تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 356 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 356

356- تفسير الصفحة رقم356 من المصحف
قوله تعالى: "يقلب الله الليل والنهار" قيل: تقليبهما أن يأتي بأحدهما بعد الآخر. وقيل: تقليبهما نقصهما وزيادتهما. وقيل: هو تغيير النهار بظلمة السحاب مرة وبضوء الشمس أخرى؛ وكذا الليل مرة بظلمة السحاب ومرة بضوء القمر؛ قاله النقاش. وقيل: تقليبهما باختلاف ما تقدر فيهما من خير وشر ونفع وضر. "إن في ذلك" أي في الذي ذكرناه من تقلب الليل والنهار، وأحوال المطر والصيف والشتاء "لعبرة" أي اعتبارا "لأولي الأبصار" أي لأهل البصائر من خلقي.
الآيتان: 45 - 46 {والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير، لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}
قوله تعالى: "والله خلق كل دابة من ماء" قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي "والله خالق كل" بالإضافة. الباقون "خلق" على الفعل. قيل: إن المعنيين في القراءتين صحيحان. أخبر الله عز وجل بخبرين، ولا ينبغي أن يقال في هذا: إحدى القراءتين أصح من الأخرى. وقد قيل: إن "خلق" لشيء مخصوص، وإنما يقال خالق على العموم؛ كما قال الله عز وجل: "الخالق البارئ" [الحشر: 24]. وفي الخصوص "الحمد لله الذي خلق السموات والأرض" [الأنعام: 1] وكذا: "هو الذي خلقكم من نفس واحدة" [الأعراف: 189]. فكذا يجب أن يكون "والله خلق كل دابة من ماء". والدابة كل ما دب على وجه الأرض من الحيوان؛ يقال: دب يدب فهو داب؛ والهاء للمبالغة. وقد تقدم في "البقرة". "من ماء" لم يدخل في هذا الجن والملائكة؛ لأنا لم نشاهدهم، ولم يثبت أنهم خلقوا من ماء، بل في الصحيح (إن الملائكة خلقوا من نور والجن من نار). وقد تقدم. وقال المفسرون: "من ماء" أي من نطفة. قال النقاش: أراد أمنية الذكور. وقال جمهور النظرة: أراد أن خلقة كل حيوان فيها ماء كما خلق آدم من الماء والطين؛ وعلى هذا يتخرج قول النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ الذي سأله في غزاة بدر: ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن من ماء). الحديث. وقال قوم: لا يستثني الجن والملائكة، بل كل حيوان خلق من الماء؛ وخلق النار من الماء، وخلق الريح من الماء؛ إذ أول ما خلق الله تعالى من العالم الماء، ثم خلق منه كل شيء.
قلت: ويدل على صحة هذا قوله تعالى: "فمنهم من يمشي على بطنه" المشي على البطن للحيات والحوت، ونحوه من الدود وغيره. وعلى الرجلين للإنسان والطير إذا مشى. والأربع لسائر الحيوان. وفي مصحف أبي "ومنهم من يمشي على أكثر"؛ فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان كالسرطان والخشاش؛ ولكنه قرآن لم يثبته إجماع؛ لكن قال النقاش: إنما اكتفى في القول بذكر ما يمشي على أربع عن ذكر ما يمشي على أكثر؛ لأن جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع، وهي قوام مشيه، وكثرة الأرجل في بعضه زيادة في خلقته، لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها. قال ابن عطية: والظاهر أن تلك الأرجل الكثيرة ليست باطلا بل هي محتاج إليها في تنقل الحيوان، وهي كلها تتحرك في تصرفه. وقال بعضهم: ليس في الكتاب ما يمنع من المشي على أكثر من أربع؛ إذ لم يقل ليس منها ما يمشي على أكثر من أربع. وقيل فيه إضمار: ومنهم من يمشي على أكثر من أربع؛ كما وقع في مصحف أبي. والله أعلم. و"دابة" تشمل من يعقل وما لا يعقل؛ فغلب من يعقل لما اجتمع مع من لا يعقل؛ لأنه المخاطب والمتعبد؛ ولذلك قال "فمنهم". وقال: "من يمشي" فأشار بالاختلاف إلى ثبوت الصانع؛ أي لو لا أن للجميع صانعا مختارا لما اختلفوا، بل كانوا من جنس واحد؛ وهو كقوله: "يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات". [الرعد: 4]. "إن الله على كل شيء" مما يريد خلقه "قدير".
الآية: 47 {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين}
قوله تعالى: "ويقولون آمنا بالله وبالرسول" يعني المنافقين، يقولون بألسنتهم آمنا بالله وبالرسول من غير يقين ولا إخلاص. "وأطعنا" أي ويقولون "وأطعنا" وكذبوا. "ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين".
الآيات: 48 - 50 {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون، وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين، أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون}
قال الطبري وغيره: إن رجلا من المنافقين اسمه بشر كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة في أرض فدعاه اليهودي إلى التحاكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المنافق مبطلا، فأبى من ذلك وقال: إن محمدا يحيف علينا فلنحكم كعب بن الأشرف فنزلت الآية فيه. وقيل: نزلت في المغيرة بن وائل من بني أمية كان بينه وبين علي بن أبي طالب رضي الله عنه خصومة في ماء وأرض فامتنع المغيرة أن يحاكم عليا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إنه يبغضني؛ فنزلت الآية، ذكره الماوردي. وقال: "ليحكم" ولم يقل ليحكما لأن المعني به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما بدأ بذكر الله إعظاما لله واستفتاح كلام.
