تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 388 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 388

387

22- "ولما توجه تلقاء مدين" أي نحو مدين قاصداً لها. قال الزجاج: أي سلك في الطريق الذي تلقاء مدين فيها انتهى، يقال داره تلقاء دار فلان، وأصله من اللقاء، ولم تكن هذه القرية داخلة تحت سلطان فرعون، ولهذا خرج إليها "قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل" أي يرشدني نحو الطريق المستوية إلى مدين.
23- "ولما ورد ماء مدين" أي وصل إليه، وهو الماء الذي يستقون منه "وجد عليه أمة من الناس يسقون" أي وجد على الماء جماعة كثيرة من الناس يسقون مواشيهم، ولفظ الورود قد يطلق على الدخول في المورد، وقد يطلق على البلوغ إليه وإن لم يدخل فيه، وهو المراد هنا، ومنه قول زهير: فلما وردنا الماء زرقاً حمامه وقد تقدم تحقيق معنى الورود في قوله: "وإن منكم إلا واردها" وقيل مدين اسم للقبيلة، وهي غير منصرفة على كلا التقديرين "ووجد من دونهم" أي من دون الناس الذين يسقون ما بينهم وبين الجهة التي جاء منها، وقيل معناه: في موضع أسفل منهم "امرأتين تذودان" أي تحبسان أغنامهما من الماء حتى يفرغ الناس ويخلو بينهما وبين الماء، ومعنى الذود الدفع والحبس، ومنه قول الشاعر: أبيت على باب القوافي كأنما أذود بها سرباً من الوحش نزعا أي أحبس وأمنع، وورد الذود بمعنى الطرد، ومنه قول الشاعر: لقد سلبت عصاك بنو تميم فما تدري بأي عصا تذود أي تطرد "قال ما خطبكما" أي قال موسى للمرأتين: ما شأنكما لا تسقيان غنمكما مع الناس؟ والخطب الشأن، قيل وإنما يقال ما خطبك لمصاب، أو مضطهد، أو لمن يأتي بمنكر "قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء" أي إن عادتنا التأني حتى يصدر الناس عن الماء وينصرفوا منه حذراً من مخالطتهم، أو عجزاً عن السقي معهم. قرأ الجمهور "يصدر" بضم الياء وكسر الدال مضارع أصدر المتعدي بالهمزة. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بفتح الياء وضم الدال من صدر يصدر لازماً، فالمفعول على القراءة الأولى محذوف: أي يرجعون مواشيهم، والرعاء جمع راع. قرأ الجمهور الرعاء بكسر الراء. وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بفتحها. قال أبو الفضل: هو مصدر أقيم مقام الصفة، فلذلك استوى فيه الواحد والجمع. وقرئ الرعاء بالضم اسم جمع. وقرأ طلحة بن مصرف نسقي بضم النون من أسقى "وأبونا شيخ كبير" عالي السن، وهذا من تمام كلامهما: أي لا يقدر أن يسقي ماشيته من الكبر، فلذلك احتجنا ونحن امرأتان ضعيفتان أن نسقي الغنم لعدم وجود رجل يقوم لنا بذلك، فلما سمع موسى كلامهما.
