تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 361 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 361

361- تفسير الصفحة رقم361 من المصحف
"إذا رأتهم من مكان بعيد" أي من مسيرة خمسمائة عام. "سمعوا لها تغيظا وزفيرا" قيل: المعنى إذا رأتهم جهنم سمعوا لها صوت التغيظ عليهم. وقيل: المعنى إذا رأتهم خزانها سمعوا لهم تغيظا وزفيرا حرصا على عذابهم. والأول أصح؛ لما روي مرفوعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا) قيل: يا رسول الله! ولها عينان؟ قال: (أما سمعتم الله عز وجل يقول: "إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا" يخرج عنق من النار له عينان تبصران ولسان ينطق فيقول وكلت بكل من جعل مع الله إلها آخر فلهو أبصر بهم من الطير بحب السمسم فيلتقطه) في رواية (فيخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حب السمسم) ذكره رَزين في كتابه، وصححه ابن العربي في قبسه، وقال: أي تفصلهم عن الخلق في المعرفة كما يفصل الطائر حب السمسم من التربة. وخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. (يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق بقول إني وكلت بثلاث بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين). وفي الباب عن أبي سعيد قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح. وقال الكلبي: سمعوا لها تغيظا كتغيظ بني آدم وصوتا كصوت الحمار. وقيل: فيه تقديم وتأخير، سمعوا لها زفيرا وعلموا لها تغيظا. وقال قطرب: التغيظ لا يسمع، ولكن يرى، والمعنى: رأوا لها تغيظا وسمعوا لها زفيرا؛ كقول الشاعر:
ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا
أي وحاملا رمحا. وقيل: "سمعوا لها" أي فيها؛ أي سمعوا فيها تغيظا وزفيرا للمعذبين. كما قال تعالى: "لهم فيها زفير وشهيق" [هود: 106] و"في واللام" يتقاربان؛ تقول: أفعل هذا في الله ولله. "وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين" قال قتادة: ذكر لنا أن عبدالله كان يقول: إن جهنم لتضيق على الكافر كتضييق الزج على الرمح؛ ذكره ابن المبارك في رقائقه. وكذا قال ابن عباس، ذكره الثعلبي والقشيري عنه، وحكاه الماوردي عن عبدالله بن عمرو. ومعنى "مقرنين" مكتفين؛ قاله أبو صالح. وقيل: مصفدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال. وقيل: قرنوا مع الشياطين؛ أي قرن كل واحد منهم إلى شيطانه؛ قاله يحيى بن سلام. وقد مضى هذا في "إبراهيم" وقال عمرو بن كلثوم:
فأبوا بالنهاب وبالسبايا وأبنا بالملوك مقرنينا
"دعوا هنالك ثبورا" أي هلاكا؛ قاله الضحاك. ابن عباس: ويلا. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أول من يقول إبليس وذلك أنه أول من يكسى حلة من النار فتوضع على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من خلفه وهو يقول واثبوراه). وانتصب على المصدر، أي ثبرنا ثبورا؛ قاله الزجاج. وقال غيره: هو مفعول به.
قوله تعالى: "لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا" فإن هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة. وقال: ثبورا لأنه مصدر يقع للقليل والكثير فلذلك لم يجمع؛ وهو كقولك: ضربته ضربا كثيرا، وقعد قعودا طويلا. ونزلت الآيات في ابن خطل وأصحابه.
الآيتان: 15 - 16 {قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا، لهم فيها ما يشاؤون خالدين كان على ربك وعدا مسؤول}
قوله تعالى: "قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون" إن قيل: كيف قال "أذلك خير" ولا خير في النار؛ فالجواب أن سيبويه حكى عن العرب: الشقاء أحب إليك أم السعادة، وقد علم أن السعادة أحب إليه. وقيل: ليس هو من باب أفعل منك، وإنما هو كقولك: عنده خير. قال النحاس: وهذا قول حسن؛ كما قال:
فشركما لخيركما الفداء
قيل: إنما قال ذلك لأن الجنة والنار قد دخلتا في باب المنازل؛ فقال ذلك لتفاوت ما بين المنزلتين. وقيل: هو مردود على قوله: "تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك" الآية. وقيل: هو مردود على قوله: "أو يلقى إليه كنز له أو تكون له جنة يأكل منها" [الفرقان: 8]. وقيل: إنما قال ذلك على معنى علمكم واعتقادكم أيها الكفار؛ وذلك أنهم لما كانوا يعملون عمل أهل النار صاروا كأنهم يقولون إن في النار خيرا.
