سورة الحج | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الطبري تفسير الصفحة 334 من المصحف
تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 334
335
333
الآية : 15 و16
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { مَن كَانَ يَظُنّ أَن لّن يَنصُرَهُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السّمَآءِ ثُمّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ وَأَنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ }.
اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيّ بـالهاء التـي فـي قوله: أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ.
فقال بعضهم: عُنِـي بها نبـي الله صلى الله عليه وسلم. فتأويـله علـى قوله بعض قائلـي ذلك: من كان من الناس يحسب أن لن ينصر الله مـحمدا فـي الدنـيا والاَخرة, فلـيـمدد بحبل وهو السبب إلـى السماء: يعنـي سماء البـيت, وهو سقـفه, ثم لـيقطع السبب بعد الاختناق به, فلـينظر هل يذهبن اختناقه ذلك وقطعه السبب بعد الاختناق ما يغيظ يقول: هل يذهبن ذلك ما يجد فـي صدره من الغيظ ذكر من قال ذلك:
18876ـ حدثنا نصر بن علـيّ, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي خالد بن قـيس, عن قَتادة: من كان يظن أن لن ينصر الله نبـيه ولا دينه ولا كتابه, فلـيـمدُدْ بسببٍ يقول: بحبل إلـى سماء البـيت فلـيختنق به, فَلْـيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ.
حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قَتادة: مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِـي الدّنـيا والاَخِرَةِ قال: من كان يظنّ أن لن ينصر الله نبـيه صلى الله عليه وسلم, فَلْـيَـمْدُدْ بِسَبَبٍ يقول: بحبل إلـى سماء البـيت, ثُمّ لـيْقْطَعْ يقول: ثم لـيختنق ثم لـينظر هل يذهبنّ كيده ما يغيظ.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال أخبرنا معمر, عن قَتادة, بنـحوه.
وقال آخرون مـمن قال الهاء فـي «ينصره» من ذكر اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم: السماء التـي ذكرت فـي هذا الـموضع هي السماء الـمعروفة. قالوا: معنى الكلام, ما:
18877ـ حدثنـي به يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِـي الدّنـيا والاَخِرَةِ فقرأ حتـى بلغ: هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ قال: من كان يظن أن لن ينصر الله نبـيه صلى الله عليه وسلم ويكابد هذا الأمر لـيقطعه عنه ومنه, فلـيقطع ذلك من أصله من حيث يأتـيه, فإن أصله فـي السماء, فلـيـمدد بسبب إلـى السماء, لـيقطع عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم الوحي الذي يأتـيه من الله, فإنه لا يكايده حتـى يقطع أصله عنه, فكايد ذلك حتـى قطع أصله عنه. فَلْـيَنْظُرْ هَلْ يُذهِبَنّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ما دخـلهم من ذلك وغاظهم الله به من نصرة النبـيّ صلى الله عليه وسلم وما ينزل علـيه.
وقال آخرون مـمن قال «الهاء» التـي فـي قوله: «يَنْصُرَهُ» من ذكر مـحمد صلى الله عليه وسلم معنى النصر ها هنا الرزق. فعلـى قول هؤلاء تأويـل الكلام: من كان يظنّ أن لن يرزق الله مـحمدا فـي الدنـيا, ولن يعطيه. وذكروا سماعا من العرب: من ينصرنـي نصره الله, بـمعنى: من يعطنـي أعطاه الله. وحكوا أيضا سماعا منهم: نصر الـمطر أرض كذا: إذا جادها وأحياها. واستشهد لذلك ببـيت الفقعسيّ:
وإنّكَ لا تُعْطِي امْرأً فَوْقَ حَظّهِوَلاَ تـمْلِكُ الشّقّ الّذي الغَيْثُ ناصِرُهُ
ذكر من قال ذلك:
18878ـ حدثنـي أبو كريب, قال: حدثنا ابن عطية, قال: حدثنا إسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عن التـميـمي, قال: قلت لابن عبـاس: أرأيت قوله: مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِـي الدّنـيا والاَخِرَةِ فَلْـيَـمْدُدْ بِسَبَبٍ إلـى السّماءِ ثُمّ لْـيَقْطَعْ فَلْـيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ؟ قال: من كان يظنّ أن لن ينصر الله مـحمدا, فلـيربط حبلاً فـي سقـف ثم لـيختنق به حتـى يـموت.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام عن عنبسة, عن أبـي إسحاق الهمدانـيّ, عن التـميـمّي, قال: سألت ابن عبـاس, عن قوله: مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ قال: أن لن يرزقه الله فـي الدنـيا والاَخرة, فَلْـيَـمْدُدْ بِسَبَبٍ إلـى السّماءِ والسبب: الـحَبْل, والسماء: سقـف البـيت فلـيعلق حبلاً فـي سماء البـيت ثم لـيختنق فَلْـيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ هذا الذي صنع ما يجد من الغيظ.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عمرو بن مطرف, عن أبـي إسحاق, عن رجل من بنـي تـميـم, عن ابن عبـاس, مثله.
18879ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي إسحاق, عن التـميـميّ, عن ابن عبـاس: مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِـي الدّنـيا والاَخِرَةِ فَلْـيَـمْدُدْ بِسَبَبٍ إلـى السّماءِ قال: سماء البـيت.
حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي إسحاق, قال: سمعت التـميـميّ, يقول: سألت ابن عبـاس, فذكر مثله.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِـي الدّنـيا والاَخِرَةِ... إلـى قوله: ما يَغِيظُ قال: السماء التـي أمر الله أن يـمد إلـيها بسبب سقـف البـيت أمر أن يـمد إلـيه بحبل فـيختنق به, قال: فلـينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ إذا اختنق إن خشي أن لا ينصره الله
وقال آخرون: الهاء فـي «ينصره» من ذكر «مَنْ». وقالوا: معنـي الكلام: من كان يظنّ أن لا يرزقه الله فـي الدنـيا والاَخرة, فلـيـمدد بسبب إلـى سماء البـيت ثم لـيختنق, فلـينظر هل يذهبن فعله ذلك ما يغيظ, أنه لا يرزق ذكر من قال ذلك:
18880ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ قال: يرزقه الله. فَلْـيَـمْدُدْ بِسَبَبٍ قال: بحبل إلـى السماءِ سماء ما فوقك. ثمّ لْـيَقْطَعْ لـيختنق, هل يذهبن كيده ذلك خنقه أن لا يرزق.
18881ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, فـي قوله: مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ يرزقه الله. فَلْـيَـمْدُدْ بِسَبَبٍ إلـى السّماءِ قال: بحبل إلـى السماء.
قال ابن جُرَيج, عن عطاء الـخراسانـي, عن ابن عبـاس, قال: إلـى السماءِ إلـى سماء البـيت. قال ابن جُرَيج: وقال مـجاهد: ثُمّ لْـيَقْطَعْ قال: لـيختنق, وذلك كيده ما يَغِيظُ قال: ذلك خنقه أن لا يرزقه الله.
18882ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فَلْـيَـمْدُدْ بِسَبَبٍ يعنـي: بحبل. إلـى السماءِ يعنـي: سماء البـيت.
18883ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, قال: أخبرنا أبو رجاء, قال: سُئل عكرِمة عن قوله: فَلْـيَـمْدُدْ بِسَبَبٍ إلـى السّماءِ قال: سماء البـيت. ثُمّ لْـيَثقْطَعْ قال: يختنق.
