تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 330 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 330

330- تفسير الصفحة رقم330 من المصحف
الآية: 91 {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين}
قوله تعالى: "والتي أحصنت فرجها" أي واذكر مريم التي أحصنت فرجها وإنما ذكرها وليست من الأنبياء ليتم ذكر عيسى عليه السلام ولهذا قال: "وجعلناها وابنها آيه للعالمين" ولم يقل آيتين لأن معنى الكلام: وجعلنا شأنهما وأمرهما آية للعالمين. وقال الزجاج: إن الآية فيهما واحدة؛ لأنها ولدته من غير فحل وعلى مذهب سيبويه التقدير: وجعلنا آيه للعالمين وجعلنا ابنها آية للعالمين ثم حذف. وعلى مذهب الفراء: وجعلناها آية للعالمين وابنها؛ مثل قوله جل ثناؤه: "والله ورسوله أحق أن يرضوه". وقيل: إن من آياتها أنها أول امرأة قبلت في النذر في المتعبد. ومنها أن الله عز وجل غذاها برزق من عنده لم يجره على يد عبد من عبيدة. وقيل: إنها لم تلقم ثديا قط. و"أحصنت" يعني عفت فامتنعت من الفاحشة. وقيل: إن المراد بالفرج فرج القميص؛ أي لم تعلق بثوبها ريبة؛ أي إنها طاهرة الأثواب. وفروج القميص أربعة: الكمان والأعلى والأسفل. قال السهيلي: فلا يذهبن وهمك إلى غير هذا؛ فإنه من لطيف الكناية لأن القرآن أنزه معنى، وأوزن لفظا، وألطف إشارة، وأحسن عبارة من أن يريد ما يذهب إليه وهم الجاهل، لا سيما والنفخ من روح القدس بأمر القدوس، فأضف القدس إلى القدوس، ونزه المقدسة المطهرة عن الظن الكاذب والحدس. "فنفخنا فيها من روحنا" يعني أمرنا جبريل حتى نفخ في درعها، فأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها. وقد مضى هذا في "النساء" و"مريم" فلا معنى للإعادة. "آية" أي علامة وأعجوبة للخلق، وعلما لنبوة عيسى، ودلالة على نفوذ قدرتنا فيما نشاء.
الآية: 92 {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}
قوله تعالى: "إن هذه أمتكم أمة واحدة" لما ذكر الأنبياء قال: هؤلاء كلهم مجتمعون على التوحيد؛ فالأمة هنا بمعنى الدين الذي هو الإسلام؛ قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما. فأما المشركون فقد خالفوا الكل. "وأنا ربكم" أي إلهكم وحدي. "فاعبدوني" أي أفردوني بالعبادة. وقرأ عيسى بن عمرو وابن أبي إسحاق: "إن هذه أمتكم أمة واحدة" ورواها حسين عن أبي عمرو. الباقون "أمة واحدة" بالنصب على القطع بمجيء النكرة بعد تمام الكلام؛ قال الفراء. الزجاج: انتصب "أمة" على الحال؛ أي في حال اجتماعها على الحق؛ أي هذه أمتكم ما دامت أمة واحدة واجتمعتم على التوحيد فإذا تفرقتم وخالفتم فليس من خالف الحق من جملة أهل الدين الحق؛ وهو كما تقول: فلان صديقي عفيفا أي ما دام عفيفا فإذا خالف العفة لم يكن صديقي. وأما الرفع فيجوز أن يكون على البدل من "أمتكم" أو على إضمار مبتدأ؛ أي إن هذه أمتكم، هذه أمة واحدة. أو يكون خبرا بعد خبر. ولو نصبت "أمتكم" على البدل من "هذه" لجاز ويكون "أمة واجدة" خبر "إن".
الآيتان: 93 - 94 {وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون، فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون}
قوله تعالى: "وتقطعوا أمرهم بينهم" أي تفرقوا في الدين؛ قال الكلبي. الأخفش: اختلفوا فيه. والمراد المشركون؛ ذمهم لمخالفة الحق، واتخاذهم آلهة من دون الله. قال الأزهري: أي تفرقوا في أمرهم؛ فنصب "أمرهم" بحذف "في". فالمتقطع على هذا لازم وعلى الأول متعد. والمراد جميع الخلق؛ أي جعلوا أمرهم في أديانهم قطعا وتقسموه بينهم، فمن موحد، ومن يهودي، ومن نصراني، ومن عابد ملك أو صنم. "كل إلينا راجعون" أي إلى حكمنا فنجازيهم.
قوله تعالى: "فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن" "من" للتبعيض لا للجنس إذ لا قدرة للمكلف أن يأتي بجميع الطاعات فرضها ونفلها؛ فالمعنى: من يعمل شيئا من الطاعات فرضا أو نفلا وهو موحد مسلم. وقال ابن عباس: مصدقا بمحمد صلى الله عليه وسلم. "فلا كفران لسعيه" أي لا جحود لعمله، أي لا يضيع جزاؤه ولا يغطي والكفر ضده الإيمان. والكفر أيضا جحود النعمة، وهو ضد الشكر. وقد كفره كفورا وكفرانا. وفي ابن مسعود "فلا كفر لسعيه". "وإنا له كاتبون" لعمله حافظون. نظيره "أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى" [آل عمران: 195] أي كل ذلك محفوظ ليجازي به.
الآيات: 95 - 97 {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون، حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين}
قوله تعالى: "وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون" قراءة زيد بن ثابت وأهل المدينة "وحرام" وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وأهل الكوفة "وحرم" ورويت عن علي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم. وهما مثل حل وحلال. وقد روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير "وحرم" بفتح الحاء والميم وكسر الراء. وعن ابن عباس أيضا وعكرمة وأبي العالية "وحرم" بضم الراء وفتح الحاء والميم. وعن ابن عباس أيضا "وحرم" وعنه أيضا "وحرم"، "وحرم". وعن عكرمة أيضا "وحرم". عن قتادة ومطر الوارق "وحرم" تسع قراءات. وقرأ السلمي "على قرية أهلكتها". واختلف في "لا" في "لا يرجعون" فقيل: هي صلة؛ روي ذلك عن ابن عباس، واختاره أبو عبيد؛ أي وحرام قرية أهلكناها أن يرجعوا بعد الهلاك. وقيل: ليست بصلة، وإنما هي ثابتة ويكون الحرام بمعنى الواجب؛ أي وجب على قرية؛ كما قالت الخنساء:
وإن حراما لا أرى الدهر باكيا على شجوه إلا بكيت على صخر
تريد أخاها؛ فــ "لا" ثابتة على هذا القول. قال النحاس: والآية مشكلة ومن أحسن ما قيل فيها وأجله ما رواه ابن عيينة وابن علية وهشيم وابن إدريس ومحمد بن فضيل وسليمان بن حيان ومعلى عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن بن عباس في قول الله عز وجل: "وحرام على قرية أهلكناها" قال: وجب انهم لا يرجعون؛ قال: لا يتوبون. قال أبو جعفر: واشتقاق هذا بين في اللغة، وشرحه: أن معنى حرم الشيء حظر ومنع منه، كما أن معنى أحل أبيح ولم يمنع منه، فإذا كان "حرام" و"حرم" بمعنى واجب فمعناه أنه قد ضيق الخروج منه ومنع فقد دخل في باب المحظور بهذا؛ فأما قول أبي عبيدة: إن "لا" زائدة فقد رده عليه جماعة؛ لأنها لا تزاد في مثل هذا الموضع، ولا فيما يقع فيه إشكال، ولو كانت زائدة لكان التأويل بعيدا أيضا؛ لأنه إن أراد وحرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا إلى الدنيا فهذا ما لا فائدة فيه، وإن أراد التوبة فالتوبة لا تحرم. وقيل: في الكلام إضمار أي وحرام على قرية حكمنا باستئصالها، أو بالختم على قلوبها أن يتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون أي لا يتوبون؛ قال الزجاج وأبو علي؛ و"لا" غير زائدة. وهذا هو معنى قول ابن عباس.
