, ولا فـي الـملائكة مَلك ذلك اسمه.
فإن قال قائل: وكيف تَطْوي الصحيفة بـالكتاب إن كان السجلّ صحيفة؟ قـيـل: لـيس الـمعنى كذلك, وإنـما معناه: يوم نطوي السماء كطيّ السجلّ علـى ما فـيه من الكتاب ثم جعل «نطوِي» مصدرا, فقـيـل: كَطَيّ السّجِلّ لِلْكِتابِ واللام فـي قوله «للكتاب» بـمعنى «علـى».
واختلف القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الأمصار, سوى أبـي جعفر القارىء: يَوْمَ نَطْوِي السّماءَ بـالنون. وقرأ ذلك أبو جعفر: «يَوْم تُطْوَي السّماءُ» بـالتاء وضمها, علـى وجه ما لـم يُسمّ فـاعله.
والصواب من القراءة فـي ذلك ما علـيه قرّاء الأمصار, بـالنون, لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه وشذوذ ما خالفه. وأما السّجلّ فإنه فـي قراءة جميعهم بتشديد اللام. وأما الكتاب, فإن قرّاء أهل الـمدينة وبعض أهل الكوفة والبصرة قرءوه بـالتوحيد: «كطيّ السجلّ للكتاب», وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: للْكُتُبِ علـى الـجماع.
وأولـى القراءتـين عندنا فـي ذلك بـالصواب: قراءة من قرأه علـى التوحيد للكتاب لـما ذكرنا من معناه, فإِن الـمراد منه: كطيّ السجلّ علـى ما فـيه مكتوب. فلا وجه إذ كان ذلك معناه لـجميع الكتب إلا وجه نتبعه من معروف كلام العرب, وعند قوله: كَطَيّ السّجِلّ انقضاء الـخبر عن صلة قوله: لا يَحْزُنهُمُ الْفَزَعُ الأْكْبَرُ, ثم ابتدأ الـخبر عما الله فـاعل بخـلقه يومئذ فقال تعالـى ذكره: كمَا بَدَأْنا أوّلَ خَـلْقٍ نُعِيدُهُ فـالكاف التـي فـي قوله: «كمَا» من صلة «نعيد», تقدّمت قبلها ومعنى الكلام: نعيد الـخـلق عُراة حُفـاة غُرْلاً يوم القـيامة, كما بدأناهم أوّل مرّة فـي حال خـلقناهم فـي بطون أمهَاتهم, علـى اختلاف من أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك.
وبـالذي قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل, وبه الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك اخترت القول به علـى غيره. ذكر من قال ذلك والأثر الذي جاء فـيه:
18795ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: أوّلَ خَـلْقٍ نُعِيدُهُ قال: حُفـاة عُراة غُرْلاً.
18796ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد قوله: أوّلَ خَـلْقٍ نُعِيدُهُ قال: حُفـاة غُلْفـا. قال ابن جُرَيج أخبرنـي إبراهيـم بن ميسرة, أنه سمع مـجاهدا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحدى نسائه: «يَأْتُونَهُ حُفـاةً عُرَاةً غُلْفـا» فـاسْتَترَتْ بِكُمّ دِرْعِها, وَقالَتْ وَاسَوأتاهُ قال ابن جُرَيج: أخبرت أنها عائشة قالت: يا نبـيّ الله, لا يحتشمُ الناس بعضهم بعضا؟ قال: «لكُلّ امُرِىءٍ يَوْمِئِذٍ شأْنٌ يُغْنِـيهِ».
18797ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, قال: حدثنا سفـيان, قال: ثنـي الـمغيرة بن النعمان, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يُحْشَرُ النّاسُ حُفـاةً عُرَاةً غُرْلاً, فَأوّلَ مَنْ يُكْسَى إبراهِيـمُ» ثم قرأ: كمَا بَدأْنا أوّلَ خَـلْقٍ نُعِيدُه وَعْدا عَلَـيْنا إنّا كُنّا فـاعِلِـينَ.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا إسحاق بن يوسف, قال: حدثنا سفـيان, عن الـمغيرة بن النعمان, عن سعيد بن جُبـير, عن ابن عبـاس, قال: «قام فـينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بـموعظة» فذكره نـحوه.
حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن الـمغيرة بن النعمان النَـخَعِيّ, عن سعيد بن جُبـير, عن ابن عبـاس, قال: «قام فـينا رسول الله صلى الله عليه وسلم» فذكره نـحوه.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن شعبة, قال: حدثنا الـمغيرة بن النعمان النـخَعيّ, عن سعيد بن جُبـير, عن ابن عبـاس, نـحوه.
18798ـ حدثنا عيسى بن يوسف بن الطبـاع أبو يحيى, قال: حدثنا سفـيان, عن عمرو بن دينار, عن سعيد بن جُبـير, عن ابن عبـاس, قال: سمعت النبـيّ صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: «إنّكُمْ مُلاقُو اللّهِ مُشاةً غُرْلاً».
18799ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, عن لـيث, عن مـجاهد, عن عائشة, قالت: دخـل علـيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي عجوز من بنـي عامر, فقال: «مَنْ هَذه العَجُوزُ يا عائِشَةُ؟» فقلت: إحدى خالاتـي. فقالت: ادع الله أن يدخـلنـي الـجنة فقال: «إنّ الـجَنّةَ لا يَدْخُـلُها العَجَزةُ». قالت: فأخذ العجوزَ ما أخذها, فقال: «إنّ اللّهَ يُنْشِئُهُنّ خَـلْقا غيرَ خَـلْقِهِنّ», ثم قال: «يُحْشَرُونَ حُفـاةً عُرَاةً غُلْقا». فقالت: حاش لله من ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَلـى إنّ اللّهَ قالَ: كمَا بَدأْنا أوّلَ خَـلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدا عَلَـيْنا... إلـى آخر الاَية, فأوّلُ مَنْ يُكْسَى إبْرَاهِيـمُ خَـلِـيـلُ الله».
18800ـ حدثنـي مـحمد بن عمارة الأسدي, قال: حدثنا عبـيد الله, قال: حدثنا إسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عن عطاء, عن عقبة بن عامر الـجهنـي, قال: يجمع الناس فـي صعيد واحد ينفذهم البصر, ويسمعهم الداعي, حفـاة عراة, كما خُـلقوا أوّل يوم.
18801ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي عبـاد بن العوّام, عن هلال بن حبـان, عن سعيد بن جُبـير, عن ابن عبـاس, (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: «يحشر الناس يوم القـيامة حُفـاة عراة مشاة غرلاً». قلت: يا أبـا عبد الله ما الغُرْل؟ قال: الغُلْف. فقال بعض أزواجه: يا رسول الله, أينظر بعضنا إلـى بعض إلـى عورته؟ فقال «لِكُلّ امْرىءٍ منهم يَوْمَئِذٍ ما يَشْغَلُهُ عَن النّظَر إلـى عَوْرَة أخِيهِ». قال هلال: قال سعيد بن جُبـير: وَلَقَدْ جِئْتُـمُونا فُرَادَى كمَا خَـلَقْناكُمْ أوّلَ مَرّةٍ قال: كيوم ولدته أمه, يردّ علـيه كل شيءٍ انتقص منه مثل يوم وُلد.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: كما كنا ولا شيء غيرنا قبل أن نـخـلق شيئا, كذلك نهلك الأشياء فنعيدها فـانـية, حتـى لا يكون شيء سوانا. ذكر من قال ذلك:
18802ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: كمَا بَدأْنا أوّلَ خَـلْقٍ نُعِيدُهُ... الاَية, قال: نهلك كل شيء كما كان أوّل مرّة.
وقوله: وَعْدا عَلَـيْنا يقول: وعدناكم ذلك وعدا حقّا علـينا أن نوفـي بـما وعدنا, إنا كنا فـاعلـي ما وعدناكم من ذلك أيها الناس, لأنه قد سبق فـي حكمنا وقضائنا أن نفعله, علـى يقـين بأن ذلك كائن, واستعدوا وتأهبوا.
