تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 386 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 386

386- تفسير الصفحة رقم386 من المصحف
قوله تعالى: "ونمكن لهم في الأرض" أي نجعلهم مقتدرين على الأرض وأهلها حتى يُستولى عليها؛ يعني أرض الشام ومصر "ونري فرعون وهامان وجنودهما" أي ونريد أن نري فرعون وقرأ الأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف: "ويرى" بالياء على أنه فعل ثلاثي من رأى "فرعون وهامان وجنودهما" رفعا لأنه الفاعل الباقون "نري" بضم النون وكسر الراء على أنه فعل وباعي من أري يري، وهي علي نسق الكلام؛ لأن قبله "ونريد" وبعده "ونمكن" "فرعون وهامان وجنودهما" نصبا بوقوع الفعل وأجاز الفراء "ويُرِيَ فرعون" بضم الياء وكسر الراء وفتح الياء ويري الله فرعون "منهم ما كانوا يحذرون" وذلك أنهم أخبروا أن هلاكهم على يدي رجل من بني إسرائيل فكانوا على وجل "منهم" فأراهم الله "ما كانوا يحذرون" قال قتاد: كان حازيا لفرعون ـ والحازي المنجم ـ قال إنه سيولد في هذه السنة مولود يذهب بملكك؛ فأمر فرعون بقتل الولدان في تلك السنة وقد تقدم
الآيات: 7 - 9 {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين، فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين، وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون}
قوله تعالى: "وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه" قد تقدم معنى الوحي ومحامله واختلف في هذا الوحي إلى أم موسى؛ فقالت فرقة: كان قولا في منامها وقال قتادة: كان إلهاما وقالت فرقة: كان بملك يمثل لها، قال مقاتل ـ أتاها جبريل بذلك فعلي هذا هو وحي إعلام لا إلهام وأجمع الكل على أنها لم تكن نبية، وإنما إرسال الملك إليها على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص والأعمى في الحديث المشهور؛ خرجه البخاري ومسلم، وقد ذكرناه في سورة "براءة" وغير ذلك مما روي من تكليم الملائكة للناس من غير نبوة، وقد سلمت على عمران بن حصين فلم يكن بذلك نبيا واسمها أيارخا وقيل أيارخت فيما ذكر السهيلي وقال الثعلبي: واسم أم موسي لوحا بنت هاند بن لاوى بن يعقوب "أن أرضعيه" وقرأ عمر بن عبدالعزير: "أن ارضعيه" بكسر النون وألف وصل؛ حذف همزة أرضع تخفيفا ثم كسر النون لالتقاء الساكنين قال مجاهد: وكان الوحي بالرضاع قبل الولادة. وقال غيره بعدها. قال السدي: لما ولدت أم موسى أمرت أن ترضعه عقيب الولادة وتصنع به بما في الآية؛ لأن الخوف كان عقيب الولادة وقال ابن جريج: أمرت بإرضاعه أربعة أشهر في بستان، فإذا خافت أن يصيح ـ لأن لبنها لا يكفيه ـ صنعت به هذا والأول أظهر إلا أن الآخر يعضده قوله: "فإذا خفت عليه" و"إذا" لما يستقبل من الزمان؛ فيروي أنها أتخذت له تابوتا من بردي وقيرته بالقار من داخله، ووضعت فيه موسى وألقته في نيل مصر وقد مضى خبره في "طه" قال ابن عباس: إن بني إسرائيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس، وعملوا بالمعاصي، فسلط الله عليهم القبط، وساموهم سوء العذاب، إلى أن نجاهم الله على يد موسى قال وهب: بلغني أن فرعون ذبح في طلب موسى سبعين ألف وليد ويقال: تسعون ألفا ويروي أنها حين اقتربت وضربها الطلق، وكانت بعض القوابل الموكلات بحبالى بني إسرائيل مصافية لها، فقالت: لينفعني حبك اليوم، فعالجتها فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيه، وأرتعش كل مفصل منها، ودخل حبه قلبها، ثم قالت: ما جئتك إلا لأقتل مولودك وأخبر فرعون، ولكني وجدت لابنك حبا ما وجدت مثله قط، فاحفظيه؛ فلما خرجت جاء عيون فرعون فلفته في خرقة ووضعته في تنور مسجور نارا لم تعلم ما تصنع لما طاش عقلها، فطلبوا فلم يلفوا شيئا، فخرجوا وهي لا تدري مكانه، فسمعت بكاءه من التنور، وقد جعل الله عليه النار بردا وسلاما.
قوله تعالى: "ولا تخافي" فيه وجهان: أحدهما: لا تخافي عليه الغرق؛ قاله ابن زيد الثاني: لا تخافي عليه الضيعة؛ قاله يحيى بن سلام "ولا تحزني" فيه أيضا وجهان: أحدهما: لا تحزني لفراقه؛ قاله ابن زيد الثاني: لا تحزني أن يقتل؛ قاله يحيى بن سلام فقيل: إنها جعلته في تابوت طوله خمسة أشبار وعرضه خمسة أشبار، وجعلت المفتاح مع التابوت وطرحته في اليم بعد أن أرضعته أربعة أشهر وقال آخرون: ثلاثة أشهر وقال آخرون ثمانية أشهر؛ في حكاية الكلبيوحكي أنه لما فرغ النجار من صنعة التابوت نم إلى فرعون بخبره، فبعث معه من يأخذه، فطمس الله عينيه وقلبه فلم يعرف الطريق، فأيقن أنه المولود الذي يخاف منه فرعون، فآمن من ذلك الوقت؛ وهو مؤمن آل فرعون؛ ذكره الماوردي. وقال ابن عباس: فلما توارى عنها ندمها الشيطان وقالت في نفسها: لو ذبح عندي فكفنته وواريته لكان أحب إلي من إلقائه في البحر فقال الله تعالى: "إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين" أي إلى أهل مصر. حكى الأصمعي قال: سمعت جارية أعرابية تنشد وتقول:
أستغفر الله لذنبي كله قبلت إنسانا بغير حله
مثل الغزال ناعما في دله فأنتصف الليل ولم أصله
فقلت: قاتلك الله ما أفصحك ! فقالت: أو يعد هذا فصاحة مع قوله تعالى: "وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه" الآية فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.
قوله تعالى: "فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا" لما كان التقاطهم إياه يؤدي إلى كونه لهم عدوا وحزنا؛ فاللام في "ليكون" لام العاقبة ولام الصيرورة؛ لأنهم إنما أخذوه ليكون لهم قرة عين، فكان عاقبة ذلك أن كان لهم عدوا وحزنا، فذكر الحال بالمآل؛ كما قال الشاعر:
وللمنايا تربي كل مرضعة ودورنا لخراب الدهر نبنيها
وقال آخر:
فللموت تغذو الوالدات سخالها كما لخراب الدهر تبنى المساكن
أي فعاقبة البناء الخراب وإن كان في الحال مفروحا به والالتقاط وجود الشيء من غير طلب ولا إرادة، والعرب تقول لما وجدته من غير طلب ولا إرادة: التقطه التقاطا ولقيت فلانا التقاطا قال الراجز:
ومنهل وردته التقاطا
ومن اللقطة وقد مضى بيان ذلك من الأحكام في سورة "يوسف" بما فيه كفاية وقرأ الأعمش ويحيى والمفضل وحمزة والكسائي وخلف: "وحزنا" بضم الحاء وسكون الزاي والباقون بفتحهما واختاره أبو عبيد وأبو حاتم قال التفخيم فيه وهما لغتان مثل العدم والعدم، والسقم والسقم، والرشد والرشد "إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين" "هامان" وكان وزيره من القبط "خاطئين" أي عاصين مشركين آثمين.
قوله تعالى: "وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه" يروى أن آسية امرأة فرعون رأت التابوت يعوم في البحر، فأمرت بسوقه إليها وفتحه فرأت فيه صبيا صغيرا فرحمته وأحبته؛ فقالت لفرعون: "قرة عين لي ولك" أي هو قرة عين لي ولك فـ "قرة" خبر ابتداء مضمر؛ قاله الكسائي وقال النحاس: وفيه وجه آخر بعيد ذكره أبو إسحاق؛ قال: يكون رفعا بالابتداء والخبر "لا تقتلوه" وإنما بعد لأنه يصير المعنى أنه معروف بأنه قرة عين وجوازه أن يكون المعنى: إذا كان قرة عين لي ولك فلا تقتلوه. وقيل: تم الكلام عند قوله: "ولك" النحاس: والدليل على هذا أن في قراءة عبدالله بن مسعود: "وقالت امرأة فرعون لا تقتلوه قرة عين لي ولك" ويجوز النصب بمعنى لا تقتلوا قرة عين لي ولك وقالت: "لا تقتلوه" ولم تقل لا تقتله فهي تخاطب فرعون كما يخاطب الجبارون؛ وكما يخبرون عن أنفسهم وقيل: قالت: "لا تقتلوه" فإن الله أتى به من أرض أخرى وليس من بني إسرائيل. "عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا" "عسي أن ينفعنا" فنصيب منه خيرا "أو نتخذه ولدا" وكانت لا تلد، فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها، وكان فرعون لما رأى الرؤيا وقصها على كهنته وعلمائه ـ على ما تقدم - قالوا له إن غلاما من بني إسرائيل يفسد ملكك؛ فأخذ بني إسرائيل بذبح الأطفال، فرأى أنه يقطع نسلهم فعاد يذبح عاما ويستحيي عاما، فولد هارون في عام الاستحياء، وولد موسى في عام الذبح.
قوله تعالى: "وهم لا يشعرون" هذا ابتداء كلام من الله تعالى؛ أي وهم لا يشعرون أن هلاكهم بسببه وقيل: هو من كلام المرأة؛ أي وبنو إسرائيل لا يدرون أنا التقطناه، ولا يشعرون إلا أنه ولدنا واختلف المتأولون في الوقت الذي قالت فيه امرأة فرعون "قرة عين لي ولك" فقالت فرقة: كان ذلك عند التقاطه التابوت لما أشعرت فرعون به ولما أعلمته سبق إلى فهمه أنه من بني إسرائيل، وأن ذلك قصد به ليتخلص من الذبح فقال: علي بالذباحين؛ فقالت امرأته ما ذكر فقال فرعون: أما لي فلا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو قال فرعون نعم لآمن بموسى ولكان قرة عين له) وقال السدي: بل ربته حتى درج فرأى فرعون فيه شهامة وظنه من بني إسرائيل وأخذه في يده، فمد موسى يده ونتف لحية فرعون فهم حينئذ يذبحه، وحينئذ خاطبته بهذا، وجربته له في الياقوتة والجمرة، فاحترق لسانه وعلق العقدة على ما تقدم في "طه" قال الفراء: سمعت محمد بن مروان الذي يقال له السدي يذكر عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس أنه قال: إنما قالت "قرة عين لي ولك لا" ثم قالت: "تقتلوه" قال الفراء: وهو لحن؛ قال ابن الأنباري: وإنما حكم عليه باللحن لأنه لو كان كذلك لكان تقتلونه بالنون؛ لأن الفعل المستقبل مرفوع حتى يدخل عليه الناصب أو الجازم، فالنون فيه علامة الرفع قال الفراء: ويقويك على رده قراءة عبدالله بن مسعود "وقالت امرأة فرعون لا تقتلوه قرة عين لي ولك" بتقديم "لا تقتلوه"
الآية: 10 {وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين، وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون، وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون، فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون، ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين}
قوله تعالى: "وأصبح فؤاد أم موسى فارغا" قال ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك وأبو عمران الجوني وأبو عبيدة: "فارغا" أي خاليا من ذكر كل شيء في الدنيا إلا من ذكر موسى وقال الحسن أيضا وابن إسحاق وابن زيد: "فارغا" من الوحي إذ أوحى إليها حين أمرت أن تلقيه في البحر "لا تخافي ولا تحزني" والعهد الذي عهده إليها أن يرده ويجعله من المرسلين؛ فقال لها الشيطان: يا أم موسى كرهت أن يقتل فرعون موسى فغرقتيه أنت ! ثم بلغها أن ولدها وقع في يد فرعون فأنساها عظم البلاء ما كان من عهد الله إليها وقال أبو عبيدة: "فارغا" من الغم والحزن لعلمها أنه لم يغرق؛ وقاله الأخفش أيضا وقال العلاء بن زياد: "فارغا" نافرا الكسائي: ناسيا ذاهلا وقيل: والها؛ رواه سعيد بن جبير ابن القاسم عن مالك: هو ذهاب العقل؛ والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والدهش، ونحوه قوله تعالى: "وأفئدتهم هواء" [إبراهيم: 43] أي جوف لا عقول لها كما تقدم في سورة "إبراهيم" وذلك أن القلوب مراكز العقول؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: "فتكون لهم قلوب يعقلون بها" [الحج: 46] ويدل عليه قراءة من قرأ: "فزعا" النحاس: أصح هذه الأقوال الأول، والذين قالوه أعلم بكتاب الله عز وجل؛ فإذا كان فارغا من كل شيء إلا من ذكر موسى فهو فارغ من الوحي وقول أبي عبيدة فارغا من الغم غلط قبيح؛ لأن بعده "إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها" [القصص: 10] وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كادت تقول وا إبناه ! وقرأ فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه ومحمد بن السميقع وأبو العالية وابن محيصن: "فزعا" بالفاء والعين المهملة من الفزع، أي خائفة عليه أن يقتل ابن عباس: "قرعا" بالقاف والراء والعين المهملتين، وهى راجعة إلى قراءة الجماعة "فارغا" ولذلك قيل للرأس الذي لا شعر عليه: أقرع؛ لفراغه من الشعر وحكي قطرب أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: "فرغا": الفاء والراء والغين المعجمة من غير ألف، وهو كقولك: هدرا وباطلا؛ يقال: دماؤهم بينهم فرغ أي هدر؛ والمعنى بطل قلبها وذهب وبقيت لا قلب لها من شدة ما ورد عليها وفي قوله تعالى: "وأصبح" وجهان: أحدهما: أنها ألقته ليلا فأصبح فؤادها في النهار فارغا الثاني: ألقته نهارا ومعنى: "وأصبح" أي صار؛ كما قال الشاعر:
مضى الخلفاء بالأمر الرشيد وأصبحت المدينة للوليد
قوله تعالى: "إن كادت" أي إنها كادت؛ فلما حذفت الكناية سكنت النون فهي "إن" المخففة ولذلك دخلت اللام في "لتبدي به" أي لتظهر أمره؛ من بدا يبدو إذا ظهر قال ابن عباس: أي تصيح عند إلقائه: وا إبناه السدي: كادت تقول لما حملت لإرضاعه وحضانته هو ابني وقيل: إنه لما شب سمعت الناس يقولون موسى بن فرعون؛ فشق عليها وضاق صدرها، وكادت تقول هو ابني وقيل: الهاء في "به" عائدة إلى الوحي تقديره: إن كانت لتبدي بالوحي الذي أوحيناه إليها أن نرده عليها والأول أظهر قال ابن مسعود: كادت تقول أنا أمه وقال الفراء: إن كانت لتبدي باسمه لضيق صدرها. "لولا أن ربطنا على قلبها" قال قتادة: بالإيمان السدي: بالعصمة وقيل: بالصبر والربط على القلب: إلهام الصبر. "لتكون من المؤمنين" أي من المصدقين بوعد الله حين قال لها: "أنا رادوه إليك" [القصص: 7]. وقال: "لتبدي به" ولم يقل: لتبديه؛ لأن حروف الصفات قد تزاد في الكلام؛ تقول: أخذت الحبل وبالحبل وقيل: أي لتبدي القول به.
قوله تعالى: "وقالت لأخته قصيه" أي قالت أم موسى لأخت موسى: اتبعي أثره حتى تعلمي خبره واسمها مريم بنت عمران؛ وافق اسمها اسم مريم أم عيسى عليه السلام؛ ذكره السهيلي والثعلبي وذكر الماوردي عن الضحاك: أن اسمها كلثمة وقال السهيلي: كلثوم؛ جاء ذلك في حديث رواه الزبير بن بكار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: (أشعرت أن الله زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران وكلثوم أخت موسى وآسية امرأة فرعون) فقالت: الله أخبرك بهذا ؟ فقال: (نعم) فقالت: بالرفاء والبنين. "فبصرت به عن جنب" أي بعد؛ قال مجاهد ومنه الأجنبي قال الشاعر:
فلا تحرمني نائلا عن جنابة فإني امرؤ وسط القباب غريب
وأصله عن مكان جنب وقال ابن عباس: "عن جنب" أي عن جانب وقرأ النعمان بن سالم: "عن جانب" أي عن ناحية وقيل: عن شوق؛ وحكى أبو عمرو بن العلاء أنها لغة لجذام؛ يقولون: جنبت إليك أي أشتقت وقيل: "عن جنب" أي عن مجانبة لها منه فلم يعرفوا أنها أمه بسبيل وقال قتادة: جعلت تنظر إليه بناحية كأنها لا تريده، وكان يقرأ: "عن جنب" بفتح الجيم وإسكان النون. "وهم لا يشعرون" أنها أخته لأنها كانت تمشي على ساحل البحر حتى رأتهم قد أخذوه.
