سورة الفرقان | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 363 من المصحف
فقال: 33- "ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً" أي لا يأتيك يا محمد المشركون بمثل من أمثالهم التي من جملتها اقتراحاتهم المتعنتة إلا جئناك في مقابلة مثلهم بالجواب الحق الثابت الذي يبطل ما جاءوا به من المثل ويدمغه ويدفعه. فالمراد بالمثل هنا: السؤال والاقتراح، وبالحق جوابه الذي يقطع ذريعته ويبطل شبهته ويحسم مادته. ومعنى "أحسن تفسيراً" جئناك بأحسن تفسير، فأحسن تفسيراً معطوف على الحق، والاستثناء بقوله: "إلا جئناك" مفرغ، والجملة في محل نصب على الحال: أي لا يأتونك بمثل إلا في حال إيتائنا إياك ذلك. ثم أوعد هؤلاء الجهلة وذمهم.
فقال: 34- "الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم" أي يحشرون كائنين على وجوههم، والموصول مبتدأ وخبره: أولئك، أو هو خبر مبتدأ محذوف: أي هم الذين، ويجوز نصبه على الذم. ومعنى يحشرون على وجوههم: يسحبون عليها إلى جهنم "أولئك شر مكاناً" أي تفسير مثل هذه الآية في سورة سبحان، وقد قيل إن هذا متصل بقوله: "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً". وقد أخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس في قوله: "ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً" قال: يجمع الله الخلق يوم القيامة في صعيد واحد: الجن والإنس والبهائم والسباع والطير وجميع الخلق، فتنشق السماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس وجميع الخلق، فيحيطون بالجن والإنس وجميع الخلق فيقول أهل الأرض: أفيكم ربنا؟ فيقولون لا ثم تنشق السماء الثانية وذكر مثل ذلك، ثم كذلك في كل سماء إلى السماء السابعة، وفي كل سماء أكثر من السماء التي قبلها، ثم ينزل ربنا في ظل من الغمام وحوله الكروبيون، وهم أكثر من أهل السموات السبع والإنس والجن وجميع الخلق، لهم قرون ككعوب القثاء، وهم تحت العرش، لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتقديس لله تعالى، ما بين إخمص قدم أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام، ومن ركبته إلى فخذه مسيرة خمسمائة عام، ومن فخذه إلى ترقوته مسيرة خمسمائة عام، وما فوق ذلك مسيرة خمسمائة عام. وإسناده عند ابن جرير هكذا: قال حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني الحجاج بن مبارك بن فضالة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران أنه سمع ابن عباس فذكره. وأخرجه ابن أبي حاتم بإسناد هكذا: قال حدثنا محمد بن عمار بن الحرث مأمول، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد به. وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل بسند، قال السيوطي: صحيح من طريق سعيد بن جبر عن ابن عباس: أن أبا معيط كان يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة لا يؤذيه، وكان رجلاً حليماً، وكان بقية قريش إذا جلسوا معه آذوه، وكان لأبي معيط خليل غائب عنه بالشام، فقالت قريش: صبأ أو معيط، وقدم خليله من الشام ليلاً فقال لامرأته: ما فعل محمد مما كان عليه؟ فقالت: أشد ما كان أمراً، فقال: ما فعل خليلي أبو معيط؟ فقالت: صبأ، فبات بليلة سوء، فلما أصبح أتاه أبو معيط فحياه، فلم يرد عليه التحية، فقال: مالك لا ترد علي تحيتي؟ فقال: كيف أرد عليك تحيتك وقد صبوت؟ قال: أو قد فعلتها قريش؟ قال نعم، قال: فما يبرئ صدورهم إن أنا فعلته؟ قال: تأتيه في مجلسه فتبزق في وجهه وتشتمه بأخبث ما تعلم من الشتم، ففعل فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن مسح وجهه من البزاق، ثم التفت إليه فقال: إن وجدتك خارجاً من جبال مكة أضرب عنقك صبراً، فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن يخرج، فقال له أصحابه: اخرج معنا، قال: وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجاً من جبال مكة أن يضرب عنقي صبراً، فقالوا: لك جمل أحمر لا يدرك، فلو كانت الهزيمة طرت عليه فخرج معهم، فلما هزم الله المشركين وحمل به جمله في جدود من الأرض، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيراً في سبعين من قريش، وقدم إليه أبو معيط فقال: أتقتلني من بين هؤلاء؟ قال: نعم بما بزقت في وجهي، فأنزل الله في أبي معيط "ويوم يعض الظالم على يديه" إلى قوله: "وكان الشيطان للإنسان خذولاً". وأخرج أبو نعيم هذه القصة من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وذكر أن خليل أبي معيط: هو أبي بن خلف. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أيضاً في قوله: "ويوم يعض الظالم على يديه" قال: أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط، وهما الخليلان في جهنم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في قوله: "وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين" قال: كان عدو النبي صلى الله عليه وسلم أبو جهل وعدو موسى قارون، وكان قارون ابن عم موسى. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: قال المشركون: لو كان محمد كما يزعم نبياً فلم يعذبه ربه؟ ألا ينزل عليه القرآن جملة واحدة، ينزل عليه الآية والآيتين والسورة والسورتين، فأنزل الله على نبيه جواب ما قالوا "وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة" إلى "وأضل سبيلاً". وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس "لنثبت به فؤادك" قال: لنشدد به فؤادك ونربط على قلبك "ورتلناه ترتيلاً" قال: رسلناه ترسيلاً، يقول شيئاً بعد شيء "ولا يأتونك بمثل" يقول: لو أنزلنا عليك القرآن جملة واحدة، ثم سألوك لم يكن عنده ما يجيب، ولكن نمسك عليك، فإذا سألوك أجبت.
اللام في قوله: 35- "ولقد آتينا موسى الكتاب" جواب قسم محذوف: أي والله لقد آتينا موسى التوراة، ذكر سبحانه صرفاً من قصص الأولين تسلية له صلى الله عليه وسلم بأن تكذيب قوم أنبياء الله لهم عادة للمشركين بالله، وليس ذلك بخاص بمحمد صلى الله عليه وسلم و "هارون" عطف بيان، ويجوز أن ينصب على القطع و "وزيراً" المفعول الثاني، وقيل حال، والمفعول الثاني معه، والأول أولى. قال الزجاج: الوزير في اللغة الذي يرجع غليه ويعمل برأيه، والوزر ما يعتصم به، ومنه "كلا لا وزر". وقد تقدم تفسير الوزير في طه، والوزارة لا تنافي النبوة، فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء، ويؤمرون بأن يؤازر بعضهم بعضاً. وقد كان هارون في أول الأمر وزيراً لموسى.
ولاشتراكهما في النبوة قيل لهما 36- "اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا" وهم فرعون وقومه، والآيات هي التسع التي تقدم ذكرها، وإن لم يكونوا قد كذبوا بها عند أمر الله لموسى وهارون بالذهاب بل كان التكذيب بعد ذلك، لكن هذا الماضي بمعنى المستقبل على عادة إخبار الله: أي اذهبا إلى القوم الذين يكذبون بآياتنا. وقيل إنما وصفوا بالتكذيب عند الحكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً لعلة استحقاقهم للعذاب. وقيل يجوز أن يراد إلى القوم الذين آل حالهم إلى أن كذبوا. وقيل إن المراد بوصفهم بالتكذيب عند الإرسال أنهم كانوا مكذبين للآيات الإلهية وليس المراد آيات الرسالة. قال القشيري: وقوله تعالى في موضع آخر "اذهب إلى فرعون إنه طغى" لا ينافي هذا لأنهما إذا كانا مأمورين فكل واحد مأمور. ويمكن أن يقال إن تخصيص موسى بالخطاب في بعض المواطن لكونه الأصل في الرسالة، والجمع بينهما في الخطاب لكونهما مرسلين جميعاً "فدمرناهم تدميراً" في الكلام حذف: أي فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم: أي أهلكناهم إثر ذلك التكذيب إهلاكاً عظيماً. وقيل إن المراد بالتدمير هنا: الحكم به، لأنه لم يحصل عقب بعث موسى وهارون إليهم، بل بعده بمدة.
