تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 40 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 40

40- تفسير الصفحة رقم40 من المصحف
الآية: 246 {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين}
ذكر في التحريض على القتال قصة أخرى جرت في بني إسرائيل. والملأ: الأشراف من الناس، كأنهم ممتلئون شرفا. وقال الزجاج: سموا بذلك لأنهم ممتلئون مما يحتاجون إليه منهم. والملأ في هذه الآية القوم؛ لأن المعنى يقتضيه. والملأ: اسم للجمع كالقوم والرهط. والملأ أيضا: حسن الخلق، ومنه الحديث (أحسنوا الملأ فكلكم سيروى) خرجه مسلم.
قوله تعالى: "من بعد موسى" أي من بعد وفاته. "إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله" قيل: هو شمويل بن بال بن علقمة ويعرف بابن العجوز. ويقال فيه: شمعون، قاله السدي: وإنما قيل: ابن العجوز لأن أمه كانت عجوزا فسألت الله الولد وقد كبرت وعقمت فوهبه الله تعالى لها. ويقال له: سمعون لأنها دعت الله أن يرزقها الولد فسمع دعاءها فولدت غلاما فسمته "سمعون"، تقول: سمع الله دعائي، والسين تصير شينا بلغة العبرانية، وهو من ولد يعقوب. وقال مقاتل: هو من نسل هارون عليه السلام. وقال قتادة: هو يوشع بن نون. قال ابن عطية: وهذا ضعيف لأن مدة داود هي من بعد موسى بقرون من الناس، ويوشع هو فتى موسى. وذكر المحاسبي أن اسمه إسماعيل، والله أعلم. وهذه الآية هي خبر عن قوم من بني إسرائيل نالتهم ذلة وغلبة عدو فطلبوا الإذن في الجهاد وأن يؤمروا به، فلما أمروا كعَّ أكثرهم وصبر الأقل فنصرهم الله. وفي الخبر أن هؤلاء المذكورين هم الذين أميتوا ثم أحيوا، والله أعلم.
قوله تعالى: "نقاتل" بالنون والجزم وقراءة جمهور القراء على جواب الأمر. وقرأ الضحاك وابن أبي عبلة بالياء ورفع الفعل، فهو في موضع الصفة للملك.
قوله تعالى: "قال هل عسيتم" و"عسيتم" بالفتح والكسر لغتان، وبالثانية قرأ نافع، والباقون بالأولى وهي الأشهر. قال أبو حاتم: وليس للكسر وجه، وبه قرأ الحسن وطلحة. قال مكي في اسم الفاعل: عس، فهذا يدل على كسر السين في الماضي. والفتح في السين هي اللغة الفاشية. قال أبو علي: ووجه الكسر قول العرب: هو عسٍ بذلك، مثل حرٍ وشجٍ، وقد جاء فعل وفعل في نحو نعم ونعم، وكذلك عَسَيت وعَسِيت، فإن أسند الفعل إلى ظاهر فقياس عسيتم أن يقال عَسِيَ زيد، مثل رضي زيد، فإن قيل فهو القياس وإن لم يقل، فسائغ أن يؤخذ باللغتين فتستعمل إحداهما موضع الأخرى. ومعنى هذه المقالة: هل أنتم قريب من التولي والفرار؟. "إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا" قال الزجاج: "ألا تقاتلوا" في موضع نصب، أي هل عسيتم مقاتلة. "قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله" قال الأخفش: "أن" زائدة. وقال الفراء: هو محمول على المعنى، أي وما منعنا، كما تقول: ما لك ألا تصلي ؟ أي ما منعك. وقيل: المعنى وأي شيء لنا في ألا نقاتل في سبيل الله قال النحاس: وهذا أجودها. "وأن" في موضع نصب. "وقد أخرجنا من ديارنا" تعليل، وكذلك "وأبنائنا" أي بسبب ذرارينا.