وأولـى ذلك بـالصواب عندي فـي تأويـل ذلك قول من قال: الهاء من ذكر نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم ودينه وذلك أن الله تعالـى ذكره ذكر قوما يعبدونه علـى حرف وأنهم يطمئنون بـالدين إن أصابوا خيرا فـي عبـادتهم إياه وأنهم يرتدّون عن دينهم لشدّة تصيبهم فـيها, ثم أتبع ذلك هذه الاَية فمعلوم أنه إنـما أتبعه إياها توبـيخا لهم علـى ارتدادهم عن الدين أو علـى شكهم فـيه نفـاقهم, استبطاء منهم السعة فـي العيش أو السبوغ فـي الرزق. وإذا كان الواجب أن يكون ذلك عقـيب الـخبر عن نفـاقهم, فمعنى الكلام إذن إذ كان ذلك كذلك: من كان يحسب أن لن يرزق الله مـحمدا صلى الله عليه وسلم وأمته فـي الدنـيا فـيوسع علـيهم من فضله فـيها, ويرزقهم فـي الاَخرة من سَنـيّ عطاياه وكرامته, استبطاء منه فعل الله ذلك به وبهم, فلـيـمدد بحبل إلـى سماء فوقه: إما سقـف بـيت, أو غيره مـما يعلق به السبب من فوقه, ثم يختنق إذا اغتاظ من بعض ما قضى الله فـاستعجل انكشاف ذلك عنه, فلـينظر هل يذهبنّ كيده اختناقه كذلك ما يغيظ؟ فإن لـم يذهب ذلك غيظه, حتـى يأتـي الله بـالفرج من عنده فـيذهبه, فكذلك استعجاله نصر الله مـحمدا ودينه لن يُؤَخّر ما قضى الله له من ذلك عن ميقاته ولا يعجّل قبل حينه. وقد ذكر أن هذه الاَية نزلت فـي أسد وغطفـان, تبـاطئوا عن الإسلام, وقالوا: نـخاف أن لا يُنصر مـحمد صلى الله عليه وسلم فـينقطع الذي بـيننا وبـين حلفـائنا من الـيهود فلا يـميروننا ولا يُرَوّوننا فقال الله تبـارك وتعالـى لهم: من استعجل من الله نصر مـحمد, فلـيـمدد بسبب إلـى السماء فلـيختنق فلـينظر استعجاله بذلك فـي نفسه هل هو مُذْهِبٌ غيظه؟ فكذلك استعجاله من الله نصر مـحمد غير مقدّم نصره قبل حينه.
واختلف أهل العربـية فـي «ما» التـي فـي قوله: ما يَغِيظُ فقال بعض نـحوّيـي البصرة هي بـمعنى «الذي», وقال: معنى الكلام: هل يذهبنّ كيده الذي يغيظه. قال: وحذفت الهاء لأنها صلة «الذي», لأنه إذا صارا جميعا اسما واحدا كان الـحذف أخفّ. وقال غيره: بل هو مصدر لا حاجة به إلـى الهاء, هل يذهبنّ كيده غيظه.
وقوله: وكَذلكَ أنْزَلْناهُ آياتٍ بَـيّناتٍ يقول تعالـى ذكره: وكما بـيّنت لكم حُجَجي علـى من جحد قدرتـي علـى إحياء من مات من الـخـلق بعد فنائه فأوضحتها أيها الناس, كذلك أنزلنا إلـىء نبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم هذا القرآن آيات بـيّنات, يعنـي دلالات واضحات, يهدين من أراد الله هدايته إلـى الـحقّ. وأنّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ يقول جلّ ثناؤه: ولأن الله يوفق للصواب ولسبـيـل الـحقّ من أراد, أنزل هذا القرآن آيات بـيّنات و «أنّ» فـي موضع نصب.
الآية : 17
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالصّابِئِينَ وَالنّصَارَىَ وَالْمَجُوسَ وَالّذِينَ أَشْرَكُوَاْ إِنّ اللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }.
يقول تعالـى ذكره: إن الفصل بـين هؤلاء الـمنافقـين الذين يعبدون الله علـى حرف, والذين أشركوا بـالله فعبدوا الأوثان والأصنام, والذين هادوا, وهم الـيهود والصابئين والنصارى والـمـجوس الذي عظموا النـيران وخدموها, وبـين الذين آمنوا بـالله ورسله إلـى الله, وسيفصل بـينهم يوم القـيامة بعدل من القضاء وفصله بـينهم إدخاله النار الأحزاب كلهم والـجنة الـمؤمنـين به وبرسله فذلك هو الفصل من الله بـينهم.
وكان قَتادة يقول فـي ذلك, ما:
18884ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, فـي قوله: إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هادُوا وَالصّابئِينَ والنّصَارَى والـمَـجُوسَ وَالّذِينَ أشْرَكُوا قال: الصابئون: قوم يعبدون الـملائكة, ويصلّون للقبلة, ويقرءون الزبور. والـمـجوس: يعبدون الشمس والقمر والنـيران. والذين أشركوا: يعبدون الأوثان. والأديان ستة: خمسة للشيطان, وواحد للرحمن.
وأدخـلت «إنّ» فـي خبر «إنّ» الأولـى لـما ذكرت من الـمعنى, وأن الكلام بـمعنى الـجزاء, كأنه قـيـل: من كان علـى دين من هذه الأديان ففصل ما بـينه وبـين من خالفه علـى الله. والعرب تدخـل أحيانا فـي خبر «إنّ» «إنّ» إذا كان خبر الاسم الأوّل فـي اسم مضاف إلـى ذكره, فتقول: إنّ عبد الله إنّ الـخير عنده لكثـير, كما قال الشاعر.
إنّ الـخَـلِـيفَةَ إنّ اللّهَ سَرْبَلَهُسِرْبـالَ مُلْكٍ بِهِ تُرْجَى الـخَوَاتِـيـمُ
وكان الفرّاء يقول: من قال هذا لـم يقل: إنك إنك قائم, ولا إن إياك إنه قائم لأن الاسمين قد اختلفـا, فحسن رفض الأوّل, وجعل الثانـي كأنه هو الـمبتدأ, فحسن للاختلاف وقبح للاتفـاق.
وقوله: إنّ اللّهَ عَلـى كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ يقول: إن الله علـى كل شيء من أعمال هؤلاء الأصناف الذين ذكرهم الله جلّ ثناؤه, وغير ذلك من الأشياء كلها شهيد لا يخفـى عنه شيء من ذلك.
الآية : 18
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ وَالشّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشّجَرُ وَالدّوَآبّ وَكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ وَكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن مّكْرِمٍ إِنّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: ألـم تر يا مـحمد بقلبك, فتعلـم أن الله يسجد له من فـي السموات من الـملائكة, ومن فـي الأرض من الـخـلق من الـجنّ وغيرهم, والشمس والقمر والنـجوم فـي السماء, والـجبـال, والشجر, والدوابّ فـي الأرض وسجود ذلك ظلاله حين تطلع علـيه الشمس وحين تزول إذا تـحوّل ظلّ كل شيء فهو سجوده. كما:
18885ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, قوله: ألَـمْ تَرَ أنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِـي الأرْضِ والشّمْسُ والقَمَرُ والنّـجُومُ والـجِبـالُ والشّجَرُ والدّوَابّ قال: ظلال هذا كله.
وأما سجود الشمس والقمر والنـجوم, فإنه كما:
18886ـ حدثنا به ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ ومـحمد بن جعفر, قالا: حدثنا عوف, قال: سمعت أبـا العالـية الرياحي يقول: ما فـي السماء نـجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع لله ساجدا حين يغيب, ثم لا ينصرف حتـى يؤذن له فـيأخذ ذات الـيـمين وزاد مـحمد: حتـى يرجع إلـى مطلعه.
وقوله: وكَثـيرٌ منَ النّاسِ يقول: ويسجد كثـير من بنـي آدم, وهم الـمؤمنون بـالله. كما:
18887ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: وكَثِـيرٌ مِنَ النّاسِ قال: الـمؤمنون.
وقوله: وكَثِـيرٌ حَقّ عَلَـيْهِ العَذَابُ يقول تعالـى ذكره: وكثـير من بنـي آدم حق علـيه عذاب الله فوجب علـيه بكفره به, وهو مع ذلك يسجد لله ظله. كما:
18888ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: وكَثِـيرٌ حَقّ عَلَـيْهِ العَذَابُ وهو يسجد مع ظله.