قوله تعالى: "لهم فيها ما يشاؤون" أي من النعيم. "خالدين كان على ربك وعدا مسؤولا"
قال الكلبي: وعد الله المؤمنين الجنة جزاء على أعمالهم، فسألوه ذلك الوعد فقالوا: "ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك" [آل عمران: 194]. وهو معنى قول ابن عباس. وقيل: إن الملائكة تسأل لهم الجنة؛ دليله قوله تعالى: "ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم" [غافر: 8] الآية. وهذا قول محمد بن كعب القرظي. وقيل: معنى "وعدا مسؤولا" أي واجبا وإن لم يكن يسأل كالدين؛ حكي عن العرب: لأعطينك ألفا. وقيل: "وعدا مسؤولا" يعني أنه واجب لك فتسأله. وقال زيد بن أسلم: سألوا الله الجنة في الدنيا ورغبوا إليه بالدعاء، فأجابهم في الآخرة إلى ما سألوا وأعطاهم ما طلبوا. وهذا يرجع إلى القول الأول.
الآيات: 17 - 18 - 19 {ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل، قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا، فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبير}
قوله تعالى: "ويوم يحشرهم" قرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وحفص ويعقوب وأبو عمرو في رواية الدوري: "يحشرهم" بالياء. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لقوله في أول الكلام: "كان على ربك" وفي آخره "أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء". الباقون بالنون على التعظيم. "وما يعبدون من دون الله" من الملائكة والإنس والجن والمسيح وعزير؛ قاله مجاهد وابن جريج. الضحاك وعكرمة: الأصنام. "فيقول" قراءة العامة بالياء وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ ابن عامر وأبو حيوة بالنون على التعظيم. "أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل" وهذا استفهام توبيخ للكفار. "قالوا سبحانك" أي قال المعبودون من دون الله سبحانك؛ أي تنزيها لك "ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء" فإن قيل: فإن كانت الأصنام التي تعبد تحشر فكيف تنطق وهي جماد؟ قيل له: ينطقها الله تعالى يوم القيامة كما ينطق الأيدي والأرجل. وقرأ الحسن وأبو جعفر: "أن نتخذ" بضم النون وفتح الخاء على الفعل المجهول. وقد تكلم في هذه القراءة النحويون؛ فقال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر: لا يجوز "نتخذ". وقال أبو عمرو: لو كانت "نتخذ" لحذفت "من" الثانية فقلت: أن نتخذ من دونك أولياء. كذلك قال أبو عبيدة، لا يجوز "نتخذ" لأن الله تعالى ذكر "من" مرتين، ولو كان كما قرأ لقال: أن نتخذ من دونك أولياء. وقيل: إن "من" الثانية صلة قال النحاس: ومثل أبي عمرو على جلالته ومحله يستحسن ما قال؛ لأنه جاء ببينة. وشرج ما قال أنه يقال: ما اتخذت رجلا وليا؛ فيجوز أن يقع هذا للواحد بعينه؛ ثم يقال: ما اتخذت من رجل وليا فيكون نفيا عاما، وقولك "وليا" تابع لما قبله فلا يجوز أن تدخل فيه "من" لأنه لا فائدة في ذلك. "ولكن متعتهم وآباءهم" أي في الدنيا بالصحة والغنى وطول العمر بعد موت الرسل صلوات الله عليهم.
"حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا" أي تركوا ذكرك فأشركوا بك بطرا وجهلا فعبدونا من غير أن أمرناهم بذلك. وفي الذكر قولان: أحدهما: القرآن المنزل على الرسل؛ تركوا العمل به؛ قاله ابن زيد. الثاني: الشكر على الإحسان إليهم والإنعام عليهم. إنهم "كانوا قوما بورا" أي هلكى؛ قال ابن عباس. مأخوذ من البوار وهو الهلاك. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه وقد أشرف على أهل حمص: يا أهل حمص! هلم إلى أخ لكم ناصح، فلما اجتمعوا حوله قال: ما لكم لا تستحون! تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتأملون ما لا تدركون، إن من كان قبلكم بنوا مشيدا وجمعوا عبيدا، وأملوا بعيدا، فأصبح جمعهم بورا، وآمالهم غرورا، ومساكنهم قبورا. فقوله: "بورا" أي هلكى. وفي خبر آخر: فأصبحت منازلهم بورا؛ أي خالية لا شيء فيها. وقال الحسن: "بورا" لا خير فيهم. مأخوذ من بوار الأرض، وهو تعطيلها من الزرع فلا يكون فيها خير. وقال شهر بن حوشب: البوار. الفساد والكساد؛ مأخوذ من قولهم: بارت السلعة إذا كسدت كساد الفاسد؛ ومنه الحديث: (نعوذ بالله من بوار الأم). وهو اسم مصدر كالزور يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث. قال ابن الزبعرى:
يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور
إذ أباري الشيطان في سنن الغ ي ومن مال ميله مثبور
وقال بعضهم: الواحد بائر والجمع بور. كما يقال: عائذ وعوذ، وهائد وهود. وقيل: "بورا" عميا عن الحق.
