تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 388 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 388

388- تفسير الصفحة رقم388 من المصحف
قوله تعالى: "ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل" لما خرج موسى عليه السلام فارا بنفسه منفردا خائفا، لا شيء معه من زاد ولا راحلة ولا حذاء نحو مدين، للنسب الذي بينه وبينهم؛ لأن مدين من ولد إبراهيم، وموسى من ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم؛ ورأى حاله وعدم معرفته بالطريق، وخلوه من زاد وغيره، أسند أمره إلى الله تعالى بقوله: "عسى ربي أن يهديني سواء السبيل" وهذه حالة المضطر.
قلت: روي أنه كان يتقوت ورق الشجر، وما وصل حتى سقط خف قدميه قال أبو مالك: وكان فرعون وجه في طلبه وقال لهم: اطلبوه في ثنيات الطريق، فإن موسى لا يعرف الطريق فجاءه ملك راكبا فرسا ومعه عنزة، فقال لموسى اتبعني فاتبعه فهداه إلى الطريق، فيقال: إنه أعطاه العنزة فكانت عصاه ويروى أن عصاه إنما أخذها لرعيي الغنم من مدين وهو أكثر وأصح قال مقاتل والسدي: إن الله بعث إليه جبريل؛ فالله أعلم. وبين مدين ومصر ثمانية أيام؛ قال ابن جبير والناس وكان ملك مدين لغير فرعون.
الآيات: 23 - 28 {ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير، فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير، فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين، قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين، قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين، قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل}
قوله تعالى: "ولما ورد ماء مدين" مشى موسى عليه السلام حتى ورد ماء مدين أي بلغها ووروده الماء معناه بلغه لا أنه دخل فيه ولفظة الورود قد تكون بمعنى الدخول في المورود، وقد تكون بمعنى الاطلاع عليه والبلوغ إليه إن لم يدخل فورود موسى هذا الماء كان بالوصول إليه؛ ومنه قول زهير:
فلما وردن الماء زرقا جمامه وضعن عصي الحاضر المتخيم
وقد تقدمت هذه المعاني في قوله: "وإن منكم إلا واردها" [مريم: 71] ومدين لا تنصرف إذ هي بلدة معروفةقال الشاعر:
رهبان مدين لو رأوك تنزلوا والعصم من شعف الجبال الفادر
وقيل: قبيلة من ولد مدين بن إبراهيم؛ وقد مضى القول فيه في "الأعراف" والأمة: الجمع الكثير و" يسقون" معناه ماشيتهم. و"من دونهم" معناه ناحية إلى الجهة التي جاء منها، فوصل إلى المرأتين قبل وصول إلى الأمة، ووجدهما تذودان ومعناه تمنعان وتحبسان، ومنه قول عليه السلام: (فليذادَنَّ رجال عن حوضي) وفي بعض المصاحف: "امرأتين حابستين تذودان" يقال: ذاد يذود إذا حبس وذدت الشيء حبسته؛ قال الشاعر:
أبيت على باب القوافي كأنما أذود بها سربا من الوحش نزعا
أي أحبس وأمنع وقيل: "تذودان" تطردان؛ قال:
لقد سلبت عصاك بنو تميم فما تدري بأي عصا تذود
أي تطرد وتكف وتمنع ابن سلام: تمنعان غنمهما لئلا تختلط بغنم الناس؛ فحذف المفعول: إما إيهاما على المخاطب، وإما استغناء بعلمه قال ابن عباس: تذودان غنمهما عن الماء خوفا من السقاة الأقوياء قتادة: تذودان الناس عن غنمهما؛ قال النحاس: والأول أولى؛ لأن بعده "قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء" ولو كانتا تذودان عن غنمهما الناس لم تخبرا عن سبب تأخير سقيهما حتى يصدر الرعاء فلما رأى موسى عليه السلام ذلك منهما "قال ما خطبكما" [القصص: 23] أي شأنكما؛ قال رؤبة:
