سورة النمل | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 383 من المصحف
قوله تعالى: "أمن يبدأ الخلق ثم يعيده" كانوا يقرون أنه الخالق الرازق فألزمهم الإعادة؛ أي إذا قدر على الابتداء فمن ضرورته القدرة على الإعادة، وهو أهون عليه. "أإله مع الله" يخلق ويرزق ويبدئ ويعيد "قل هاتوا برهانكم" أي حجتكم أن لي شريكا، أوحجتكم في أنه صنع أحد شيئا من هذه الأشياء غير الله "إن كنتم صادقين".
الآيات: 65 - 66 {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون، بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون}
قوله تعالى: "قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله". وعن بعضهم: أخفى غيبه على الخلق، ولم يطلع عليه أحد لئلا يأمن أحد من عبيده مكره. وقيل: نزلت في المشركين حين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن قيام الساعة. و"من" في موضع رفع؛ والمعنى: قل لا يعلم أحد الغيب إلا الله؛ فإنه بدل من "من" قال الزجاج. الفراء: وإنما رفع ما بعد "إلا" لأن ما قبلها جحد، كقوله: ما ذهب أحد إلا أبوك؛ والمعنى واحد. قال الزجاج: ومن نصب نصب على الاستثناء؛ يعني في الكلام. قال النحاس: وسمعته يحتج بهذه الآية على من صدق منجما؛ وقال: أخاف أن يكفر بهذه الآية.
قلت: وقد مضى هذا في "الأنعام" مستوفى. وقالت عائشة: من زعم أن محمدا يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية؛ والله تعالى يقول: "قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله" [النمل: 65] خرجه مسلم. وروي أنه دخل على الحجاج منجم فاعتقله الحجاج، ثم أخذ حصيات فعدهن، ثم قال: كم في يدي من حصاة ؟ فحسب المنجم ثم قال: كذا؛ فأصاب. ثم اعتقله فأخذ حصيات لم يعدهن فقال: كم في يدي ؟ فحسب فأخطأ ثم حسب فأخطأ؛ ثم قال: أيها الأمير أظنك لا تعرف عددها؛ قال: لا. قال: فإني لا أصيب. قال: فما الفرق؟ قال: إن ذلك أحصيته فخرج عن حد الغيب، وهذا لم تحصه فهو غيب و"لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله" وقد مضى هذا في "آل عمران".
قوله تعالى: "بل ادارك علمهم في الآخرة" هذه قراءة أكثر الناس منهم عاصم وشيبة ونافع ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي. وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد: "بل أدرك" من الإدراك. وقرأ عطاء بن يسار وأخوه سليمان بن يسار والأعمش: "بل ادَّرك" غير مهموز مشددا. وقرأ ابن محيصن: "بل أأدرك" على الاستفهام. وقرأ ابن عباس: "بلى" بإثبات الياء "أدَّارك" بهمزة قطع والدال مشددة وألف بعدها؛ قال النحاس: وإسناده إسناد صحيح، هو من حديث شعبة يرفعه إلى ابن عباس. وزعم هارون القارئ أن قراءة أُبي "بل تدارك علمهم" وحكى الثعلبي أنها في حرف أُبَي أم تدارك. والعرب تضع بل موضع (أم) و(أم) موضع بل إذا كان في أول الكلام استفهام؛ كقول الشاعر:
فوالله لا أدري أسلمى تقولت أم القول أم كل إلي حبيب
أي بل كل. قال النحاس: القراءة الأولى والأخيرة معناهما واحد، لأن أصل "ادارك" تدارك؛ أدغمت الدال في التاء وجيء بألف الوصل؛ وفي معناه قولان: أحدهما أن المعنى بل تكامل علمهم في الآخرة؛ لأنهم رأوا كل ما وعدوا به معاينة فتكامل علمهم به. والقول الآخر أن المعنى: بل تتابع علمهم اليوم في الآخرة؛ فقالوا تكون وقالوا لا تكون. القراءة الثانية فيها أيضا قولان: أحدهما أن معناه كمل في الآخرة؛ وهو مثل الأول؛ قال مجاهد: معناه يدرك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم؛ لأنهم كانوا في الدنيا مكذبين. والقول الآخر أنه على معنى الإنكار؛ وهو مذهب أبي إسحاق؛ واستدل على صحة هذا القول بأن بعده "بل