فعلـى هذا التأويـل الذي ذكرناه عن مـجاهد, وقع قوله: وكَثِـيرٌ حَقّ عَلَـيْهِ العَذَابُ بـالعطف علـى قوله: وكَثِـيرٌ مِنَ النّاسِ ويكون داخلاً فـي عداد من وصفه الله بـالسجود له, ويكون قوله: حَقّ عَلَـيْهِ العَذَابُ من صلة «كثـير», ولو كان «الكثـير» الثانـي مـمن لـم يدخـل فـي عداد من وصفه بـالسجود كان مرفوعا بـالعائد من ذكره فـي قوله: حَقّ عَلَـيْهِ العَذَابُ وكان معنى الكلام حينئذٍ: وكثـير أتـى السجود, لأن قوله: حَقّ عَلَـيْهِ العَذَابُ يدلّ علـى معصية الله وإبـائه السجود, فـاستـحقّ بذلك العذاب.
يقول تعالـى ذكره: ومن يهنه الله من خـلقه فَبُشْقِه, فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ بـالسعادة يسعده بها لأن الأمور كلها بـيد الله, يوفّق من يشاء لطاعته ويخذل من يشاء, ويُشقـي من أراد ويسعد من أحبّ.
وقوله: إنّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ يقول تعالـى ذكره: إن الله يفعل فـي خـلقه ما يشاء من إهانة من أراد إهانته وإكرام من أراد كرامته لأن الـخـلق خـلقه والأمر أمره. لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ. وقد ذُكر عن بعضهم أنه قرأه: «فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرَمٍ» بـمعنى: فما من إكرام, وذلك قراءة لا أستـجيز القراءة بها لإجماع الـحجة من القرّاء علـى خلافه.
الآية : 19 -22
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { هَـَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبّهِمْ فَالّذِينَ كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نّارِ يُصَبّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلّمَآ أَرَادُوَاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ }.
اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيّ بهذين الـخصمين اللذين ذكرهما الله, فقال بعضهم: أحد الفريقـين: أهل الإيـمان, والفريق الاَخر: عبدة الأوثان من مشركي قريش الذين تبـارزوا يوم بدر. ذكر من قال ذلك:
18889ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا أبو هاشم عن أبـي مـجاز, عن قـيس بن عبـادة قال: سمعت أبـا ذرّ يُقْسم قَسَما أن هذه الاَية: هَذَان خَصْمان اخْتَصَمُوا فِـي رَبّهِمْ نزلت فـي الذين بـارزوا يوم بدر: حمزة وعلـيّ وعبـيدة بن الـحارث, وعتبة وشيبة ابنـي ربـيعة والولـيد بن عتبة. قال: وقال علـيّ: إنـي لأوّل أو من أوّل من يجثو للـخصومة يوم القـيامة بـين يدي الله تبـارك وتعالـى.
حدثنا علـيّ بن سهل, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي هاشم, عن أبـي مـجاز, عن قـيس بن عبـاد, قال: سمعت أبـا ذرّ يقسم بـالله قسما لنزلت هذه الاَية فـي ستة من قريش: حمزة بن عبد الـمطلب وعلـيّ بن أبـي طالب وعبـيدة بن الـحارث رضي الله عنهم, وعتبة بن ربـيعة وشيبة بن ربـيعة والولـيد بن عتبة هَذَان خَصْمان اخْتَصَمُوا فـي رَبّهِمْ... إلـى آخر الاَية: إنّ اللّهَ يُدْخِـلُ الّذِينَ آمَنُوا وَعملُوا الصّالـحاتِ... إلـى آخر الاَية.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي هاشم, عن أبـي مـجاز, عن قـيس بن عبـاد, قال: سمعت أبـا ذرّ يقسم, ثم ذكر نـحوه.
18890ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مـحمد بن مـحبب, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور بن الـمعتـمر, عن هلال بن يساف, قال: نزلت هذه الاَية فـي الذين تبـارزوا يوم بدر: هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِـي رَبّهِمْ.
18891ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل, قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق, عن بعض أصحابه, عن عطاء بن يسار, قال: نزلت هؤلاء الاَيات: هَذَان خَصْمان اخْتَصَمُوا فِـي رَبّهِمْ فـي الذين تبـارزوا يوم بدر: حمزة وعلـي وعبـيدة بن الـحارث, وعتبة بن ربـيعة وشيبة بن ربـيعة والولـيد بن عتبة. إلـى قوله: وَهُدُوا إلـى صِرَاطِ الـحَمِيدِ.
18892ـ قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن أبـي هاشم, عن أبـي مُـجَلّز, عن قـيس بن عبـاد, قال: والله لأُنزلت هذه الاَية: هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِـي رَبّهِمْ فـي الذين خرج بعضهم إلـى بعض يوم بدر: حمزة وعلـيّ وعُبـيدة رحمة الله علـيهم, وشيبة وعتبة والولـيد بن عتبة.
وقال آخرون مـمن قال أحد الفرقـين فريق الإيـمان: بل الفريق الاَخر أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك:
18893ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِـي رَبّهِمْ قال: هم أهل الكتاب, قالوا للـمؤمنـين: نـحن أولـى بـالله, وأقدم منكم كتابـا, ونبـينا قبل نبـيكم. وقال الـمؤمنون: نـحن أحقّ بـالله, آمنا بـمـحمد صلى الله عليه وسلم, وآمنا بنبـيكم وبـما أنزل الله من كتاب, فأنتـم تعرفون كتابنا ونبـينا, ثم تركتـموه وكفرتـم به حسدا. وكان ذلك خصومتهم فـي ربهم.
وقال آخرون منهم: بل الفريق الاَخر الكفـار كلهم من أيّ ملة كانوا. ذكر من قال ذلك:
18894ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: حدثنا أبو تُـمَيـلة, عن أبـي حمزة, عن جابر, عن مـجاهد وعطاء بن أبـي رَياح وأبـي قَزَعة, عن الـحسين, قال: هم الكافرون والـمؤمنون اختصموا فـي ربهم.
18895ـ قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: مثل الكافر والـمؤمن قال ابن جُرَيج: خصومتهم التـي اختصموا فـي ربهم, خصومتهم فـي الدنـيا من أهل كل دين, يرون أنهم أولـى بـالله من غيرهم.
18896ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, قال: كان عاصم والكلبـي يقولان جميعا فـي: هَذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِـي رَبّهِمْ قال: أهل الشرك والإسلام حين اختصموا أيهم أفضل, قال: جعل الشرك ملة.
18897ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى. وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِـي رَبّهِمْ قال: مثل الـمؤمن والكافر اختصامهما فـي البعث.
وقال آخرون: الـخصمان اللذان ذكرهما الله فـي هذه الاَية: الـجنة والنار. ذكر من قال ذلك:
18898ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو تـميـلة, عن أبـي حمزة, عن جابر, عن عكرِمة: هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِـي رَبّهِمْ قال: هما الـجنة والنار اختصمتا, فقالت النار: خـلقنـي الله لعقوبته وقالت الـجنة: خـلقنـي الله لرحمته فقد قصّ الله علـيك من خبرهما ما تسمع.
وأولـى هذه الأقوال عندي بـالصواب وأشبهها بتأويـل الاَية, قول من قال: عُنـي بـالـخصمين جميع الكفـار من أيّ أصناف الكفر كانوا وجميع الـمؤمنـين. وإنـما قلت ذلك أولـى بـالصواب, لأنه تعالـى ذكره ذكر قبل ذلك صنفـين من خـلقه: أحدهما أهل طاعة له بـالسجود له, والاَخر: أهل معصية له, قد حقّ علـيه العذاب, فقال: ألَـمْ تَرَ أنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِـي الأرْضِ والشّمْسُ والقَمَرُ ثم قال: وكَثِـيرٌ مِنَ النّاسِ وكَثِـيرٌ حَقّ عَلَـيْهِ العَذَابُ, ثم أتبع ذلك صفة الصنفـين كلـيهما وما هو فـاعل بهما, فقال: فـالذين كَفرُوا قُطّعتْ لهُمْ ثـيابٌ منْ نارٍ وقال الله: إنّ اللّهَ يُدْخِـلُ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِـحاتِ جَنّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهارُ فكان بـيّنا بذلك أن ما بـين ذلك خبر عنهما.