الآية : 105
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصّالِحُونَ }.
اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنىّ بـالزّبور والذكر فـي هذا الـموضع, فقال بعضهم: عُنـي بـالزّبور: كتب الأنبـياء كلها التـي أنزلها الله علـيهم, وعُنـي بـالذكر: أمّ الكتاب التـي عنده فـي السماء. ذكر من قال ذلك:
18803ـ حدثنـي عيسى بن عثمان بن عيسى الرملـيّ, قال: حدثنا يحيى بن عيسى, عن الأعمش, قال: سألت سعيدا, عن قول الله: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِـي الزّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ قال: الذكر: الذي فـي السماء.
18804ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا عيسى بن يونس, عن الأعمش, عن سعيد بن جبـير, فـي قوله: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِـي الزّبُورِ قال: قرأها الأعمش: «الزّبُر» قال: الزبور, والتوراة, والإنـجيـل, والقرآن مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ قال: الذكر الذي فـي السماء.
18805ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: الزّبُورِ قال: الكتاب. مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ قال: أمّ الكتاب عند الله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, قوله: الزّبُورِ قال: الكتاب. بَعْدِ الذّكْرِ قال: أم الكتاب عند الله.
18806ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِـي الزّبُورِ قال: الزبور: الكتب التـي أُنزلت علـى الأنبـياء. والذكر: أمّ الكتاب الذي تُكتب فـيه الأشياء قبل ذلك.
18807ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن سعيد, فـي قوله: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِـي الزّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ قال: كتبنا فـي القرآن من بعد التوراة.
وقال آخرون: بل عُنـي بـالزّبور: الكتب التـي أنزلها الله علـى مَنْ بعد موسى من الأنبـياء, وبـالذكر: التوراة. ذكر من قال ذلك:
18808ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِـي الزّبُورِ مِنْ بَعْدَ الذّكْرِ... الاَية, قال: الذكر: التوراة, والزبور: الكتب.
18809ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول, فـي قوله: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِـي الزّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ... الاَية, قال: الذكر: التوراة, ويعنـي بـالزبور من بعد التوراة: الكتب.
وقال آخرون: بل عُنـي بـالزّبور زَبور داود, وبـالذكر تَوراة موسى صلـى الله علـيهما. ذكر من قال ذلك:
18810ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الوهاب, قال: حدثنا داود, عن عامر أنه قال فـي هذه الاَية: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِـي الزّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ قال: زبور داود. من بعد الذكر: ذكر موسى التوراة.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن داود, عن الشعبـيّ, أنه قال فـي هذه الاَية: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِـي الزّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ قال: فـي زبور داود, من بعد ذكر موسى.
وأولـى هذه الأقوال عندي بـالصواب فـي ذلك ما قاله سعيد بن جُبـير ومـجاهد ومن قال بقولهما فـي ذلك, من أن معناه: ولقد كتبنا فـي الكتب من بعد أمّ الكتاب الذي كتب الله كل ما هو كائن فـيه قبل خـلق السموات والأرض. وذلك أن الزبور هو الكتاب, يقال منه: زبرت الكتاب وذَبرته: إذا كتبته, وأن كلّ كتاب أنزله الله إلـى نبـيّ من أنبـيائه, فهو ذِكْر. فإذ كان ذلك كذلك, فإن فـي إدخاله الألف واللام فـي الذكر, الدلالة البـينة أنه معنـيّ به ذكر بعينه معلوم عند الـمخاطبـين بـالاَية, ولو كان ذلك غير أمّ الكتاب التـي ذكرنا لـم تكن التوراة بأولـى من أن تكون الـمعنـية بذلك من صحف إبراهيـم, فقد كان قبل زَبور داود.