هم منها عمون" أي لم يدرك علمهم علم الآخرة. وقيل: بل ضل وغاب علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم. والقراءة الثالثة: "بل ادرك" فهي بمعنى "بل ادارك" وقد يجيء افتعل وتفاعل بمعنى؛ ولذلك صحح ازدوجوا حين كان بمعنى تزاوجوا. القراءة الرابعة: ليس فيها إلا قول واحد يكون فيه معنى الإنكار؛ كما تقول: أأنا قاتلتك؟! فيكون المعنى لم يدرك؛ وعليه ترجع قراءة ابن عباس؛ قال ابن عباس: "بلى أدارك علمهم في الآخرة" أي لم يدرك. قال الفراء: وهو قول حسن كأنه وجهه إلى الاستهزاء بالمكذبين بالبعث، كقولك لرجل تكذبه: بلى لعمري قد أدركت السلف فأنت تروي ما لا أروي وأنت تكذبه. وقراءة سابعة: "بلَ ادرك" بفتح اللام؛ عدل إلى الفتحة لخفتها. وقد حكي نحو ذلك عن قطرب في "قم الليل" فإنه عدل إلى الفتح. وكذلك و"بع الثوب" ونحوه. وذكر الزمخشري في الكتاب: وقرئ "بل أأدرك" بهمزتين "بل آأدرك" بألف بينهما "بلى أأدرك" "أم تدارك" "أم أدرك" فهذه ثنتا عشرة قراءة، ثم أخذ يعلل وجوه القراءات وقال: فإن قلت فما وجه قراءة "بل أأدرك" على الاستفهام ؟ قلت: هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم، وكذلك من قرأ: أم أدرك" و"أم تدارك" لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة، وأما من قرأ: "بلى أأدرك" على الاستفهام فمعناه بلى يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور وقت كونها؛ لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن. "في الآخرة" في شأن الآخرة ومعناها. "بل هم في شك منها" أي في الدنيا. "بل هم منها عمون" أي بقلوبهم واحدهم عمو. وقيل: عم، وأصله عميون حذفت الياء لالتقاء الساكنين ولم يجز تحريكها لثقل الحركة فيها.
الآيات: 67 - 68 {وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون، لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين}
قوله تعالى: "وقال الذين كفروا" يعني مشركي مكة. "إذا كنا ترابا وآباؤنا آينا لمخرجون" هكذا يقرأ نافع هنا وفي سورة: [العنكبوت]. وقرأ أبو عمرو باستفهامين إلا أنه خفف الهمزة. وقرأ عاصم وحمزة أيضا باستفهامين إلا أنهما حققا الهمزتين، وكل ما ذكرناه في السورتين جميعا واحد. وقرأ الكسائي وابن عامر ورويس ويعقوب: "أئذا" بمهزتين "إننا" بنونين على الخبر في هذه السورة؛ وفي سورة: [العنكبوت] باستفهامين؛ قال أبو جعفر النحاس: القراءة "إذا كنا ترابا وآباؤنا آينا لمخرجون" موافقة للخط حسنة، وقد عارض فيها أبو حاتم فقال وهذا معنى كلامه: "إذا" ليس باستفهام و"آينا" استفهام وفيه "إن" فكيف يجوز أن يعمل ما في حيز الاستفهام فيما قبله؟ ! وكيف يجوز أن يعمل ما بعد "إن" فيما قبلها؟! وكيف يجوز غدا إن زيدا خارج؟ ! فإذا كان فيه استفهام كان أبعد، وهذا إذا سئل عنه كان مشكلا لما ذكره. وقال أبو جعفر: وسمعت محمد بن الوليد يقول: سألنا أبا العباس عن آية من القرآن صعبة مشكلة، وهي قول الله تعالى: "وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد" [سبأ: 7] فقال: إن عمل في "إذا" "ينبئكم" كان محالا؛ لأنه لا ينبئهم ذلك الوقت، وإن عمل فيه ما بعد "إن" كان المعنى صحيحا وكان خطأ في العربية أن يعمل ما قبل "إن" فيما بعدها؛ وهذا سؤال بين رأيت أن يذكر في السورة التي هو فيها؛ فأما أبو عبيد فمال إلى قراءة نافع ورد على من جمع بين استفهامين، واستدل بقوله تعالى: "أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم" [آل عمران: 144] وبقوله تعالى: "أفإن مت فهم الخالدون" [الأنبياء: 34] وهذا الرد على أبي عمرو وعاصم وحمزة وطلحة والأعرج لا يلزم منه شيء، ولا يشبه ما جاء به من الآية شيئا؛ والفرق بنهما أن الشرط وجوابه بمنزلة شيء واحد؛ ومعنى: "أفإن مت فهم الخالدون" [الأنبياء: 34] أفإن مت خلدوا. ونظير هذا: أزيد منطلق، ولا يقال: أزيد أمنطلق؛ لأنها بمنزلة شيء واحد وليس كذلك الآية؛ لأن الثاني جملة قائمة بنفسها فيصلح فيها الاستفهام، والأول كلام يصلح فيه الاستفهام؛ فأما من حذف الاستفهام من الثاني وأثبته في الأول فقرأ: "أئذا كنا ترابا وآباؤنا إننا" فحذفه من الثاني؛ لأن في الكلام دليلا عليه بمعنى الإنكار. "لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين" تقدم. وكانت الأنبياء يقربون أمر البعث مبالغة في التحذير؛ وكل ما هو آت فقريب
الآيات: 69 - 71 {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين، ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين}
قوله تعالى: "قل سيروا في الأرض" أي "قل" لهؤلاء الكفار "سيروا" في بلاد الشام والحجاز واليمن. "فانظروا" أي بقلوبكم وبصائركم "كيف كان عاقبة المجرمين" المكذبين لرسلهم. "ولا تحزن عليهم" أي على كفار مكة إن لم يؤمنوا "ولا تكن في ضيق" في حرج، وقرئ: "في ضيق" بالكسر وقد مضى في آخر "النحل". "ويقولون متى هذا الوعد" أي وقت يجيئنا العذاب بتكذيبنا "إن كنتم صادقين".
الآيات: 72 - 75 {قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون، وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون، وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين}
قوله تعالى: "قل عسى أن يكون ردف لكم" أي اقترب لكم ودنا منكم "بعض الذي تستعجلون" أي من العذاب؛ قال ابن عباس. وهو من ردفه إذا تبعه وجاء في أثره؛ وتكون اللام أدخلت لأن المعنى اقترب لكم ودنا لكم. أو تكون متعلقة بالمصدر. وقيل: معناه معكم. وقال ابن شجرة: تبعكم؛ ومنه ردف المرأة؛ لأنه تبع لها من خلفها؛ ومنه قول أبي ذؤيب:
عاد السواد بياضا في مفارقه لا مرحبا ببياض الشيب إذ ردفا
قال الجوهري: وأردفه أمر لغة في ردفه، مثل تبعه وأتبعه بمعنى؛ قال خزيمة بن مالك بن نهد:
إذا الجوزاء أردفت الثريا ظننت بآل فاطمة الظنونا
يعني فاطمة بنت يذكر بن عنزة أحد القارظين. وقال الفراء: "ردف لكم" دنا لكم ولهذا قال: "لكم". وقيل: ردفه وردف له بمعنى فتزاد اللام للتوكيد؛ عن الفراء أيضا. كما تقول: نقدته ونقدت له، وكلته ووزنته، وكلت له ووزنت له؛ ونحو ذلك. "بعض الذي تستعجلون" من العذاب فكان ذلك يوم بدر. وقيل: عذاب القبر. "وإن ربك لذو فضل على الناس" في تأخير العقوبة وإدرار الرزق "ولكن أكثرهم لا يشكرون" فضله ونعمه.
قوله تعالى: "وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم" أي تخفي صدورهم "وما يعلنون" يظهرون من الأمور. وقرأ ابن محيصن وحميد: "ما تكن" من كننت الشيء إذا سترته هنا. وفي "القصص" تقديره: ما تكن صدورهم عليه؛ وكأن الضمير الذي في الصدور كالجسم السائر. ومن قرأ: "تكن" فهو المعروف؛ يقال: أكننت الشيء إذا أخفيته في نفسك.
قوله تعالى: "وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين" قال الحسن: الغائبة هنا القيامة. وقيل: ما غاب عنهم من عذاب السماء والأرض؛ حكاه النقاش. وقال ابن شجرة: الغائبة هنا جميع ما أخفى الله تعالى عن خلقه وغيبه عنهم، وهذا عام. وإنما دخلت الهاء في "غائبة" إشارة إلى الجمع؛ أي. ما من خصلة غائبة عن الخلق إلا والله عالم بها قد أثبتها في أم الكتاب عنده، فكيف يخفى عليه ما يسر هؤلاء وما يعلنونه. وقيل: أي كل شيء هو مثبت في أم الكتاب يخرجه للأجل المؤجل له؛ فالذي يستعجلونه من العذاب له أجل مضروب لا يتأخر عنه ولا يتقدم عليه. والكتاب اللوح المحفوظ أثبت الله فيه ما أراد ليعلم بذلك من يشاء من ملائكته.
الآيات: 76 - 81 {إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين، إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم، فتوكل على الله إنك على الحق المبين، إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون}
قوله تعالى: "إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون" وذلك أنهم اختلفوا في كثير من الأشياء حتى لعن بعضهم فنزلت. والمعنى: إن هذا القرآن يبين لهم ما اختلفوا فيه لو أخذوا به، وذلك ما حرفوه من التوراة والإنجيل، وما سقط من كتبهم من الأحكام. "وإنه" يعني القرآن "لهدى ورحمة للمؤمنين" خص المؤمنين لأنهم المنتفعون به. "إن ربك يقضي بينهم بحكمه" أي يقضي بين بني إسرائيل فيما اختلفوا فيه في الآخرة، فيجازي المحق والمبطل. وقيل: يقضي بينهم في الدنيا فيظهر ما حرفوه. "وهو العزيز" المنيع الغالب الذي لا يرد أمره "العليم" الذي لا يخفى عليه شيء.
قوله تعالى: "فتوكل على الله" أي فوض إليه أمرك واعتمد عليه؛ فإنه ناصرك. "إنك على الحق المبين" أي الظاهر. وقيل: المظهر لمن تدبر وجه الصواب. "إنك لا تسمع الموتى" يعني الكفار لتركهم التدبر؛ فهم كالموتى لا حس لهم ولا عقل. وقيل: هذا فيمن علم أنه لا يؤمن. "ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين" يعني الكفار الذين هم بمنزلة الصم عن قبول المواعظ؛ فإذا دعوا إلى الخير أعرضوا وولوا كأنهم لا يسمعون؛ نظيره: "صم بكم عمي" [البقرة: 18] كما تقدم. وقرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وابن أبي إسحاق وعباس عن أبي عمرو: "ولا يسمع" بفتح الياء والميم "الصم" رفعا على الفاعل. الباقون "تسمع" مضارع أسمعت "الصم" نصبا.
مسألة: وقد احتجت عائشة رضي الله عنها في إنكارها أن النبي صلى الله عليه وسلم أسمع موتى بدر بهذه الآية؛ فنظرت في الأمر بقياس عقلي ووقفت مع هذه الآية. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أنتم بأسمع منهم) قال ابن عطية: فيشبه أن قصة بدر خرق عادة لمحمد صلى الله عليه وسلم في أن رد الله إليهم إدراكا سمعوا به مقاله ولولا إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بقي من الكفرة، وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين.
قلت: روى البخاري رضي الله عنه؛ حدثني عبدالله بن محمد سمع روح بن عبادة قال حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى وتبعه أصحابه، قالوا: ما نُرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفير الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؛ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؛ قال فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجسام لا أرواح لها؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما. خرجه مسلم أيضا. قال البخاري: حدثنا عثمان قال حدثنا عبدة عن هشام عن أبيه عن ابن عمر قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقا) ثم قال: (إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق) ثم قرأت "إنك لا تسمع الموتى" حتى قرأت الآية. وقد عورضت هذه الآية بقصة بدر وبالسلام على القبور، وبما روي في ذلك من أن الأرواح تكون على شفير القبور في أوقات، وبأن الميت يسمع قرع النعال إذا انصرفوا عنه، إلى غير ذلك؛ فلو لم يسمع الميت لم يُسلَم عليه. وهذا واضح وقد بيناه في كتاب "التذكرة".
قوله تعالى: "وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم" أي كفرهم؛ أي ليس في وسعك خلق الإيمان في قلوبهم. وقرأ حمزة: "وما أنت تهدي العمي عن ضلالتهم" كقوله: "أفأنت تهدي العمي". الباقون: (بهادي العمي)وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وفي "الروم" مثله. وكلهم وقف على (بهادي) بالياء في هذه السورة وبغير ياء في "الروم" اتباعا للمصحف، إلا يعقوب فإنه وقف فيهما جميعا بالياء. وأجاز الفراء وأبو حاتم: (وما أنت بهاد العمي) وهي الأصل. وفي حرف عبدالله "وما أن تهدي العمي". "إن تسمع" أي ما تسمع. "إلا من يؤمن بآياتنا" قال ابن عباس: أي إلا من خلقته للسعادة فهم مخلصون في التوحيد.
تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 383
383- تفسير الصفحة رقم383 من المصحفقوله تعالى: "أمن يبدأ الخلق ثم يعيده" كانوا يقرون أنه الخالق الرازق فألزمهم الإعادة؛ أي إذا قدر على الابتداء فمن ضرورته القدرة على الإعادة، وهو أهون عليه. "أإله مع الله" يخلق ويرزق ويبدئ ويعيد "قل هاتوا برهانكم" أي حجتكم أن لي شريكا، أوحجتكم في أنه صنع أحد شيئا من هذه الأشياء غير الله "إن كنتم صادقين".
الآيات: 65 - 66 {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون، بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون}
قوله تعالى: "قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله". وعن بعضهم: أخفى غيبه على الخلق، ولم يطلع عليه أحد لئلا يأمن أحد من عبيده مكره. وقيل: نزلت في المشركين حين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن قيام الساعة. و"من" في موضع رفع؛ والمعنى: قل لا يعلم أحد الغيب إلا الله؛ فإنه بدل من "من" قال الزجاج. الفراء: وإنما رفع ما بعد "إلا" لأن ما قبلها جحد، كقوله: ما ذهب أحد إلا أبوك؛ والمعنى واحد. قال الزجاج: ومن نصب نصب على الاستثناء؛ يعني في الكلام. قال النحاس: وسمعته يحتج بهذه الآية على من صدق منجما؛ وقال: أخاف أن يكفر بهذه الآية.
قلت: وقد مضى هذا في "الأنعام" مستوفى. وقالت عائشة: من زعم أن محمدا يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية؛ والله تعالى يقول: "قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله" [النمل: 65] خرجه مسلم. وروي أنه دخل على الحجاج منجم فاعتقله الحجاج، ثم أخذ حصيات فعدهن، ثم قال: كم في يدي من حصاة ؟ فحسب المنجم ثم قال: كذا؛ فأصاب. ثم اعتقله فأخذ حصيات لم يعدهن فقال: كم في يدي ؟ فحسب فأخطأ ثم حسب فأخطأ؛ ثم قال: أيها الأمير أظنك لا تعرف عددها؛ قال: لا. قال: فإني لا أصيب. قال: فما الفرق؟ قال: إن ذلك أحصيته فخرج عن حد الغيب، وهذا لم تحصه فهو غيب و"لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله" وقد مضى هذا في "آل عمران".
قوله تعالى: "بل ادارك علمهم في الآخرة" هذه قراءة أكثر الناس منهم عاصم وشيبة ونافع ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي. وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد: "بل أدرك" من الإدراك. وقرأ عطاء بن يسار وأخوه سليمان بن يسار والأعمش: "بل ادَّرك" غير مهموز مشددا. وقرأ ابن محيصن: "بل أأدرك" على الاستفهام. وقرأ ابن عباس: "بلى" بإثبات الياء "أدَّارك" بهمزة قطع والدال مشددة وألف بعدها؛ قال النحاس: وإسناده إسناد صحيح، هو من حديث شعبة يرفعه إلى ابن عباس. وزعم هارون القارئ أن قراءة أُبي "بل تدارك علمهم" وحكى الثعلبي أنها في حرف أُبَي أم تدارك. والعرب تضع بل موضع (أم) و(أم) موضع بل إذا كان في أول الكلام استفهام؛ كقول الشاعر:
فوالله لا أدري أسلمى تقولت أم القول أم كل إلي حبيب
أي بل كل. قال النحاس: القراءة الأولى والأخيرة معناهما واحد، لأن أصل "ادارك" تدارك؛ أدغمت الدال في التاء وجيء بألف الوصل؛ وفي معناه قولان: أحدهما أن المعنى بل تكامل علمهم في الآخرة؛ لأنهم رأوا كل ما وعدوا به معاينة فتكامل علمهم به. والقول الآخر أن المعنى: بل تتابع علمهم اليوم في الآخرة؛ فقالوا تكون وقالوا لا تكون. القراءة الثانية فيها أيضا قولان: أحدهما أن معناه كمل في الآخرة؛ وهو مثل الأول؛ قال مجاهد: معناه يدرك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم؛ لأنهم كانوا في الدنيا مكذبين. والقول الآخر أنه على معنى الإنكار؛ وهو مذهب أبي إسحاق؛ واستدل على صحة هذا القول بأن بعده "بل هم منها عمون" أي لم يدرك علمهم علم الآخرة. وقيل: بل ضل وغاب علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم. والقراءة الثالثة: "بل ادرك" فهي بمعنى "بل ادارك" وقد يجيء افتعل وتفاعل بمعنى؛ ولذلك صحح ازدوجوا حين كان بمعنى تزاوجوا. القراءة الرابعة: ليس فيها إلا قول واحد يكون فيه معنى الإنكار؛ كما تقول: أأنا قاتلتك؟! فيكون المعنى لم يدرك؛ وعليه ترجع قراءة ابن عباس؛ قال ابن عباس: "بلى أدارك علمهم في الآخرة" أي لم يدرك. قال الفراء: وهو قول حسن كأنه وجهه إلى الاستهزاء بالمكذبين بالبعث، كقولك لرجل تكذبه: بلى لعمري قد أدركت السلف فأنت تروي ما لا أروي وأنت تكذبه. وقراءة سابعة: "بلَ ادرك" بفتح اللام؛ عدل إلى الفتحة لخفتها. وقد حكي نحو ذلك عن قطرب في "قم الليل" فإنه عدل إلى الفتح. وكذلك و"بع الثوب" ونحوه. وذكر الزمخشري في الكتاب: وقرئ "بل أأدرك" بهمزتين "بل آأدرك" بألف بينهما "بلى أأدرك" "أم تدارك" "أم أدرك" فهذه ثنتا عشرة قراءة، ثم أخذ يعلل وجوه القراءات وقال: فإن قلت فما وجه قراءة "بل أأدرك" على الاستفهام ؟ قلت: هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم، وكذلك من قرأ: أم أدرك" و"أم تدارك" لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة، وأما من قرأ: "بلى أأدرك" على الاستفهام فمعناه بلى يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور وقت كونها؛ لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن. "في الآخرة" في شأن الآخرة ومعناها. "بل هم في شك منها" أي في الدنيا. "بل هم منها عمون" أي بقلوبهم واحدهم عمو. وقيل: عم، وأصله عميون حذفت الياء لالتقاء الساكنين ولم يجز تحريكها لثقل الحركة فيها.
الآيات: 67 - 68 {وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون، لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين}
قوله تعالى: "وقال الذين كفروا" يعني مشركي مكة. "إذا كنا ترابا وآباؤنا آينا لمخرجون" هكذا يقرأ نافع هنا وفي سورة: [العنكبوت]. وقرأ أبو عمرو باستفهامين إلا أنه خفف الهمزة. وقرأ عاصم وحمزة أيضا باستفهامين إلا أنهما حققا الهمزتين، وكل ما ذكرناه في السورتين جميعا واحد. وقرأ الكسائي وابن عامر ورويس ويعقوب: "أئذا" بمهزتين "إننا" بنونين على الخبر في هذه السورة؛ وفي سورة: [العنكبوت] باستفهامين؛ قال أبو جعفر النحاس: القراءة "إذا كنا ترابا وآباؤنا آينا لمخرجون" موافقة للخط حسنة، وقد عارض فيها أبو حاتم فقال وهذا معنى كلامه: "إذا" ليس باستفهام و"آينا" استفهام وفيه "إن" فكيف يجوز أن يعمل ما في حيز الاستفهام فيما قبله؟ ! وكيف يجوز أن يعمل ما بعد "إن" فيما قبلها؟! وكيف يجوز غدا إن زيدا خارج؟ ! فإذا كان فيه استفهام كان أبعد، وهذا إذا سئل عنه كان مشكلا لما ذكره. وقال أبو جعفر: وسمعت محمد بن الوليد يقول: سألنا أبا العباس عن آية من القرآن صعبة مشكلة، وهي قول الله تعالى: "وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد" [سبأ: 7] فقال: إن عمل في "إذا" "ينبئكم" كان محالا؛ لأنه لا ينبئهم ذلك الوقت، وإن عمل فيه ما بعد "إن" كان المعنى صحيحا وكان خطأ في العربية أن يعمل ما قبل "إن" فيما بعدها؛ وهذا سؤال بين رأيت أن يذكر في السورة التي هو فيها؛ فأما أبو عبيد فمال إلى قراءة نافع ورد على من جمع بين استفهامين، واستدل بقوله تعالى: "أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم" [آل عمران: 144] وبقوله تعالى: "أفإن مت فهم الخالدون" [الأنبياء: 34] وهذا الرد على أبي عمرو وعاصم وحمزة وطلحة والأعرج لا يلزم منه شيء، ولا يشبه ما جاء به من الآية شيئا؛ والفرق بنهما أن الشرط وجوابه بمنزلة شيء واحد؛ ومعنى: "أفإن مت فهم الخالدون" [الأنبياء: 34] أفإن مت خلدوا. ونظير هذا: أزيد منطلق، ولا يقال: أزيد أمنطلق؛ لأنها بمنزلة شيء واحد وليس كذلك الآية؛ لأن الثاني جملة قائمة بنفسها فيصلح فيها الاستفهام، والأول كلام يصلح فيه الاستفهام؛ فأما من حذف الاستفهام من الثاني وأثبته في الأول فقرأ: "أئذا كنا ترابا وآباؤنا إننا" فحذفه من الثاني؛ لأن في الكلام دليلا عليه بمعنى الإنكار. "لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين" تقدم. وكانت الأنبياء يقربون أمر البعث مبالغة في التحذير؛ وكل ما هو آت فقريب
الآيات: 69 - 71 {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين، ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين}
قوله تعالى: "قل سيروا في الأرض" أي "قل" لهؤلاء الكفار "سيروا" في بلاد الشام والحجاز واليمن. "فانظروا" أي بقلوبكم وبصائركم "كيف كان عاقبة المجرمين" المكذبين لرسلهم. "ولا تحزن عليهم" أي على كفار مكة إن لم يؤمنوا "ولا تكن في ضيق" في حرج، وقرئ: "في ضيق" بالكسر وقد مضى في آخر "النحل". "ويقولون متى هذا الوعد" أي وقت يجيئنا العذاب بتكذيبنا "إن كنتم صادقين".
الآيات: 72 - 75 {قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون، وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون، وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين}
قوله تعالى: "قل عسى أن يكون ردف لكم" أي اقترب لكم ودنا منكم "بعض الذي تستعجلون" أي من العذاب؛ قال ابن عباس. وهو من ردفه إذا تبعه وجاء في أثره؛ وتكون اللام أدخلت لأن المعنى اقترب لكم ودنا لكم. أو تكون متعلقة بالمصدر. وقيل: معناه معكم. وقال ابن شجرة: تبعكم؛ ومنه ردف المرأة؛ لأنه تبع لها من خلفها؛ ومنه قول أبي ذؤيب:
عاد السواد بياضا في مفارقه لا مرحبا ببياض الشيب إذ ردفا
قال الجوهري: وأردفه أمر لغة في ردفه، مثل تبعه وأتبعه بمعنى؛ قال خزيمة بن مالك بن نهد:
إذا الجوزاء أردفت الثريا ظننت بآل فاطمة الظنونا
يعني فاطمة بنت يذكر بن عنزة أحد القارظين. وقال الفراء: "ردف لكم" دنا لكم ولهذا قال: "لكم". وقيل: ردفه وردف له بمعنى فتزاد اللام للتوكيد؛ عن الفراء أيضا. كما تقول: نقدته ونقدت له، وكلته ووزنته، وكلت له ووزنت له؛ ونحو ذلك. "بعض الذي تستعجلون" من العذاب فكان ذلك يوم بدر. وقيل: عذاب القبر. "وإن ربك لذو فضل على الناس" في تأخير العقوبة وإدرار الرزق "ولكن أكثرهم لا يشكرون" فضله ونعمه.
قوله تعالى: "وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم" أي تخفي صدورهم "وما يعلنون" يظهرون من الأمور. وقرأ ابن محيصن وحميد: "ما تكن" من كننت الشيء إذا سترته هنا. وفي "القصص" تقديره: ما تكن صدورهم عليه؛ وكأن الضمير الذي في الصدور كالجسم السائر. ومن قرأ: "تكن" فهو المعروف؛ يقال: أكننت الشيء إذا أخفيته في نفسك.
قوله تعالى: "وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين" قال الحسن: الغائبة هنا القيامة. وقيل: ما غاب عنهم من عذاب السماء والأرض؛ حكاه النقاش. وقال ابن شجرة: الغائبة هنا جميع ما أخفى الله تعالى عن خلقه وغيبه عنهم، وهذا عام. وإنما دخلت الهاء في "غائبة" إشارة إلى الجمع؛ أي. ما من خصلة غائبة عن الخلق إلا والله عالم بها قد أثبتها في أم الكتاب عنده، فكيف يخفى عليه ما يسر هؤلاء وما يعلنونه. وقيل: أي كل شيء هو مثبت في أم الكتاب يخرجه للأجل المؤجل له؛ فالذي يستعجلونه من العذاب له أجل مضروب لا يتأخر عنه ولا يتقدم عليه. والكتاب اللوح المحفوظ أثبت الله فيه ما أراد ليعلم بذلك من يشاء من ملائكته.