قوله تعالى: "فلما كتب عليهم القتال" أي فرض عليهم. "القتال تولوا" أخبر تعالى أنه لما فرض عليهم القتال ورأوا الحقيقة ورجعت أفكارهم إلى مباشرة الحرب وأن نفوسهم، ربما قد تذهب "تولوا" أي اضطربت نياتهم وفترت عزائمهم، وهذا شأن الأمم المتنعمة المائلة إلى الدعة تتمنى الحرب أوقات الأنفة فإذا حضرت الحرب كعت وانقادت لطبعها. وعن هذا المعنى نهى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فأثبتوا) رواه الأئمة. ثم أخبر الله تعالى عن قليل منهم أنهم ثبتوا على النية الأولى واستمرت عزيمتهم على القتال في سبيل الله تعالى.
الآية: 247 {وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم}
قوله تعالى: "وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا" أي أجابكم إلى ما سألتم، وكان طالوت سقاء. وقيل: دباغا. وقيل: مكاريا، وكان عالما فلذلك رفعه الله على ما يأتي: وكان من سبط بنيامين ولم يكن من سبط النبوة ولا من سبط الملك، وكانت النبوة في بني لاوى، والملك في سبط يهوذا فلذلك أنكروا. قال وهب بن منبه: لما قال الملأ من بني إسرائيل لشمويل بن بال ما قالوا، سأل الله تعالى أن يبعث إليهم ملكا ويدله عليه؛ فقال الله تعالى له: انظر إلى القرن الذي فيه الدهن في بيتك فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن، فهو ملك بني إسرائيل فأدهن رأسه منه وملكه عليهم. قال: وكان طالوت دباغا فخرج في ابتغاء دابة أضلها، فقصد شمويل عسى أن يدعو له في أمر الدابة أو يجد عنده فرجا، فنش الدهن على ما زعموا، قال: فقام إليه شمويل فأخذه ودهن منه رأس طالوت، وقال له: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله تعالى بتقديمه، ثم قال لبني إسرائيل: "إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا". وطالوت وجالوت اسمان أعجميان معربان؛ ولذلك، لم ينصرفا، وكذلك داود، والجمع طواليت وجواليت ودوايد، ولو سميت رجلا بطاوس وراقود لصرفت وإن كان أعجميين. والفرق بين هذا والأول أنك تقول: الطاوس، فتدخل الألف واللام فيمكن في العربية ولا يمكن هذا في ذاك.
قوله تعالى: "أنى يكون له الملك علينا" أي كيف يملكنا ونحن أحق بالملك منه. جروا على سنتهم في تعنيتهم الأنبياء وحيدهم عن أمر الله تعالى فقالوا: "أنى" أي من أي جهة، فـ "أنى" في موضع نصب على الظرف، ونحن من سبط الملوك وهو ليس كذلك وهو فقير، فتركوا السبب الأقوى وهو قدر الله تعالى وقضاؤه السابق حتى احتج عليهم نبيهم بقوله: "إن الله اصطفاه" أي اختاره وهو الحجة القاطعة، وبين لهم مع ذلك تعليل اصطفاء طالوت، وهو بسطته في العلم الذي هو مِلاك الإنسان، والجسم الذي هو معينه في الحرب وعدته عند اللقاء؛ فتضمنت بيان صفة الإمام وأحوال الإمامة، وإنها مستحقة بالعلم والدين والقوة لا بالنسب، فلا حظ للنسب فيها مع العلم وفضائل النفس وأنها متقدمة عليه؛ لأن الله تعالى أخبر أنه اختاره عليهم لعلمه وقوته، وإن كانوا أشرف منتسبا. وقد مضى في أول السورة من ذكر الإمامة وشروطها ما يكفي ويغني. وهذه الآية أصل فيها. قال ابن عباس: كان طالوت يومئذ أعلم رجل في بني إسرائيل وأجمله وأتمه؛ وزيادة الجسم مما يهيب العدو. وقيل: سمى طالوت لطوله. وقيل: زيادة الجسم كانت بكثرة معاني الخير والشجاعة، ولم يرد عظم الجسم؛ ألم تر إلى قول الشاعر:
ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور
ويعجبك الطرير فتبتليه فخلف ظنك الرجل الطرير
وقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير
قلت: ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لأزواجه: (أسرعكن لحاقا بي أطولكن يدا) فكن يتطاولن؛ فكانت زينب أولهن موتا؛ لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق؛ خرجه مسلم. وقال بعض المتأولين: المراد بالعلم علم الحرب، وهذا تخصيص العموم من غير دليل. وقد قيل: زيادة العلم بأن أوحى الله إليه، وعلى هذا كان طالوت نبيا، وسيأتي.