يا عجبا ما خطبه وخطبي
ابن عطية: وكان استعمال السؤال بالخطب إنما هو في مصاب، أو مضطهد، أومن يشفق عليه، أو يأتي بمنكر من الأمر، فكأنه بالجملة في شر؛ فأخبرتاه بخبرهما، وأن أباهما شيخ كبير؛ فالمعنى: لا يستطيع لضعفه أن يباشر أمر غنمه، وأنهما لضعفهما وقلة طاقتهما لا تقدران على مزاحمة الأقوياء، وأن عادتهما التأني حتى يصدر الناس عن الماء ويخلى؛ وحينئذ تردان وقرأ ابن عامر وأبو عمرو: "يصدر" من صدر، وهو ضد ورد أي يرجع الرعاء والباقون "يصدر" بضم الياء من أصدر؛ أي حتى يصدروا مواشيهم من وردهم والرعاء جمع راع؛ مثل تاجر وتجار، وصاحب وصحاب قالت فرقة: كانت الآبار مكشوفة، وكان زحم الناس يمنعهما، فلما أراد موسى أن يسقى لهما زحم الناس وغلبهم على الماء حتى سقى، فعن هذا الغلب الذي كان منه وصفته إحداهما بالقوة وقالت فرقة: إنهما كانتا تتبعان فضالتهم في الصهاريج، فإن وجدتا في الحوض بقية كان ذلك سقيهما، وإن لم يكن فيه بقيه عطشت غنمهما، فرق لهما موسى، فعمد إلى بئر كانت مغطاة والناس يسقون من غيرها، وكان حجرها لا يرفعه إلا سبعة، قال ابن زيد ابن جريج: عشرة ابن عباس: ثلاثون الزجاج: أربعون؛ فرفعه وسقى للمرأتين؛ فعن رفع الصخرة وصفته بالقوة وقيل: إن بئرهم كانت واحدة، وإنه رفع عنها الحجر بعد انفصال السقاة، إذ كانت عادة المرأتين شرب الفضلات. روى عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه قال: لما استقى الرعاة غطوا على البئر صخرة لا يقلعها إلا عشرة رجال، فجاء موسى فاقتلعها واستقى ذنوبا واحدا لم تحتج إلى غيره فسقى لهما
إن قيل كيف ساغ لنبي الله الذي هو شعيب صلى الله عليه وسلم أن يرضى لا بنتيه بسقي الماشية ؟ قيل له: ليس ذلك بمحظور والدين لا يأباه؛ وأما المروءة فالناس مختلفون في ذلك، والعادة متباينة فيه، وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم، ومذهب أهل البدو غير مذهب الحضر، خصوصا إذا كانت الحالة حالة ضرورة
قوله تعالى: "ثم تولى إلى الظل" تولى إلى ظل سمرة؛ قاله ابن مسعود وتعرض لسؤال ما يطعمه بقوله: "إني لما أنزلت إلي من خير فقير" وكان لم يذق طعاما سبعة أيام، وقد لصق بطنه بظهره؛ فعرض بالدعاء ولم يصرح بسؤال؛ هكذا روى جميع المفسرين أنه طلب في هذا الكلام ما يأكله؛ فالخير يكون بمعنى الطعام كما في هذه الآية، ويكون بمعنى المال كما قال: "إن ترك خيرا" [البقرة: 180] وقول: "وإنه لحب الخير لشديد" [العاديات:8] ويكون بمعنى القوة كما قال:"أهم خير أم قوم تبع" [الدخان:37] ويكون بمعنى العبادة كقول: "وأوحينا إليهم فعل الخيرات" [الأنبياء: 73] قال ابن عباس: وكان قد بلغ به الجوع، وأخضر لونه من أكل البقل في بطنه، لإنه لأكرم الخلق على الله ويروي أنه لم يصل إلى مدين حتى سقط باطن قدميه وفي هذا معتبر وإشعار بهوان الدنيا على الله وقال أبو بكر بن طاهر في قوله: "إني لما أنزلت إلى من خير فقير" أي إني لما أنزلت من فضلك وغناك فقير إلى أن تغنيني بك عمن سواك.