37- "وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم" في نصب قوم أقوال: العطف على الهاء، والميم في دمرناهم، أو النصب بفعل محذوف، أي اذكر، أو بفعل مضمر يفسره ما بعده، وهو أغرقناهم: أي أغرقنا قوم نوح أغرقناهم، وقال الفراء: هو منصوب بأغرقناهم المذكور بعده من دون تقدير مضمر يفسره ما بعده. ورده النحاس بأن أغرقنا لا يتعدى إلى مفعولين حتى يعمل في الضمير المتصل به، وفي قوم نوح. ومعنى "لما كذبوا الرسل" أنهم كذبوا نوحاً وكذبوا من قبله من رسل الله. وقال الزجاج: من كذب نبياً فقد كذب جميع الأنبياء، وكان إغراقهم بالطوفان كما تقدم في هود "وجعلناهم للناس آية" أي جعلنا إغراقهم، أو قصتهم للناس آية: أي عبرة لكل الناس على العموم يتعظ بها كل مشاهد لها وسامع لخبرها "وأعتدنا للظالمين" المراد بالظالمين قوم نوح على الخصوص. ويجوز أن يكون المراد كل من سلك مسلكهم في التكذيب، والعذاب الأليم: هو عذاب الآخرة.
وانتصاب 38- "عاداً" بالعطف على قوم نوح، وقيل على محل الظالمين، وقيل على مفعول جعلناهم "وثمود" معطوف على عاداً، وقصة عاد وثمود قد ذكرت فيما سبق "وأصحاب الرس" الرس في كلام العرب: البئر التي تكون غير مطوية، والجمع رساس كذا قال أبو عبيدة، ومنه قول الشاعر: وهم سائرون إلى أرضهم تنابلة يخفرون الرساسا قال السدي: هي بئر بإنطاكية قتلوا فيها حبيباً النجار فنسبوا إليها، وهو صاحب يس الذي قال "قال يا قوم اتبعوا المرسلين" وكذا قال مقاتل وعكرمة وغيرهما. وقيل هم قوم بأذربيجان قتلوا أنبياءهم فجفت أشجارهم وزروعهم، فماتوا جوعاً وعطشاً. وقيل كانوا يعبدون الشجر، وقيل كانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله عليهم شعيباً فكذبوه وآذوه. وقيل هم قوم أرسل الله إليهم نبياً فأكلوه، وقيل هم أصحاب الأخدود. وقيل إن الرس: هي البئر المعطلة التي تقدم ذكرها، وأصحابها أهلها. وقال في الصحاح: والرس اسم بئر كانت لبقية ثمود، وقيل الرس: ماء ونخل لبني أسد، وقيل الثلج المتراكم في الجبال. والرس: اسم واد، ومنه قول زهير: بكرن بكوراً واستحرن بسحرة فهن لوادي الرس كاليد للفم والرس أيضاً: الإصلاح بين الناس والإفساد بينهم، فهو من الأضداد. وقيل هم أصحاب حنظلة بن صفوان، وهم الذين ابتلاهم الله بالطائر المعروف بالعنقاء "وقروناً بين ذلك كثيراً" معطوف على ما قبله، والقرون جمع قرن: أي أهل قرون، والقرن: مائة سنة، وقيل مائة وعشرون، وقيل القرن أربعون سنة، والإشارة بقوله: "بين ذلك" إلى ما تقدم ذكره من الأمم. وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك.
39- "وكلا ضربنا له الأمثال" قال الزجاج: أي وأنذرنا كلا ضربنا لهم الأمثال وبينا لهم الحجة، ولم نضرب لهم الأمثال الباطلة كما يفعله هؤلاء الكفرة، فجعله منصوباً بفعل مضمر يفسره ما بعده، لأن حذرنا وذكرنا وأنذرنا في معنى ضربنا، ويجوز أن يكون معطوفاً على ما قبله، والتنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف، وهو الأمم: أي كل الأمم ضربنا لهم الأمثال "و" أما "كلا" الأخرى: فهي منصوبة بالفعل الذي بعدها، والتتبير: الإهلاك بالعذاب. قال الزجاج: كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته. وقال المؤرج والأخفش: معنى "تبرنا تتبيراً" دمرنا تدميراً أبدلت التاء والباء من الدال والميم.
40- "ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء" هذه جملة مستأنفة مبينة لمشاهدتهم لآثار هلاك بعض الأمم. والمعنى: ولقد أتوا: أي مشركو مكة على قرية قوم لوط التي أمطرت مطر السوء. وهو الحجارة: أي هلكت بالحجارة التي أمطروا بها، وانتصاب مطر على المصدرية، أو على أنه مفعول ثان: إذ المعنى أعطيتها وأوليتها مطر السوء، أو على أنه نعت مصدر محذوف: أي إمطار مثل مطر السوء، وقرأ أبو السمال السوء بضم السين، وقد تقدم تفسير السوء في براءة "أفلم يكونوا يرونها" الاستفهام للتقريع والتوبيخ، أي يرون القرية المذكورة عند سفرهم إلى الشام للتجارة، فإنهم يمرون بها، والفاء للعطف على مقدر: أي لم يكونوا ينظرون إليها فلم يكونوا يرونها "بل كانوا لا يرجون نشوراً" أضرب سبحانه عما سبق من عدم رؤيتهم لتلك الآثار إلى عدم رجاء البعث منهم المستلزم لعدم رجائهم للجزاء، ويجوز أن يكون معنى يرجون يخافون.
41- " وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا " أي ما يتخذونك إلا هزؤاً: أي مهزوءاً بك، قصر معاملتهم له على اتخاذهم إياه هزواً، فجواب إذا هو إن يتخذونك وقيل الجواب محذوف، وهو قالوا "أهذا الذي" وعلى هذا فتكون جملة إن يتخذونك إلا هزؤاً معترضة، والأول أولى. وتكون جملة "أهذا الذي بعث الله رسولاً" في محل نصب على الحال بتقدير القول: أي قائلين أهذا إلخ، وفي اسم الإشارة دلالة على استحقارهم له وتهكمهم به، والعائد محذوف: أي بعثه الله وانتصاب رسولاً على الحال: أي مرسلاً، واسم الإشارة مبتدأ، وخبره الموصول.
وصلته 42- "إن كاد ليضلنا عن آلهتنا" أي قالوا: إن كاد هذا الرسول ليضلنا: ليصرفنا عن آلهتنا فنترك عبادتها، وإن هنا هي المخففة، وضمير الشأن محذوف: أي إنه كاد أن يصرفنا عنها "لولا أن صبرنا عليها" أي حسبنا أنفسنا على عبادتها، ثم إنه سبحانه أجاب عليهم فقال: "وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلاً" أي حين يرون عذاب يوم القيامة الذي يستحقونه ويستوجبونه بسبب كفرهم من هو أضل سبيلاً: أي أبعد طريقاً عن الحق والهدى، أهم أم المؤمنون؟ ثم بين لهم سبحانه أنه لا تمسك لهم فيما ذهبوا إليه سوى التقليد واتباع الهوى.
فتح القدير - صفحة القرآن رقم 363
362فقال: 33- "ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً" أي لا يأتيك يا محمد المشركون بمثل من أمثالهم التي من جملتها اقتراحاتهم المتعنتة إلا جئناك في مقابلة مثلهم بالجواب الحق الثابت الذي يبطل ما جاءوا به من المثل ويدمغه ويدفعه. فالمراد بالمثل هنا: السؤال والاقتراح، وبالحق جوابه الذي يقطع ذريعته ويبطل شبهته ويحسم مادته. ومعنى "أحسن تفسيراً" جئناك بأحسن تفسير، فأحسن تفسيراً معطوف على الحق، والاستثناء بقوله: "إلا جئناك" مفرغ، والجملة في محل نصب على الحال: أي لا يأتونك بمثل إلا في حال إيتائنا إياك ذلك. ثم أوعد هؤلاء الجهلة وذمهم.
فقال: 34- "الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم" أي يحشرون كائنين على وجوههم، والموصول مبتدأ وخبره: أولئك، أو هو خبر مبتدأ محذوف: أي هم الذين، ويجوز نصبه على الذم. ومعنى يحشرون على وجوههم: يسحبون عليها إلى جهنم "أولئك شر مكاناً" أي تفسير مثل هذه الآية في سورة سبحان، وقد قيل إن هذا متصل بقوله: "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً". وقد أخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس في قوله: "ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً" قال: يجمع الله الخلق يوم القيامة في صعيد واحد: الجن والإنس والبهائم والسباع والطير وجميع الخلق، فتنشق السماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس وجميع الخلق، فيحيطون بالجن والإنس وجميع الخلق فيقول أهل الأرض: أفيكم ربنا؟ فيقولون لا ثم تنشق السماء الثانية وذكر مثل ذلك، ثم كذلك في كل سماء إلى السماء السابعة، وفي كل سماء أكثر من السماء التي قبلها، ثم ينزل ربنا في ظل من الغمام وحوله الكروبيون، وهم أكثر من أهل السموات السبع والإنس والجن وجميع الخلق، لهم قرون ككعوب القثاء، وهم تحت العرش، لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتقديس لله تعالى، ما بين إخمص قدم أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام، ومن ركبته إلى فخذه مسيرة خمسمائة عام، ومن فخذه إلى ترقوته مسيرة خمسمائة عام، وما فوق ذلك مسيرة خمسمائة عام. وإسناده عند ابن جرير هكذا: قال حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني الحجاج بن مبارك بن فضالة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران أنه سمع ابن عباس فذكره. وأخرجه ابن أبي حاتم بإسناد هكذا: قال حدثنا محمد بن عمار بن الحرث مأمول، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد به. وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل بسند، قال السيوطي: صحيح من طريق سعيد بن جبر عن ابن عباس: أن أبا معيط كان يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة لا يؤذيه، وكان رجلاً حليماً، وكان بقية قريش إذا جلسوا معه آذوه، وكان لأبي معيط خليل غائب عنه بالشام، فقالت قريش: صبأ أو معيط، وقدم خليله من الشام ليلاً فقال لامرأته: ما فعل محمد مما كان عليه؟ فقالت: أشد ما كان أمراً، فقال: ما فعل خليلي أبو معيط؟ فقالت: صبأ، فبات بليلة سوء، فلما أصبح أتاه أبو معيط فحياه، فلم يرد عليه التحية، فقال: مالك لا ترد علي تحيتي؟ فقال: كيف أرد عليك تحيتك وقد صبوت؟ قال: أو قد فعلتها قريش؟ قال نعم، قال: فما يبرئ صدورهم إن أنا فعلته؟ قال: تأتيه في مجلسه فتبزق في وجهه وتشتمه بأخبث ما تعلم من الشتم، ففعل فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن مسح وجهه من البزاق، ثم التفت إليه فقال: إن وجدتك خارجاً من جبال مكة أضرب عنقك صبراً، فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن يخرج، فقال له أصحابه: اخرج معنا، قال: وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجاً من جبال مكة أن يضرب عنقي صبراً، فقالوا: لك جمل أحمر لا يدرك، فلو كانت الهزيمة طرت عليه فخرج معهم، فلما هزم الله المشركين وحمل به جمله في جدود من الأرض، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيراً في سبعين من قريش، وقدم إليه أبو معيط فقال: أتقتلني من بين هؤلاء؟ قال: نعم بما بزقت في وجهي، فأنزل الله في أبي معيط "ويوم يعض الظالم على يديه" إلى قوله: "وكان الشيطان للإنسان خذولاً". وأخرج أبو نعيم هذه القصة من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وذكر أن خليل أبي معيط: هو أبي بن خلف. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أيضاً في قوله: "ويوم يعض الظالم على يديه" قال: أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط، وهما الخليلان في جهنم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في قوله: "وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين" قال: كان عدو النبي صلى الله عليه وسلم أبو جهل وعدو موسى قارون، وكان قارون ابن عم موسى. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: قال المشركون: لو كان محمد كما يزعم نبياً فلم يعذبه ربه؟ ألا ينزل عليه القرآن جملة واحدة، ينزل عليه الآية والآيتين والسورة والسورتين، فأنزل الله على نبيه جواب ما قالوا "وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة" إلى "وأضل سبيلاً". وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس "لنثبت به فؤادك" قال: لنشدد به فؤادك ونربط على قلبك "ورتلناه ترتيلاً" قال: رسلناه ترسيلاً، يقول شيئاً بعد شيء "ولا يأتونك بمثل" يقول: لو أنزلنا عليك القرآن جملة واحدة، ثم سألوك لم يكن عنده ما يجيب، ولكن نمسك عليك، فإذا سألوك أجبت.
اللام في قوله: 35- "ولقد آتينا موسى الكتاب" جواب قسم محذوف: أي والله لقد آتينا موسى التوراة، ذكر سبحانه صرفاً من قصص الأولين تسلية له صلى الله عليه وسلم بأن تكذيب قوم أنبياء الله لهم عادة للمشركين بالله، وليس ذلك بخاص بمحمد صلى الله عليه وسلم و "هارون" عطف بيان، ويجوز أن ينصب على القطع و "وزيراً" المفعول الثاني، وقيل حال، والمفعول الثاني معه، والأول أولى. قال الزجاج: الوزير في اللغة الذي يرجع غليه ويعمل برأيه، والوزر ما يعتصم به، ومنه "كلا لا وزر". وقد تقدم تفسير الوزير في طه، والوزارة لا تنافي النبوة، فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء، ويؤمرون بأن يؤازر بعضهم بعضاً. وقد كان هارون في أول الأمر وزيراً لموسى.
ولاشتراكهما في النبوة قيل لهما 36- "اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا" وهم فرعون وقومه، والآيات هي التسع التي تقدم ذكرها، وإن لم يكونوا قد كذبوا بها عند أمر الله لموسى وهارون بالذهاب بل كان التكذيب بعد ذلك، لكن هذا الماضي بمعنى المستقبل على عادة إخبار الله: أي اذهبا إلى القوم الذين يكذبون بآياتنا. وقيل إنما وصفوا بالتكذيب عند الحكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً لعلة استحقاقهم للعذاب. وقيل يجوز أن يراد إلى القوم الذين آل حالهم إلى أن كذبوا. وقيل إن المراد بوصفهم بالتكذيب عند الإرسال أنهم كانوا مكذبين للآيات الإلهية وليس المراد آيات الرسالة. قال القشيري: وقوله تعالى في موضع آخر "اذهب إلى فرعون إنه طغى" لا ينافي هذا لأنهما إذا كانا مأمورين فكل واحد مأمور. ويمكن أن يقال إن تخصيص موسى بالخطاب في بعض المواطن لكونه الأصل في الرسالة، والجمع بينهما في الخطاب لكونهما مرسلين جميعاً "فدمرناهم تدميراً" في الكلام حذف: أي فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم: أي أهلكناهم إثر ذلك التكذيب إهلاكاً عظيماً. وقيل إن المراد بالتدمير هنا: الحكم به، لأنه لم يحصل عقب بعث موسى وهارون إليهم، بل بعده بمدة.
37- "وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم" في نصب قوم أقوال: العطف على الهاء، والميم في دمرناهم، أو النصب بفعل محذوف، أي اذكر، أو بفعل مضمر يفسره ما بعده، وهو أغرقناهم: أي أغرقنا قوم نوح أغرقناهم، وقال الفراء: هو منصوب بأغرقناهم المذكور بعده من دون تقدير مضمر يفسره ما بعده. ورده النحاس بأن أغرقنا لا يتعدى إلى مفعولين حتى يعمل في الضمير المتصل به، وفي قوم نوح. ومعنى "لما كذبوا الرسل" أنهم كذبوا نوحاً وكذبوا من قبله من رسل الله. وقال الزجاج: من كذب نبياً فقد كذب جميع الأنبياء، وكان إغراقهم بالطوفان كما تقدم في هود "وجعلناهم للناس آية" أي جعلنا إغراقهم، أو قصتهم للناس آية: أي عبرة لكل الناس على العموم يتعظ بها كل مشاهد لها وسامع لخبرها "وأعتدنا للظالمين" المراد بالظالمين قوم نوح على الخصوص. ويجوز أن يكون المراد كل من سلك مسلكهم في التكذيب، والعذاب الأليم: هو عذاب الآخرة.
وانتصاب 38- "عاداً" بالعطف على قوم نوح، وقيل على محل الظالمين، وقيل على مفعول جعلناهم "وثمود" معطوف على عاداً، وقصة عاد وثمود قد ذكرت فيما سبق "وأصحاب الرس" الرس في كلام العرب: البئر التي تكون غير مطوية، والجمع رساس كذا قال أبو عبيدة، ومنه قول الشاعر: وهم سائرون إلى أرضهم تنابلة يخفرون الرساسا قال السدي: هي بئر بإنطاكية قتلوا فيها حبيباً النجار فنسبوا إليها، وهو صاحب يس الذي قال "قال يا قوم اتبعوا المرسلين" وكذا قال مقاتل وعكرمة وغيرهما. وقيل هم قوم بأذربيجان قتلوا أنبياءهم فجفت أشجارهم وزروعهم، فماتوا جوعاً وعطشاً. وقيل كانوا يعبدون الشجر، وقيل كانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله عليهم شعيباً فكذبوه وآذوه. وقيل هم قوم أرسل الله إليهم نبياً فأكلوه، وقيل هم أصحاب الأخدود. وقيل إن الرس: هي البئر المعطلة التي تقدم ذكرها، وأصحابها أهلها. وقال في الصحاح: والرس اسم بئر كانت لبقية ثمود، وقيل الرس: ماء ونخل لبني أسد، وقيل الثلج المتراكم في الجبال. والرس: اسم واد، ومنه قول زهير: بكرن بكوراً واستحرن بسحرة فهن لوادي الرس كاليد للفم والرس أيضاً: الإصلاح بين الناس والإفساد بينهم، فهو من الأضداد. وقيل هم أصحاب حنظلة بن صفوان، وهم الذين ابتلاهم الله بالطائر المعروف بالعنقاء "وقروناً بين ذلك كثيراً" معطوف على ما قبله، والقرون جمع قرن: أي أهل قرون، والقرن: مائة سنة، وقيل مائة وعشرون، وقيل القرن أربعون سنة، والإشارة بقوله: "بين ذلك" إلى ما تقدم ذكره من الأمم. وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك.
