تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 383 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 383

382

64- " أمن يبدأ الخلق ثم يعيده " كانوا يقرون بأن الله سبحانه هو الخالق فألزمهم الإعادة: أي إذا قدر على الابتداء قدر على الإعادة "ومن يرزقكم من السماء والأرض" بالمطر والنبات: أي هو خير أم ما تجعلونه شريكاً له مما لا يقدر على شيء من ذلك " أإله مع الله " حتى تجعلونه شريكاً له "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" أي حجتكم على أن لله سبحانه شريكاً، أو هاتوا حجتكم أن ثم صانعاً يصنع كصنعه، وفي هذا تبكيت لهم وتهكم بهم.
65- "قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله" أي لا يعلم أحد من المخلوقات الكائنة في السموات والأرض الغيب الذي استأثر الله بعلمه، والاستثناء في قوله إلا الله منقطع: أي لكن الله يعلم ذلك، ورفع ما بعد إلا مع كون الاستثناء منقطعاً هو على اللغة التميمية كما في قولهم: إلا اليعافير وإلا العيس وقيل إن فاعل يعلم هو ما بعد إلا، ومن في السموات مفعوله، والغيب بدل من من: وقال الزجاج: إلا الله بدل من من. قال الفراء: وإنما رفع ما بعد إلا لأن ما بعدها خبر كقولهم ما ذهب أحداً إلا أبوك وهو كقول الزجاج. قال الزجاج: ومن نصب نصب على الاستثناء "وما يشعرون أيان يبعثون" أي لا يشعرون متى ينشرون من القبور، وأيان مركبة من أي وإن. وقد تقدم تحقيقه، والضمير للكفرة. وقرأ السلمي إيان بكسر الهمزة، وهي لغة بني سليم وهي منصوبة بيبعثون ومعلقة بيشعرون، فتكون هي وما بعدها في محل نصب بنزع الخافض: أي وما يشعرون بوقت بعثهم، ومعنى أيان معنى متى.
66- "بل ادارك علمهم في الآخرة". قرأ الجمهور "ادارك" وأصل ادارك تدارك أدغمت التاء في الدال وجيء بهمزة الوصل ليمكن الابتداء بالساكن. وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد " بل ادارك " من الإدراك. وقرأ عطاء بن يسار وسليمان بن يسار والأعمش بل ادرك بفتح لام بل وتشديد الدال. وقرأ ابن محيصن بل أدراك على الاستفهام. وقرأ ابن عباس وأبو رجاء وشيبة والأعمش والأعرج بلى أدارك بإثبات الياء في بل وبهمزة قطع وتشديد الدال. وقرأ أبي بل تدارك ومعنى الآية: بل تكامل علمهم في الآخرة لأنهم رأوا كل ما وعدوا به وعاينوه. وقيل معناه: تتابع علمهم في الآخرة والقراءة الثانية معناها كل علمهم في الآخرة مع المعاينة وذلك حين لا ينفعهم العلم لأنهم كانوا في الدنيا مكذبين. وقال الزجاج: إنه على معنى الإنكار، واستدل على ذلك بقوله فيما بعد "بل هم منها عمون" أي لم يدرك علمهم علم الآخرة، وقيل المعنى: بل ضل وغاب علمهم في الآخرة فليس لهم علم ومعنى القراءة الثالثة كمعنى القراءة الأولى فافتعل وتفاعل قد يجيئان لمعنى، والقراءة الرابعة هي بمعنى الإنكار. قال الفراء: وهو وجه حسن كأنه وجهه إلى المكذبين على طريق الاستهزاء بهم، وفي الآية قراءات أخر لا ينبغي الاشتغال بذكرها وتوجيهها "بل هم في شك منها" أي بل هم اليوم في الدنيا في شك من الآخرة، ثم أضرب عن ذلك إلى ما هو أشد منه فقال: "بل هم منها عمون" فلا يدركون شيئاً من دلائلها لاختلال بصائرهم التي يكون بها الإدراك، وعمون جمع عم: وهو من كان أعمى القلب، والمراد بيان جهلهم بها على وجه لا يهتدون إلى شيء مما يوصل إلى العلم بها، فمن قال: أن معنى الآية الأولى أعني بل ادارك علمهم في الآخرة أنه كمل علمهم وتم مع المعاينة فلا بد من حمل قوله بل هم في شك إلخ على