فإن قال قائل: فما أنت قائل فـيـما رُوي عن أبـي ذرّ فـي قوله: إنّ ذَلكَ نزل فـي الذين بـارزوا يوم بدر؟ قـيـل: ذلك إن شاء الله كما رُوي عنه ولكن الاَية قد تنزل بسبب من الأسبـاب, ثم تكون عامة فـي كل ما كان نظير ذلك السبب. وهذه من تلك, وذلك أن الذين تبـارزوا إنـما كان أحد الفريقـين أهل شرك وكفر بـالله, والاَخر أهل إيـمان بـالله وطاعة له, فكل كافر فـي حكم فريق الشرك منهما فـي أنه لأهل الإيـمان خصم, وكذلك كل مؤمن فـي حكم فريق الإيـمان منهما فـي أنه لأهل الشرك خصم.
فتأويـل الكلام: هذان خصمان اختصموا فـي دين ربهم, واختصامهم فـي ذلك معاداة كل فريق منهما الفريق الاَخر ومـحاربته إياه علـى دينه.
وقوله: فـالّذِينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثِـيابٌ مِنْ نارٍ يقول تعالـى ذكره: فأما الكافر بـالله منهما فإنه يقطع له قميص من نـحاس من نار. كما:
18899ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: فـالّذِينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثِـيابٌ مِنْ نارٍ قال: الكافر قطعت له ثـياب من نار, والـمؤمن يدخـله الله جنات تـجري من تـحتها الأنهار.
18900ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد, فـي قوله: فـالّذِينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثِـيابٌ مِنْ نارٍ قال: ثـياب من نـحاس, ولـيس شيء من الاَنـية أحمى وأشد حرّا منه.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: الكفـار قطعت لهم ثـياب من نار, والـمؤمن يدخـل جنات تـجري من تـحتها الأنهار.
وقوله: يُصَبّ مِنْ فَوْقِ رؤسِهِمُ الـحَمِيـمُ يقول: يصبّ علـى رؤسهم ماء مُغْلًـي. كما:
18901ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا إبراهيـم بن إسحاق الطَالقانـي, قال: حدثنا ابن الـمبـارك, عن سعيد بن زيد, عن أبـي السّمْـح, عن ابن حجيرة, عن أبـي هريرة, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, قال: «إنّ الـحَمِيـمَ لَـيُصَبّ عَلـى رُؤُسِهِمْ, فَـيَنْفُذُ الـجُمْـجَمَةَ حتـى يَخْـلُصَ إلـى جَوْفِهِ, فَـيَسْلُتَ ما فِـي جَوْفِهِ حتـى يَبْلُغَ قَدَمَيْهِ, وَهِيَ الصّهْرُ, ثُمّ يُعادُ كَما كانَ».
حدثنـي مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا يعمر بن بشر, قال: حدثنا ابن الـمبـارك, قال: أخبرنا سعيد بن زيد, عن أبـي السمـح, عن ابن حجيرة, عن أبـي هريرة, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم بـمثله, إلا أنه قال: «فَـيَنْفُذُ الـجُمْـجُمَةَ حَى يَخْـلُصَ إلـى جَوْفِهِ فَـيَسْلُتَ مَا فـي جَوْفِهِ».
وكان بعضهم يزعم أن قوله: ولَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ من الـمؤخّر الذي معناه التقديـم, ويقول: وجه الكلام: فـالذين كفروا قطعت لهم ثـياب من نار ولهم مقامع من حديد يصبّ من فوق رؤسهم الـحميـم ويقول: إنـما وجب أن يكون ذلك كذلك, لأن الـملك يضربه بـالـمقمع من الـحديد حتـى يثقب رأسه, ثم يصبّ فـيه الـحميـم الذي انتهى حرّه فـيقطع بطنه. والـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا, يدلّ علـى خلاف ما قال هذا القائل وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الـحميـم إذا صبّ علـى رؤسهم نفذ الـجمـجمة حتـى يخـلص إلـى أجوافهم, وبذلك جاء تأويـل أهل التأويـل, ولو كانت الـمقامع قد تثقب رؤوسهم قبل صبّ الـحميـم علـيها, لـم يكن لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الـحَميـمَ يَنْفُذُ الـجُمْـجُمَةَ» معنى ولكن الأمر فـي ذلك بخلاف ما قال هذا القائل.
وقوله: يُصْهَرُ بِهِ ما فِـي بُطُونِهِمْ وَالـجُلُودُ يقول: يذاب بـالـحميـم الذي يصبّ من فوق رؤسهم ما فـي بطونهم من الشحوم, وتشوى جلودهم منه فتتساقط. والصهر: هو الإذابة, يقال منه: صهرت الألـية بـالنار: إذا أذبتها أصهرها صهرا ومنه قول الشاعر.
تَرْوِي لَقًـى أُلِقـيَ فـي صَفْصَفٍتَصْهَرُهُ الشّمْسُ وَلا يَنْصَهِرْ
ومنه قول الراجز:.
شَكّ السّفـافِـيدِ الشّوَاءَ الـمُصْطَهَرْ
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18902ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: يُصْهَرُ بِهِ قال: يُذاب إذابة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
قال ابن جُرَيج يُصْهَرُ بِهِ: قال: ما قطع لهم من العذاب.
18903ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة: يُصْهَرُ بِهِ ما فِـي بُطُونِهِمْ قال: يُذاب به ما فـي بطونهم.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله.
18904ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: فـالّذينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثـيابٌ منْ نارٍ... إلـى قوله: يُصْهَرُ بهِ ما فـي بُطُونِهِمْ والـجُلُودُ يقول: يسقون ما إذا دخـل بطونهم أذابها والـجلود مع البطون.
18905ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر وهارون بن عنترة, عن سعيد بن جبـير, قال: قال هارون: إذا عام أهل النار وقال جعفرٍ: إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم, فـيأكلون منها, فـاختلست جلود وجوههم, فلو أن مارّا مرّ بهم يعرفهم يعرف جلود وجوههم فـيها, ثم يصبّ علـيهم العطش, فـيستغيثوا, فـيُغاثوا بـماء كالـمُهل, وهو الذي قد انتهى حرّه, فإذا أدنوه من أفواههم انشوى من حرّه لـحوم وجوههم التـي قد سقطت عنها الـجلود و يُصْهَرُ بِهِ ما فِـي بُطُونِهمْ يعنـي أمعاءهم, وتساقط جلودهم, ثم يضربون بـمقامع من حديد, فـيسقط كل عضو علـى حاله, يدعون بـالويـل والثبور.
وقوله: ولَهُمْ مَقامعُ مِنْ حَدِيدٍ تضرب رؤسهم بها الـخزنة إذا أرادوا الـخروج من النار حتـى ترجعهم إلـيها.
وقوله: كُلّـما أرَادُوا أنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمّ أُعِيدُوا فِـيها يقول: كلـما أراد هؤلاء الكفـار الذين وصف الله صفتهم الـخروج من النار مـما نالهم من الغمّ والكرب, ردّوا إلـيها. كما:
18906ـ حدثنا مـجاهد بن موسى, قال: حدثنا جعفر بن عون, قال: أخبرنا الأعمش, عن أبـي ظبـيان, قال: النار سوداء مظلـمة لا يضيء لهبها ولا جمرها, ثم قرأ: كُلّـما أرَادُوا أنْ يَخْرُجُوا مِنها مِنْ غَمّ أُعِيدُوا فِـيها وقد ذكر أنهم يحاولون الـخروج من النار حين تـجيش جهنـم فتلقـي من فـيها إلـى أعلـى أبوابها, فـيريدون الـخروج فتعيدهم الـخزان فـيها بـالـمقامع, ويقولون لهم إذا ضربوهم بـالـمقامع: ذُوقُوا عَذَابَ الـحَرِيق.
وعنـي بقوله: ذُوقُوا عَذَابَ الـخَرِيق ويقال لهم ذوقوا عذاب النار, وقـيـل عذاب الـحريق والـمعنى: الـمـحرق, كما قـيـل: العذاب الألـيـم, بـمعنى: الـمؤلـم
335
333
الآية : 15 و16
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { مَن كَانَ يَظُنّ أَن لّن يَنصُرَهُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السّمَآءِ ثُمّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ وَأَنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ }.
اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيّ بـالهاء التـي فـي قوله: أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ.
فقال بعضهم: عُنِـي بها نبـي الله صلى الله عليه وسلم. فتأويـله علـى قوله بعض قائلـي ذلك: من كان من الناس يحسب أن لن ينصر الله مـحمدا فـي الدنـيا والاَخرة, فلـيـمدد بحبل وهو السبب إلـى السماء: يعنـي سماء البـيت, وهو سقـفه, ثم لـيقطع السبب بعد الاختناق به, فلـينظر هل يذهبن اختناقه ذلك وقطعه السبب بعد الاختناق ما يغيظ يقول: هل يذهبن ذلك ما يجد فـي صدره من الغيظ ذكر من قال ذلك:
18876ـ حدثنا نصر بن علـيّ, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي خالد بن قـيس, عن قَتادة: من كان يظن أن لن ينصر الله نبـيه ولا دينه ولا كتابه, فلـيـمدُدْ بسببٍ يقول: بحبل إلـى سماء البـيت فلـيختنق به, فَلْـيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ.
حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قَتادة: مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِـي الدّنـيا والاَخِرَةِ قال: من كان يظنّ أن لن ينصر الله نبـيه صلى الله عليه وسلم, فَلْـيَـمْدُدْ بِسَبَبٍ يقول: بحبل إلـى سماء البـيت, ثُمّ لـيْقْطَعْ يقول: ثم لـيختنق ثم لـينظر هل يذهبنّ كيده ما يغيظ.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال أخبرنا معمر, عن قَتادة, بنـحوه.
وقال آخرون مـمن قال الهاء فـي «ينصره» من ذكر اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم: السماء التـي ذكرت فـي هذا الـموضع هي السماء الـمعروفة. قالوا: معنى الكلام, ما:
18877ـ حدثنـي به يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِـي الدّنـيا والاَخِرَةِ فقرأ حتـى بلغ: هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ قال: من كان يظن أن لن ينصر الله نبـيه صلى الله عليه وسلم ويكابد هذا الأمر لـيقطعه عنه ومنه, فلـيقطع ذلك من أصله من حيث يأتـيه, فإن أصله فـي السماء, فلـيـمدد بسبب إلـى السماء, لـيقطع عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم الوحي الذي يأتـيه من الله, فإنه لا يكايده حتـى يقطع أصله عنه, فكايد ذلك حتـى قطع أصله عنه. فَلْـيَنْظُرْ هَلْ يُذهِبَنّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ما دخـلهم من ذلك وغاظهم الله به من نصرة النبـيّ صلى الله عليه وسلم وما ينزل علـيه.
وقال آخرون مـمن قال «الهاء» التـي فـي قوله: «يَنْصُرَهُ» من ذكر مـحمد صلى الله عليه وسلم معنى النصر ها هنا الرزق. فعلـى قول هؤلاء تأويـل الكلام: من كان يظنّ أن لن يرزق الله مـحمدا فـي الدنـيا, ولن يعطيه. وذكروا سماعا من العرب: من ينصرنـي نصره الله, بـمعنى: من يعطنـي أعطاه الله. وحكوا أيضا سماعا منهم: نصر الـمطر أرض كذا: إذا جادها وأحياها. واستشهد لذلك ببـيت الفقعسيّ:
وإنّكَ لا تُعْطِي امْرأً فَوْقَ حَظّهِوَلاَ تـمْلِكُ الشّقّ الّذي الغَيْثُ ناصِرُهُ
ذكر من قال ذلك:
18878ـ حدثنـي أبو كريب, قال: حدثنا ابن عطية, قال: حدثنا إسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عن التـميـمي, قال: قلت لابن عبـاس: أرأيت قوله: مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِـي الدّنـيا والاَخِرَةِ فَلْـيَـمْدُدْ بِسَبَبٍ إلـى السّماءِ ثُمّ لْـيَقْطَعْ فَلْـيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ؟ قال: من كان يظنّ أن لن ينصر الله مـحمدا, فلـيربط حبلاً فـي سقـف ثم لـيختنق به حتـى يـموت.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام عن عنبسة, عن أبـي إسحاق الهمدانـيّ, عن التـميـمّي, قال: سألت ابن عبـاس, عن قوله: مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ قال: أن لن يرزقه الله فـي الدنـيا والاَخرة, فَلْـيَـمْدُدْ بِسَبَبٍ إلـى السّماءِ والسبب: الـحَبْل, والسماء: سقـف البـيت فلـيعلق حبلاً فـي سماء البـيت ثم لـيختنق فَلْـيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ هذا الذي صنع ما يجد من الغيظ.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عمرو بن مطرف, عن أبـي إسحاق, عن رجل من بنـي تـميـم, عن ابن عبـاس, مثله.
18879ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي إسحاق, عن التـميـميّ, عن ابن عبـاس: مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِـي الدّنـيا والاَخِرَةِ فَلْـيَـمْدُدْ بِسَبَبٍ إلـى السّماءِ قال: سماء البـيت.
حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي إسحاق, قال: سمعت التـميـميّ, يقول: سألت ابن عبـاس, فذكر مثله.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِـي الدّنـيا والاَخِرَةِ... إلـى قوله: ما يَغِيظُ قال: السماء التـي أمر الله أن يـمد إلـيها بسبب سقـف البـيت أمر أن يـمد إلـيه بحبل فـيختنق به, قال: فلـينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ إذا اختنق إن خشي أن لا ينصره الله
وقال آخرون: الهاء فـي «ينصره» من ذكر «مَنْ». وقالوا: معنـي الكلام: من كان يظنّ أن لا يرزقه الله فـي الدنـيا والاَخرة, فلـيـمدد بسبب إلـى سماء البـيت ثم لـيختنق, فلـينظر هل يذهبن فعله ذلك ما يغيظ, أنه لا يرزق ذكر من قال ذلك:
18880ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ قال: يرزقه الله. فَلْـيَـمْدُدْ بِسَبَبٍ قال: بحبل إلـى السماءِ سماء ما فوقك. ثمّ لْـيَقْطَعْ لـيختنق, هل يذهبن كيده ذلك خنقه أن لا يرزق.
18881ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, فـي قوله: مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ يرزقه الله. فَلْـيَـمْدُدْ بِسَبَبٍ إلـى السّماءِ قال: بحبل إلـى السماء.
قال ابن جُرَيج, عن عطاء الـخراسانـي, عن ابن عبـاس, قال: إلـى السماءِ إلـى سماء البـيت. قال ابن جُرَيج: وقال مـجاهد: ثُمّ لْـيَقْطَعْ قال: لـيختنق, وذلك كيده ما يَغِيظُ قال: ذلك خنقه أن لا يرزقه الله.
18882ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فَلْـيَـمْدُدْ بِسَبَبٍ يعنـي: بحبل. إلـى السماءِ يعنـي: سماء البـيت.
18883ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, قال: أخبرنا أبو رجاء, قال: سُئل عكرِمة عن قوله: فَلْـيَـمْدُدْ بِسَبَبٍ إلـى السّماءِ قال: سماء البـيت. ثُمّ لْـيَثقْطَعْ قال: يختنق.
