تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 334 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 334

334- تفسير الصفحة رقم334 من المصحف
الآية: 16 {وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد}
قوله تعالى: "وكذلك أنزلناه آيات بينات" يعني القرآن. "وأن الله" أي وكذلك أن الله "يهدي من يريد" علق وجود الهداية بإرادته؛ فهو الهادي لا هادي سواه.
الآية: 17 {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد}
قوله تعالى: "إن الذين آمنوا" أي بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم. "والذين هادوا" اليهود، وهم المنتسبون إلى ملة موسى عليه السلام. "والصابئين" هم قوم يعبدون النجوم. "والنصارى" هم المنتسبون إلى ملة عيسى. "والمجوس" هم عبدة النيران القائلين أن للعالم أصلين: نور وظلمة. قال قتادة: الأديان خمسة، أربعة للشيطان وواحد للرحمن. وقيل: المجوس في الأصل النجوس لتدينهم باستعمال النجاسات؛ والميم والنون يتعاقبان كالغيم والغين، والأيم والأين. وقد مضى في البقرة هذا كله مستوفى. "والذين أشركوا" هم العرب عبدة الأوثان. "إن الله يفصل بينهم يوم القيامة" أي يقضي ويحكم؛ فللكافرين النار، وللمؤمنين الجنة. وقيل: هذا الفصل بأن يعرفهم المحق من المبطل بمعرفة ضرورية، واليوم يتميز المحق عن المبطل بالنظر والاستدلال. "إن الله على كل شيء شهيد" أي من أعمال خلقه وحركاتهم وأقوالهم، فلا يعزب عنه شيء منها، سبحانه! وقوله "إن الله يفصل بينهم" خبر "إن" في قوله "إن الذين آمنوا" كما تقول: إن زيدا إن الخير عنده. وقال الفراء: ولا يجوز في الكلام إن زيدا إن أخاه منطلق؛ وزعم أنه إنما جاز في الآية لأن في الكلام معنى المجازاة؛ أي من آمن ومن تهود أو تنصر أو صبأ يفصل بينهم، وحسابهم على الله عز وجل. ورد أبو إسحاق على الفراء هذا القول، واستقبح قوله: لا يجوز إن زيدا إن أخاه منطلق؛ قال: لأنه لا فرق بين زيد وبين الذين، و"إن" تدخل على كل مبتدأ فتقول إن زيدا هو منطلق، ثم تأتي بإن فتقول: إن زيدا إنه منطلق. وقال الشاعر:
إن الخليفة إن الله سربله سربال عز به ترجى الخواتيم
الآية: 18 {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء}
قوله تعالى: "ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض" هذه رؤية القلب؛ أي ألم تر بقلبك وعقلك. وتقدم معنى السجود في "البقرة"، وسجود الجماد في "النحل". "والشمس" معطوفة على "من". وكذا "والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس". ثم قال: "وكثير حق عليه العذاب" وهذا مشكل من الإعراب، كيف لم ينصب ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل؛ مثل "والظالمين أعد لهم عذابا أليما"؟ [الإنسان: 31] فزعم الكسائي والفراء أنه لو نصب لكان حسنا، ولكن اختير الرفع لأن المعنى وكثير أبي السجود، فيكون ابتداء وخبرا، وتم الكلام عند قوله "وكثير من الناس". ويجوز أن يكون معطوفا، على أن يكون السجود التذلل والانقياد لتدبير الله عز وجل من ضعف وقوة وصحة وسقم وحسن وقبح، وهذا يدخل فيه كل شيء. ويجوز أن ينتصب على تقدير: وأهان كثيرا حق عليه العذاب، ونحوه. وقيل: تم الكلام عند قوله "والدواب" ثم ابتدأ فقال "وكثير من الناس" في الجنة "وكثير حق عليه العذاب". وكذا روي عن ابن عباس أنه قال: (المعنى وكثير من الناس في الجنة وكثير حق عليه العذاب)؛ ذكره ابن الأنباري. وقال أبو العالية: ما في السماوات نجم ولا قمر ولا شمس إلا يقع ساجدا لله حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيرجع من مطلعه). قال القشيري: وورد هذا في خبر مسند في حق الشمس؛ فهذا سجود حقيقي، ومن ضرورته تركيب الحياة والعقل في هذا الساجد.