فتأويـل الكلام إذن, إذ كان ذلك كما وصفنا: ولقد قضينا, فأثبتنا قضاءنا فـي الكتب من بعد أمّ الكتاب, أن الأرض يرثها عبـادي الصالـحون يعنـي بذلك: أن أرض الـجنة يرثها عبـادي العاملون بطاعته الـمنتهون إلـى أمره ونهيه من عبـاده, دون العاملـين بـمعصيته منهم الـمؤثرين طاعة الشيطان علـى طاعته. ذكر من قال ذلك:
18811ـ حدثنا مـحمد بن عبد الله الهلالـي, قال: حدثنا عبـيد الله بن موسى, قال: حدثنا إسرائيـل, عن أبـي يحيى القَتّات, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس, قوله: أنّ الأرْضَ يَرِثُها عِبـادِيَ الصّالِـحُونَ قال: أرض الـجنة.
18812ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس قوله: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِـي الزّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ أنّ الأرْضَ يَرِثُها عِبـادِيَ الصّالِـحُونَ قال: أخبر سبحانه فـي التوراة والزبور وسابق علـمه قبل أن تكون السموات والأرض, أن يورث أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم الأرض ويُدخـلهم الـجنة, وهم الصالـحون.
18813ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن سعيد بن جُبـير فـي قوله: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِـي الزّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ أنّ الأرْضَ يَرِثُها عِبـادِيَ الصّالِـحُونَ قال: كتبنا فـي القرآن بعد التوراة, والأرض أرض الـجنة.
18814ـ حدثنـي علـيّ بن سهل, قال: حدثنا حجاج, عن أبـي جعفر, عن الربـيع بن أنس, عن أبـي العالـية: أنّ الأرْضَ يَرِثُها عِبـادِيَ الصّالِـحُونَ قال: الأرض: الـجنة.
حدثنـي عيسى بن عثمان بن عيسى الرملـيّ, قال: حدثنا يحيى بن عيسى, عن الأعمش, قال: سألت سعيدا عن قول الله: أنّ الأرْضَ يَرِثُها عِبـادِيَ الصّالِـحُونَ قال: أرض الـجنة.
18815ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: أنّ الأرْضَ قال: الـجنة, يَرِثُها عِبـادِيَ الصّالـحُونَ.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
18816ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: أنّ الأرْضَ يَرِثُها عِبـادِيَ الصّالِـحُونَ قال: الـجنة. وقرأ قول الله جلّ ثناؤه: وَقالُوا الـحَمْدِ للّهِ الّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأوْرَثنَا الأَرْضَ نَتَبَوّأُ مِنَ الـجَنةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أجْرُ العامِلِـينَ قال: فـالـجنة مبتدؤها فـي الأرض ثم تذهب درجات عُلوّا, والنار مبتدؤها فـي الأرض وبـينهما حجاب سُور ما يدري أحد ما ذاك السور, وقرأ: بـابٌ بـاطِنُهُ فِـيهِ الرّحَمةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ قال: ودرجها تذهب سَفـالاً فـي الأرض, ودرج الـجنة تذهب عُلوّا فـي السموات.
18817ـ حدثنا مـحمد بن عوف, قال: حدثنا أبو الـمغيرة, قال: حدثنا صفوان, سألت عامر بن عبد الله أبـا الـيـمان: هل لأنفس الـمؤمنـين مـجتـمع؟ قال: فقال: إن الأرض التـي يقول الله: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِـي الزّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ أنّ الأرْضَ يَرِثُها عِبـادِيَ الصّالِـحُونَ قال: هي الأرض التـي تـجتـمع إلـيها أرواح الـمؤمنـين حتـى يكون البعث.
وقال آخرون: هي الأرض يورثها الله الـمؤمنـين فـي الدنـيا.
وقال آخرون: عُنـي بذلك بنو إسرائيـل وذلك أن الله وعدهم ذلك فوفـيّ لهم به. واستشهد لقوله ذلك بقول الله: وأَورَثْنا القَوْمَ الّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الأرْضِ وَمَغارِبَها الّتِـي بـارَكْنا فِـيها. وقد ذكرنا قول من قال: أنّ الأرْضَ يَرِثُها عِبـادِيَ الصّالِـحُونَ أنها أرض الأمـم الكافرة, ترثها أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم. وهو قول ابن عبـاس الذي رَوَى عنه علـيّ بن أبـي طلـحة.