قوله تعالى: "فقد كذبوكم بما تقولون" أي يقول الله تعالى عند تبري المعبودين: "فقد كذبوكم بما تقولون" أي في قولكم إنهم آلهة. "فما تستطيعون" يعني الآلهة صرف العذاب عنكم ولأنصركم. وقيل: فما يستطيع هؤلاء الكفار لما كذبهم المعبودون "صرفا" للعذاب "ولا نصرا" من الله. قال ابن زيد: المعنى فقد كذبكم أيها المؤمنون هؤلاء الكفار بما جاء به محمد؛ وعلى هذا فمعنى "بما تقولون" بما تقولون من الحق. وقال أبو عبيد: المعنى؛ فما تقولون فيما يستطيعون لكم صرفا عن الحق الذي هداكم الله إليه، ولا نصرا لأنفسهم مما ينزل بهم من العذاب بتكذيبهم إياكم. وقراءة العامة "بما تقولون" بالتاء على الخطاب. وقد بينا معناه. وحكى الفراء أنه يقرأ "فقد كذبوكم" مخففا، "بما يقولون". وكذا قرأ مجاهد والبزي بالياء، ويكون معنى "يقولون" بقولهم. وقرأ أبو حيوة: "بما يقولون" بياء "فما تستطيعون" بتاء على الخطاب لمتخذي الشركاء. ومن قرأ بالياء فالمعنى: فما يستطيع الشركاء. "ومن يظلم منكم" قال ابن عباس: من يشرك منكم ثم مات عليه. "نذقه" أي في الآخرة. "عذابا كبيرا" أي شديدا؛ كقوله تعالى: "ولتعلن علوا كبيرا" [الإسراء: 4] أي شديدا.
الآية: 20 {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصير}
قوله تعالى: "وما أرسلنا قبلك من المرسلين" نزلت جوابا للمشركين حيث قالوا: "مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق" [الفرقان: 7]. وقال ابن عباس: لما عير المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة وقالوا: "مال هذا الرسول يأكل الطعام" الآية حزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فنزلت تعزية له؛ فقال جبريل عليه السلام: السلام عليك يا رسول الله! الله ربك يقرئك السلام ويقول لك: "وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسوق" أي يبتغون المعايش في الدنيا.
قوله تعالى: "إلا إنهم ليأكلون الطعام" إذا دخلت اللام لم يكن في "إن" إلا الكسر، ولو لم تكن اللام ما جاز أيضا إلا الكسر؛ لأنها مستأنفة. هذا قول جميع النحويين. قال النحاس: إلا أن علي بن سليمان حكى لنا عن محمد بن يزيد قال: يجوز في "إن" هذه الفتح وإن كان بعدها اللام؛ وأحسبه وهما منه. قال أبو إسحاق الزجاج: وفي الكلام حذف؛ والمعنى وما أرسلنا قبلك رسلا إلا إنهم ليأكلون الطعام، ثم حذف رسلا، لأن في قوله: "من المرسلين" ما يدل عليه. فالموصوف محذوف عند الزجاج. ولا يجوز عنده حذف الموصول وتبقية الصلة كما قال الفراء. قال الفراء: والمحذوف "من" والمعنى إلا من إنهم ليأكلون الطعام. وشبهه بقوله: "وما منا إلا له مقام معلوم" [الصافات: 164]، وقوله "وإن منكم إلا واردها" [مريم: 71] أي ما منكم إلا من هو واردها. وهذا قول الكسائي أيضا. وتقول العرب: ما بعثت إليك من الناس إلا من إنه ليطيعك. فقولك: إنه ليطيعك صلة من. قال الزجاج: هذا خطأ؛ لأن من موصولة فلا يجوز حذفها. وقال أهل المعاني: المعنى؛ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قيل إنهم ليأكلون؛ دليله قوله تعالى: "ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك" [فصلت: 43]. وقال ابن الأنباري: كسرت "إنهم" بعد "إلا" للاستئناف بإضمار واو. أي إلا وإنهم. وذهبت فرقة إلى أن قوله: "ليأكلون الطعام" كناية عن الحدث. قلت: وهذا بليغ في معناه، ومثله "ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام" [المائدة: 75]. "ويمشون في الأسواق" قرأ الجمهور "يمشون" بفتح الياء وسكون الميم وتخفيف الشين. وقرأ علي وابن عوف وابن مسعود بضم الياء وفتح الميم وشد الشين المفتوحة، بمعنى يدعون إلى المشي ويحملون عليه. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشددة، وهي بمعنى يمشون؛ قال الشاعر:
ومشى بأعطان المباءة وابتغى قلائص منها صعبة وركوب
وقال كعب بن زهير:
منه تظل سباع الجو ضامزة ولا تمشي بواديه الأراجيل
بمعنى تمشي.
