تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 363 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 363

363 : تفسير الصفحة رقم 363 من القرآن الكريم

** وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً * الّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَىَ وُجُوهِهِمْ إِلَىَ جَهَنّمَ أُوْلَـَئِكَ شَرّ مّكَاناً وَأَضَلّ سَبِيلاً
يقول تعالى مخبراً عن كثرة اعتراض الكفار وتعنتهم وكلامهم فيما لا يعنيهم, حيث قالوا {لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} أي هلا أنزل عليه هذا الكتاب الذي أوحي إليه جملة واحدة, كما نزلت الكتب قبله جملة واحدة, كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب الإلهية, فأجابهم الله تعالى عن ذلك بأنه إنما نزل منجماً في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث, وما يحتاج إليه من الأحكام ليثبت قلوب المؤمنين به, كقوله {وقرآنا فرقناه} الاَية, ولهذا قال {لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيل}, قال قتادة: بيناه تبيينا. وقال عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم: وفسرناه تفسيراً {ولا يأتونك بمثل} أي بحجة وشبهة {إلا جئناك بالحق وأحسن تفسير} أي ولا يقولون قولاً يعارضون به الحق, إلا أجبناهم بما هو الحق في نفس الأمر وأبين وأوضح وأفصح من مقالتهم.
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس {ولا يأتونك بمثل} أي بما يلتمسون به عيب القرآن والرسول {إلا جئناك بالحق} الاَية, أي إلا نزل جبريل من الله تعالى بجوابهم وما هذا إلا اعتناء وكبير شرف للرسول صلى الله عليه وسلم, حيث كان يأتيه الوحي من الله عز وجل بالقرآن صباحاً ومساء, وليلاً ونهاراً, سفراً وحضراً, وكل مرة كان يأتيه الملك بالقرآن لا كإنزال كتابٍ مما قبله من الكتب المتقدمة, فهذا المقام أعلى وأجل وأعظم مكانة من سائر إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, فالقرآن أشرف كتاب أنزله الله, ومحمد صلى الله عليه وسلم أعظم نبي أرسله الله تعالى, وقد جمع الله للقرآن الصفتين معاً, ففي الملأ الأعلى أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا, ثم أنزل بعد ذلك إلى الأرض منجماً بحسب الوقائع والحوادث. وقال أبو عبد الرحمن النسائي أخبرنا أحمد بن سليمان حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا داود عن عكرمة عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر, ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة, قال الله تعالى: {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسير} وقال تعالى: {وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيل}.
ثم قال تعالى مخبراً عن سوء حال الكفار في معادهم يوم القيامة, وحشرهم إلى جهنم في أسوأ الحالات وأقبح الصفات {الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيل}. وفي الصحيح عن أنس أن رجلاً قال: يا رسول الله, كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة ؟ فقال «إن الذي أمشاه على رجليه قادر أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» وهكذا قال مجاهد والحسن وقتادة وغير واحد من المفسرين.

** وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً * فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا فَدَمّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً * وَقَوْمَ نُوحٍ لّمّا كَذّبُواْ الرّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً * وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرّسّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً * وَكُلاّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ وَكُلاّ تَبّرْنَا تَتْبِيراً * وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الّتِيَ أُمْطِرَتْ مَطَرَ السّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً
يقول تعالى متوعداً من كذب رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم من مشركي قومه ومن خالفه, ومحذرهم من عقابه وأليم عذابه مما أحله بالأمم الماضية المكذبين لرسله, فبدأ بذكر موسى وأنه بعثه وجعل معه أخاه هارون وزيراً, أي نبياً مؤازراً ومؤيداً وناصراً, فكذبهما فرعون وجنوده {فدمر الله عليهم وللكافرين أمثاله} وكذلك فعل بقوم نوح حين كذبوا رسوله نوحاً عليه السلام, ومن كذب برسول فقد كذب بجميع الرسل, إذ لا فرق بين رسول ورسول, ولو فرض أن الله تعالى بعث إليهم كل رسول فإنهم كانوا يكذبون, ولهذا قال تعالى: {وقوم نوح لما كذبوا الرسل} ولم يبعث إليهم إلا نوح فقط, وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل, ويحذرهم نقمه {وما آمن معه إلا قليل} ولهذا أغرقهم الله جميعاً ولم يبق منهم أحداً, ولم يترك من بني آدم على وجه الأرض سوى أصحاب السفينة فقط {وجعلناهم للناس آية} أي عبرة يعتبرون بها, كما قال تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية * لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية} أي وأبقينا لكم من السفن ما تركبون في لجج البحار لتذكروا نعمة الله عليكم في إنجائكم من الغرق, وجعلكم من ذرية من آمن به وصدق أمره.
وقوله تعالى: {وعاداً وثمود وأصحاب الرس} قد تقدم الكلام على قصتيهما في غير ما سورة, كسورة الأعراف بما أغنى عن الإعادة. وأما أصحاب الرس, فقال ابن جريج عن ابن عباس: هم أهل قرية من قرى ثمود. وقال ابن جريج: قال عكرمة: أصحاب الرس بفلج, وهم أصحاب يس. وقال قتادة: فلج من قرى اليمامة. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم حدثنا الضحاك بن مخلد أبو عاصم حدثنا شبيب بن بشر حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قوله {وأصحاب الرس} قال: بئر بأذربيجان. وقال الثوري عن أبي بكير, عن عكرمة: الرس بئر رسوا فيها نبيهم, أي دفنوه بها.
وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة العبد الأسود, وذلك أن الله تعالى بعث نبياً إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها إلا ذلك العبد الأسود, ثم إن أهل القرية عدوا على النبي فحفروا له بئراً فألقوه فيها, ثم أطبقوا عليه بحجر ضخم, قال: فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره, ثم يأتي بحطبه فيبيعه ويشتري به طعاماً وشراباً, ثم يأتي به إلى تلك البئر فيرفع تلك الصخرة, ويعينه الله تعالى عليها, فيدلي إليه طعامه وشرابه, ثم يردها كما كانت, قال: فكان ذلك ما شاء الله أن يكون, ثم إنه ذهب يوماً يحتطب كما كان يصنع, فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها, فلما أراد أن يحتملها وجد سنة, فاضطجع فنام, فضرب الله على أذنه سبع سنين نائماً, ثم إنه هب فتمطى فتحول لشقه الاَخر فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى, ثم إنه هب واحتمل حزمته ولا يحسب إلا أنه نام ساعة من نهار, فجاء إلى القرية فباع حزمته, ثم اشترى طعاماً وشراباً كما كان يصنع, ثم إنه ذهب إلى الحفيرة موضعها الذي كانت فيه, فالتمسه فلم يجده, وكان قد بدا لقومه فيه بداء فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه, قال: فكان نبيهم يسألهم عن ذلك الأسود ما فعل, فيقولون له: لا ندري, حتى قبض الله النبي, هب الأسود من نومته بعد ذلك» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة» وهكذا رواه ابن جرير عن ابن حميد عن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب مرسلاً, وفيه غرابة ونكارة, ولعل فيه إدراجاً, والله أعلم. وقال ابن جرير: لا يجوز أن يحمل هؤلاء على أنهم أصحاب الرس الذين ذكروا في القرآن, لأن الله أخبر عنهم أنه أهلكهم, وهؤلاء قد بدا لهم فآمنوا بنبيهم اللهم إلا أن يكون حدث لهم أحداث آمنوا بالنبي بعد هلاك آبائهم, والله أعلم. واختار ابن جرير أن المراد بأصحاب الرس هم أصحاب الأخدود الذين ذكروا في سورة البروج, فا لله أعلم.
وقوله تعالى: {وقروناً بين ذلك كثير} أي وأمما أضعاف من ذكر أهلكناهم كثيرة, ولهذا قال {وكلا ضربنا له الأمثال} أي بينا لهم الحجج ووضحنا لهم الأدلة, كما قال قتادة: وأزحنا الأعذار عنهم {وكلا تبرنا تتبير} أي أهلكنا إهلاكاً, كقوله تعالى: {وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح} والقرن هو الأمة من الناس, كقوله {ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين} وحده بعضهم بمائة وعشرين سنة. وقيل بمائة. وقيل بثمانين, وقيل أربعين, وقيل غير ذلك, والأظهر أن القرن هم الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد وإذا ذهبوا وخلفهم جيل فهم قرن آخر, كما ثبت في الصحيحين «خير القرون قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم» الحديث {ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء} يعني قرية قوم لوط, وهي سدوم ومعاملتها التي أهلكها الله بالقلب وبالمطر من الحجارة التي من سجيل, كما قال تعالى: {وأمطرنا عليهم مطراً فساء مطر المنذرين} وقال {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وبالليل أفلا تعقلون} وقال تعالى: {وإنها لبسبيل مقيم} وقال {وإنهما لبإمام مبين} ولهذا قال {أفلم يكونوا يرونه} أي فيعتبروا بما حل بأهلها من العذاب والنكال بسبب تكذيبهم بالرسول وبمخالفتهم أوامر الله {بل كانوا لا يرجون نشور} يعني المارين بها من الكفار لا يعتبرون لأنهم لا يرجون نشوراً, أي معاداً يوم القيامة.

** وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً أَهَـَذَا الّذِي بَعَثَ اللّهُ رَسُولاً * إِن كَادَ لَيُضِلّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلّ سَبِيلاً * أَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إِلَـَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ سَبِيلاً
يخبر تعالى عن استهزاء المشركين بالرسول صلى الله عليه وسلم إذا رأوه كما قال تعالى: {وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزو} الاَية, يعنونه بالعيب والنقص. وقال ههنا {وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزواً أهذا الذي بعث الله رسولاً ؟} أي على سبيل التنقيص والازدراء فقبحهم الله, كما قال {ولقد استهزىء برسل من قبلك} الاَية. وقوله تعالى: {إن كاد ليضلنا عن آلهتن} يعنون أنه كاد يثنيهم عن عبادة الأصنام لولا أن صبروا وتجلدوا واستمروا عليها. قال الله تعالى متوعداً لهم ومتهدداً {وسوف يعلمون حين يرون العذاب} الاَية.
ثم قال تعالى لنبيه منبهاً أن من كتب الله عليه الشقاوة والضلال, فإنه لا يهديه أحد إلا الله عز وجل {أرأيت من اتخذ إلهه هواه} أي مهما استحسن من شيء ورآه حسناً في هوى نفسه كان دينه ومذهبه, كما قال تعالى: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضل من يشاء} الاَية, ولهذا قال ههنا {أفأنت تكون عليه وكيل} قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زماناً, فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول. ثم قال تعالى: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون} الاَية, أي هم أسوأ حالاً من الأنعام السارحة, فإن تلك تعقل ما خلقت له, وهؤلاء خلقوا لعبادة الله وحده لا شريك له, وهم يعبدون غيره ويشركون به مع قيام الحجة عليهم وإرسال الرسل إليهم.