الآية : 106 و 107
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { إِنّ فِي هَـَذَا لَبَلاَغاً لّقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: إن فـي هذا القرآن الذي أنزلناه علـى نبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم, لبلاغا لـمن عبد الله بـما فـيه من الفرائض التـي فرضها الله, إلـى رضوانه وإدراك الطّلِبة عنده.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18818ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن عُلَـية, عن الـجَريريّ, عن أبـي الوَرْد بن ثُمامة, عن أبـي مـحمد الـحضرميّ, قال: حدثنا كعب فـي هذا الـمسجد, قال: والذي نفس كعب بـيده إنّ فـي هَذَا لبَلاغا لقَوْمٍ عَابِدِينَ إنهم لأهل أو أصحاب الصلوات الـخمس, سماهم الله عابدين.
18819ـ حدثنا الـحسين بن يزيد الطحان, قال: حدثنا ابن عُلَـية, عن سعيد بن إياس الـجريريّ, عن أبـي الوَرْد عن كعب, فـي قوله: إنّ فِـي هَذَا لَبَلاغا لِقَوْمٍ عابِدِينَ قال: صوم شهر رمضان, وصلاة الـخمس, قال: هي ملء الـيدين والبحر عبـادة.
18820ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا مـحمد بن الـحسين, عن الـجريريّ, قال: قال كعب الأحبـار: إنّ فِـي هَذَا لَبَلاغا لِقَوْمٍ عابِدِينَ لأمة مـحمد.
18821ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: إنّ فِـي هَذَا لَبَلاغا لِقَوْمٍ عابِدِينَ يقول: عاملـين.
18822ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قوله: إنّ فِـي هَذَا لَبَلاغا لِقَوْمٍ عابِدِينَ قال: يقولون فـي هذه السورة لبلاغا.
ويقول آخرون: فـي القرآن تنزيـل لفرائض الصلوات الـخمس, من أداها كان بلاغا لقوم عابدين, قال: عاملـين.
18823ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: إنّ فِـي هَذَا لَبَلاغا لِقَوْمٍ عابِدِينَ قال: إن فـي هذا لـمنفعة وعلـما لقوم عابدين ذاك البلاغ.
وقوله: وَما أرْسَلْناكَ إلاّ رَحْمَةً للْعَالَـمِينَ يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: وما أرسلناك يا مـحمد إلـى خـلقنا إلا رحمة لـمن أرسلناك إلـيه من خـلقـي.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي معنى هذه الاَية, أجميع العالـم الذي أرسل إلـيهم مـحمد أُريد بها مؤمنهم وكافرهم؟ أم أريد بها أهل الإيـمان خاصة دون أهل الكفر؟ فقال بعضهم: عُنـي بها جميع العالـم الـمؤمن والكافر. ذكر من قال ذلك:
18824ـ حدثنـي إسحاق بن شاهين, قال: حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق, عن الـمسعوديّ, عن رجل يقال له سعيد, عن سعيد بن جُبـير, عن ابن عبـاس, فـي قول الله فـي كتابه: وَما أرْسَلْناكَ إلاّ رَحْمَةً للْعَالَـمِينَ قال: من آمن بـالله والـيوم الاَخر كُتب له الرحمة فـي الدنـيا والاَخرة, ومن لـم يؤمن بـالله ورسوله عُوفِـيَ مـما أصاب الأمـم من الـخَسْف والقذف.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا عيسى بن يونس, عن الـمسعوديّ, عن أبـي سعيد, عن سعيد جُبـير, عن ابن عبـاس, فـي قوله: وَما أرْسَلْناكَ إلاّ رَحْمَةً للْعَالَـمِينَ قال: تـمت الرحمة لـمن آمن به فـي الدنـيا والاَخرة, ومن لـم يؤمن به عُوفـيَ مـما أصاب الأمـم قبل.