هذه الآية أصل في تناول الأسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك. وقد مضى هذا المعنى في غير موضع، لكنا نذكر هنا من ذلك ما يكفي فنقول: قال لي بعض مشايخ هذا الزمان في كلام جرى: إن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا ليسنوا الأسباب للضعفاء؛ فقلت مجيبا له: هذا قول لا يصدر إلا من الجهال والأغبياء، والرعاع السفهاء، أو من طاعن في الكتاب والسنة العلياء؛ وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن أصفيائه ورسله وأنبيائه بالأسباب والاحتراف فقال وقوله الحق: "وعلمناه صنعة لبوس لكم" [الأنبياء: 80]. وقال: "وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق" قال العلماء: أي يتجرون ويحترفون. وقال عليه الصلاة والسلام: (جعل رزقي تحت ظل رمحي) وقال تعالى: "فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا" [الأنفال: 69] وكان الصحابة رضي الله عنهم يتجرون ويحترفون وفي أموالهم يعملون، ومن خالفهم من الكفار يقاتلون؛ أتراهم ضعفاء! بل هم كانوا والله الأقوياء، وبهم الخلف الصالح اقتدى، وطريقهم فيه الهدى والاهتداء. قال: إنما تناولوها لأنهم أئمة الاقتداء، فتناولوها مباشرة في حق الضعفاء، فأما في حق أنفسهم فلا؛ وبيان ذلك أصحاب الصفة.
قلت: لوكان ذلك لوجب عليهم وعلى الرسول معهم البيان؛ كما ثبت في القرآن "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم" [النحل: 44] وقال: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى" [البقرة: 159] الآية. وهذا من البيان والهدى. وأما أصحاب الصفة فإنهم كانوا ضيف الإسلام عند ضيق الحال، فكان عليه السلام إذا أتته صدقة خصهم بها، وإذا أتته هدية أكلها معهم، وكانوا مع هذا يحتطبون ويسوقون الماء إلى أبيات رسول صلى الله عليه وسلم. كذا وصفهم البخاري وغيره. ثم لما افتتح الله عليهم البلاد ومهد لهم المهاد تأمروا. وبالأسباب أمروا. ثم إن هذا القول يدل على ضعف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأنهم أيدوا بالملائكة وثبتوا بهم، فلو كانوا أقوياء ما احتاجوا إلى تأييد الملائكة وتأييدهم إذ ذلك سبب من أسباب النصر؛ نعوذ بالله من قول وإطلاق يؤول إلى هذا، بل القول بالأسباب والوسائط سنة الله وسنة رسوله، وهو الحق المبين، والطريق المستقيم الذي انعقد عليه إجماع المسلمين؛ وإلا كان يكون قوله الحق: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل" [الأنفال: 60] - الآية - مقصورا على الضعفاء، وجميع الخطابات كذلك. وفي التنزيل حيث خاطب موسى الكليم "اضرب بعصاك البحر" [الشعراء: 63] وقد كان قادرا على فلق البحر دون ضرب عصا. وكذلك مريم عليها السلام "وهزي إليك بجذع النخلة" [مريم: 25] وقد كان قادرا على سقوط الرطب دون هز ولا تعب؛ ومع هذا كله فلا ننكر أن يكون رجل يلطف به ويعان، أو تجاب دعوته، أو يكرم بكرامة في خاصة نفسه أو لأجل غيره، ولا تهد لذلك القواعد الكلية والأمور الجميلة. هيهات هيهات! لا يقال فقد قال الله تعالى: "وفي السماء رزقكم وما توعدون" [الذاريات: 22] فإنا نقول: صدق الله العظيم، وصدق رسوله الكريم، وأن الرزق هنا المطر بإجماع أهل التأويل؛ بدليل؛ قوله: "وينزل لكم من السماء رزقا" [غافر: 13] وقال: "ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد" [ق: 9] ولم يشاهد ينزل من السماء على الخلق أطباق الخبز ولا جفان اللحم، بل الأسباب أصل في وجود ذلك؛ ومعنى قوله عليه السلام: (اطلبوا الرزق في خبايا الأرض) أي بالحرث والحفر والغرس. وقد يسمى الشيء بما يؤول إليه، وسمي المطر رزقا لأنه عنه يكون الرزق، وذلك مشهور في كلام العرب. وقال عليه السلام: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل أحدا أعطاه أو منعه) وهذا فيما خرج من غير تعب من الحشيش والحطب. ولو قدر رجل بالجبال منقطعا عن الناس لما كان له بد من الخروج إلى ما تخرجه الآكام وظهور الأعلام حتى يتناول من ذلك ما يعيش به؛ وهو معنى قوله عليه السلام: (لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروج بطانا) فغدوها ورواحها سبب؛ فالعجب العجب ممن يدعي التجريد والتوكل على التحقيق، ويقعد على ثنيات الطريق، ويدع الطريق المستقيم، والمنهج الواضح القويم. ثبت في البخاري عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون، فإذا قدموا سألوا الناس؛ فأنزل الله تعالى "وتزودوا" [البقرة: 197]. ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أنهم خرجوا إلى أسفارهم بغير زاد، وكانوا المتوكلين حقا. والتوكل اعتماد القلب على الرب في أن يلم شعثه ويجمع عليه أربه؛ ثم يتناول الأسباب بمجرد الأمر. وهذا هو الحق. سأل رجل الإمام أحمد بن حنبل فقال: إنى أريد الحج على قدم التوكل. فقال: اخرج وحدك؛ فقال: لا، إلا مع الناس. فقال له: أنت إذن متكل على أجربتهم. وقد أتينا على هذا في كتاب "قمع الحرص بالزهد والقناعة ورد ذل السؤال بالكسب والصناعة".
خرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها). وخرج البزار عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته). أخرجه أبو بكر البرقاني مسندا عن أبى محمد عبدالغني بن سعيد الحافظ - من رواية عاصم - عن أبي عثمان النهدي عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فبها باض الشيطان وفرخ). ففي هذه الأحاديث ما يدل على كراهة دخول الأسواق، لا سيما في هذه الأزمان التي يخالط فيها الرجال النسوان. وهكذا قال علماؤنا لما كثر الباطل في الأسواق وظهرت فيها المناكر: كره دخولها لأرباب الفضل والمقتدى بهم في الدين تنزيها لهم عن البقاع التي يعصى الله فيها. فحق على من ابتلاه الله بالسوق أن يخطر بباله أنه قد دخل محل الشيطان ومحل جنوده، وإنه إن أقام هناك هلك، ومن كانت هذه حاله اقتصر منه على قدر ضرورته، وتحرز من سوء عاقبته وبليته.
تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم السوق بالمعركة تشبيه حسن؛ وذلك أن المعركة موضع القتال، سمي بذلك لتعارك الأبطال فيه، ومصارعة بعضهم بعضا. فشبه السوق وفعل الشيطان بها ونيله منهم مما يحملهم من المكر والخديعة، والتساهل في البيوع الفاسدة والكذب والأيمان الكاذبة، واختلاط الأصوات وغير ذلك بمعركة الحرب ومن يصرع فيها.
قال ابن العربي: أما أكل الطعام فضرورة الخلق لا عار ولا درك فيه، وأما الأسواق فسمعت مشيخة أهل العلم يقولون: لا يدخل إلا سوق الكتب والسلاح، وعندي أنه يدخل كل سوق للحاجة إليه ولا يأكل فيها؛ لأن ذلك إسقاط للمروءة وهدم للحشمة؛ ومن الأحاديث الموضوعة (الأكل في السوق دناءة).