24- "سقى لهما" رحمة لهما: أي سقى أغنامهما لأجلهما "ثم" لما فرغ من السقي لهما "تولى إلى الظل" أي انصرف إليه، فجلس فيه، قيل كان هذا الظل ظل سمرة هناك. ثم قال لما أصابه من الجهد والتعب منادياً لربه "إني لما أنزلت إلي من خير" أي خير. كان "فقير" أي محتاج إلى ذلك، قيل أراد بذلك الطعام، واللام في لما أنزلت معناها إلى. قال الأخفش: يقال هو فقير له وإليه. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والمحاملي في أماليه من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله: "ولما بلغ أشده" قال: ثلاثاً وثلاثين سنة "واستوى" قال: أربعين سنة. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب المعمرين من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه قال: الأشد ما بين الثماني عشرة إلى الثلاثين، والاستواء ما بين الثلاثين إلى الأربعين، فإذا زاد على الأربعين أخذ في النقصان. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضاً في قوله: " ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها " قال: نصف النهار. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء الخراساني، عنه أيضاً في الآية قال: ما بين المغرب والعشاء. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً "هذا من شيعته" قال: إسرائيلي "وهذا من عدوه" قال: قبطي "فاستغاثه الذي من شيعته" الإسرائيلي "على الذي من عدوه" القبطي "فوكزه موسى فقضى عليه" قال: فمات، قال فكبر ذلك على موسى. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه" قال: هو صاحب موسى الذي استنصره بالأمس. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: الذي استنصره هو الذي استصرخه. وأخرج ابن المنذر عن الشعبي قال: من قتل رجلين فهو جبار، ثم تلا هذه الآية "إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض". وأخرج ابن المنذر عن الشعبي قال: من قتل رجلين فهو جبار، ثم تلا هذه الآية "إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض". وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لا يكون الرجل جباراً حتى يقتل نفسين. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال: خرج موسى خائفاً يترقب جائعاً ليس معه زاد حتى انتهى إلى ماء مدين، و "عليه أمة من الناس يسقون" وامرأتان جالستان بشياههما فسألهما "ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير" قال: فهل قربكما ماء؟ قالتا لا إلا بئر عليها صخرة قد غطيت بها لا يطيقها نفر، قال: فانطلقتا فأريانيها، فانطلقتا معه، فقال بالصخرة بيده فنحاها، ثم استقى لهما سجلاً واحداً فسقى الغنم، ثم أعاد الصخرة إلى مكانها "ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير" فسمعتا، قال: فرجعتا إلى أبيهما فاستنكر سرعة مجيئهما، فسألهما فأخبرتاه، فقال لإحداهما: انطلقي فادعيه فأتت، فـ "قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا" فمشت بين يديه، فقال لها امشي خلفي، فإني امرؤ من عنصر إبراهيم لا حيل لي أن أرى منك ما حرم الله علي، وأرشدني الطريق "فلما جاءه وقص عليه القصص قال: لا تخف نجوت من القوم الظالمين". "قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين" قال لها أبوها: ما رأيت من قوته وأمانته؟ فأخبرته بالأمر الذي كان، قالت: أما قوته فإنه قلب الحجر وحده، وكان لا يقلبه إلا النفر. وأما أمانته فقال امشي خلفي وأرشديني الطريق لأني امرؤ من عنصر إبراهيم لا يحل لي منك ما حرمه الله. قيل لابن عباس: أي الأجلين قضى موسى قال: أبرهما وأوفاهما. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب قال: إن موسى لما ورد ماء مدين وجد عليه فإذا هو بامرأتين، قال: ما خطبكما؟ فحدثتاه، فأتى الحجر، فرفعه وحده، ثم استقى فلم يستق إلا ذنوباً واحداً حتى رويت الغنم، فرجعت المرأتان إلى أبيهما فحدثتاه، وتولى موسى إلى الظل " فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ". قال: "فجاءته إحداهما تمشي على استحياء" واضعة ثوبها على وجهها ليست بسلفع من النساء خراجة ولاجة "قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا" فقام معها موسى، فقال لها: امشي خلفي وانعتي لي الطريق، فإني أكره أن يصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك، فلما انتهى إلى أبيها قص عليه، فقالت إحداهما: يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين، قال: يا بنية ما علمك بأمانته وقوته؟ قالت: أما قوته فرفعه الحجر ولا يطيقه إلا عشرة رجال، وأما أمانته فقال لها: امشي خلفي وانعتي لي الطريق فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك، فلما انتهى إلى أبيها قص عليها، فقالت إحداهما: يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين، قال: يا بنية ما علمك بأمانته وقوته؟ قالت: أما قوته فرفعه الحجر ولا يطيقه إلا عشرة رجال، وأما أمانته فقال امشي خلفي وانعتي لي الطريق فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك، فزاده ذلك رغبة فيه. فـ "قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين" إلى قوله: "ستجدني إن شاء الله من الصالحين" أي في حسن الصحبة والوفاء بما قلت "قال" موسى "ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي" قال نعم قال: "والله على ما نقول وكيل" فزوجه وأقام معه يكفيه ويعمل في رعاية غنمه وما يحتاج إليه وزوجه صفوراً وأختها شرفاً، وهما اللتان كانتا تذودان. قال ابن كثير بعد إخراجه لطرق من هذا الحديث: إن إسناده صحيح. والسلفع من النساء الجريئة السليطة. وأخرج أحمد في الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولما ورد ماء مدين" قال: ورد الماء حيث ورد وإنه لتتراءى خضرة البقل في بطنه من الهزال. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: خرج موسى من مصر إلى مدين وبينه وبينها ثمان ليال، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر، وخرج حافياً، فما وصل إليها حتى وقع خف قدمه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً قال: "تذودان" تحبسان غنمهما حتى ينزع الناس ويخلو لهما البئر. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضاً: قال: لقد قال موسى رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير وهو أكرم خلقه عليه، ولقد افتقر إلى شق تمرة ولقد لصق بطنه بظهره من شدة الجوع. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: ما سأل إلا الطعام. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: سأل فلقاً من الخبز يشد بها صلبه من الجوع.
قوله: 25- "فجاءته إحداهما تمشي على استحياء" في الكلام حذف يدل عليه السياق. قال الزجاج: تقديره فذهبتا إلى أبيهما سريعتين، وكانت عادتهما الإبطاء في السقي، فحدثتاه بما كان من الرجل الذي سقى لهما، فأمر الكبرى من ابنتيه، وقيل الصغرى أن تدعوه له فجاءته. وذهب أكثر المفسرين إلى أنهما ابنتا شعيب، وقيل هما ابنتا أخي شعيب، وأن شعيباً كان قد مات: والأول أرجح. وهو ظاهر القرآن. ومحل تمشي النصب على الحال من فاعل جاءت، و على استحياء حال أخرى: أي كائنة على استحياء حالتي المشي والمجيء فقط، وجملة "قالت إن أبي يدعوك" مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل ماذا قالت له لما جاءته "ليجزيك أجر ما سقيت لنا" أي جزاء سقيك لنا "فلما جاءه وقص عليه القصص" القصص مصدر سمي به المفعول: أي المقصوص يعني أخبره بجميع ما اتفق له من عند قتله القبطي إلى عند وصوله إلى ماء مدين "قال" شعيب "لا تخف نجوت من القوم الظالمين" أي فرعون وأصحابه، لأن فرعون لا سلطان له على مدين، وللرازي في هذا موضع إشكالات باردة جداً لا تستحق أن تذكر في تفسير كلام الله عز وجل، والجواب عليها يظهر للمقصر فضلاً عن الكامل، وأشف ما جاء به أن موسى كيف أجاب الدعوة المعللة بالجزاء لما فعله من السقي. ويجاب عنه بأنه اتبع سنة الله في إجابة دعوة نبي من أنبياء الله، ولم تكن تلك الإجابة لأجل أخذ الأجر على هذا العمل، ولهذا ورد أنه لما قدم إليه الطعام قال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهباً.
26- "قالت إحداهما يا أبت استأجره" القائلة هي التي جاءته: أي استأجره ليرعى لنا الغنم، وفيه دليل على أن الإجارة كانت عندهم مشروعة. وقد اتفق على جوازها ومشرعيتها جميع علماء الإسلام إلا الأصم فإنه عن سماع أدلتها أصم، وجملة "إن خير من استأجرت القوي الأمين" تعليل لما وقع منها من الإرشاد لأبيها إلى استئجار موسى: أي إنه حقيق باستئجارك له لكونه جامعاً بين خصلتي القوة والأمانة. وقد تقدم في المردوي عن ابن عباس وعمر أن أباها سألها عن وصفها له بالقوة والأمانة فأجابته بما تقدم قريباً.