وقال آخرون: بل أريد بها أهل الإيـمان دون أهل الكفر. ذكر من قال ذلك:
18825ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَما أرْسَلْناكَ إلاّ رَحْمَةً للْعَالَـمِينَ قال: العالـمون: من آمن به وصدّقه. قال: وَإنْ أدْرِي لَعَلّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إلـى حِينِ قال: فهو لهؤلاء فتنة ولهؤلاء رحمة, وقد جاء الأمر مـجملاً رحمة للعالـمين. والعالَـمون ههنا: من آمن به وصدّقه وأطاعه.
وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب القول الذي رُوي عن ابن عبـاس, وهو أن الله أرسل نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم رحمة لـجميع العالـم, مؤمنهم وكافرهم. فأما مؤمنهم فإن الله هداه به, وأدخـله بـالإيـمان به وبـالعمل بـما جاء من عند الله الـجنة. وأما كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بـالأمـم الـمكذّبة رسلها من قبله.

الآية : 108
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قُلْ إِنّمَآ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلَـَهُكُمْ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مّسْلِمُونَ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد: ما يوحي إلـيّ ربـي إلا أنّه لا إله لكم يجوز أن يُعبد إلا إله واحد لا تصلـح العبـادة إلا له ولا ينبغي ذلك لغيره. فَهَلْ أنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ يقول: فهل أنتـم مذعنون له أيها الـمشركون العابدون الأوثان والأصنام بـالـخضوع لذلك, ومتبرّئون من عبـادة ما دونه من آلهتكم؟
الآية : 109
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَىَ سَوَآءٍ وَإِنْ أَدْرِيَ أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مّا تُوعَدُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: فإن أدبر هؤلاء الـمشركون يا مـحمد عن الإقرار بـالإيـمان, بأن لا إله لهم إلا إله واحد, فأعرضوا عنه وأبوا الإجابة إلـيه, فقل لهم: قَدْ آذَنْتُكُمْ عَلـى سَوَاءٍ يقول: أعلـمهم أنك وهم علـى علـم من أن بعضكم لبعض حرب, لاصلـح بـينكم ولا سلـم.
وإنـما عُنـي بذلك قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم من قُرَيش, كما:
18826ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قوله: فإنْ تَوَلّوْا فَقُل آذَنْتُكُمْ عَلـى سَوَاءٍ فإن تولوا, يعنـي قريشا.
وقوله: وَإنْ أدْرِي أقَرِيبٌ أمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ يقول تعالـى ذكره لنبـيه: قل وما أدري متـى الوقت الذي يحلّ بكم عقاب الله الذي وعدكم, فـينتقم به منكم, أقريب نزوله بكم أم بعيد؟
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18827ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج: وَإنْ أدْرِي أقَرِيبٌ أمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ قال: الأجل.
الآية : 110 و 111
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { إِنّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ * وَإِنْ أَدْرِي لَعَلّهُ فِتْنَةٌ لّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَىَ حِينٍ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء الـمشركين, إن الله يعلـم الـجهر الذي يجهرون به من القول, ويعلـم ما تـخفونه فلا تـجهرون به, سواء عنده خفـيه وظاهره وسرّه وعلانـيته, إنه لا يخفـى علـيه منه شيء فإن أخّر عنكم عقابه علـى ما تـخفون من الشرك به أو تـجهرون به, فما أدري ما السبب الذي من أجله يؤخّر ذلك عنكم؟ لعلّ تأخيره ذلك عنكم مع وعده إياكم لفتنة يريدها بكم, ولتتـمتعوا بحياتكم إلـى أجل قد جعله لكم تبلغونه, ثم ينزل بكم حينئذٍ نقمته.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18828ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن عطاء الـخراسانـيّ, عن ابن عبـاس: وَإنْ أدْرِي لَعَلّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إلـى حينٍ يقول: لعلّ ما أُقرّب لكم من العذاب والساعة, أن يؤخّر عنكم لـمدتكم, ومتاع إلـى حين, فـيصير قولـي ذلك لكم فتنة.
الآية : 112
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالَ رَبّ احْكُم بِالْحَقّ وَرَبّنَا الرّحْمَـَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىَ مَا تَصِفُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: قل يا مـحمد: يا ربّ افصل بـينـي وبـين من كذّبنـي من مشركي قومي وكفر بك وعبد غيرك, بإحلال عذابك ونقمتك بهم وذلك هو الـحقّ الذي أمر الله تعالـى نبـيه أن يسأل ربه الـحكم به, وهو نظير قوله جلّ ثناؤه: رَبّنا افْتَـحْ بَـيْنَنَا وبَـينَ قَوْمِنا بـالـحَقّ وأنْتَ خَيْرُ الفـاتِـحين.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18829ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قال ابن عبـاس: قالَ رَبّ احْكُمْ بـالـحَقّ قال: لا يحكم بـالـحقّ إلا الله, ولكن إنـما استعجل بذلك فـي الدنـيا, يسأل ربه علـى قومه.
18830ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قَتادة: أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا شهد قتالاً قال: «رَبّ احْكُمْ بـالـحَقّ».
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الأمصار: قُلْ رَبّ احْكُمْ بكسر البـاء, ووصل الألف ألف «احكم», علـى وجه الدعاء والـمسألة, سوى أبـي جعفر, فإنه ضمّ البـاء من «الربّ», علـى وجه نداء الـمفرد, وغير الضحاك بن مزاحم, فإنه رُوي عنه أنه كان يقرأ ذلك: «رَبّـي أحْكَمُ» علـى وجه الـخبر بأن الله أحكَمُ بـالـحقّ من كلّ حاكم, فـيثبت الـياء فـي «الربّ», ويهمز الألف من «أحْكَمُ», ويرفع «أَحْكُم», علـى أنه للربّ تبـارك وتعالـى.
والصواب من القراءة عندنا فـي ذلك: وصل البـاء من الربّ وكسرها ب «احْكُمْ», وترك قطع الألف من «احْكُمْ», علـى ما علـيه قرّاء الأمصار لإجماع الـحُجة من القرّاء علـيه وشذوذ ما خالفه. وأما الضحاك فإن فـي القراءة التـي ذُكرت عنه زيادة عنه زيادة حرف علـى خطّ الـمصاحف, ولا ينبغي أن يزاد ذلك فـيها, مع صحة معنى القراءة بترك زيادته. وقد زعم بعضهم أن معنى قوله: رَبّ احْكُمْ بـالـحَقّ قل: ربّ احكم بحكمك الـحقّ, ثم حذف الـحكم الذي الـحقّ نعت له وأقـيـم الـحقّ مقامه. ولذلك وجه, غير أن الذي قلناه أوضح وأشبه بـما قاله أهل التأويـل, فلذلك اخترناه.
وقوله: وَرَبّنا الرّحْمَنُ الـمُسْتَعانُ عَلـى ما تَصِفُونَ يقول جلّ ثناؤه: وقل يا مـحمد: وربنا الذي يرحم عبـاده ويعُمهم بنعمته, الذي أستعينه علـيكم فـيـما تقولون وتصفون من قولكم لـي فـيـما أتـيتكم به من عند الله إنْ هَذَا إلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أفَتَأْتُونَ السّحْرَ وأنْتُـمْ تُبْصِرُونَ, وقولكم: بَلِ افْتَرَاه بَلْ هُوَ شاعِرٌ, وفـي كذبكم علـى الله جلّ ثناؤه وقـيـلكم: اتّـخَذَ الرّحْمَنُ وَلَدا فإنه هين علـيه تغيـير ذلك وفصل ما بـينـي وبـينكم بتعجيـل العقوبة لكم علـى ما تصفون من ذلك.
آخر تفسير سورة الأنبـياء علـيهم السلام

نهاية تفسير الإمام الطبري لسورة الأنبياء