قلت: ما ذكره أهل التفسير أولى؛ فإن الله تعالى إنما أغناه بواسطة شعيب
قوله تعالى: "فجاءته إحداهما تمشي على استحياء" في هذا الكلام اختصار يدل عليه هذا الظاهر؛ قدره ابن إسحاق: فذهبتا إلى أبيهما سريعتين، وكانت عادتهما الإبطاء في السقي، فحدثتاه بما كان من الرجل الذي سقى لهما، فأمر الكبرى من بنتيه - وقيل الصغرى ـ أن تدعوه له، "فجاءت" على ما في هذه الآية قال عمر وابن ميمون: ولم تكن سلفعا من النساء، خراجة ولاّجة وقيل: جاءته ساترة وجهها بكم درعها؛ قال عمر بن الخطاب وروي أن اسم إحداهما ليا والأخرى صفوريا ابنتا يثرون، ويثرون وهو شعيب عليه السلام وقيل: ابن أبي شعيب، وأن شعيبا كان قد مات وأكثر الناس على أنهما ابنتا شعيب عليه السلام وهو ظاهر القرآن، قال الله تعالي: "وإلى مدين أخاهم شعيبا" [الأعراف: 85] كذا في سورة "الأعراف" وفي سورة الشعراء: "كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعب" [الشعراء: 176] قال قتادة: بعث الله تعالى شعيبا إلى أصحاب الأيكة وأصحاب مدين وقد مضى في "الأعراف" الخلاف في اسم أبيه فروي أن موسى عليه السلام لما جاءته بالرسالة قام يتبعها، وكان بين موسى وبين أبيها ثلاثة أميال، فهبت ريح فضمت قميصها فوصفت عجيزتها، فتحرج موسى من النظر إليها فقال: أرجعي خلفي وأرشديني إلى الطريق بصوتك وقيل: أن موسى قال ابتداء: كوني ورائي فإني رجل عبراني لا أنظر في أدبار النساء، ودليني على الطريق يمينا أو يسارا؛ فذلك سبب وصفها له بالأمانة؛ قال ابن عباس فوصل موسى إلى داعيه فقص عليه أمره من أوله إلى آخره فآنسه بقوله: "لا تخف نجوت من القوم الظالمين" وكانت مدين خارجة عن مملكة فرعون وقرب إليه طعاما فقال موسى: لا أكل؛ إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهبا؛ فقال شعيب: ليس هذا عوض السقي، ولكن عادتي وعادة أبائي قرى الضيف، وإطعام الطعام؛ فحينئذ أكل موسى.
قوله تعالى: "قالت إحداهما يا أبت استأجره" دليل على أن الإجارة كانت عندهم مشروعة معلومة، وكذلك كانت في كل ملة وهي من ضرورة الخليقة، ومصلحة الخلطة بين الناس؛ خلاف الأصم حيث كان عن سماعها أصم.
قوله تعالى: "قال إني أريد أن أنكحك" الآية. فيه عرض الولي بنته على الرجل؛ وهذه سنة قائمة؛ عرض صالح مدين ابنته على صالح بني إسرائيل، وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فمن الحسن عرض الرجل وليته، والمرأة نفسها على الرجل الصالح، اقتداء بالسلف الصالح قال ابن عمر: لما تأيمت حفصة قال عمر لعثمان: إن شئت أنكحك حفصة بنت عمر؛ الحديث انفرد بإخراجه البخاري.
وفي هذه الآية دليل على أن النكاح إلى الولي لا حظ للمرأة فيه، لأن صالح مدين تولاه، وبه قال فقهاء الأمصار وخالف في ذلك أبو حنيفة وقد مضى.