قلت: ما ذكرته مشيخة أهل العلم فنعما هو؛ فإن ذلك خال عن النظر إلى النسوان ومخالطتهن؛ إذ ليس بذلك من حاجتهن. وأما غيرهما من الأسواق، فمشحونة منهن، وقلة الحياء قد غلبت عليهن، حتى ترى المرأة في القيساريات وغيرهن قاعدة متبرجة بزينتها، وهذا من المنكر الفاشي في زماننا هذا. نعوذ بالله من سخطه.
خرج أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير عن سالم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال: (من دخل سوقا من هذه الأسواق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة وبنى له قصرا في الجنة) خرجه الترمذي أيضا وزاد بعد (ومحا عنه ألف ألف سيئة): (ورفع له ألف ألف درجة وبنى ل بيتا في الجنة). وقال: هذا حديث غريب. قال: ابن العربي: وهذا إذا لم يقصد في تلك البقعة سواه ليعمرها بالطاعة إذ عمرت بالمعصية، وليحليها بالذكر إذ عطلت بالغفلة، وليعلم الجهلة ويذكر الناسين.
قوله تعالى: "وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون" أي إن الدنيا دار بلاء وامتحان، فأراد سبحانه أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر، فالصحيح فتنة للمريض، والغني فتنة للفقير، والفقير الصابر فتنة للغني. ومعنى هذا أن كل واحد مختبر بصاحبه؛ فالغني ممتحن بالفقير، عليه أن يواسيه ولا يسخر منه. والفقير ممتحن بالغني، عليه ألا يحسده ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق؛ كما قال الضحاك في معنى "أتصبرون": أي على الحق. وأصحاب البلايا يقولون: لم لم نعاف؟ والأعمى يقول: لم لم أجعل كالبصير؟ وهكذا صاحب كل آفة. والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار في عصره. وكذلك العلماء وحكام العدل. ألا ترى إلى قولهم "لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم" [الزخرف: 31]. فالفتنة أن يحسد المبتلى المعافى، ويحقر المعافى المبتلى. والصبر: أن يحبس كلاهما نفسه، هذا عن البطر، وذاك عن الضجر. "أتصبرون" محذوف الجواب، يعني أم لا تصبرون. فيقتضي جوابا كما قال المزني، وقد أخرجته الفاقة فرأى خصيا في مراكب ومناكب، فخطر بباله شيء فسمع من يقرأ الآية: "أتصبرون" فقال: بلى ربنا! نصبر ونحتسب. وقد تلا ابن القاسم صاحب مالك هذه الآية حين رأى أشهب بن عبدالعزيز في مملكته عابرا عليه، ثم أجاب نفسه بقوله: سنصبر. وعن أبي الدرداء أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ويل للعالم من الجاهل وويل للجاهل من العالم وويل للمالك من المملوك وويل للمملوك من المالك وويل للشديد من الضعيف وويل للضعيف من الشديد وويل للسلطان من الرعية وويل للرعية من السلطان وبعضهم لبعض فتنة) وهو قوله: "وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون" أسنده الثعلبي تغمده الله برحمته. وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل، وعقبة بن أبي معيط وعتبة بن ربيعة والنضر بن الحرث حين رأوا أبا ذر وعبدالله بن مسعود، وعمارا وبلالا وصهيبا وعامر بن فهيرة، وسالما مولى أبي حذيفة ومهجعا مولى عمر بن الخطاب وجبرا مولى الحضرمي، وذويهم؛ فقالوا على سبيل الاستهزاء: أنسلم فنكون مثل هؤلاء؟ فأنزل الله تعالى يخاطب هؤلاء المؤمنين: "أتصبرون" على ما ترون من هذه الحال الشديدة والفقر؛ فالتوقيف بـ "أتصبرون" خاص للمؤمنين المحقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. كأنه جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين، أي اختبارا لهم. ولما صبر المسلمون أنزل الله فيهم: "إني جزيتهم اليوم بما صبروا" [المؤمنون: 111].
قوله تعالى: "وكان ربك بصيرا" أي بكل امرئ وبمن يصبر أو يجزع، ومن يؤمن ومن لا يؤمن، وبمن أدى ما عليه من الحق ومن لا يؤدي. وقيل: "أتصبرون" أي اصبروا. مثل "فهل أنتم منتهون" [المائدة: 91] أي انتهوا؛ فهو أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر.