تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 363 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 363

363- تفسير الصفحة رقم363 من المصحف
قوله تعالى: "ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا" يقول: لو أنزلنا عليك القرآن جملة واحدة ثم سألوك لم يكن عندك ما تجيب به، ولكن نمسك عليك فإذا سألوك أجبت. قال النحاس: وكان ذلك من علامات النبوة، لأنهم لا يسألون عن شيء إلا أجيبوا عنه، وهذا لا يكون إلا من نبي، فكان ذلك تثبيتا لفؤاده وأفئدتهم، ويدل على هذا "ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا" ولو نزل جملة بما فيه من الفرائض لثقل عليهم، وعلم الله عز وجل أن الصلاح في إنزاله متفرقا، لأنهم ينبهون به مرة بعد مرة، ولو نزل جملة واحدة لزال معنى التنبيه وفيه ناسخ ومنسوخ، فكانوا يتعبدون بالشيء إلى وقت بعينه قد علم الله عز وجل فيه الصلاح، ثم ينزل النسخ بعد ذلك؛ فمحال أن ينزل جملة واحدة: افعلوا كذا ولا تفعلوا. قال النحاس: والأولى أن يكون التمام "جملة واحدة" لأنه إذا وقف على "كذلك" صار المعنى كالتوراة والإنجيل والزبور ولم يتقدم لها ذكر. قال الضحاك: "وأحسن تفسيرا" أي تفصيلا. والمعنى: أحسن من مثلهم تفصيلا؛ فحذف لعلم السامع. وقيل: كان المشركون يستمدون من أهل الكتاب وكان قد غلب على أهل الكتاب التحريف والتبديل، فكان ما يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم أحسن تفسيرا مما عندهم؛ لأنهم كانوا يخلطون الحق بالباطل، والحق المحض أحسن من حق مختلط بباطل، ولهذا قال تعالى: "ولا تلبسوا الحق بالباطل" [البقرة: 42]. وقيل: "لا يأتونك بمثل" كقولهم في صفة عيسى إنه خلق من غير أب إلا جئناك بالحق أي بما فيه نقض حجتهم كآدم إذ خلق من غير أب وأم.
الآية: 34 {الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيل}
قوله تعالى: "الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم" تقدم في "سبحان". "أولئك شر مكانا" لأنهم في جهنم. وقال مقاتل: قال الكفار لأصحاب محمد. صلى الله عليه وسلم هو شر الخلق. "وأضل سبيلا" أي دينا وطريقا. ونظم الآية: ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق، وأنت منصور عليهم بالحجج الواضحة، وهم محشورون على وجوههم.
الآيتان: 35 - 36 {ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا، فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدمير}
قوله تعالى: "ولقد آتينا موسى الكتاب" يريد التوراة. "وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا" تقدم في "طه". "فقلنا اذهبا" الخطاب لهما. وقيل: إنما أمر موسى صلى الله عليه وسلم بالذهاب وحده في المعنى. وهذا بمنزلة قوله: "نسيا حوتهما" [الكهف: 61]. وقوله: "يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان" [الرحمن: 22] وإنما يخرج من أحدهما. قال النحاس: وهذا مما لا ينبغي أن يجترأ به على كتاب الله تعالى، وقد قال جل وعز: "فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى. قالا ربنا إننا أن يفرط علينا أو أن يطغى. قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى. فأتياه فقولا إنا رسولا ربك" [طه: 44 - 47]. ونظير هذا: "ومن دونهما جنتان" [الرحمن: 62]. وقد قال جل ثناؤه: "ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بإياتنا" [المومنون: 45] قال القشيري: وقوله في موضع آخر: "اذهب إلى فرعون إنه طغى" [طه: 24] لا ينافي هذا؛ لأنهما إذا كان مأمورين فكل واحد مأمور. ويجوز أن يقال: أمر موسى أولا، ثم لما قال: "واجعل لي وزيرا من أهلي" [طه: 29] قال: "اذهبا إلى فرعون" [طه: 43]. "إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا" يريد فرعون وهامان والقبط. "فدمرناهم تدميرا" في الكلام إضمار؛ أي فكذبوهما "فدمرناهم تدميرا" أي أهلكناهم إهلاكا.
الآية: 37 {وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليم}
قوله تعالى: "وقوم نوح" في نصب "قوم" أربعة أقوال: العطف على الهاء والميم في "دمرناهم". الثاني: بمعنى اذكر. الثالث: بإضمار فعل يفسره ما بعده؛ والتقدير: وأغرقنا قوم نوح أغرقناهم. الرابع: إنه منصوب بـ "أغرقناهم" قاله الفراء. ورده النحاس قال: لأن "أغرقنا" ليس مما يتعدى إلى مفعولين فيعمل في المضمر وفي "قوم نوح". "لما كذبوا الرسل" ذكر الجنس والمراد نوح وحده؛ لأنه لم يكن في ذلك الوقت رسول إليهم إلا نوح وحده؛ فنوح إنما بعث بلا إله إلا الله، وبالإيمان بما ينزل الله، فلما كذبوه كان في ذلك تكذيب لكل من بعث بعده بهذه الكلمة. وقيل: إن من كذب رسولا فقد كذب جميع الرسل؛ لأنهم لا يفرق بينهم في الإيمان، ولأنه ما من نبي إلا يصدق سائر أنبياء الله، فمن كذب منهم نبيا فقد كذب كل من صدقه من النبيين. "أغرقناهم" أي بالطوفان. "وجعلناهم للناس آية" أي علامة ظاهرة على قدرتنا "وأعتدنا للظالمين" أي للمشركين من قوم نوح "عذابا أليما" أي في الآخرة. وقيل: أي هذه سبيلي في كل ظالم.
الآية: 38 {وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثير}
قوله تعالى: "وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا" كله معطوف على "قوم نوح" إذا كان "قوم نوح" منصوبا على العطف، أو بمعنى اذكر. ويجوز أن يكون كله منصوبا على أنه معطوف على المضمر في "دمرناهم" أو على المضمر في "جعلناهم" وهو اختيار النحاس؛ لأنه أقرب إليه. ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار فعل؛ أي اذكر عادا الذين كذبوا هودا فأهلكهم الله بالريح العقيم، وثمودا كذبوا صالحا فأهلكوا بالرجفة. و"أصحاب الرس" والرس في كلام العرب البئر التي تكون غير مطوية، والجمع رساس. قال:
تنابلة يحفرون الرساسا
يعني آبار المعادن. قال ابن عباس: سألت كعبا عن أصحاب الرس قال: صاحب "يس" الذي قال: "يا قوم اتبعوا المرسلين" [يس: 20] قتله قومه ورسوه في بئر لهم يقال لها الرس طرحوه فيها، وكذا قال مقاتل. السدي: هم أصحاب قصة "يس" أهل أنطاكية، والرس بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار مؤمن آل "يس" فنسبوا إليها. وقال علي رضي الله عنه: هم قوم كانوا يعبدون شجرة صنوبر فدعا عليهم نبيهم؛ وكان من ولد يهوذا، فيبست الشجرة فقتلوه ورسوه في بئر، فأظلتهم سحابة سوداء فأحرقتهم. وقال ابن عباس: هم قوم بأذربيجان قتلوا أنبياء فجفت أشجارهم وزروعهم فماتوا جوعا وعطشا. وقال وهب بن منبه: كانوا أهل بئر يقعدون عليها وأصحاب مواشي، وكانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم شعيبا فكذبوه وآذوه، وتمادوا على كفرهم وطغيانهم، فبينما هم حول البئر في منازلهم انهارت بهم وبديارهم؛ فخسف الله بهم فهلكوا جميعا. وقال قتادة: أصحاب الرس وأصحاب الأيكة أمتان أرسل الله إليهما شعيبا فكذبوه فعذبهما الله بعذابين. قال قتادة: والرس قرية بفلج اليمامة. وقال عكرمة: هم قوم رسوا نبيهم في بئر حيا. دليله ما روى محمد ابن كعب القرظي عمن حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة عبد أسود وذلك أن الله تعالى بعث نبيا إلى قومه فلم يؤمن به إلا ذلك الأسود فحفر أهل القرية بئرا وألقوا فيها نبيهم حيا وأطبقوا عليه حجرا ضخما وكان العبد الأسود يحتطب على ظهره ويبيعه ويأتيه بطعامه وشرابه فيعينه الله على رفع تلك الصخرة حتى يدليه إليه فبينما هو يحتطب إذ نام فضرب الله على أذنه سبع سنين نائما ثم هب من نومه فتمطى واتكأ على شقه الآخر فضرب الله على أذنه سبع سنين ثم هب فاحتمل حزمة الحطب فباعها وأتى بطعامه وشرابه إلى البئر فلم يجده وكان قومه قد أراهم الله تعالى آية فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه ومات ذلك النبي). قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ذلك العبد الأسود لأول من يدخل الجنة) وذكر هذا الخبر المهدوي والثعلبي، واللفظ للثعلبي، وقال: هؤلاء آمنوا بنبيهم فلا يجوز أن يكونوا أصحاب الرس؛ لأن الله تعالى أخبر عن أصحاب الرس أنه دمرهم، إلا أن يدمروا بأحداث أحدثوها بعد نبيهم. وقال الكلبي: أصحاب الرس قوم أرسل الله إليهم نبيا فأكلوه. وهم أول من عمل نساؤهم السحق؛ ذكره الماوردي. وقيل: هم أصحاب الأخدود الذين حفروا الأخاديد وحرقوا فيها المؤمنين، وسيأتي. وقيل: هم بقايا من قوم ثمود، وأن الرس البئر المذكورة في "الحج" في قوله: "وبئر معطلة" [الحج: 45] على ما تقدم. وفي الصحاح: والرس اسم بئر كانت لبقية من ثمود. وقال جعفر بن محمد عن أبيه: أصحاب الرس قوم كانوا يستحسنون لنسائهم السحق، وكان نساؤهم كلهم سحاقات. وروي من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أشراط الساعة أن يكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء وذلك السحق). وقيل: الرس ماء ونخل لبني أسد. وقيل: الثلج المتراكم في الجبال؛ ذكره القشيري. وما ذكرناه أولا هو المعروف، وهو كل حفر احتفر كالقبر والمعدن والبئر. قال أبو عبيدة: الرس كل ركية لم تطو؛ وجمعها رساس. قال الشاعر:
وهم سائرون إلى أرضهم فيا ليتهم يحفرون الرساسا
والرس اسم واد في قول زهير:
بكرن بكورا واستحرن بسحرة فهن لوادي الرس كاليد للفم
ورسست رسا: حفرت بئرا. ورس الميت أي قبر. والرس: الإصلاح بين الناس، والإفساد أيضا وقد رسست بينهم؛ فهو من الأضداد. وقد قيل في أصحاب الرس غير ما ذكرنا، ذكره الثعلبي وغيره. "وقرونا بين ذلك كثيرا" أي أمما لا يعلمهم إلا الله بين قوم نوح وعاد. وثمود وأصحاب الرس. وعن الربيع بن خيثم اشتكى فقيل له: ألا تتداوى فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر به؟ قال: لقد هممت بذلك ثم فكرت فيما بيني وبين نفسي فإذا عاد وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا كانوا أكثر وأشد حرصا على جمع المال، فكان فيهم أطباء، فلا الناعت منهم بقي ولا المنعوت؛ فأبى أن يتداوى فما مكث إلا خمسة أيام حتى مات، رحمه الله.
الآية: 39 {وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبير}
قوله تعالى: "وكلا ضربنا له الأمثال" قال الزجاج. أي وأنذرنا كلا ضربنا له الأمثال وبينا لهم الحجة، ولم نضرب لهم الأمثال الباطلة كما يفعله هؤلاء الكفرة. وقيل: انتصب على تقدير ذكرنا كلا ونحوه؛ لأن ضرب الأمثال تذكير ووعظ؛ ذكره المهدوي. والمعنى واحد. "وكلا تبرنا تتبيرا" أي أهلكنا بالعذاب. وتبرت الشيء كسرته. وقال المؤرج والأخفش: دمرناهم تدميرا. تبدل التاء والباء من الدال والميم.
الآية: 40 {ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشور}
قوله تعالى: "ولقد أتوا على القرية" يعني مشركي مكة. والقرية قرية قوم لوط. والحجارة التي أمطروا بها. "مطر السوء" الحجارة التي أمطروا بها. "أفلم يكونوا يرونها" أي في أسفارهم ليعتبروا. قال ابن عباس: كانت قريش في تجارتها إلى الشام تمر بمدائن قوم لوط كما قال الله تعالى: "وإنكم لتمرون عليهم مصبحين" [الصافات: 137] وقال: "وإنهما لبإمام مبين" [الحجر: 79]. "بل كانوا لا يرجون نشورا" أي لا يصدقون بالبعث. ويجوز أن يكون معنى "يرجون" يخافون. ويجوز أن يكون على بابه ويكون معناه: بل كانوا لا يرجون ثواب الآخرة.
الآيتان: 41 - 42 {وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا، إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيل}
قوله تعالى: "وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا" جواب "إذا" "إن يتخذونك" لأن معناه يتخذونك. وقيل: الجواب محذوف وهو قالوا أو يقولون: "أهذا الذي" وقوله: "إن يتخذونك إلا هزوا" كلام معترض. ونزلت في أبي جهل كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم مستهزئا: "أهذا الذي بعث الله رسولا" والعائد محذوف، أي بعثه الله. "رسولا" نصب على الحال والتقدير: أهذا الذي بعثه الله مرسلا. "أهذا" رفع بالابتداء و"الذي" خبره. "رسولا" نصب على الحال. و"بعث" في صلة "الذي" واسم الله عز وجل رفع بـ "بعث". ويجوز أن يكون مصدرا؛ لأن معنى "بعث" أرسل ويكون معنى رسولا" رسالة على هذا. والألف للاستفهام على معنى التقرير والاحتقار."إن كاد ليضلنا" أي قالوا قد كاد أن يصرفنا. "عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها" أي حبسنا أنفسنا على عبادتها. "وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا" يريد من أضل دينا أهم أم محمد، وقد رأوه في يوم بدر.
الآية: 43 {أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيل}
قوله تعالى: "أرأيت من اتخذ إلهه هواه" عجب نبيه صلى الله عليه وسلم من إضمارهم على الشرك وإصرارهم عليه مع إقرارهم بأنه خالقهم ورازقهم، ثم يعمد إلى حجر يعبده من غير حجة. قال الكلبي وغيره: كانت العرب إذا هوي الرجل منهم شيئا عبده من دون الله، فإذا رأى أحسن منه ترك الأول وعبد الأحسن؛ فعلى هذا يعني: أرأيت من اتخذ إلهه بهواه؛ فحذف الجار. وقال ابن عباس: الهوى إله يعبد من دون الله، ثم تلا هذه الآية. قال الشاعر:
لعمر أبيها لو تبدت لناسك قد اعتزل الدنيا بإحدى المناسك
لصلى لها قبل الصلاة لربه ولارتد في الدنيا بأعمال فاتك
وقيل: "اتخذ إلهه هواه" أي أطاع هواه. وعن الحسن لا يهوى شيئا إلا أتبعه، والمعنى واحد. "أفأنت تكون عليه وكيلا" أي حفيظا وكفيلا حتى ترده إلى الإيمان وتخرجه من هذا الفساد. أي ليست الهداية والضلالة موكولتين إلى مشيئك، وإنما عليك التبليغ. وهذا رد على القدرية. ثم قيل: إنها منسوخة بآية القتال. وقيل: لم تنسخ؛ لأن الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.