هذه الآية تدل على أن للأب أن يزوج ابنته البكر البالغ من غير استئمار، وبه قال مالك واحتج بهذه الآية، وهو ظاهر قوي في الباب، واحتجاجه بها يدل على أنه كان يعول على الإسرائيليات؛ كما تقدم وبقول مالك في هذه المسألة قال الشافعي وكثير من العلماء وقال أبو حنيفة: إذا بلغت الصغيرة فلا يزوجها أحد إلا برضاها؛ لأنها بلغت حد التكليف، فأما إذا كانت صغيرة فإنه يزوجها بغير رضاها لأنه لا إذن لها ولا رضا، بغير خلاف
استدل أصحاب الشافعي بقوله: "إني أريد أن أنكحك" علي أن النكاح موقوف على لفظ التزويج والإنكاح وبه قال ربيعة وأبو ثور وأبو عبيد وداود ومالك على اختلاف عنه وقال علماؤنا في المشهور: ينعقد النكاح بكل لفظ وقال أبو حنيفة: ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد؛ أما الشافعية فلاحجة لهم في الآية لأنه شرع من قبلنا وهم لا يرونه حجة في شيء في المشهور عندهم وأما أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي فقالوا: ينعقد النكاح بلفظ الهبة وغيره إذا كان قد أشهد عليه؛ لأن الطلاق يقع بالصريح والكناية، قالوا: فكذلك النكاح قالوا: والذي خص به النبي صلى الله عليه وسلم تعرى البضع من العوض لا النكاح بلفظ الهبة، وتابعهم ابن القاسم فقال: إن وهب ابنته وهو يريد إنكاحها فلا أحفظ عن مالك فيه شيئا، وهو عندي جائز كالبيع قال أبو عمر: الصحيح أنه لا ينعقد نكاح بلفظ الهبة، كما لا ينعقد بلفظ النكاح هبة شيء من الأموال وأيضا فإن النكاح مفتقر إلى التصريح لتقع الشهادة عليه، وهو ضد الطلاق فكيف يقاس عليه، وقد أجمعوا أن النكاح لا ينعقد بقول: أبحت لك وأحللت لك فكذلك الهبة وقال صلي الله عليه وسلم: (استحللتم فروجهن بكلمة الله) يعني القرآن، وليس في القرآن عقد النكاح بلفظ الهبة، وإنما فيه التزويج والنكاح، وفي إجازة النكاح بلفظ الهبة إبطال بعض خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: "إحدى ابنتي هاتين" دل على أنه عرض لا عقد، لأنه لو كان عقدا لعين المعقود عليها له؛ لأن العلماء إن كانوا قد اختلفوا في جواز البيع إذا قال: بعتك أحد عبدي هذين بثمن كذا؛ فإنهم اتفقوا على أن ذلك لا يجوز في النكاح؛ لأنه خيار وشيء من الخيار لا يلصق بالنكاح
قال مكي: في هذه الآية خصائص في النكاح منها أنه لم يعين الزوجة ولا حد أول الأمد، وجعل المهر إجارة، ودخل ولم ينقد شيئا
قلت: فهذه أربع مسائل تضمنتها هذه المسألة
الأولى: التعيين، قال علماؤنا: أما التعيين فيشبه أنه كان في ثاني حال المراوضة، وإنما عرض الأمر مجملا، وعين بعد ذلك وقد قيل: إنه زوجه صفوريا وهي الصغرى يروى عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن سئلت أي الأجلين قضي موسى فقل خيرهما وأوفاهما وإن سئلت أي المرأتين تزوج فقل الصغرى وهي التي جاءت خلفه وهي التي قالت: "يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين "). قيل: إن الحكمة في تزويجه الصغرى منه قبل الكبرى وإن كانت الكبرى أحوج إلى الرجال أنه توقع أن يميل إليها؛ لأنه رأها في رسالته، وماشاها في إقباله إلى أبيها معها، فلو عرض عليه الكبرى ربما أظهر له الاختيار وهو يضمر غيره وقيل غير هذا؛ والله أعلم وفي بعض الأخبار أنه تزوج بالكبرى؛ حكاه القشيري.
الثانية: وأما ذكر أول المدة فليس في الآية ما يقتضي إسقاطه بل هو مسكوت عنه؛ فإما رسماه، وإلا فهو من أول وقت العقد.