قلت: الحديث المسند الذي أشار إليه خرجه مسلم، وسيأتي في سورة "يس" عند قوله تعالى: "والشمس تجري لمستقر لها" [يس: 38]. وقد تقدم في البقرة معنى السجود لغة ومعنى.
قوله تعالى: "ومن يهن الله فما له من مكرم" أي من أهانه بالشقاء والكفر لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه. وقال ابن عباس: (إن تهاون بعبادة الله صار إلى النار).
قوله تعالى: "إن الله يفعل ما يشاء" يريد أن مصيرهم إلى النار فلا اعتراض لأحد عليه. وحكى الأخفش والكسائي والفراء "ومن يهن الله فما له من مكرم" أي إكرام.
الآيات: 19 - 21 {هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم، يصهر به ما في بطونهم والجلود، ولهم مقامع من حديد}
قوله تعالى: "هذان خصمان اختصموا في ربهم" خرج مسلم عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر يقسم قسما إن "هذان خصمان اختصموا في ربهم" إنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة. وبهذا الحديث ختم مسلم رحمه الله كتابه. وقال ابن عباس: (نزلت هذه الآيات الثلاث على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة في ثلاثة نفر من المؤمنين وثلاثة نفر كافرين)، وسماهم، كما ذكر أبو ذر. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (إني لأول من يجثو للخصومة بين يدي الله يوم القيامة؛ يريد قصته في مبارزته هو وصاحباه)؛ ذكره البخاري. وإلى هذا القول ذهب هلال بن يساف وعطاء بن يسار وغيرهما. وقال عكرمة: المراد بالخصمين الجنة والنار؛ اختصمتا فقالت النار: خلقني لعقوبته. وقالت الجنة خلقني لرحمته.
قلت: وقد ورد بتخاصم الجنة والنار حديث عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتجت الجنة والنار فقالت هذه يدخلني الجبارون والمتكبرون وقالت هذه يدخلني الضعفاء والمساكين فقال الله تعالى لهذه أنت عذابي أعذب بك من أشاء وقال لهذه أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها). خرجه البخاري ومسلم والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وقال ابن عباس أيضا: (هم أهل الكتاب قالوا للمؤمنين نحن أولى بالله منكم، وأقدم منكم كتابا، ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون: نحن أحق بالله منكم، آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وبما أنزل إليه من كتاب، وأنتم تعرفون نبينا وتركتموه وكفرتم به حسدا؛ فكانت هذه خصومتهم)، وأنزلت فيهم هذه الآية. وهذا قول قتادة، والقول الأول أصح رواه البخاري عن حجاج بن منهال عن هشيم عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي ذر، ومسلم عن عمرو بن زرارة عن هشيم، ورواه سليمان التيمي عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن علي قال: فينا نزلت هذه الآية وفي مبارزتنا يوم بدر "هذان خصمان اختصموا في ربهم - إلى قوله - عذاب الحريق". وقرأ ابن كثير "هذان خصمان" بتشديد النون من "هذان". وتأول الفراء الخصمين على أنهما فريقان أهل دينين، وزعم أن الخصم الواحد المسلمون والآخر اليهود والنصارى، اختصموا في دين ربهم؛ قال: فقال "اختصموا" لأنهم جمع، قال: ولو قال "اختصما" لجاز. قال النحاس: وهذا تأويل من لا دراية له بالحديث ولا بكتب أهل التفسير؛ لأن الحديث في هذه الآية مشهور، رواه سفيان الثوري وغيره عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر يقسم قسما إن هذه الآية نزلت في حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة. وهكذا روى أبو عمرو بن العلاء عن مجاهد عن ابن عباس. وفيه قول رابع (أنهم المؤمنون كلهم والكافرون كلهم من أي ملة كانوا)؛ قاله مجاهد والحسن وعطاء بن أبي رباح وعاصم بن أبي النجود والكلبي. وهذا القول بالعموم يجمع المنزل فيهم وغيرهم. وقيل: نزلت في الخصومة في البعث والجزاء؛ إذ قال به قوم وأنكره قوم.
قوله تعالى: "فالذين كفروا" يعني من الفرق الذين تقدم ذكرهم. "قطعت لهم ثياب من نار" أي خيطت وسويت؛ وشبهت النار بالثياب لأنها لباس لهم كالثياب. وقوله "قطعت" أي تقطع لهم في الآخرة ثياب من نار؛ وذكر بلفظ الماضي لأن ما كان من أخبار الآخرة فالموعود منه كالواقع المحقق؛ قال الله تعالى: "وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس" [المائدة: 116] أي يقول الله تعالى. ويحتمل أن يقال قد أعدت الآن تلك الثياب لهم ليلبسوها إذا صاروا إلى النار. وقال سعيد بن جبير: "من نار" من نحاس؛ فتلك الثياب من نحاس قد أذيبت وهي السرابيل المذكورة في "قطران" [إبراهيم: 50] وليس في الآنية شيء إذا حمي يكون أشد حرا منه. وقيل: المعنى أن النار قد أحاطت بهم كإحاطة الثياب المقطوعة إذا لبسوها عليهم؛ فصارت من هذا الوجه ثيابا لأنها بالإحاطة كالثياب؛ مثل "وجعلنا الليل لباسا" [النبأ: 10]. "يصب من فوق رؤوسهم الحميم" أي الماء الحار المغلى بنار جهنم. وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان). قال: حديث حسن صحيح غريب. "يصهر" يذاب. "به ما في بطونهم" والصهر إذابة الشحم. والصهارة ما ذاب منه؛ يقال: صهرت الشيء فانصهر، أي أذبته فذاب، فهو صهير. قال ابن أحمر يصف فرخ قطاة:
تروي لقى ألقي في صفصف تصهره الشمس فما ينصهر
أي تذيبه الشمس فيصبر على ذلك. "والجلود" أي وتحرق الجلود، أو تشوى الجلود؛ فإن الجلود لا تذاب؛ ولكن يضم في كل شيء ما يليق به، فهو كما تقول: أتيته فأطعمني ثريدا، إي والله ولبنا قارصا؛ أي وسقاني لبنا. وقال الشاعر:
علفتها تبنا وماء باردا
"ولهم مقامع من حديد" أي يضربون بها ويدفعون؛ الواحدة مقمعة، ومقمع أيضا كالمحجن، يضرب به على رأس الفيل. وقد قمعته إذا ضربته بها. وقمعته وأقمعته بمعنى؛ أي قهرته وأذللته فانقمع. قال ابن السكيت: أقمعت الرجل عني إقماعا إذا طلع عليك فرددته عنك. وقيل: المقامع المطارق، وهي المرازب أيضا. وفي الحديث (بيد كل ملك من خزنة جهنم مرزبة لها شعبتان فيضرب الضربة فيهوي بها سبعين ألفا). وقيل: المقامع سياط من نار، وسميت بذلك لأنها تقمع المضروب، أي تذلله.
الآية: 22 {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق}
قوله تعالى: "كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم" أي من النار. "أعيدوا فيها" بالضرب بالمقامع. وقال أبو ظبيان: ذكر لنا أنهم يحاولون الخروج من النار حين تجيش بهم وتفور فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها فيريدون الخروج فتعيدهم الخزان إليها بالمقامع. وقيل: إذا اشتد غمهم فيها فروا؛ فمن خلص منهم إلى شفيرها أعادتهم الملائكة فيها بالمقامع، ويقولون لهم "وذوقوا عذاب الحريق" أي المحرق؛ مثل الأليم والوجيع. وقيل: الحريق الاسم من الاحتراق. تحرق الشيء بالنار واحترق، والاسم الحرقة والحريق. والذوق: مماسة يحصل معها إدراك الطعم؛ وهو هنا توسع، والمراد به إدراكهم الألم.
الآية: 23 {إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير}
قوله تعالى: "إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار" لما ذكر أحد الخصمين وهو الكافر ذكر حال الخصم الآخر وهو المؤمن. "يحلون فيها من أساور من ذهب" "من" صلة. والأساور جمع أسورة، وأسورة واحدها سوار؛ وفيه ثلاث لغات: ضم السين وكسرها وإسوار. قال المفسرون: لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور والتيجان جعل الله ذلك لأهل الجنة، وليس أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة: سوار من ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ. قال هنا وفي فاطر: "من أساور من ذهب ولؤلؤا" [فاطر: 33] وقال في سورة الإنسان: "وحلوا أساور من فضة" [الإنسان: 21]. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء). وقيل: تحلى النساء بالذهب والرجال بالفضة. وفيه نظر، والقرآن يرده. "ولؤلؤا" قرأ نافع وابن القعقاع وشيبة وعاصم هنا وفي سورة الملائكة "لؤلؤا" بالنصب، على معنى ويخلون لؤلؤا؛ واستدلوا بأنها مكتوبة في جميع المصاحف هنا بألف. وكذلك قرأ يعقوب والجحدري وعيسى بن عمر بالنصب هنا والخفض في "فاطر" اتباعا للمصحف، ولأنها كتبت ههنا بألف وهناك بغير ألف. الباقون بالخفض في الموضعين. وكان أبو بكر لا يهمز "اللولؤ" في كل القرآن؛ وهو ما يستخرج من البحر من جوف الصدف. قال القشيري: والمراد ترصيع السوار باللؤلؤ؛ ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤلؤ مصمت.
قلت: وهو ظاهر القرآن بل نصه. وقال ابن الأنباري: من قرأ "ولؤلؤ" بالخفض وقف عليه ولم يقف على الذهب. وقال السجستاني: من نصب "اللؤلؤ" فالوقف الكافي "من ذهب"؛ لأن المعنى ويحلون لؤلؤا. قال ابن الأنباري: وليس كما قال، لأنا إذا خفضنا "اللؤلؤ" نسقناه على لفظ الأساور، وإذا نصبناه نسقناه على تأويل الأساور، وكأنا قلنا: يحلون فيها أساور ولؤلؤا، فهو في النصب بمنزلته في الخفض، فلا معنى لقطعه من الأول.
قوله تعالى: "ولباسهم فيها حرير" أي وجميع ما يلبسونه من فرشهم ولباسهم وستورهم حرير، وهو أعلى مما في الدنيا بكثير. وروى النسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة ومن شرب في آنية الذهب والفضة لم يشرب فيها في الآخرة - ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لباس أهل الجنة وشراب أهل الجنة وآنية أهل الجنة). فإن قيل: قد سوى النبي صلى الله عليه وسلم بين هذه الأشياء الثلاثة وأنه يحرمها في الآخرة؛ فهل يحرمها إذا دخل الجنة؟ قلنا: نعم! إذا لم يتب منها حرمها في الآخرة وإن دخل الجنة؛ لاستعجاله ما حرم الله عليه في الدنيا. لا يقال: إنما يحرم ذلك في الوقت الذي يعذب في النار أو بطول مقامه في الموقف، فأما إذا دخل الجنة فلا؛ لأن حرمان شيء من لذات الجنة لمن كان في الجنة نوع عقوبة ومؤاخذة والجنة ليست بدار عقوبة، ولا مؤاخذة فيها بوجه. فإنا نقول: ما ذكرتموه محتمل، لولا ما جاء ما يدفع هذا الاحتمال ويرده من ظاهر الحديث الذي ذكرناه. وما رواه الأئمة من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم (من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة). والأصل التمسك بالظاهر حتى يرد نص يدفعه، بل قد ورد نص على صحة ما ذكرناه، وهو ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا هشام عن قتادة عن داود السراج عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو). وهذا نص صريح وإسناده صحيح. فإن كان (وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو) من قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو الغاية في البيان، وإن كان من كلام الراوي على ما ذكر فهو أعلى بالمقال وأقعد بالحال، ومثله لا يقال بالرأي، والله أعلم. وكذلك (من شرب الخمر ولم يتب) و(من استعمل آنية الذهب والفضة) وكما لا يشتهي منزلة من هو أرفع منه، وليس ذلك بعقوبة كذلك لا يشتهي خمر الجنة ولا حريرها ولا يكون ذلك عقوبة. وقد ذكرنا هذا كله في كتاب التذكرة مستوفى، والحمد لله، وذكرنا فيها أن شجر الجنة وثمارها يتفتق عن ثياب الجنة، وقد ذكرناه في سورة الكهف.