قوله تعالى: "حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج" تقدم القول فيهم. وفي الكلام حذف، أي حتى إذا فتح سد يأجوج ومأجوج، مثل "واسأل القرية" [يوسف: 82]. "وهم من كل حدب ينسلون" قال ابن عباس: من كل شرف يقبلون؛ أي لكثرتهم ينسلون من كل ناحية. والحدب ما ارتفع من الأرض، والجمع الحداب مأخوذ من حدبة الظهر؛ قال عنترة:
فما رعشت يداي ولا ازدهاني تواترهم إلي إلي من الحداب
وقيل: "ينسلون" يخرجون؛ ومنه قول امرئ القيس:
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
وقيل: يسرعون؛ ومنه قول النابغة:
عسلان الذئب أمسى قاربا برد الليل عليه فنسل
يقال: عسل الذئب يعسل عسلا وعسلانا إذا أعنق وأسرع. وفي الحديث: (كذب عليك العسل) أي عليك بسرعة المشي. وقال الزجاج: والنسلان مشية الذئب إذا أسرع؛ يقال: نسل فلان في العدو ينسل بالكسر والضم نسلا ونسولا ونسلانا؛ أي أسرع. ثم قيل في الذين ينسلون من كل حدب: إنهم يأجوج ومأجوج، وهو الأظهر؛ وهو قول ابن مسعود وابن عباس. وقيل: جميع الخلق؛ فإنهم يحشرون إلى أرض الموقف، وهم يسرعون من كل صوب. وقرئ في الشواذ "وهم من كل جدث ينسلون" أخذا من قوله: "فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون" [يس: 51]. وحكى هذه القراءة المهدوي عن ابن مسعود والثعلبي عن مجاهد وأبي الصهباء.
قوله تعالى: "واقترب الوعد الحق" يعني القيامة. وقال الفراء والكسائي وغيرهما: الواو زائدة مقحمة؛ والمعنى: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق "فاقترب" جواب "إذا". وأنشد الفراء:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
أي انتحى، والواو زائدة؛ ومنه قوله تعالى: "وتله للجبين. وناديناه" [الصافات: 103 - 104] أي للجبين ناديناه. وأجاز الكسائي أن يكون جواب "إذا" "فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا" ويكون قوله: "واقترب الوعد الحق" معطوفا على الفعل الذي هو شرط. وقال البصريون: الجواب محذوف والتقدير: قالوا يا ويلنا؛ وهو قول الزجاج، وهو قول حسن. قال الله تعالى: "والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" [الزمر: 3] المعنى: قالوا ما نعبدهم، وحذف القول كثير. "فإذا هي شاخصة" "هي" ضمير الأبصار، والأبصار المذكورة بعدها تفسير لها كأنه قال: فإذا أبصار الذين كفروا شخصت عند مجيء الوعد. وقال الشاعر:
لعمر أبيها لا تقول ظعينتي ألا فرَّ عني مالك بن أبي كعب
فكنى عن الظعينة في أبيها ثم أظهرها. وقال الفراء: "هي" عماد، مثل "فإنها لا تعمى الأبصار" [الحج: 46]. وقيل: إن الكلام تم قول "هي" التقدير: فإذا هي؛ بمعنى القيامة بارزة واقعة؛ أي من قربها كأنها آتية حاضرة ابتداء فقال: "أبصار الذين كفروا" على تقديم الخبر على الابتداء؛ أي أبصار الذين كفروا شاخصة من هذا اليوم؛ أي من هوله لا تكاد تطرف؛ يقولون: يا ويلنا إنا كنا ظالمين ووضعنا العبادة في غير موضعها.