ما كانوا عليه في الدنيا، ومن قال: إن معنى الآية الأولى الاستهزاء بهم والتبكيت لهم لم يحتج إلى تقييد قوله بل هم في شك إلخ بما كانوا عليه في الدنيا. وبهذا يتضح معنى هذه الآيات ويظهر ظهوراً بيناً. وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وسلام على عباده الذين اصطفى". قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اصطفاهم الله لنبيه، وروي مثله عن سفيان الثوري. والأولى ما قدمناه من التعميم فيدخل في ذلك أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم دخولاً أولياً. وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والطبراني " عن رجل من بلجهم قال قلت يا رسول الله إلى ما تدعو؟ قال: أدعوا الله وحده الذي إن مسك ضر فدعوته كشفه عنك" هذا طرف من حديث طويل. وقد رواه أحمد من وجه آخر فبين اسم الصحابي فقال: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا يونس، حدثنا عبيد بن عبيدة الهجيمي عن أبيه عن أبي تميمة الهجيمي عن جابر بن سليم الهجيمي. ولهذا الحديث طرق عند أبي داود والنسائي. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة قالت ثلاثة من تكلم بواحدة منهم فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: "قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "بل ادارك علمهم في الآخرة" قال: حين لا ينفع العلم. وأخرج أبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه أنه قرأ " بل ادارك علمهم في الآخرة " قال: لم يدرك علمهم. قال أبو عبيد: يعني أنه قرأها بالاستفهام. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً "بل ادارك علمهم في الآخرة" يقول: غاب علمهم.
لما ذكر سبحانه أن المشرحكين في شك من البعث وأنهم عمون عن النظر في دلائله أراد أن يبين غاية شبههم وهي مجرد استبعاد إحياء الأموات بعد صيرورتهم تراباً فقال: 67- " وقال الذين كفروا أإذا كنا ترابا وآباؤنا أإنا لمخرجون " والعامل في إذا محذوف دل عليه مخرجون تقديره أنبعث أو نخرج إذا كنا، وإنما لم يعمل فيه مخرجون لتوسط همزة الاستفهام وإن ولام الابتداء بينهما، قرأ أبو عمرو باستفهامين إلا أنه خفف الهمزة. وقرأ عاصم وحمزة باستفهامين، إلا أنهم حققا الهمزتين. وقرأ نافع بهمزة، وقرأ ابن عامر وورش ويعقوب " أإذا " بهمزتين "‌وإننا" بنونين على الخبر، ورجح أبو عبيد قراءة نافع، ورد على من جمع بين استفهامين، ومعنى الآية: أنهم استنكروا واستبعدوا أن يخرجوا من قبورهم أحياء بعد أن قد صاروا تراباً.
ثم أكدوا ذلك الاستبعاد بما هو تكذيب للبعث فقالوا: "لقد وعدنا هذا" يعنون البعث "نحن وآباؤنا من قبل" أي من قبل وعد محمد لنا، والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير الإنكار مصدرة بالقسم لزيادة التقرير "إن هذا" الوعد بالبعث "إلا أساطير الأولين" أحاديثهم وأكاذيبهم الملفقة، وقد تقدم تحقيق معنى الأساطير في سورة المؤمنون، ثم أوعدهم سبحانه على عدم قبول ما جاءت به الأنبياء من الإخبار بالبعث، فأمرهم بالنظر في أحوال الأمم السابقة المكذبة للأنبياء وما عوقبوا به وكيف كانت عاقبتهم.
فقال: 69- " قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين " بما جاءت به الأنبياء من الإخبار بالبعث، ومعنى النظر هو مشاهدة آثارهم بالبصر فإن في المشاهدة زيادة اعتبار. وقيل المعنى: فانظروا بقلوبكم وبصائركم كيف كان عاقبة المكذبين لرسلهم، والأولى أولى لأمرهم بالسير في الأرض.
