تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 383 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 383

383 : تفسير الصفحة رقم 383 من القرآن الكريم

** أَمّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السّمَآءِ والأرْضِ أَإِلَـَهٌ مّعَ اللّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
أي هو الذي بقدرته وسلطانه يبدأ الخلق ثم يعيده كما قال تعالى في الاَية الأخرى: {إن بطش ربك لشديد * إنه هو يبدىء ويعيد} وقال تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} {ومن يرزقكم من السماء والأرض} أي بما ينزل من مطر السماء وينبت من بركات الأرض كما قال تعالى: {والسماء ذات الرجع * والأرض ذات الصدع} وقال تعالى: {يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيه} فهو تبارك وتعالى ينزل من السماء ماء مباركاً فيسلكه ينابيع في الأرض, ثم يخرج به منها أنواع الزروع والثمار والأزاهير وغير ذلك من ألوان شتى {كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لاَيات لأولي النهى} ولهذا قال تعالى: {أإله مع الله} أي فعل هذا وعلى القول الاَخر بعد هذا {قل هاتوا برهانكم} على صحة ما تدعونه من عبادة آلهة أخرى {إن كنتم صادقين} في ذلك وقد علم أنه لا حجة لهم ولا برهان كما قال تعالى: {ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون}.

** قُل لاّ يَعْلَمُ مَن فِي السّمَاواتِ والأرْضِ الْغَيْبَ إِلاّ اللّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الاَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول معلماً لجميع الخلق أنه لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب إلا الله. وقوله تعالى: {إلا الله} استثناء منقطع أي لا يعلم أحد ذلك إلا الله عز وجل فإنه المنفرد بذلك وحده لا شريك له كما قال تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} الاَية, وقال تعالى: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث} إلى آخر السورة, والاَيات في هذا كثيرة. وقوله تعالى: {وما يشعرون أيان يبعثون} أي وما يشعر الخلائق الساكنون في السموات والأرض بوقت الساعة كما قال تعالى: {ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة} أي ثقل علمها على أهل السموات والأرض.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن الجعد, حدثنا أبو جعفر الرازي عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها, قالت: من زعم أنه يعلم ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ ما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية لأن الله تعالى يقول: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} وقال قتادة: إنما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء وجعلها يهتدى بها وجعلها رجوماً للشياطين, فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه وأخطأ حظه وأضاع نصيبه, وتكلف ما لا علم له به. وإن أناساً جهلة بأمر الله قد أحدثوا من هذه النجوم كهانة, من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا, ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا, ومن ولد بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا, ولعمري ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود والقصير والطويل والحسن والدميم, وما علم هذا النجم وهذه الدابة وهذا الطير بشيء من الغيب, وقضى الله تعالى أنه لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون. رواه ابن أبي حاتم بحروفه وهو كلام جليل متين صحيح.
وقوله: {بل ادّارك علمهم في الاَخرة بل هم في شك منه} أي انتهى علمهم وعجز عن معرفة وقتها, وقرأ آخرون {بل أدرك علمهم} أي تساوى علمهم في ذلك كما في الصحيح لمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل وقد سأله عن وقت الساعة: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» أي تساوى في العجز عن درك ذلك علم المسؤول والسائل, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {بل ادّارك علمهم في الاَخرة} أي غاب, وقال قتادة {بل ادّارك علمهم في الاَخرة} يعني بجهلهم بربهم, يقول لم ينفذ لهم علم في الاَخرة, هذا قول, وقال ابن جريج عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس {بل ادّارك علمهم في الاَخرة} حين لم ينفع العلم, وبه قال عطاء الخراساني والسدي أن علمهم إنما يدرك ويكمل يوم القيامة حيث لا ينفعهم ذلك, كما قال تعالى: {أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين} وقال سفيان عن عمرو بن عبيد عن الحسن, أنه كان يقرأ {بل أدرك علمهم} قال: اضمحل علمهم في الدنيا حين عاينوا الاَخرة.
وقوله تعالى: {بل هم في شك منه} عائد على الجنس, والمراد الكافرون, كما قال تعالى: {وعرضوا على ربك صفاً لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة, بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعد} أي الكافرون منكم. وهكذا قال ههنا: {بل هم في شك منه} أي شاكون في وجودها ووقوعها {بل هم منها عمون} أي في عماية وجهل كبير في أمرها وشأنها.

** وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَإِذَا كُنّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَـَذَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَـَذَآ إِلاّ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ * قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ * وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ
يقول تعالى مخبراً عن منكري البعث من المشركين أنهم استبعدوا إعادة الأجساد بعد صيرورتها عظماً ورفاتاً وتراباً, ثم قال: {لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل} أي ما زلنا نسمع بهذا نحن وآباؤنا ولا نرى له حقيقة ولا قوعاً, وقولهم {إن هذا إلا أساطير الأولين} يعنون ما هذا الوعد بإعادة الأبدان {إلا أساطير الأولين} أي أخذه قوم عمن قبلهم من كتب يتلقاه بعض عن بعض وليس له حقيقة, قال الله تعالى مجيباً لهم عما ظنوه من الكفر وعدم المعاد: {قل} يا محمد لهؤلاء {سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين} أي المكذبين بالرسل وبما جاءوهم به من أمر المعاد وغيره كيف حلت بهم نقمة الله وعذابه ونكاله ونجى الله من بينهم رسله الكرام ومن اتبعهم من المؤمنين, فدل ذلك على صدق ما جاءت به الرسل وصحته, ثم قال تعالى مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم {ولا تحزن عليهم} أي المكذبين بما جئت به ولا تأسف عليهم وتذهب نفسك عليهم حسرات {ولا تكن في ضيق مما يمكرون} أي في كيدك, ورد ما جئت به فإن الله مؤيدك وناصرك ومظهر دينك على من خالفه وعانده في المشارق والمغارب.

** وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَـَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَىَ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الّذِي تَسْتَعْجِلُونَ * وَإِنّ رَبّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ * وَإِنّ رَبّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِي السّمَآءِ وَالأرْضِ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ
يقول تعالى مخبراً عن المشركين في سؤالهم عن يوم القيامة واستبعادهم وقوع ذلك {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ؟} قال الله تعالى مجيباً لهم: {قل} يا محمد {عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون} قال ابن عباس: أن يكون قرب أو أن يقرب لكم بعض الذي تستعجلون, وهكذا قال مجاهد والضحاك وعطاء الخراساني وقتادة والسدي, وهذا هو المراد بقوله تعالى: {ويقولون متى هو ؟ قل عسى أن يكون قريب} وقال تعالى: {ويستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} وإنما دخلت اللام في قوله: {ردف لكم} لأنه ضمن معنى عجل لكم, كما قال مجاهد في رواية عنه {عسى أن يكون ردف لكم} عجل لكم.
ثم قال الله تعالى: {وإن ربك لذو فضل على الناس} أي في إسباغه نعمه عليهم مع ظلمهم لأنفسهم وهم مع ذلك لا يشكرونه على ذلك إلا القليل منهم {وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون} أي يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر, {سواء منكم من أسر القول ومن جهر به} {يعلم السر وأخفى} {ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون} ثم أخبر تعالى بأنه عالم غيب السموات والأرض وأنه عالم الغيب والشهادة, وهو ما غاب عن العباد وما شاهدوه, فقال تعالى: {وما من غائبة} قال ابن عباس: يعني وما من شيء {في السماء والأرض إلا في كتاب مبين} وهذه كقوله: {ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير}.