الثالثة: وأما النكاح بالإجارة فظاهر من الآية، وهو أمر قد قرره شرعنا، وجري في حديث الذي لم يكن عنده إلا شيء من القرآن؛ رواه الأئمة؛ وفي بعض طرقه: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تحفظ من القرآن) فقال: سورة البقرة والتي تليها؛ قال: (فعلمها عشرين آية وهي امرأتك) واختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: فكرهه مالك، ومنعه ابن القاسم، وأجازه ابن حبيب؛ وهو قول الشافعي وأصحابه؛ قالوا: يجوز أن تكون منفعة الحر صداقا كالخياطة والبناء وتعليم القرآن وقال أبو حنيفة: لا يصح، وجوز أن يتزوجها بأن يخدمها عبده سنة، أو يسكنها داره سنة؛ لأن العبد والدار مال، وليس خدمتها بنفسه مالا وقال أبو الحسن الكرخي: إن عقد النكاح بلفظ الإجارة جائز؛ لقوله تعالى: "فآتوهن أجورهن" [النساء: 24] وقال أبو بكر الرازي: لا يصح لأن الإجارة عقد مؤقت، وعقد النكاح مؤبد، فهما متنافيان وقال ابن القاسم: ينفسخ قبل البناء ويثبت بعده. وقال أصبغ: إن نقد معه شيئا ففيه اختلاف، وإن لم ينقد فهو أشد، فإن ترك مضى على كل حال بدليل قصة شعيب؛ قال مالك وابن المواز وأشهب وعول على هذه الآية جماعة من المتأخرين والمتقدمين في هذه النازلة؛ قال ابن خويز منداد تضمنت هذه الآية النكاح على الإجارة والعقد صحيح، ويكره أن تجعل الإجارة مهرا، وينبغي أن يكون المهر مالا كما قال عز وجل: "أن تبتغوا بأموالكم محصنين" [النساء: 24] هذا قول أصحابنا جميعا.
الرابعة: وأما قوله: ودخل ولم ينقد فقد اختلف الناس في هذا؛ هل دخل حين عقد أم حين سافر، فإن كان حين عقد فماذا نقد ؟ وقد منع علماؤنا من الدخول حتى ينقد ولو ربع دينار؛ قال ابن القاسم فإن دخل قبل أن ينقد مضى، لأن المتأخرين من أصحابنا قالوا: تعجيل الصداق أو شيء منه مستحب على أنه إن كان الصداق رعية الغنم فقد نقد الشروع في الخدمة؛ وإن كان دخل حين سافر فطول الانتظار في النكاح جائز إن كان مدى العمر بغير شرط وأما إن كان بشرط فلا يجوز إلا أن يكون الغرض صحيحا مثل التأهب للبناء أو انتظار صلاحية الزوجة للدخول إن كانت صغيرة؛ نص عليه علماؤنا
في هذه الآية اجتماع إجارة ونكاح، وقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال: الأول: قال في ثمانية أبي زيد: يكره ابتداء فإن وقع مضى. الثاني: قال مالك وابن القاسم في المشهور: لا يجوز ويفسخ قبل الدخول وبعده؛ لاختلاف مقاصدهما كسائر العقود المتباينة. الثالث: أجازه أشهب وأصبغ قال ابن العربي: وهذا هو الصحيح وعليه تدل الآية؛ وقد قال مالك النكاح أشبه شيء بالبيوع، فأي فرق بين إجارة وبيع أو بين بيع ونكاح فرع: وإن أصدقها تعليم شعر مباح صح؛ قال المزني: وذلك مثل قول الشاعر:
يقول العبد فائدتي ومالي وتقوى الله أفضل ما استفادا
وإن أصدقها تعليم شعر فيه هجو أو فحش كان كما لو أصدقها خمرا أو خنزيرا
قوله تعالى: "على أن تأجرني ثماني حجج" جرى ذكر الخدمة مطلقا وقال مالك: إنه جائز ويحمل على العرف، فلا يحتاج في التسمية إلى الخدمة وهو ظاهر قصة موسى، فإنه ذكر إجارة مطلقة وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز حتى يسمى لأنه مجهول وقد ترجم البخاري: [باب من استأجر أجيرا فبين له الأجل ولم يبين له العمل] لقوله تعالى: "على أن تأجرني ثماني حجج". قال المهلب: ليس كما ترجم؛ لأن العمل عندهم كان معلوما من سقي وحرث ورعي وما شاكل أعمال البادية في مهنة أهلها، فهذا متعارف وإن لم يبين له أشخاص الأعمال ولا مقاديرها؛ مثل أن يقول له: إنك تحرث كذا من السنة، وترعى كذا من السنة، فهذا إنما هو على المعهود من خدمة البادية، وإنما الذي لا يجوز عند الجميع أن تكون المدة مجهولة، والعمل مجهول غير معهود لا يجوز حتى يعلم قال ابن العربي: وقد ذكر أهل التفسير أنه عين له رعية الغنم، ولم يرو من طريق صحيحة، ولكن قالوا: إن صالح مدين لم يكن له عمل إلا رعية الغنم، فكان ما علم من حاله قائما مقام التعيين للخدمة فيه.
