تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 40 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 40

039

قوله: 246- " ألم تر إلى الملإ " الكلام فيه كالكلام في قوله: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم" وقد قدمناه، والملأ الأشراف من الناس كأنهما ملئوا شرفاً. وقال الزجاج: سموا بذلك لأنهم ملئون بما يحتاج إلأيه منهم، وهو اسم جمع كالقوم والرهط. ذكر الله سبحانه في التحريض على القتال قصة أخرة جرت في بني إسرائيل بعد القصة المتقدمة وقوله: "من بعد موسى" من ابتدائية وعاملها مقدر: أي كائنين من بعد موسى: أي بعد وفاته. وقوله: "لنبي لهم" قيل: هو شمويل بن يار بن علقمة ويعرف بابن العجوز، ويقال فيه شمعون، وهو من ولد يعقوب، وقيل: من نسل هارون، وقيل: هو يوشع بن نون، وهذا ضعيف جداً لأن يوشع هو فتى موسى، ولم يوجد إلا بعد ذلك بدهر طويل، وقيل اسمه إسماعيل. وقوله: "ابعث لنا ملكاً" أي أميراً نرجع إليه ونعمل على رأيه. وقوله: "نقاتل" بالنون والجزم على جواب الأمر، وبه قرأ الجمهور. وقرأ الضحاك وابن أبي عبلة بالياء ورفع الفعل على أنه صفة للملك. وقرئ بالنون والرفع على أنه حال أو كلام مستأنف. وقوله: "هل عسيتم" بالفتح للسين وبالكسر لغتان، وبالثانية قرأ نافع، وبالأولى قرأ الباقون. قال في الكشاف: وقراءة الكسر ضعيفة. وقال أبو حاتم: ليس للكسر وجه انتهى. وقال أبو علي: وجه الكسر قول العرب: هو عس بذلك، مثل حر وشج، وقد جاء فعل وفعل في نحو نقم ونقم، فكذلك عسيت وعسيت، وكذا قال مكي. وقد قرأ بالكسر أيضاً الحسن وطلحة فلا وجه لتضعيف ذلك، وهو من أفعال المقاربة: أي هل قاربتم أن لا تقاتلوا، وإدخال حرف الاستفهام على فعل المقاربة لتقرير ما هو متوقع عنده والإشعار بأنه كائن، وإدخال حرف الاستفهام على فعل المقاربة لتقرير ما هو متوقع عنده والإشعار بأنه كائن، وفصل بين عسى وخبرها بالشرط للدلالة على الاعتناء به. قال الزجاج: أن لا تقاتلوا في موضع نصب: أي هل عسيتم مقاتلة. قال الأخفش: أن في قوله: " وما لنا أن لا نقاتل " زائدة. وقال الفراء: هو محمول على المعنى: أي وما منعنا كما تقول ما لك ألا تصلي، وقيل المعنى: وأي شيء لنا في أن لا نقاتل. قال النحاس: وهذا أجودها. وقوله: "وقد أخرجنا" تعليل والجملة حالية، وإفراد الأولاد بالذكر لأنهم الذين وقع عليهم السبي، أو لأنهم بمكان فوق مكان سائر القرابة "فلما كتب" أي فرض، أخبر سبحانه أنهم تولوا لاضطراب نياتهم وفتور عزائمهم. واختلف في عدد القليل الذين استثناهم الله سبحانه، وهم الذين اكتفوا بالغرفة.
وقوله: 247- "وقال لهم نبيهم" شروع في تفصيل ما جرى بينهم وبين نبيهم من الأقوال والأفعال. وطالوت: اسم عجمي، وكان سقاء، وقيل: دباغاً، وقيل: مكارياً، ولم يكن من سبط النبوة وهم بنولاوي، ولا من سبط الملك وهم بنو يهوذا، فلذلك "قالوا أنى يكون له الملك علينا" أي كيف ذلك، ولم يكن من بيت الملك، ولا هو ممن أوتي سعة من المال حتى نتبعه لشرفه أو لماله، وهذه الجملة أعني قوله: "ونحن أحق" حالية وكذلك الجملة المعطوفة عليها. وقوله: "اصطفاه عليكم" أي اختاره واختيار الله هو الحجة القاطعة. ثم بين لهم مع ذلك وجه الاصطفاء: بأن الله زاده بسطة في العلم، الذي هو ملاك الإنسان ورأس الفضائل وأعظم وجوه الترجيح، وزاده بسطة في الجسم الذي يظهر به الأثر في الحروب ونحوها، فكان قوياً في دينه وبدنه، وذلك هو المعتبر، لا شرف الأنسب. فإن فضائل النفس مقدمة عليه "والله يؤتي ملكه من يشاء" فالملك ملكه، والعبيد عبيده، فما لكم والاعتراض على شيء ليس هو لكم ولا أمره إليكم. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن قوله: "والله يؤتي ملكه من يشاء" من قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو من قول نبيهم وهو الظاهر. وقوله: "واسع" أي واسع الفضل، يوسع على من يشاء من عباده "عليم" بمن يستحق الملك ويصلح له.