وأولـى ذلك بـالصواب عندي فـي تأويـل ذلك قول من قال: الهاء من ذكر نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم ودينه وذلك أن الله تعالـى ذكره ذكر قوما يعبدونه علـى حرف وأنهم يطمئنون بـالدين إن أصابوا خيرا فـي عبـادتهم إياه وأنهم يرتدّون عن دينهم لشدّة تصيبهم فـيها, ثم أتبع ذلك هذه الاَية فمعلوم أنه إنـما أتبعه إياها توبـيخا لهم علـى ارتدادهم عن الدين أو علـى شكهم فـيه نفـاقهم, استبطاء منهم السعة فـي العيش أو السبوغ فـي الرزق. وإذا كان الواجب أن يكون ذلك عقـيب الـخبر عن نفـاقهم, فمعنى الكلام إذن إذ كان ذلك كذلك: من كان يحسب أن لن يرزق الله مـحمدا صلى الله عليه وسلم وأمته فـي الدنـيا فـيوسع علـيهم من فضله فـيها, ويرزقهم فـي الاَخرة من سَنـيّ عطاياه وكرامته, استبطاء منه فعل الله ذلك به وبهم, فلـيـمدد بحبل إلـى سماء فوقه: إما سقـف بـيت, أو غيره مـما يعلق به السبب من فوقه, ثم يختنق إذا اغتاظ من بعض ما قضى الله فـاستعجل انكشاف ذلك عنه, فلـينظر هل يذهبنّ كيده اختناقه كذلك ما يغيظ؟ فإن لـم يذهب ذلك غيظه, حتـى يأتـي الله بـالفرج من عنده فـيذهبه, فكذلك استعجاله نصر الله مـحمدا ودينه لن يُؤَخّر ما قضى الله له من ذلك عن ميقاته ولا يعجّل قبل حينه. وقد ذكر أن هذه الاَية نزلت فـي أسد وغطفـان, تبـاطئوا عن الإسلام, وقالوا: نـخاف أن لا يُنصر مـحمد صلى الله عليه وسلم فـينقطع الذي بـيننا وبـين حلفـائنا من الـيهود فلا يـميروننا ولا يُرَوّوننا فقال الله تبـارك وتعالـى لهم: من استعجل من الله نصر مـحمد, فلـيـمدد بسبب إلـى السماء فلـيختنق فلـينظر استعجاله بذلك فـي نفسه هل هو مُذْهِبٌ غيظه؟ فكذلك استعجاله من الله نصر مـحمد غير مقدّم نصره قبل حينه.
واختلف أهل العربـية فـي «ما» التـي فـي قوله: ما يَغِيظُ فقال بعض نـحوّيـي البصرة هي بـمعنى «الذي», وقال: معنى الكلام: هل يذهبنّ كيده الذي يغيظه. قال: وحذفت الهاء لأنها صلة «الذي», لأنه إذا صارا جميعا اسما واحدا كان الـحذف أخفّ. وقال غيره: بل هو مصدر لا حاجة به إلـى الهاء, هل يذهبنّ كيده غيظه.
وقوله: وكَذلكَ أنْزَلْناهُ آياتٍ بَـيّناتٍ يقول تعالـى ذكره: وكما بـيّنت لكم حُجَجي علـى من جحد قدرتـي علـى إحياء من مات من الـخـلق بعد فنائه فأوضحتها أيها الناس, كذلك أنزلنا إلـىء نبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم هذا القرآن آيات بـيّنات, يعنـي دلالات واضحات, يهدين من أراد الله هدايته إلـى الـحقّ. وأنّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ يقول جلّ ثناؤه: ولأن الله يوفق للصواب ولسبـيـل الـحقّ من أراد, أنزل هذا القرآن آيات بـيّنات و «أنّ» فـي موضع نصب.
الآية : 17
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالصّابِئِينَ وَالنّصَارَىَ وَالْمَجُوسَ وَالّذِينَ أَشْرَكُوَاْ إِنّ اللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }.
يقول تعالـى ذكره: إن الفصل بـين هؤلاء الـمنافقـين الذين يعبدون الله علـى حرف, والذين أشركوا بـالله فعبدوا الأوثان والأصنام, والذين هادوا, وهم الـيهود والصابئين والنصارى والـمـجوس الذي عظموا النـيران وخدموها, وبـين الذين آمنوا بـالله ورسله إلـى الله, وسيفصل بـينهم يوم القـيامة بعدل من القضاء وفصله بـينهم إدخاله النار الأحزاب كلهم والـجنة الـمؤمنـين به وبرسله فذلك هو الفصل من الله بـينهم.
وكان قَتادة يقول فـي ذلك, ما:
18884ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, فـي قوله: إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هادُوا وَالصّابئِينَ والنّصَارَى والـمَـجُوسَ وَالّذِينَ أشْرَكُوا قال: الصابئون: قوم يعبدون الـملائكة, ويصلّون للقبلة, ويقرءون الزبور. والـمـجوس: يعبدون الشمس والقمر والنـيران. والذين أشركوا: يعبدون الأوثان. والأديان ستة: خمسة للشيطان, وواحد للرحمن.
وأدخـلت «إنّ» فـي خبر «إنّ» الأولـى لـما ذكرت من الـمعنى, وأن الكلام بـمعنى الـجزاء, كأنه قـيـل: من كان علـى دين من هذه الأديان ففصل ما بـينه وبـين من خالفه علـى الله. والعرب تدخـل أحيانا فـي خبر «إنّ» «إنّ» إذا كان خبر الاسم الأوّل فـي اسم مضاف إلـى ذكره, فتقول: إنّ عبد الله إنّ الـخير عنده لكثـير, كما قال الشاعر.
إنّ الـخَـلِـيفَةَ إنّ اللّهَ سَرْبَلَهُسِرْبـالَ مُلْكٍ بِهِ تُرْجَى الـخَوَاتِـيـمُ
وكان الفرّاء يقول: من قال هذا لـم يقل: إنك إنك قائم, ولا إن إياك إنه قائم لأن الاسمين قد اختلفـا, فحسن رفض الأوّل, وجعل الثانـي كأنه هو الـمبتدأ, فحسن للاختلاف وقبح للاتفـاق.
وقوله: إنّ اللّهَ عَلـى كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ يقول: إن الله علـى كل شيء من أعمال هؤلاء الأصناف الذين ذكرهم الله جلّ ثناؤه, وغير ذلك من الأشياء كلها شهيد لا يخفـى عنه شيء من ذلك.
الآية : 18
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ وَالشّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشّجَرُ وَالدّوَآبّ وَكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ وَكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن مّكْرِمٍ إِنّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: ألـم تر يا مـحمد بقلبك, فتعلـم أن الله يسجد له من فـي السموات من الـملائكة, ومن فـي الأرض من الـخـلق من الـجنّ وغيرهم, والشمس والقمر والنـجوم فـي السماء, والـجبـال, والشجر, والدوابّ فـي الأرض وسجود ذلك ظلاله حين تطلع علـيه الشمس وحين تزول إذا تـحوّل ظلّ كل شيء فهو سجوده. كما:
18885ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, قوله: ألَـمْ تَرَ أنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِـي الأرْضِ والشّمْسُ والقَمَرُ والنّـجُومُ والـجِبـالُ والشّجَرُ والدّوَابّ قال: ظلال هذا كله.
وأما سجود الشمس والقمر والنـجوم, فإنه كما:
18886ـ حدثنا به ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ ومـحمد بن جعفر, قالا: حدثنا عوف, قال: سمعت أبـا العالـية الرياحي يقول: ما فـي السماء نـجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع لله ساجدا حين يغيب, ثم لا ينصرف حتـى يؤذن له فـيأخذ ذات الـيـمين وزاد مـحمد: حتـى يرجع إلـى مطلعه.
وقوله: وكَثـيرٌ منَ النّاسِ يقول: ويسجد كثـير من بنـي آدم, وهم الـمؤمنون بـالله. كما:
18887ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: وكَثِـيرٌ مِنَ النّاسِ قال: الـمؤمنون.
وقوله: وكَثِـيرٌ حَقّ عَلَـيْهِ العَذَابُ يقول تعالـى ذكره: وكثـير من بنـي آدم حق علـيه عذاب الله فوجب علـيه بكفره به, وهو مع ذلك يسجد لله ظله. كما:
18888ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: وكَثِـيرٌ حَقّ عَلَـيْهِ العَذَابُ وهو يسجد مع ظله.