أجمع العلماء على أنه جائز أن يستأجر الراعي شهورا معلومة، بأجرة معلومة، لرعاية غنم معدودة؛ فإن كانت معدودة معينة، ففيها تفصيل لعلمائنا؛ قال ابن القاسم: لا يجوز حتى يشترط الخلف إن ماتت، وهي رواية ضعيفة جدا؛ وقد استأجر صالح مدين موسى على غنمه، وقد رآها ولم يشترط خلفا؛ وإن كانت مطلقة غير مسماة ولا معينة جازت عند علمائنا وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تجوز لجهالتها؛ وعول علماؤنا على العرف حسبما ذكرناه آنفا؛ وأنه يعطى بقدر ما تحتمل قوته وزاد بعض علمائنا أنه لا يجوز حتى يعلم المستأجر قدر قوته، وهو صحيح فإن صالح مدين علم قدر قوة موسى برفع الحجر.
قال مالك: وليس على الراعي ضمان وهو مصدق فيما هلك أو سرق، لأنه أمين كالوكيل وقد ترجم البخاري: [باب إذا أبصر الراعي أو الوكيل شاة تموت أو شيئا يفسد فأصلح ما يخاف الفساد] وساق حديث كعب بن مالك عن أبيه أنه كانت لهم غنم ترعى بسلع، فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتا فكسرت حجرا فذبحتها به، فقال لهم: لا تأكلوا حتى أسأل النبي ـ أو أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من يسأله ـ وأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أو أرسل إليه ـ فأمره بأكلها؛ قال عبدالله: فيعجبني أنها أمة وأنها ذبحت قال المهلب: فيه من الفقه تصديق الراعي والوكيل فيما اؤتمنا عليه حتى يظهر عليهما دليل الخيانة والكذب؛ وهذا قول مالك وجماعة وقال ابن القاسم: إذا خاف الموت على شاة فذبحها لم يضمن ويصدق إذا جاء بها مذبوحة وقال غيره: يضمن حتى يبين ما قال.
واختلف ابن القاسم وأشهب إذا أنزى الراعي على إناث الماشية بغير إذن أربابها فهلكت؛ فقال ابن القاسم: لا ضمان عليه؛ لأن الإنزاء من إصلاح المال ونمائه وقال أشهب: عليه الضمان؛ وقول ابن القاسم أشبه بدليل حديث كعب، وأنه لا ضمان عليه فيما تلف عليه باجتهاده، إن كان من أهل الصلاح، وممن يعلم إشفاقه على المال؛ وأما إن كان من أهل الفسوق والفساد وأراد صاحب المال أن يضمنه فعل؛ لأنه لا يصدق أنه رأى بالشاة موتا لما عرف من فسقه.
