تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 391 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 391

391- تفسير الصفحة رقم391 من المصحف
الآيات: 44 - 45 {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين، ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين}
قوله تعالى: "وما كنت" أي ما كنت يا محمد "بجانب الغربي" أي بجانب الجبل الغربي قال الشاعر:
أعطاك من أعطى الهدى النبيا نورا يزين المنبر الغربيا
"إذ قضينا إلى موسى الأمر" إذ كلفناه أمرنا ونهينا، وألزمناه عهدنا وقيل: أي إذ قضينا إلى موسى أمرك وذكرناك بخير ذكر وقال ابن عباس: "إذ قضينا" أي أخبرنا أن أمة محمد خير الأمم "وما كنت من الشاهدين" أي من الحاضرين.
قوله تعالى: "ولكنا أنشأنا قرونا" أي من بعد موسى "فتطاول عليهم العمر" حتى نسوا ذكر الله أي عهده وأمره نظيره: "فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم" [الحديد: 16] وظاهر هذا يوجب أن يكون جرى لنبينا عليه السلام ذكر في ذلك الوقت، وأن الله سيبعثه، ولكن طالت المدة، وغلبت القسوة، فنسي القوم ذلك وقيل: آتينا موسى الكتاب وأخذنا على قومه العهود، ثم تطاول العهد فكفروا، فأرسلنا محمدا مجددا للدين وداعيا الخلق إليه. وقوله تعالى: "وما كنت ثاويا في أهل مدين" أي مقيما كمقام موسى وشعيب بينهم قال العجاج:
فبات حيث يدخل الثوي
أي الضيف المقيم. وقوله: "تتلو عليهم آياتنا" أي تذكرهم بالوعد والوعيد. "ولكنا كنا مرسلين" أي أرسلناك في أهل مكة، وأتيناك كتابا فيه هذه الأخبار: ولولا ذلك لما علمتها.
الآية: 46 {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون}
قوله تعالى: "وما كنت بجانب الطور إذ نادينا" أي كما لم تحضر جانب المكان الغربي إذ أرسل الله موسى إلى فرعون، فكذلك لم تحضر جانب الطور إذ نادينا موسى لما أتى الميقات مع السبعين وروى عمرو بن دينار يرفعه قال: (نودي يا أمة محمد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني) فذلك قوله: "وما كنت بجانب الطور إذ نادينا" وقال أبو هريرة - وفي رواية عن ابن عباس - إن الله قال: (يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني ورحمتكم قبل أن تسترحموني) قال وهب: وذلك أن موسى لما ذكر الله له فضل محمد وأمته قال: يا رب أرنيهم فقال الله: (إنك لن تدركهم لإن شئت ناديتهم فأسمعتك صوتهم) قال: بلى يا رب فقال الله تعالى: (يا أمة محمد) فأجابوا من أصلاب أبائهم فقال: (قد أجبتكم قبل أن تدعوني) ومعنى الآية على هذا ما كنت بجانب الطور إذ كلمنا موسى فنادينا أمتك وأخبرناه بما كتبناه لك ولأمتك من الرحمة إلى آخر الدنيا. "ولكن" فعلنا ذلك "رحمة" منا بكم قال الأخفش: "رحمه" نصب على المصدر أي ولكن رحمناك رحمة وقال الزجاج: هو مفعول من أجله أي فعل ذلك بك لأجل الرحمة النحاس: أي لم تشهد قصص الأنبياء، ولا تليت عليك، ولكنا بعثناك وأوحيناها إليك للرحمة وقال الكسائي: على خبر كان؛ التقدير: ولكن كان رحمة. قال: ويجوز الرفع بمعنى هي رحمة الزجاج: الرفع بمعنى ولكن فعل ذلك رحمة "لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك" يعني العرب أي لم تشاهد تلك الأخبار، ولكن أوحيناها إليك رحمة بمن أرسلت إليهم لتنذرهم بها "لعلهم يتذكرون"
الآيات: 47 - 48 {ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين، فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون}
قوله تعالى: "ولولا أن تصيبهم" يريد قريشا. وقيل: اليهود "مصيبة" أي عقوبة ونقمة "بما قدمت أيديهم" من الكفر والمعاصي وخص الأيدي بالذكر؛ لأن الغالب من الكسب إنما يقع بها وجواب "لولا" محذوف أي لولا أن يصيبهم عذاب بسبب معاصيهم المتقدمة "فيقولوا ربنا لولا" أي هلا "أرسلت إلينا رسولا" لما بعثنا الرسل وقيل: لعاجلناهم بالعقوبة وبعث الرسل إزاحة لعذر الكفار كما تقدم في "الإسراء" وآخر "طه". "فنتبع آياتك" نصب على جواب التخصيص"ونكون" عطف عليه "من المؤمنين" من المصدقين وقد احتج بهذه الآية من قال: إن العقل يوجب الإيمان والشكر؛ لأنه قال: "بما قدمت أيديهم" وذلك موجب للعقاب إذا تقرر الوجوب قبل بعثه الرسل، وإنما يكون ذلك بالعقل قال القشيري: والصحيح أن المحذوف لو لا كذا لما احتيج إلى تجديد الرسل أي هؤلاء الكفار غير معذورين إذ بلغتهم الشرائع السابقة والدعاء إلى التوحيد، ولكن تطاول العهد، فلو عذبناهم فقد يقول قائل منهم طال العهد بالرسل، ويظن أن ذلك عذر ولا عذر لهم بعد أن بلغهم خبر الرسل، ولكن أكملنا إزاحة العذر، وأكملنا البيان فبعثناك يا محمد إليهم وقد حكم الله بأنه لا يعاقب عبدا إلا بعد إكمال البيان والحجة وبعثة الرسل