248- والتابوت فعلوت من التوب وهو الرجوع لأنهم يرجعون إليه: أي علامة ملكه إتيان التابوت الذي أخذ منهم: أي رجوعه إليكم وهو صندوق التوراة. والسكينة فعيلة مأخوذة من السكون والوقار والطمأنينة: أي فيه سبب سكون قلوبكم فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت. قال ابن عطية: الصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتتقوى. وقد اختلف في السكينة على أقوال سيأتي بيان بعضها، وكذلك اختلف في البقية، فقيل: هي عصا موسى ورضاض الألواح، وقيل غير ذلك. قيل: والمراد بآل موسى وهارون هما أنفسهما: أي مما ترك هارون وموسى، ولفظ آل مقحمة لتفخيم شأنهما، وقيل: المراد الأنبياء من بني يعقوب لأنهما من ذرية يعقوب، فسائر قرابته ومن تناسل منه آل لهما.
وفصل معناه: خرج بهم، فصلت الشيء فانفصل أي قطعته فانقطع، وأصله متعد، يقال: فصل نفسه ثم استعمل استعمال اللازم كانفصل، وقيل: إن فصل يستعمل لازماً ومتعدياً، يقال: فصل عن البلد فصولاً، وفصل نفسه فصلاً. والابتلاء: الاختبار. والنهر: قيل: هو بين الأردن وفلسطين، وقرأه الجمهور بنهر بفتح الهاء. وقرأ حميد ومجاهد والأعرج بسكون الهاء. والمراد بهذا الابتلاء اختبار طاعتهم، فمن أطاع في ذلك الماء أطاع فيما عداه، ومن عصى في هذا وغلبته نفسه فهو بالعصيان في سائر الشدائد أحرى، ورخص لهم في الغرفة ليرتفع عنهم أذى العطش عند الصابرين على شظف العيش الدافعين أنفسهم عن الرفاهية. فالمراد بقوله: 249- "فمن شرب منه" أي كرع ولم يقتصر على الغرفة، ومن ابتدائية. ومعنى قوله: "فليس مني" أي ليس من أصحابي من قوله: فلان من فلان كأنه بعضه لاختلاطهما وطول صحبتهما، وهذا مهيع في كلام العرب معروف، ومنه قول الشاعر: إذا حاولت في أسد فجورا فإني لست منك ولست مني وقوله: "ومن لم يطعمه" يقال طعمت الشيء: أي ذقته، وأطعمته الماء: أي أذقته، وفيه دليل على أن الماء يقال له طعام، والاغتراف: الأخذ من الشيء باليد أو بآلة، والغرف مثل الاغتراف، والغرفة المرة الواحدة. وقد قرئ بفتح الغين وضمها، فالفتح للمرة، والضم اسم للشيء المغترف، وقيل: بالفتح الغرفة بالكف الواحدة، وبالضم الغرفة بالكفين، وقيل: هما لغتان بمعنى واحد، ومنه قول الشاعر: لا يدلفون إلى ماء بآنية إلا اغترافاً من الغدران بالراح قوله: "إلا قليلاً" سيأتي بيان عددهم، وقرئ: إلا قليل ولا وجه له إلا ما قيل من أنه من هجر اللفظ إلى جانب المعنى: أي لم يعطه إلا قليل، وهو متعسف. قوله: "فلما جاوزه" أي جاوز النهر طالوت "والذين آمنوا معه" وهم القليل الذين أطاعوه، ولكنهم اختلفوا في قوة اليقين، فبعضهم قال: "لا طاقة لنا" و"قال الذين يظنون" أي يتيقنون "أنهم ملاقوا الله" والفئة: الجماعة، والقطعة منهم من فأوت رأسه بالسيف: أي قطعته.