70- "ولا تحزن عليهم" لما وقع منهم من الإصرار على الكفر "ولا تكن في ضيق" الضيق: الحرج، يقال ضاق الشيء ضيقاً بالكسر قرئ بهما، وهما لغتان. قال ابن السكيت: يقال في صدر فلان ضيق وضيق وهو ما تضيق عنه الصدور. وقد تقدم تفسير هذه الآية في آخر سورة النحل.
71- "ويقولون متى هذا الوعد" أي بالعذاب التي تعدنا به "إن كنتم صادقين" في ذلك.
72- "قل عسى أن يكون ردف لكم" يقال ردفت الرجل وأردفته إذا ركبت خلفه وردفه إذا أتبعه وجاء في أثره، والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الكفار عسى أن يكون هذا العذاب الذي به توعدون تبعكم ولحقكم، فتكون اللام زائدة للتأكيد، أو بمعنى اقترب لكم ودنا لكم، فتكون غير زائدة. قال ابن شجرة: معنى ردف لكم تبعكم، قال ومنه ردف المرأة لأنه تبع لها من خلفها، ومنه قول أبي ذؤيب: عاد السواد بياضاً في مفارقه لا مرحبا ببياض الشيب إذ ردفا قال الجوهري: وأردفه لغة في ردفه مثل تبعه وأتبعه بمعنى. قال خزيمة بن مالك بن نهد: إذا الجوزاء أردفت الثريا ظننت بآل فاطمة الظنونا قال الفراء: ردف لكم: دنا لكم ولهذا قيل لكم. وقرأ الأعرج ردف لكم بفتح الدال وهي لغة والكسر أشهر. وقرأ ابن عباس أزف لكم وارتفاع "بعض الذي تستعجلون" أي على أنه فاعل ردف، والمراد بعض الذي تستعجلونه من العذاب: أي عسى أن يكون قد قرب ودنا وأزف بعض ذلك، قيل هو عذابهم بالقتل يوم بدر، وقيل هو عذاب القبر.
ثم ذكر سبحانه فضله في تأخير العذاب فقال: 73- "وإن ربك لذو فضل على الناس" في تأخير العقوبة، والأولى أن تحمل الآية على العموم ويكون تأخير العقوبة من جملة أفضاله سبحانه وإنعامه "ولكن أكثرهم لا يشكرون" فضله وإنعامه ولا يعرفون حق إحسانه، ثم بين أنه مطلع على ما في صدورهم.
فقال: 74- " وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم " أي ما تخفيه. قرأ الجمهور تكن بضم التاء من أكن. وقرأ ابن محيصن وابن السميفع وحميد بفتح التاء وضم الكاف، يقال كننته بمعنى سترته وخفيت أثره "وما يعلنون" وما يظهرون من أقوالهم وأفعالهم.
75- "وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين" قال المفسرون: ما من شيء غائب وأمر يغيب عن الخلق في السماء والأرض إلا في كتاب مبين إلا هو مبين في اللوح المحفوظ، وغائبة هي من الصفات والتاء للمبالغة. قال الحسن: الغائبة هنا هي القيامة. وقال مقاتل: علم ما يستعجلون من العذاب هو مبين عند الله وإن غاب عن الخلق. وقال ابن شجرة: الغائبة هنا جميع ما أخفى الله عن خلقه وغيبه عنهم مبين في أم الكتاب، فكيف يخفى عليه شيء من ذلك، ومن جملة ذلك ما يستعجلونه قبل أجله المضروب له؟.
76- "إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون" وذلك لأن أهل الكتاب تفرقوا وتحزبوا أحزاباً يطعن بعضهم على بعض ويتبرأ بعضهم من بعض، فنزل القرآن مبيناً لما اختلفوا فيه من الحق، فلو أخذوا به لوجدوا فيه ما يرفع اختلافهم ويدفع تفرقهم.