قوله تعالى: "وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين" أي طائعين منقادين؛ لعلمهم أنه عليه السلام يحكم بالحق. يقال: أذعن فلان لحكم فلان يذعن إذعانا. وقال النقاش: "مذعنين" خاضعين، ومجاهد: مسرعين. الأخفش وابن الأعرابي: مقرين. "أفي قلوبهم مرض" شك وريب. "أم ارتابوا" أم حدث لهم شك في نبوته وعدله. "أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله" أي يجور في الحكم والظلم. وأتي بلفظ الاستفهام لأنه أشد في التوبيخ وأبلغ في الذم؛ كقوله جرير في المدح:
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
"بل أولئك هم الظالمون" أي المعاندون الكافرون؛ لإعراضهم عن حكم الله تعالى.
القضاء يكون للمسلمين إذا كان الحكم بين المعاهد والمسلم ولا حق لأهل الذمة فيه. وإذا كان بين ذميين فذلك إليهما. فإن جاءا قاضي الإسلام فإن شاء حكم وإن شاء أعرض؛ كما تقدم في "المائدة]
هذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم لأن الله سبحانه ذم من دعي إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذم فقال: "أفي قلوبهم مرض" الآية. قال ابن خويز منداد: واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب، ما لم يعلم أن الحاكم فاسق أو عداوة بين المدعي والمدعى عليه. وأسند الزهراوي عن الحسن بن أبي الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من دعاه خصمه إلى حاكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم ولا حق له). ذكره الماوردي أيضا. قال ابن العربي: وهذا حديث باطل: فأما قوله (فهو ظالم)فكلام صحيح وأما قوله: (فلا حق له) فلا يصح، ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق.
الآية: 51 {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون}
قوله تعالى: "إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله" أي إلى كتاب الله وحكم ورسوله. "أن يقولوا سمعنا وأطعنا" قال ابن عباس: أخبر بطاعة المهاجرين والأنصار، وإن كان ذلك فيما يكرهون؛ أي هذا قولهم، وهؤلاء لو كانوا مؤمنين لكانوا يقولون سمعنا وأطعنا. فالقول نصب على خبر كان، واسمها في قوله "أن يقولوا" نحو "وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا" [آل عمران: 147]. وقيل: إنما قول المؤمنين، وكان صلة في الكلام؛ كقوله تعالى: "كيف نكلم من كان في المهد صبيا". [مريم: 29]. وقرأ ابن القعقاع "ليحكم بينهم" غير مسمي الفاعل. علي بن أبي طالب "إنما كان قول" بالرفع.
الآية: 52 {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون}
قوله تعالى: "ومن يطع الله ورسوله" فيما أمر به حكم. "ويخش الله ويتقيه" قرأ حفص "ويتقه" بإسكان القاف على نية الجزم؛ قال الشاعر:
ومن يتق فإن الله معه ورزق الله مؤتاب وغادي
وكسرها الباقون، لأن جزمه بحذف آخر. وأسكن الهاء أبو عمرو وأبو بكر. واختلس الكسرة يعقوب وقالون عن نافع والبستي عن أبي عمرو وحفص. وأشبع كسرة الهاء الباقون. "فأولئك هم الفائزون" ذكر أسلم أن عمر بينما هو قائم في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وإذا رجل من دهاقين الروم قائم على رأسه وهو يقول: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. فقال له عمر: ما شأنك؟ قال: أسلمت لله. قال: هل لهذا سبب ؟ قال: نعم إني قرأت التوراة والزبور والإنجيل وكثيرا من كتب الأنبياء، فسمعت أسيرا يقرأ آية من القرآن جمع فيها كل ما في الكتب المتقدمة، فعلمت أنه من عند الله فأسلمت. قال: ما هذه الآية؟ قال قوله تعالى: "ومن يطع الله" في الفرائض "ورسوله" في السنن "ويخش الله" فيما مضى من عمره "ويتقه" فيما بقي من عمره: "فأولئك هم الفائزون" والفائز من نجا من النار وأدخل الجنة. فقال عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوتيت جوامع الكلم).
الآية: 53 {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون}
قوله تعالى: "وأقسموا بالله جهد أيمانهم" عاد إلى ذكر المنافقين، فإنه لما بين كراهتهم لحكم النبي صلى الله عليه وسلم أتوه فقالوا: والله لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا ونسائنا وأموالنا فخرجنا، ولو أمرتنا بالجهاد لجاهدنا؛ فنزلت هذه الآية. أي وأقسموا بالله أنهم يخرجون معك في المستأنف ويطيعون. "جهد أيمانهم" أي طاقة ما قدروا أن يحلفوا. وقال مقاتل: من حلف بالله فقد أجهد في اليمين. وقد مضى في "الأنعام" بيان هذا. و"جهد" منصوب على مذهب المصدر تقديره: إقساما بليغا. "قل لا تقسموا" وتم الكلام. "طاعة معروفة" أولى بكم من أيمانكم؛ أو ليكن منكم طاعة معروفة، وقول معروف بإخلاص القلب، ولا حاجة إلى اليمين. وقال مجاهد: المعنى قد عرفت طاعتكم وهي الكذب والتكذيب؛ أي المعروف منكم الكذب دون الإخلاص. "إن الله خبير بما تعملون" من طاعتكم بالقول ومخالفتكم بالفعل.