الآية: 98 {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون}
قوله تعالى: "إنكم وما تعبدون" قال ابن عباس: آية لا يسألني الناس عنها! لا أدري أعرفوها فلم يسألوا عنها، أو جهلوها فلا يسألون عنها؛ فقيل: وما هي؟ قال: "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون" لما أنزلت شق على كفار قريش، وقالوا: شتم آلهتنا، وأتوا ابن الزبعرى وأخبروه، فقال: لو حضرته لرددت عليه. قالوا: وما كنت تقول؟ قال: كنت أقول له: هذا المسيح تعبده اليهود تعبد عزيرا أفهما من حصب جهنم؟ فعجبت قريش من مقالته، ورأوا أن محمدا قد خصم؛ فأنزل الله تعالى: "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون" [الأنبياء: 101] وفيه نزل "ولما ضرب ابن مريم مثلا" [الزخرف: 57] يعني ابن الزبعرى "إذا قومك منه يصدون" [الزخرف: 57] بكسر الصاد؛ أي يضجون؛ وسيأتي.
هذه الآية أصل القول بالعموم وأن له صيغا مخصوصة، خلافا لمن قال: ليست له صيغة موضوعة للدلالة عليه، وهو باطل بما دلت عليه هذه الآية وغيرها؛ فهذا عبدالله بن الزبعرى قد فهم "ما" في جاهليته جميع من عبد، ووافقه على ذلك قريش وهم العرب الفصحاء، واللسن البلغاء، ولو لم تكن للعموم لما صح أن يستثنى منها، وقد وجد ذلك فهي للعموم وهذا واضح.
قراءة العامة بالمهملة أي إنكم يا معشر الكفار والأوثان التي تعبدونها من دون الله وقود جهنم؛ قال ابن عباس قال مجاهد وعكرمة وقتادة: حطبها. وقرأ علي بن أبي طالب وعائشة رضوان الله عليهما "حطمت جهنم" بالطاء. وقرأ ابن عباس "حضب" بالضاد المعجمة؛ قال الفراء: يريد الحصب. قال: وذكر لنا أن الحضب في لغة أهل اليمن الحطب، وكل ما هيجت به النار وأوقدتها به فهو حضب؛ ذكره الجوهري. والموقد محضب. وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: "حصب جهنم" كل ما ألقيته في النار فقد حصبتها به. ويظهر من هذه الآية أن الناس من الكفار وما يعبدون من الأصنام حطب لجهنم. ونظير هذه الآية قوله تعالى: "فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة" [البقرة: 24]. وقيل: إن المراد بالحجارة حجارة الكبريت؛ على ما تقدم في "البقرة" وأن النار لا تكون على الأصنام عذابا ولا عقوبة؛ لأنها لم تذنب، ولكن تكون عذابا على من عبدها: أول شيء بالحسرة، ثم تجمع على النار فتكون نارها أشد من كل نار، ثم يعذبون بها. وقيل: تحمى فتلصق بهم زيادة في تعذيبهم وقيل: إنما جعلت في النار تبكيتا لعبادتهم.
قوله تعالى: "أنتم لها واردون" أي فيها داخلون. والخطاب للمشركين عبده الأصنام؛ أي أنتم واردوها مع الأصنام. ويجوز أن يقال: الخطاب للأصنام وعبدتها؛ لأن الأصنام وإن كانت جمادات فقد يخبر عنها بكنايات الآدميين. وقال العلماء: لا يدخل في هذا عيسى ولا عزير ولا الملائكة صلوات الله عليهم؛ لأن "ما" لغير الآدميين. فلو أراد ذلك لقال: "ومن". قال الزجاج: ولأن المخاطبين بهذه الآية مشركو مكة دون غيرهم.
الآيتان: 99 - 100 {لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون، لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون}
قوله تعالى: "لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها" أي لو كانت الأصنام آلهة لما ورد عابدوها النار. وقيل: ما وردها العابدون والمعبودون؛ ولهذا قال: "وكل فيها خالدون".