الآيات: 76 - 81 {إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين، إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم، فتوكل على الله إنك على الحق المبين، إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون}
قوله تعالى: "إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون" وذلك أنهم اختلفوا في كثير من الأشياء حتى لعن بعضهم فنزلت. والمعنى: إن هذا القرآن يبين لهم ما اختلفوا فيه لو أخذوا به، وذلك ما حرفوه من التوراة والإنجيل، وما سقط من كتبهم من الأحكام. "وإنه" يعني القرآن "لهدى ورحمة للمؤمنين" خص المؤمنين لأنهم المنتفعون به. "إن ربك يقضي بينهم بحكمه" أي يقضي بين بني إسرائيل فيما اختلفوا فيه في الآخرة، فيجازي المحق والمبطل. وقيل: يقضي بينهم في الدنيا فيظهر ما حرفوه. "وهو العزيز" المنيع الغالب الذي لا يرد أمره "العليم" الذي لا يخفى عليه شيء.
قوله تعالى: "فتوكل على الله" أي فوض إليه أمرك واعتمد عليه؛ فإنه ناصرك. "إنك على الحق المبين" أي الظاهر. وقيل: المظهر لمن تدبر وجه الصواب. "إنك لا تسمع الموتى" يعني الكفار لتركهم التدبر؛ فهم كالموتى لا حس لهم ولا عقل. وقيل: هذا فيمن علم أنه لا يؤمن. "ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين" يعني الكفار الذين هم بمنزلة الصم عن قبول المواعظ؛ فإذا دعوا إلى الخير أعرضوا وولوا كأنهم لا يسمعون؛ نظيره: "صم بكم عمي" [البقرة: 18] كما تقدم. وقرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وابن أبي إسحاق وعباس عن أبي عمرو: "ولا يسمع" بفتح الياء والميم "الصم" رفعا على الفاعل. الباقون "تسمع" مضارع أسمعت "الصم" نصبا.
مسألة: وقد احتجت عائشة رضي الله عنها في إنكارها أن النبي صلى الله عليه وسلم أسمع موتى بدر بهذه الآية؛ فنظرت في الأمر بقياس عقلي ووقفت مع هذه الآية. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أنتم بأسمع منهم) قال ابن عطية: فيشبه أن قصة بدر خرق عادة لمحمد صلى الله عليه وسلم في أن رد الله إليهم إدراكا سمعوا به مقاله ولولا إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بقي من الكفرة، وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين.
قلت: روى البخاري رضي الله عنه؛ حدثني عبدالله بن محمد سمع روح بن عبادة قال حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى وتبعه أصحابه، قالوا: ما نُرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفير الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؛ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؛ قال فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجسام لا أرواح لها؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما. خرجه مسلم أيضا. قال البخاري: حدثنا عثمان قال حدثنا عبدة عن هشام عن أبيه عن ابن عمر قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقا) ثم قال: (إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق) ثم قرأت "إنك لا تسمع الموتى" حتى قرأت الآية. وقد عورضت هذه الآية بقصة بدر وبالسلام على القبور، وبما روي في ذلك من أن الأرواح تكون على شفير القبور في أوقات، وبأن الميت يسمع قرع النعال إذا انصرفوا عنه، إلى غير ذلك؛ فلو لم يسمع الميت لم يُسلَم عليه. وهذا واضح وقد بيناه في كتاب "التذكرة".
قوله تعالى: "وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم" أي كفرهم؛ أي ليس في وسعك خلق الإيمان في قلوبهم. وقرأ حمزة: "وما أنت تهدي العمي عن ضلالتهم" كقوله: "أفأنت تهدي العمي". الباقون: (بهادي العمي)وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وفي "الروم" مثله. وكلهم وقف على (بهادي) بالياء في هذه السورة وبغير ياء في "الروم" اتباعا للمصحف، إلا يعقوب فإنه وقف فيهما جميعا بالياء. وأجاز الفراء وأبو حاتم: (وما أنت بهاد العمي) وهي الأصل. وفي حرف عبدالله "وما أن تهدي العمي". "إن تسمع" أي ما تسمع. "إلا من يؤمن بآياتنا" قال ابن عباس: أي إلا من خلقته للسعادة فهم مخلصون في التوحيد.
الصفحة رقم 383 من المصحف تحميل و استماع mp3