39- "وكلا ضربنا له الأمثال" قال الزجاج: أي وأنذرنا كلا ضربنا لهم الأمثال وبينا لهم الحجة، ولم نضرب لهم الأمثال الباطلة كما يفعله هؤلاء الكفرة، فجعله منصوباً بفعل مضمر يفسره ما بعده، لأن حذرنا وذكرنا وأنذرنا في معنى ضربنا، ويجوز أن يكون معطوفاً على ما قبله، والتنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف، وهو الأمم: أي كل الأمم ضربنا لهم الأمثال "و" أما "كلا" الأخرى: فهي منصوبة بالفعل الذي بعدها، والتتبير: الإهلاك بالعذاب. قال الزجاج: كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته. وقال المؤرج والأخفش: معنى "تبرنا تتبيراً" دمرنا تدميراً أبدلت التاء والباء من الدال والميم.
40- "ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء" هذه جملة مستأنفة مبينة لمشاهدتهم لآثار هلاك بعض الأمم. والمعنى: ولقد أتوا: أي مشركو مكة على قرية قوم لوط التي أمطرت مطر السوء. وهو الحجارة: أي هلكت بالحجارة التي أمطروا بها، وانتصاب مطر على المصدرية، أو على أنه مفعول ثان: إذ المعنى أعطيتها وأوليتها مطر السوء، أو على أنه نعت مصدر محذوف: أي إمطار مثل مطر السوء، وقرأ أبو السمال السوء بضم السين، وقد تقدم تفسير السوء في براءة "أفلم يكونوا يرونها" الاستفهام للتقريع والتوبيخ، أي يرون القرية المذكورة عند سفرهم إلى الشام للتجارة، فإنهم يمرون بها، والفاء للعطف على مقدر: أي لم يكونوا ينظرون إليها فلم يكونوا يرونها "بل كانوا لا يرجون نشوراً" أضرب سبحانه عما سبق من عدم رؤيتهم لتلك الآثار إلى عدم رجاء البعث منهم المستلزم لعدم رجائهم للجزاء، ويجوز أن يكون معنى يرجون يخافون.
41- " وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا " أي ما يتخذونك إلا هزؤاً: أي مهزوءاً بك، قصر معاملتهم له على اتخاذهم إياه هزواً، فجواب إذا هو إن يتخذونك وقيل الجواب محذوف، وهو قالوا "أهذا الذي" وعلى هذا فتكون جملة إن يتخذونك إلا هزؤاً معترضة، والأول أولى. وتكون جملة "أهذا الذي بعث الله رسولاً" في محل نصب على الحال بتقدير القول: أي قائلين أهذا إلخ، وفي اسم الإشارة دلالة على استحقارهم له وتهكمهم به، والعائد محذوف: أي بعثه الله وانتصاب رسولاً على الحال: أي مرسلاً، واسم الإشارة مبتدأ، وخبره الموصول.
وصلته 42- "إن كاد ليضلنا عن آلهتنا" أي قالوا: إن كاد هذا الرسول ليضلنا: ليصرفنا عن آلهتنا فنترك عبادتها، وإن هنا هي المخففة، وضمير الشأن محذوف: أي إنه كاد أن يصرفنا عنها "لولا أن صبرنا عليها" أي حسبنا أنفسنا على عبادتها، ثم إنه سبحانه أجاب عليهم فقال: "وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلاً" أي حين يرون عذاب يوم القيامة الذي يستحقونه ويستوجبونه بسبب كفرهم من هو أضل سبيلاً: أي أبعد طريقاً عن الحق والهدى، أهم أم المؤمنون؟ ثم بين لهم سبحانه أنه لا تمسك لهم فيما ذهبوا إليه سوى التقليد واتباع الهوى.
الصفحة رقم 363 من المصحف تحميل و استماع mp3