فعلـى هذا التأويـل الذي ذكرناه عن مـجاهد, وقع قوله: وكَثِـيرٌ حَقّ عَلَـيْهِ العَذَابُ بـالعطف علـى قوله: وكَثِـيرٌ مِنَ النّاسِ ويكون داخلاً فـي عداد من وصفه الله بـالسجود له, ويكون قوله: حَقّ عَلَـيْهِ العَذَابُ من صلة «كثـير», ولو كان «الكثـير» الثانـي مـمن لـم يدخـل فـي عداد من وصفه بـالسجود كان مرفوعا بـالعائد من ذكره فـي قوله: حَقّ عَلَـيْهِ العَذَابُ وكان معنى الكلام حينئذٍ: وكثـير أتـى السجود, لأن قوله: حَقّ عَلَـيْهِ العَذَابُ يدلّ علـى معصية الله وإبـائه السجود, فـاستـحقّ بذلك العذاب.
يقول تعالـى ذكره: ومن يهنه الله من خـلقه فَبُشْقِه, فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ بـالسعادة يسعده بها لأن الأمور كلها بـيد الله, يوفّق من يشاء لطاعته ويخذل من يشاء, ويُشقـي من أراد ويسعد من أحبّ.
وقوله: إنّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ يقول تعالـى ذكره: إن الله يفعل فـي خـلقه ما يشاء من إهانة من أراد إهانته وإكرام من أراد كرامته لأن الـخـلق خـلقه والأمر أمره. لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ. وقد ذُكر عن بعضهم أنه قرأه: «فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرَمٍ» بـمعنى: فما من إكرام, وذلك قراءة لا أستـجيز القراءة بها لإجماع الـحجة من القرّاء علـى خلافه.
الآية : 19 -22
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { هَـَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبّهِمْ فَالّذِينَ كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نّارِ يُصَبّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلّمَآ أَرَادُوَاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ }.
اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيّ بهذين الـخصمين اللذين ذكرهما الله, فقال بعضهم: أحد الفريقـين: أهل الإيـمان, والفريق الاَخر: عبدة الأوثان من مشركي قريش الذين تبـارزوا يوم بدر. ذكر من قال ذلك:
18889ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا أبو هاشم عن أبـي مـجاز, عن قـيس بن عبـادة قال: سمعت أبـا ذرّ يُقْسم قَسَما أن هذه الاَية: هَذَان خَصْمان اخْتَصَمُوا فِـي رَبّهِمْ نزلت فـي الذين بـارزوا يوم بدر: حمزة وعلـيّ وعبـيدة بن الـحارث, وعتبة وشيبة ابنـي ربـيعة والولـيد بن عتبة. قال: وقال علـيّ: إنـي لأوّل أو من أوّل من يجثو للـخصومة يوم القـيامة بـين يدي الله تبـارك وتعالـى.
حدثنا علـيّ بن سهل, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي هاشم, عن أبـي مـجاز, عن قـيس بن عبـاد, قال: سمعت أبـا ذرّ يقسم بـالله قسما لنزلت هذه الاَية فـي ستة من قريش: حمزة بن عبد الـمطلب وعلـيّ بن أبـي طالب وعبـيدة بن الـحارث رضي الله عنهم, وعتبة بن ربـيعة وشيبة بن ربـيعة والولـيد بن عتبة هَذَان خَصْمان اخْتَصَمُوا فـي رَبّهِمْ... إلـى آخر الاَية: إنّ اللّهَ يُدْخِـلُ الّذِينَ آمَنُوا وَعملُوا الصّالـحاتِ... إلـى آخر الاَية.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي هاشم, عن أبـي مـجاز, عن قـيس بن عبـاد, قال: سمعت أبـا ذرّ يقسم, ثم ذكر نـحوه.
18890ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مـحمد بن مـحبب, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور بن الـمعتـمر, عن هلال بن يساف, قال: نزلت هذه الاَية فـي الذين تبـارزوا يوم بدر: هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِـي رَبّهِمْ.
18891ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل, قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق, عن بعض أصحابه, عن عطاء بن يسار, قال: نزلت هؤلاء الاَيات: هَذَان خَصْمان اخْتَصَمُوا فِـي رَبّهِمْ فـي الذين تبـارزوا يوم بدر: حمزة وعلـي وعبـيدة بن الـحارث, وعتبة بن ربـيعة وشيبة بن ربـيعة والولـيد بن عتبة. إلـى قوله: وَهُدُوا إلـى صِرَاطِ الـحَمِيدِ.
18892ـ قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن أبـي هاشم, عن أبـي مُـجَلّز, عن قـيس بن عبـاد, قال: والله لأُنزلت هذه الاَية: هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِـي رَبّهِمْ فـي الذين خرج بعضهم إلـى بعض يوم بدر: حمزة وعلـيّ وعُبـيدة رحمة الله علـيهم, وشيبة وعتبة والولـيد بن عتبة.
وقال آخرون مـمن قال أحد الفرقـين فريق الإيـمان: بل الفريق الاَخر أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك:
18893ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِـي رَبّهِمْ قال: هم أهل الكتاب, قالوا للـمؤمنـين: نـحن أولـى بـالله, وأقدم منكم كتابـا, ونبـينا قبل نبـيكم. وقال الـمؤمنون: نـحن أحقّ بـالله, آمنا بـمـحمد صلى الله عليه وسلم, وآمنا بنبـيكم وبـما أنزل الله من كتاب, فأنتـم تعرفون كتابنا ونبـينا, ثم تركتـموه وكفرتـم به حسدا. وكان ذلك خصومتهم فـي ربهم.
وقال آخرون منهم: بل الفريق الاَخر الكفـار كلهم من أيّ ملة كانوا. ذكر من قال ذلك:
18894ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: حدثنا أبو تُـمَيـلة, عن أبـي حمزة, عن جابر, عن مـجاهد وعطاء بن أبـي رَياح وأبـي قَزَعة, عن الـحسين, قال: هم الكافرون والـمؤمنون اختصموا فـي ربهم.
18895ـ قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: مثل الكافر والـمؤمن قال ابن جُرَيج: خصومتهم التـي اختصموا فـي ربهم, خصومتهم فـي الدنـيا من أهل كل دين, يرون أنهم أولـى بـالله من غيرهم.
18896ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, قال: كان عاصم والكلبـي يقولان جميعا فـي: هَذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِـي رَبّهِمْ قال: أهل الشرك والإسلام حين اختصموا أيهم أفضل, قال: جعل الشرك ملة.
18897ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى. وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِـي رَبّهِمْ قال: مثل الـمؤمن والكافر اختصامهما فـي البعث.
وقال آخرون: الـخصمان اللذان ذكرهما الله فـي هذه الاَية: الـجنة والنار. ذكر من قال ذلك:
18898ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو تـميـلة, عن أبـي حمزة, عن جابر, عن عكرِمة: هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِـي رَبّهِمْ قال: هما الـجنة والنار اختصمتا, فقالت النار: خـلقنـي الله لعقوبته وقالت الـجنة: خـلقنـي الله لرحمته فقد قصّ الله علـيك من خبرهما ما تسمع.
وأولـى هذه الأقوال عندي بـالصواب وأشبهها بتأويـل الاَية, قول من قال: عُنـي بـالـخصمين جميع الكفـار من أيّ أصناف الكفر كانوا وجميع الـمؤمنـين. وإنـما قلت ذلك أولـى بـالصواب, لأنه تعالـى ذكره ذكر قبل ذلك صنفـين من خـلقه: أحدهما أهل طاعة له بـالسجود له, والاَخر: أهل معصية له, قد حقّ علـيه العذاب, فقال: ألَـمْ تَرَ أنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِـي الأرْضِ والشّمْسُ والقَمَرُ ثم قال: وكَثِـيرٌ مِنَ النّاسِ وكَثِـيرٌ حَقّ عَلَـيْهِ العَذَابُ, ثم أتبع ذلك صفة الصنفـين كلـيهما وما هو فـاعل بهما, فقال: فـالذين كَفرُوا قُطّعتْ لهُمْ ثـيابٌ منْ نارٍ وقال الله: إنّ اللّهَ يُدْخِـلُ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِـحاتِ جَنّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهارُ فكان بـيّنا بذلك أن ما بـين ذلك خبر عنهما.
فإن قال قائل: فما أنت قائل فـيـما رُوي عن أبـي ذرّ فـي قوله: إنّ ذَلكَ نزل فـي الذين بـارزوا يوم بدر؟ قـيـل: ذلك إن شاء الله كما رُوي عنه ولكن الاَية قد تنزل بسبب من الأسبـاب, ثم تكون عامة فـي كل ما كان نظير ذلك السبب. وهذه من تلك, وذلك أن الذين تبـارزوا إنـما كان أحد الفريقـين أهل شرك وكفر بـالله, والاَخر أهل إيـمان بـالله وطاعة له, فكل كافر فـي حكم فريق الشرك منهما فـي أنه لأهل الإيـمان خصم, وكذلك كل مؤمن فـي حكم فريق الإيـمان منهما فـي أنه لأهل الشرك خصم.
فتأويـل الكلام: هذان خصمان اختصموا فـي دين ربهم, واختصامهم فـي ذلك معاداة كل فريق منهما الفريق الاَخر ومـحاربته إياه علـى دينه.
وقوله: فـالّذِينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثِـيابٌ مِنْ نارٍ يقول تعالـى ذكره: فأما الكافر بـالله منهما فإنه يقطع له قميص من نـحاس من نار. كما:
18899ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: فـالّذِينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثِـيابٌ مِنْ نارٍ قال: الكافر قطعت له ثـياب من نار, والـمؤمن يدخـله الله جنات تـجري من تـحتها الأنهار.
18900ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد, فـي قوله: فـالّذِينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثِـيابٌ مِنْ نارٍ قال: ثـياب من نـحاس, ولـيس شيء من الاَنـية أحمى وأشد حرّا منه.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: الكفـار قطعت لهم ثـياب من نار, والـمؤمن يدخـل جنات تـجري من تـحتها الأنهار.
وقوله: يُصَبّ مِنْ فَوْقِ رؤسِهِمُ الـحَمِيـمُ يقول: يصبّ علـى رؤسهم ماء مُغْلًـي. كما:
18901ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا إبراهيـم بن إسحاق الطَالقانـي, قال: حدثنا ابن الـمبـارك, عن سعيد بن زيد, عن أبـي السّمْـح, عن ابن حجيرة, عن أبـي هريرة, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, قال: «إنّ الـحَمِيـمَ لَـيُصَبّ عَلـى رُؤُسِهِمْ, فَـيَنْفُذُ الـجُمْـجَمَةَ حتـى يَخْـلُصَ إلـى جَوْفِهِ, فَـيَسْلُتَ ما فِـي جَوْفِهِ حتـى يَبْلُغَ قَدَمَيْهِ, وَهِيَ الصّهْرُ, ثُمّ يُعادُ كَما كانَ».
حدثنـي مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا يعمر بن بشر, قال: حدثنا ابن الـمبـارك, قال: أخبرنا سعيد بن زيد, عن أبـي السمـح, عن ابن حجيرة, عن أبـي هريرة, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم بـمثله, إلا أنه قال: «فَـيَنْفُذُ الـجُمْـجُمَةَ حَى يَخْـلُصَ إلـى جَوْفِهِ فَـيَسْلُتَ مَا فـي جَوْفِهِ».
وكان بعضهم يزعم أن قوله: ولَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ من الـمؤخّر الذي معناه التقديـم, ويقول: وجه الكلام: فـالذين كفروا قطعت لهم ثـياب من نار ولهم مقامع من حديد يصبّ من فوق رؤسهم الـحميـم ويقول: إنـما وجب أن يكون ذلك كذلك, لأن الـملك يضربه بـالـمقمع من الـحديد حتـى يثقب رأسه, ثم يصبّ فـيه الـحميـم الذي انتهى حرّه فـيقطع بطنه. والـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا, يدلّ علـى خلاف ما قال هذا القائل وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الـحميـم إذا صبّ علـى رؤسهم نفذ الـجمـجمة حتـى يخـلص إلـى أجوافهم, وبذلك جاء تأويـل أهل التأويـل, ولو كانت الـمقامع قد تثقب رؤوسهم قبل صبّ الـحميـم علـيها, لـم يكن لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الـحَميـمَ يَنْفُذُ الـجُمْـجُمَةَ» معنى ولكن الأمر فـي ذلك بخلاف ما قال هذا القائل.
وقوله: يُصْهَرُ بِهِ ما فِـي بُطُونِهِمْ وَالـجُلُودُ يقول: يذاب بـالـحميـم الذي يصبّ من فوق رؤسهم ما فـي بطونهم من الشحوم, وتشوى جلودهم منه فتتساقط. والصهر: هو الإذابة, يقال منه: صهرت الألـية بـالنار: إذا أذبتها أصهرها صهرا ومنه قول الشاعر.
تَرْوِي لَقًـى أُلِقـيَ فـي صَفْصَفٍتَصْهَرُهُ الشّمْسُ وَلا يَنْصَهِرْ
ومنه قول الراجز:.
شَكّ السّفـافِـيدِ الشّوَاءَ الـمُصْطَهَرْ
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18902ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: يُصْهَرُ بِهِ قال: يُذاب إذابة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
قال ابن جُرَيج يُصْهَرُ بِهِ: قال: ما قطع لهم من العذاب.
18903ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة: يُصْهَرُ بِهِ ما فِـي بُطُونِهِمْ قال: يُذاب به ما فـي بطونهم.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله.
18904ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: فـالّذينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثـيابٌ منْ نارٍ... إلـى قوله: يُصْهَرُ بهِ ما فـي بُطُونِهِمْ والـجُلُودُ يقول: يسقون ما إذا دخـل بطونهم أذابها والـجلود مع البطون.
18905ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر وهارون بن عنترة, عن سعيد بن جبـير, قال: قال هارون: إذا عام أهل النار وقال جعفرٍ: إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم, فـيأكلون منها, فـاختلست جلود وجوههم, فلو أن مارّا مرّ بهم يعرفهم يعرف جلود وجوههم فـيها, ثم يصبّ علـيهم العطش, فـيستغيثوا, فـيُغاثوا بـماء كالـمُهل, وهو الذي قد انتهى حرّه, فإذا أدنوه من أفواههم انشوى من حرّه لـحوم وجوههم التـي قد سقطت عنها الـجلود و يُصْهَرُ بِهِ ما فِـي بُطُونِهمْ يعنـي أمعاءهم, وتساقط جلودهم, ثم يضربون بـمقامع من حديد, فـيسقط كل عضو علـى حاله, يدعون بـالويـل والثبور.
وقوله: ولَهُمْ مَقامعُ مِنْ حَدِيدٍ تضرب رؤسهم بها الـخزنة إذا أرادوا الـخروج من النار حتـى ترجعهم إلـيها.
وقوله: كُلّـما أرَادُوا أنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمّ أُعِيدُوا فِـيها يقول: كلـما أراد هؤلاء الكفـار الذين وصف الله صفتهم الـخروج من النار مـما نالهم من الغمّ والكرب, ردّوا إلـيها. كما:
18906ـ حدثنا مـجاهد بن موسى, قال: حدثنا جعفر بن عون, قال: أخبرنا الأعمش, عن أبـي ظبـيان, قال: النار سوداء مظلـمة لا يضيء لهبها ولا جمرها, ثم قرأ: كُلّـما أرَادُوا أنْ يَخْرُجُوا مِنها مِنْ غَمّ أُعِيدُوا فِـيها وقد ذكر أنهم يحاولون الـخروج من النار حين تـجيش جهنـم فتلقـي من فـيها إلـى أعلـى أبوابها, فـيريدون الـخروج فتعيدهم الـخزان فـيها بـالـمقامع, ويقولون لهم إذا ضربوهم بـالـمقامع: ذُوقُوا عَذَابَ الـحَرِيق.
وعنـي بقوله: ذُوقُوا عَذَابَ الـخَرِيق ويقال لهم ذوقوا عذاب النار, وقـيـل عذاب الـحريق والـمعنى: الـمـحرق, كما قـيـل: العذاب الألـيـم, بـمعنى: الـمؤلـم
الصفحة رقم 334 من المصحف تحميل و استماع mp3