قوله تعالى: "لهم فيها زفير" أي لهؤلاء الذين وردوا النار من الكفار والشياطين؛ فأما الأصنام فعلى الخلاف فيها؛ هل يحييها الله تعالى ويعذبها حتى يكون لها زفير أو لا؟ قولان: والزفير صوت نفس المغموم يخرج من القلب. وقد تقدم في "هود". "وهم فيها لا يسمعون" قيل: في الكلام حذف؛ والمعنى وهم فيها لا يسمعون شيئا؛ لأنهم يحشرون صما، كما قال الله تعالى: "ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما" [الإسراء: 97]. وفي سماع الأشياء روح وأنس، فمنع الله الكفار ذلك في النار. وقيل: لا يسمعون ما يسرهم، بل يسمعون صوت من يتولى تعذيبهم من الزبانية. وقيل: إذا قيل لهم "اخسؤوا فيها ولا تكلمون" [المؤمنون: 108] يصيرون حينئذ صما بكما؛ كما قال ابن مسعود: إذا بقي من يخلد في النار في جهنم جعلوا في توابيت من نار، ثم جعلت التوابيت في توابيت أخرى فيها مسامير من نار، فلا يسمعون شيئا، ولا يرى أحد منهم أن في النار من يعذب غيره.
الآيات: 101 - 103 {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون، لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون، لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون}
قوله تعالى: "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى" أي الجنة "أولئك عنها" أي عن النار. "مبعدون" فمعنى الكلام الاستثناء؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: "إن" ههنا بمعنى "إلا" وليس في القرآن غيره. وقال محمد بن حاطب: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقرأ هذه الآية على المنبر "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى" فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن عثمان منهم).
قوله تعالى: "لا يسمعون حسيسها" أي حس النار وحركة لهبها. والحسيس والحس الحركة. وروى ابن جريج عن عطاء قال قال أبو راشد الحروري لابن عباس: "لا يسمعون حسيسها" فقال ابن عباس: أمجنون أنت؟ فأين قوله تعالى: "وإن منكم إلا واردها" وقوله تعالى: "فأوردهم النار" [هود: 98] وقوله: "إلى جهنم وردا" [مريم: 86]. ولقد كان من دعاء من مضى: اللهم أخرجني من النار سالما، وأدخلني الجنة فائزا. وقال أبو عثمان النهدي: على الصراط حيات تلسع أهل النار فيقولون: حس حس. وقيل: إذا دخل أهل الجنة لم يسمعوا حس أهل النار وقبل ذلك يسمعون؛ فالله أعلم. "وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون" أي دائمون وهم فيما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. وقال "ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون" [فصلت: 31].
قوله تعالى: "لا يحزنهم الفزع الأكبر" وقرأ أبو جعفر وابن محيصن "لا يحزنهم" بضم الياء وكسر الزاي. الباقون بفتح الياء وضم الزاي. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بهما. والفزع الأكبر أهوال يوم القيامة والبعث؛ عن ابن عباس. وقال الحسن: هو وقت يؤمر بالعباد إلى النار. وقال ابن جريح وسعيد بن جبير والضحاك: هو إذا أطبقت النار على أهلها، وذبح الموت بين الجنة والنار وقال ذو النون المصري: هو القطيعة والفراق. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يوم القيامة في كثيب من المسك الأذفر ولا يحزنهم الفزع الأكبر رجل أم قوما محتسبا وهم له رضوان ورجل أذن لقوم محتسبا ورجل ابتلى برق الدنيا فلم يشغله عن طاعة ربه). وقال أبو سلمة بن عبدالرحمن: مررت برجل يضرب غلاما له، فأشار إليّ الغلام، فكلمت مولاه حتى عفا عنه؛ فلقيت أبا سعيد الخدري فأخبرته، فقال: يا ابن أخي من أغاث مكروبا أعتقه الله من النار يوم الفزع الأكبر) سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. "وتتلقاهم الملائكة" أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون لهم: "هذا يومكم الذي كنتم توعدون" وقيل: تستقبلهم ملائكة الرحمة عند خروجهم من القبور عن ابن عباس "هذا يومكم" أي ويقولون لهم؛ فحذف. "الذي كنتم توعدون" فيه الكرامة.