قوله تعالى: "وحرمنا عليه المراضع من قبل" أي منعناه من الارتضاع من قبل؛ أي من قبل مجيء أمه وأخته و" المراضع" جمع مرضع ومن قال مراضيع فهو جمع مرضاع، ومفعال يكون للتكثير، ولا تدخل الهاء فيه فرقا بين المؤنث والمذكر لأنه ليس بجار على الفعل، ولكن من قال مرضاعة جاء بالهاء للمبالغة؛ كما يقال مطرابة قال ابن عباس: لا يؤتى بمرضع فيقبلها وهذا تحريم منع لا تحريم شرع؛ قال امرؤ القيس:
جالت لتصرعني فقلت لها اقصري إني امرؤ صرعي عليك حرام
أي ممتنع "فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم" الآية. فقالوا لها عند قولها: "وهم له ناصحون" وما يدريك ؟ لعلك تعرفين أهله ؟ فقالت: لا، ولكنهم يحرصون على مسرة الملك، ويرغبون في ظئره وقال السدي وابن جريج: قيل لها لما قالت: "وهم له ناصحون" قد عرفت أهل هذا الصبي فدلينا عليهم، فقالت: أردت وهم للملك ناصحون فدلتهم على أم موسى، فانطلقت إليها بأمرهم فجاءت بها، والصبي علي يد فرعون يعلله شفقة عليه، وهو يبكي يطلب الرضاع، فدفعه إليها؛ فلما وجد الصبي ريح أمة قبل ثديها وقال ابن زيد استرابوها حين قالت ذلك فقالت: وهم للملك ناصحون وقيل: إنها لما قالت: "هل أدلكم علي أهل بيت يكلفونه لكم "وكانوا يبالغون في طلب مرضعة يقبل ثديها فقالوا: من هي ؟ فقالت: أمي، فقيل: لها لبن؟ قالت: نعم ! لبن هارون ـ وكان ولد في سنة لا يقتل فيها الصبيان ـ فقالوا صدقت والله. "وهم له ناصحون" أي فيهم شفقة ونصح، فروي أنه قيل لأم موسى حين ارتضع منها: كيف ارتضع منك ولم يرتضع من غيرك ؟ فقالت: إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن، لا أكاد أوتى بصبي إلا ارتضع مني قال أبو عمران الجوني: وكان فرعون يعطي أم موسي كل يوم دينارا قال الزمخشري: فإن قلت كيف حل لها أن تأخذ الأجر علي إرضاع ولدها ؟ قلت: ما كانت تأخذه على أنه أجر على الرضاع، ولكنه مال حربي تأخذه علي وجه الاستباحة.
قوله تعالى: "فرددناه إلى أمه" أي رددناه وقد عطف الله قلب العدو عليه، ووفينا لها بالوعد "كي تقر عينها" أي بولدها "ولا تحزن" أي بفراق ولدها "ولتعلم أن وعد الله حق" أي لتعلم وقوعه فإنها كانت عالمة بأن رده إليها سيكون. "ولكن أكثرهم لا يعلمون" يعني أكثر آل فرعون لا يعلمون؛ أي كانوا في غفلة عن التقرير وسر القضاء وقيل: أي أكثر الناس لا يعلمون أن وعد الله في كل ما وعد حق.
قوله تعالى: "ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما" قد مضى الكلام في الأشد في "الأنعام" وقول ربيعة ومالك أنه الحُلُم أولى ما قيل فيه، لقوله تعالي: "حتى إذا بلغوا النكاح" [النساء: 6] فإن ذلك أول الأشد، وأقصاه أربع وثلاثون سنة، وهو قول سفيان الثوري، "واستوى" قال ابن عباس: بلغ أربعين سنة والحكم: الحكمة قبل النبوة وقيل: الفقة في الدين وقد مضى بيانها في "البقرة" وغيرها والعلم الفهم في قول السدي وقيل: النبوة وقال مجاهد: الفقه محمد بن إسحاق: أي العلم بما في دينه ودين آبائه، وكان له تسعة من بني إسرائيل يسمعون منه، ويقتدون به، ويجتمعون إليه، وكان هذا قبل النبوة. "وكذلك نجزي المحسنين" أي كما جزينا أم موسى لما استسلمت لأمر الله، وألقت ولدها في البحر، وصدقت بوعد الله، فرددنا ولدها إليها بالتحف والطرف وهي آمنة، ثم وهبنا له العقل والحكمة والنبوة، وكذلك نجزي كل محسن.