قوله تعالى: "فلما جاءهم الحق من عندنا" يعني محمدا صلي الله عليه وسلم "قالوا" يعني كفار مكة "لولا" أي هلا "أوتي مثل ما أوتي موسى" من العصا واليد البيضاء، وأنزل عليه القرآن جملة واحد كالتوراة، وكان بلغهم ذلك من أمر موسى قبل محمد؛ "أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا ساحران تظاهرا" أي موسى ومحمد تعاونا على السحر وقال الكلبي: بعثت قريش إلى اليهود وسألوهم عن بعث محمد وشأنه فقالوا: إنا نجده في التوراة بنعته وصفته فلما رجع الجواب إليهم "قالوا ساحران تظاهرا" وقال قوم: إن اليهود علموا المشركين، وقالوا قولوا لمحمد لولا أوتيت مثل ما أوتي موسى، فإنه أوتي التوراة دفعة واحدة فهذا الاحتجاج وارد على اليهود، أي أو لم يكفر هؤلاء اليهود بما أوتي موسى حين قالوا في موسى وهارون هما ساحران. وقرأ الكوفيون: "سحران" بغير ألف، أي الإنجيل والقرآن وقيل: التوراة والفرقان؛ قاله الفراء وقيل: التوراة والإنجيل، قاله أبو رزين الباقون "ساحران" بألف وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: موسى ومحمد عليهما السلام، وهذا قول مشركي العرب وبه قال ابن عباس والحسن. الثاني: موسى وهارون وهذا قول اليهود لهما في ابتداء الرسالة. وبه قال سعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد فيكون الكلام احتجاجا عليهم وهذا يدل على أن المحذوف في قوله: "لولا أن تصيبهم مصيبة" لما جددنا بعثة الرسل، لأن اليهود اعترفوا بالنبوات ولكنهم حرفوا وغيروا واستحقوا العقاب، فقال: قد أكملنا إزاحة عذرهم ببعثه محمد صلى الله عليه وسلم الثالث: عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم وهذا قول اليهود اليوم وبه قال قتادة. وقيل: أو لم يكفر جميع اليهود بما أوتي موسى في التوراة من ذكر المسيح، وذكر الإنجيل والقرآن، فرأوا موسى ومحمدا ساحرين والكتابين سحرين.
الآيات: 49 - 51 {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين، فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين، ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون}
قوله تعالى: "قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه" أي قل يا محمد إذا كفرتم معاشر المشركين بهذين الكتابين "فاتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه" ليكون ذلك عذرا لكم في الكفر "إن كنتم صادقين" في أنهما سحران أو فأتوا بكتاب هو أهدى من كتابي موسى ومحمد عليهما السلام وهذا يغوي قراءة الكوفيين "سحران". "أتبعه" قال الفراء: بالرفع؛ لأنه صفة للكتاب وكتاب نكرة قال: وبذا جزمت - هو الوجه - فعلى الشرط.
قوله تعالى: "فإن لم يستجيبوا لك" يا محمد بأن يأتوا بكتاب من عند الله "فاعلم أنما يتبعون أهواءهم" أي آراء قلوبهم وما يستحسنونه ويحببه لهم الشيطان، وإنه لا حجة لهم "ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله" أي لا أحد أضل منه "إن الله لا يهدي القوم الظالمين".
قوله تعالى: "ولقد وصلنا لهم القول" أي أتبعنا بعضه بعضا، وبعثنا رسولا بعد رسول وقرأ الحسن "وصلنا" مخففا وقال أبو عبيدة والأخفش: معنى "وصلنا" أتممنا كصلتك الشيء وقال ابن عيينه والسدي: بيّنا وقاله ابن عباس وقال مجاهد: فصلنا وكذلك كان يقرؤها. وقال ابن زيد: وصلنا لهم خبر الدنيا بخبر الآخرة حتى كأنهم في الآخرة في الدنيا وقال أهل المعاني: وَاَلينا وتابعنا وأنزلنا القرآن تبع بعضه بعضا: وعدا ووعيدا وقصصا وعبرا ونصائح ومواعظ إرادة أن يتذكروا فيفلحوا وأصلها من وصل الحبال بعضها ببعض قال الشاعر:
فقل لبني مروان ما بال ذمة وحبل ضعيف ما يزال يوصل
وقال امرؤ القيس:
درير كخذروف الوليد أمره تقلب كفيه بخيط موصل
والضمير في "لهم" لقريش؛ عن مجاهد وقيل: هو لليهود وقيل: هو لهم جميعا. والآية رد على من قال هلا أوتي محمد القرآن جملة واحدة "لعلهم يتذكرون" قال ابن عباس: يتذكرون محمدا فيؤمنوا به. وقيل: يتذكرون فيخافوا أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم؛ قاله علي بن عيسى وقيل: لعلهم يتعظون بالقرآن عن عبادة الأصنام. حكاه النقاش.