قوله تعالى: "والله يؤتي ملكه من يشاء" ذهب بعض المتأولين إلى أن هذا من قول الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: هو من قول شمويل وهو الأظهر. قال لهم ذلك لما علم من تعنتهم وجدالهم في الحجج، فأراد إن يتمم كلامه بالقطعي الذي لا اعتراض عليه فقال الله تعالى: "والله يؤتي ملكه من يشاء". وإضافة ملك الدنيا إلى الله تعالى إضافة مملوك إلى ملك. ثم قال لهم على جهة التغبيط والتنبيه من غير سؤال منهم: "إن آية ملكه". ويحتمل أن يكونوا سألوه الدلالة على صدقه في قوله: "إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا". قال ابن عطية: والأول أظهر بمساق الآية، والثاني أشبه بأخلاق بني إسرائيل الذميمة، وإليه ذهب الطبري.
الآية: 248 {وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين}
قوله تعالى: "وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت" أي إتيان التابوت، والتابوت كان من شأنه فيما ذكر أنه أنزله الله على آدم عليه السلام، فكان عنده إلى أن وصل إلى يعقوب عليه السلام، فكان في بني إسرائيل يغلبون به من قاتلهم حتى عصوا فغلبوا على التابوت غلبهم عليه العمالقة: جالوت وأصحابه في قول السدي، وسلبوا التابوت منهم.
قلت: وهذا أدل دليله على أن العصيان سبب الخذلان، وهذا بين. قال النحاس: والآية في التابوت على ما روي أنه كان يسمع فيه أنين، فإذا سمعوا ذلك ساروا لحربهم،، وإذا هدأ الأنين لم يسيروا ولم يسر التابوت. وقيل: كانوا يضعونه في مأزق الحرب فلا تزال تغلب حتى عصوا فغلبوا وأخذ منهم التابوت وذل أمرهم؛ فلما رأوا آية الاصطلام وذهاب الذكر، أنف بعضهم وتكلموا في أمرهم حتى اجتمع ملؤهم أن قالوا لنبي الوقت: أبعث لنا ملكا؛ فلما قال لهم: ملككم طالوت راجعوه فيه كما أخبر الله عنهم؛ فلما قطعهم بالحجة سألوه البينة على ذلك، في قول الطبري. فلما سألوا نبيهم البينة على ما قال، دعا ربه فنزل بالقوم الذين أخذوا التابوت داء بسببه، على خلاف في ذلك. قيل: وضعوه في كنيسة لهم فيها أصنام فكانت الأصنام تصبح منكوسة. وقيل: وضعوه في بيت أصنامهم تحت الصنم الكبير فأصبحوا وهو فوق الصنم، فأخذوه وشدوه إلى رجليه فأصبحوا وقد قطعت يدا الصنم ورجلاه وألقيت تحت التابوت؛ فأخذوه وجملوه في قرية قوم فأصاب أولئك القوم أوجاع في أعناقهم. وقيل: جعلوه في مخرأة قوم فكانوا يصيبهم الباسور؛ فلما عظم بلاؤهم كيفما كان، قالوا: ما هذا إلا لهذا التابوت فلنرده إلى بني إسرائيل فوضعوه على عجلة بين ثورين وأرسلوهما في الأرض نحو بلاد بني إسرائيل، وبعث الله ملائكة تسوق البقرتين حتى دخلتا على بني إسرائيل، وهم في أمر طالوت فأيقنوا بالنصر؛ وهذا هو حمل الملائكة للتابوت في هذه الرواية. وروي أن الملائكة جاءت به تحمله وكان يوشع بن نون قد جعله في البرية، فروي أنهم رأوا التابوت في الهواء حتى نزل بينهم؛ قال الربيع بن خيثم. وقال وهب بن منبه: كان قدر التابوت نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين. الكلبي: وكان من عود شمسار الذي يتخذ منه الأمشاط. وقرأ زيد بن ثابت "التابوه" وهي لغته، والناس على قراءته بالتاء وقد تقدم. وروي عنه "التيبوت" ذكره النحاس. وقرأ حميد بن قيس "يحمله" بالياء.