لم ينقل ما كانت أجرة موسى عليه السلام؛ ولكن روى يحيى بن سلام أن صالح مدين جعل لموسى كل سخلة توضع خلاف لون أمها، فأوحى الله إلى موسى أن ألق عصاك بينهن يلدن خلاف شبههن كلهن وقال غير يحيى : بل جعل له كل بلقاء تولد له، فولدن له كلهن بلقا وذكر القشيري أن شعيبا لما استأجر موسى قال له: أدخل بيت كذا وخذ عصا من العصي التي في البيت، فأخرج موسى عصا، وكان أخرجها آدم من الجنة، وتوارثها الأنبياء حتى صارت إلى شعيب، فأمره شعيب أن يلقيها في البيت ويأخذ عصا أخرى، فدخل وأخرج تلك العصا؛ وكذلك سبع مرات كل ذلك لا تقع بيده غير تلك، فعلم شعيب أن له شأنا؛ فلما أصبح قال له: سق الأغنام إلي مفرق الطريق، فخذ عن يمينك وليس بها عشب كثير، ولا تأخذ عن يسارك فإن بها عشبا كثيرا وتنينا كبيرا لا يقبل المواشي، فساق المواشي إلى مفرق الطريق، فأخذت نحو اليسار ولم يقدر على ضبطها، فنام موسى وخرج التنين، فقامت العصا وصارت شعبتاها حديدا وحاربت التنين حتى قتلته، وعادت إلى موسى عليه السلام، فلما انتبه موسى رأى العصا مخضوبة بالدم، والتنين مقتولا؛ فعاد إلى شعيب عشاء، وكان شعيب ضريرا فمس الأغنام، فإذا أثر الخصب باد عليها، فسأله عن القصة فأخبره بها، ففرح شعيب وقال: كل ما تلد هذه المواشي هذه السنة قالب لون ـ أي ذات لونين ـ فهو لك؛ فجاءت جميع السخال تلك السنة ذات لونين، فعلم شعيب أن لموسى عند الله مكانة. وروى عيينة بن حصن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أجر موسى نفسه بشبع بطنه وعفة فرجه) فقال له شعيب لك منها ـ يعني من نتاج غنمها ما جاءت به قالب لون ليس فيها عزوز ولا فشوش ولا كموش ولا ضبوب ولا ثعول قال الهروي: العزوز البكيئة؛ مأخوذ من العزاز وهي الأرض الصلبة، وقد تعززت الشاة والفشوش التي ينفش لبنها من غير حلب وذلك لسعة الإحليل، ومثله الفتوح والثرور ومن أمثالهم: لأُفشّنّك فَشّ الوطب أي لأخرجن غضبك وكبرك من رأسك ويقال: فش السقاء إذا أخرج منه الريح ومنه الحديث: (إن الشيطان يفش بين أليتي أحدكم حتى يخيل إليه أنه أحدث) أي ينفخ نفخا ضعيفا والكموش: الصغيرة الضرع، وهي الكميشة أيضا؛ سميت بذلك لانكماش ضرعها وهو تقلصه؛ ومنه يقال: رجل كميش الإزار والكشود مثل الكموش والضبوب الضيقة ثقب الإحليل والضب الحلب بشدة العصر والثعول الشاة التي لها زيادة حلمة وهي الثعل والثعل زيادة السن، وتلك الزيادة هي الراؤول ورجل أثعل والثعل ضيق مخرج اللبن قال الهروي: وتفسير قالب لون في الحديث أنها جاءت على غير ألوان أمهاتها
الإجارة بالعوض المجهول لا تجوز؛ فإن ولادة الغنم غير معلومة، وإن من البلاد الخصبة ما يعلم ولاد الغنم فيها قطعا وعدتها وسلامة سخالها كديار مصر وغيرها، بيد أن ذلك لا يجوز في شرعنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر، ونهى عن المضامين والملاقيح والمضامين ما في بطون الإناث، والملاقيح ما في أصلاب الفحول وعلى خلاف ذلك قال الشاعر:
ملقوحة في بطن ناب حامل
وقد مضى في سورة "الحجر" بيانه على أن راشد بن معمر أجاز الإجارة على الغنم بالثلث والربع وقال ابن سيرين وعطاء: ينسج الثوب بنصيب منه؛ وبه قال أحمد
الكفاءة في النكاح معتبرة؛ واختلف العلماء هل في الدين والمال والحسب، أو في بعض ذلك والصحيح جواز نكاح الموالي للعربيات والفرشيات؛ لقوله تعالى: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" [الحجرات: 13] وقد جاء موسى إلى صالح مدين غريبا طريدا خائفا وحيدا جائعا عريانا فأنكحه ابنته لما تحقق من دينه ورأى من حاله، وأعرض عما سوى ذلك وقد تقدمت هذه المسألة مستوعبة والحمد لله
قال بعضهم: هذا الذي جرى من شعيب لم يكن ذكرا لصداق المرأة، وأنما كان اشتراطا لنفسه على ما يفعله الأعراب؛ فإنها تشترط صداق بناتها، وتقول لي كذا في خاصة نفسي، وترك المهر مفوضا؛ ونكاح التفويض جائز قال ابن العربي: هذا الذي تفعله الأعراب هو حلوان وزيادة على المهر، وهو حرام لا يليق بالأنبياء؛ فأما إذا اشترط الولي شيئا لنفسه، فقد اختلف العلماء فيما يخرجه الزوج من يده ولا يدخل في يد المرأة على قولين: أحدهما: أنه جائز والآخر: لا يجوز والذي يصح عندي التقسيم؛ فإن المرأة لا تخلو أن تكون بكرا أو ثيبا؛ فإن كانت ثيبا جاز؛ لأن نكاحها بيدها، وإنما يكون للولي مباشرة العقد، ولا يمتنع أخذ العوض عليه كما يأخذه الوكيل على عقد البيع، وإن كانت بكرا كان العقد بيده، وكأنه عوض في النكاح لغير الزوج وذلك باطل؛ فإن وقع فُسِخ قبل البناء، وثبت بعده على مشهور الرواية والحمد الله.