27- "قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين" فيه مشروعية عرض ولي المرأة لها على الرجل، وهذه سنة ثابتة في الإسلام، كما ثبت من عرض عمر لابنته حفصة على أبي بكر وعثمان، والقصة معروفة، وغير ذلك مما وقع في أيام الصحابة أيام النبوة، وكذلك ما وقع من عرض المرأة لنفسها على رسول الله صلى الله عليه وسلم "على أن تأجرني ثماني حجج" أي على أن تكون أجيراً لي ثماني سنين. قال الفراء: يقول على أن تجعل ثوابي أن ترعى غنمي ثماني سنين، ومحل "على أن تأجرني" النصب على الحال، وهو مضارع أجرته، ومفعوله الثاني محذوف: أي نفسك و "ثماني حجج" ظرف. قال المبرد: يقال: أجرت داري ومملوكي غير ممدود وممدوداً والأول أكثر "فإن أتممت عشراً فمن عندك" أي إن أتممت ما استأجرتك عليه من الرعي عشر سنين فمن عندك أي تفضلاً منك لا إلزاماً مني لك، جعل ما زاد على الثمانية الأعوام إلى تمام عشرة أعوام. موكولاً إلى المروءة، ومحل "فمن عندك" الرفع على تقدير مبتدأ: أي فهي من عندك "وما أريد أن أشق عليك" بإلزامك إتمام العشرة الأعوام، واشتقاق المشقة من الشق: أي شق ظنه نصفين، فتارة يقول أطيق، وتارة يقول لا أطيق. ثم رغبه في قبول الإجارة فقال: "ستجدني إن شاء الله من الصالحين" في حسن الصحبة والوفاء، وقيل أراد الصلاح على العموم، فيدخل صلاح المعاملة في تلك الإجارة تحت الآية دخولاً أولياً، وقيد ذلك بالمشيئة تفويضاً للأمر إلى توفيق الله ومعونته.
ثم لما فرغ شعيب من كلامه قرر موسى فـ 28- "قال ذلك بيني وبينك" واسم الإشارة مبتدأ وخبره ما عبده، والإشارة إلى ما تعاقدا عليه، وجملة "أيما الأجلين قضيت" شرطية جوابها "فلا عدوان علي" والمراد بالأجلين الثمانية الأعوام والعشرة الأعوام، ومعنى قضيت وفيت به وأتممته، والأجلين مخفوض بإضافة أي إليه، وما زائدة. وقال ابن كيسان: ما في موضع خفض بإضافة أي إليها، و الأجلين بدل منها، وقرأ الحسن "أيما" بسكون الياء، وقرأ ابن مسعود " أيما الأجلين قضيت " ومعنى "فلا عدوان علي" فلا ظلم علي بطلب الزيادة على ما قضيته من الأجلين: أي كما لا أطالب بالزيادة على الثمانية الأعوام لا أطاب بالنقصان على العشرة. وقيل المعنى: أي كما لا أطالب بالزيادة على الثمانية الأعوام لا أطاب بالزيادة على الثمانية الأعوام، وهذا أظهر. وأصل العدوان تجاوز الحد في غير ما يجب. قال المبرد: وقد علم موسى أنه لا عدوان عليه إذا أتمهما، ولكنه جمعهما ليجعل الأول كالأتم في الوفاء. قرأ الجمهور "عدوان" بضم العين. وقرأ أبو حيوة بكسرها "والله على ما نقول وكيل" أي على ما نقول من هذه الشروط الجارية بيننا شاهد وحفيظ، فلا سبيل لأحدنا إلى الخروج عن شيء من ذلك. قيل هو من قول موسى، وقيل من قول شعيب، والأول أولى لوقوعه في جملة كلام موسى.