قوله تعالى: "فيه سكينة من ربكم وبقية" اختلف الناس في السكينة والبقية؛ فالسكينة فعيلة مأخوذة من السكون والوقار والطمأنينة. فقوله "فيه سكينة" أي هو سبب سكون قلوبكم فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت؛ ونظيره "فأنزل الله سكينته عليه" [التوبة: 40] أي أنزل عليه ما سكن به قلبه. وقيل: أراد أن التابوت كان سبب سكون قلوبهم، فأينما كانوا سكنوا إليه ولم يفروا من التابوت إذا كان معهم في الحرب. وقال وهب بن منبه: السكينة روح من الله تتكلم، فكانوا إذا اختلفوا في أمر نطقت ببيان ما يريدون، وإذا صاحت في الحرب كان الظفر لهم. وقال علي بن أبي طالب: هي ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان. وروي عنه أنه قال: هي ريح خجوج لها رأسان. وقال مجاهد: حيوان كالهر له جناحان وذنب ولعينيه شعاع، فإذا نظر إلى الجيش انهزم. وقال ابن عباس: طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء؛ وقال السدي. وقال ابن عطية: والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى.
قلت: وفي صحيح مسلم عن البراء قال: كان رجل يقرأ سورة "الكهف" وعنده فرس مربوط بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: (تلك السكينة تنزلت للقرآن). وفي حديث أبي سعيد الخدري: أن أسيد بن الحضير بينما هو ليلة يقرأ في مربده الحديث وفيه: فقال رسوله الله صلى الله عليه وسلم: (تلك الملائكة كانت تستمع لك ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم) خرجه البخاري ومسلم. فأخبر صلى الله عليه وسلم عن نزول السكينة مرة، ومرة عن نزول الملائكة؛ فدل على أن السكينة كانت في تلك الظلة، وأنها تنزل أبدا مع الملائكة. وفي هذا حجة لمن قال إن السكينة روح أو شيء له روح لأنه لا يصح استماع القرآن إلا لمن يعقل، والله أعلم.
قوله تعالى: "وبقية" اختلف في البقية على أقوال، فقيل: عصا موسى وعصا هارون ورضاض الألواح؛ لأنها انكسرت حين ألقاها موسى، قال ابن عباس. زاد عكرمة:، التوراة. وقال أبو صالح: البقية: عصا موسى وثيابه وثياب هارون ولوحان من التوراة. وقال عطية بن سعد: وهي عصا موسى وعصا هارون وثيابهما ورضاض الألواح. وقاله الثوري: من الناس من يقول البقية قفيزا من في طست من ذهب وعصا موسى وعمامة هارون ورضاض الألواح. ومنهم من يقول: العصا والنعلان. ومعنى هذا ما روي من أن موسى لما جاء قومه بالألواح فوجدهم قد عبدوا العجل، ألقى الألواح غضبا فتكسرت، فنزع منها ما كان صحيحا وأخذ رضاض ما تكسر فجعله في التابوت. وقال الضحاك: البقية: الجهاد وقتال الأعداء. قال ابن عطية: أي الأمر بذلك في التابوت، إما أنه مكتوب فيه، وإما أن نفس الإتيان به هو كالأمر بذلك، وأسند الترك إلى آل موسى وآل هارون من حيث كان الأمر مندرجا من قوم إلى قوم وكلهم آل موسى وآل هارون. وآل الرجل قرابته. وقد تقدم.