لما ذكر الشرط وأعقبه بالطوع في العشر خرج كل واحد منهما على حكمه، ولم يلحق الآخر بالأول، ولا أشترك الفرض والطوع؛ ولذلك يكتب في العقود الشروط المتفق عليها، ثم يقال وتطوع بكذا، فيجري الشرط على سبيله، والطوع على حكمه، وانفصل الواجب من التطوع وقيل: ومن لفظ شعيب حسن في لفظ العقود في النكاح أنكحه إياها أولى من أنكحها إياه على ما يأتي بيانه في "الأحزاب" وجعل شعيب الثمانية الأعوام شرطا، ووكل العاشرة إلي المروءة
قوله تعالى: "قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي" لما فرغ كلام شعيب قرره موسى عليه السلام وكرر معناه على جهة التوثق في أن الشرط إنما وقع في ثمان حجج و"أيما" استفهام منصوب بـ"قضيت و"الأجلين" مخفوض بإضافة "أي" إليهما و"ما" صلة للتأكيد وفيه معنى الشرط وجوابه "فلا عدوان" وأن "عدوان" منصوب بـ "لا" وقال ابن كيسان: "ما" في موضع خفض بإضافة "أي" إليها وهي نكرة و"الأجلين" بدل منها وكذلك في قوله: "فبما رحمة من الله" [آل عمران: 159] أي رحمة بدل من ما؛ قال مكي: وكان يتلطف في ألا يجعل شيئا زائدا في القرآن ويخرج له وجها يخرجه من الزيادة وقرأ الحسن: "أيما" بسكون الياء وقرأ ابن مسعود: "أي الأجلين ما قضيت" وقرأ الجمهور: "عدوان" بضم العين وأبو حيوة بكسرها؛ والمعنى: لا تبعة علي ولا طلب في الزيادة عليه والعدوان التجاوز في غير الواجب، والحجج السنون قال الشعر:
لمن الديار بقنة الحجر أقوين من حجج ومن دهر
الواحدة حجة بكسر الحاء "والله على ما نقول وكيل" قيل: هو من قول موسى وقيل: هو من قول والد المرأة فاكتفى الصالحان صلوات الله عليهما في الإشهاد عليهما بالله ولم يشهدا أحدا من الخلق، وقد اختلف العلماء في وجوب الإشهاد في النكاح؛ على قولين: أحدهما أنه لا ينعقد إلا بشاهدين وبه قال أبو حنيفة والشافعي [وقال مالك]: إنه ينعقد دون شهود؛ لأنه عقد معاوضة فلا يشترط فيه الإشهاد، وإنما يشترط فيه الإعلان والتصريح، وفرق ما بقن النكاح والسفاح الدف وقد مضت هذه المسألة في "البقرة" مستوفاة وفي البخاري عن أبي هريرة: أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال ايتني بالشهداء أشهدهم، فقال كفى بالله شهيدا؛ فقال أيتني بكفيل؛ فقال كفى بالله كفيلا قال صدقت فدفعها إليه؛ وذكر الحديث.