تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 414 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 414

414- تفسير الصفحة رقم414 من المصحف
الآية: 29 - 30 {ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير، ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير}
قوله تعالى: "ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل" تقدم. "وسخر الشمس والقمر" أي ذللهما بالطلوع والأفول تقديرا للآجال وإتماما للمنافع. "كل يجري إلى أجل مسمى" قال الحسن: إلى يوم القيامة. قتادة: إلى وقته في طلوعه وأفوله لا يعدوه ولا يقصر عنه. "وأن الله بما تعملون خبير" أي من قدر على هذه الأشياء فلا بد من أن يكون عالما بها، والعالم بها عالم بأعمالكم. وقراءة العامة "تعملون" بالتاء على الخطاب. وقرأ السلمّي ونصر بن عاصم والدوري عن أبي عمرو بالياء على الخبر."ذلك" أي فعل الله تعالى ذلك لتعلموا وتقروا "بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل" أي الشيطان؛ قاله مجاهد. وقيل: ما أشركوا به الله تعالى من الأصنام والأوثان. "وأن الله هو العلي الكبير" العلّي في مكانته، الكبير في سلطانه.
الآية: 31 {ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور}
قوله تعالى: "ألم تر أن الفلك" أي السفن "تجري" في موضع الخبر. "في البحر بنعمة الله" أي بلطفه بكم وبرحمته لكم في خلاصكم منه. وقرأ ابن هرمُز: "بنعمات الله" جمع نعمة وهو جمع السلامة، وكان الأصل تحريك العين فأسكنت. "ليريكم من آياته" "من" للتبعيض، أي ليريكم جري السفن؛ قال يحيى بن سلام. وقال ابن شجرة: "من آياته" ما تشاهدون من قدرة الله تعالى فيه. النقاش: ما يرزقهم الله منه. وقال الحسن: مفتاح البحار السفن، ومفتاح الأرض الطرق، ومفتاح السماء الدعاء. "إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور" أي صبار لقضائه شكور على نعمائه. وقال أهل المعاني: أراد لكل مؤمن بهذه الصفة؛ لأن الصبر والشكر من أفضل خصال الإيمان. والآية: العلامة، والعلامة لا تستبين في صدر كل مؤمن إنما تستبين لمن صبر على البلاء وشكر على الرخاء. قال الشعبّي: الصبر نصف الإيمان، والشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله؛ ألم تر إلى قوله تعالى: "إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور" وقوله: "وفي الأرض آيات للموقنين" [الذاريات: 20] وقال عليه السلام: (الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر).
الآية: 32 {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور}
قوله تعالى: "وإذا غشيهم موج كالظلل" قال مقاتل: كالجبال. وقال الكلبي: كالسحاب؛ وقاله قتادة: جمع ظلة؛ شبه الموج بها لكبرها وارتفاعها. قال النابغة في وصف بحر:
يماشيهن أخضر ذو ظلال على حافاته فلق الدنان
وإنما شبه الموج وهو واحد بالظل وهو جمع؛ لأن الموج يأتي شيئا بعد شيء ويركب بعضه بعضا كالظلل. وقيل: هو بمعنى الجمع، وإنما لم يجمع لأنه مصدر. وأصله من الحركة والازدحام؛ ومنه: ماج البحر، والناس يموجون. قال كعب:
فجئنا إلى موج من البحر وسطه أحابيش منهم حاسر ومقنع
وقرأ محمد ابن الحنفية: "موج كالظلال" جمع ظل. "دعوا الله مخلصين له الدين" موحدين له لا يدعون لخلاصهم سواه؛ وقد تقدم. "فلما نجاهم" يعني من البحر. "إلى البر فمنهم مقتصد" قال ابن عباس: موف بما عاهد عليه الله في البحر. النقاش: يعني عدل في العهد، وفي في البر بما عاهد عليه الله في البحر. وقال الحسن: "مقتصد" مؤمن متمسك بالتوحيد والطاعة. وقال مجاهد: "مقتصد" في القول مضمر للكفر. وقيل: في الكلام حذف؛ والمعنى: فمنهم مقتصد ومنهم كافر. ودل على المحذوف قوله تعالى: "وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور" الختار: الغدار. والختر: أسوأ الغدر. قال عمرو بن معد يكرب:
فإنك لو رأيت أبا عمير ملأت يديك من غدر وختر
وقال الأعشى:
بالأبلق الفرد من تيماء منزله حصن حصين وجار غير ختار
قال الجوهري: الختر الغدر؛ يقال: ختره فهو ختار. الماوردي: وهو قول الجمهور. وقال عطية: إنه الجاحد. ويقال: ختر يختِر ويختُر (بالضم والكسر) خترا؛ ذكره القشيري، وجحد الآيات إنكار أعيانها. والجحد بالآيات إنكار دلائلها.
الآية: 33 {يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور}
قوله تعالى: "يا أيها الناس اتقوا ربكم" يعني الكافر والمؤمن؛ أي خافوه ووحدوه. "واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا" تقدم معنى "يجزي" في البقرة وغيرها. فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم تمسه النار إلا تحله القسم). وقال: (من ابتلي بشيء من هذه البنات فأحسن إليهّن كّن له حجابا من النار). قيل له: المعنّي بهذه الآية أنه لا يحمل والد ذنب ولده، ولا مولود ذنب والده، ولا يؤاخذ أحدهما عن الآخر. والمعنّي بالأخبار أن ثواب الصبر على الموت والإحسان إلى البنات يحجب العبد عن النار، ويكون الولد سابقا له إلى الجنة. "إن وعد الله حق" أي البعث "فلا تغرنكم" أي تخدعنكم "الحياة الدنيا" بزينتها وما تدعوا إليه فتتكلوا عليها وتركنوا إليها وتتركوا العمل للآخرة "ولا يغرنكم بالله الغرور" قراءة العامة هنا وفي سورة الملائكة والحديد بفتح الغين، وهو الشيطان في قول مجاهد وغيره، وهو الذي يغّر الخلق ويمنيهم الدنيا ويلهيهم عن الآخرة؛ وفي سورة "النساء": "يعدهم ويمنيهم". وقرأ سماك بن حرب وأبو حيوة وابن السميقع بضم الغين؛ أي لا تغتروا. كأنه مصدر غّر يغر غرورا. قال سعيد بن جبير: هو أن يعمل بالمعصية ويتمنى المغفرة.
الآية: 34 {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير}
زعم الفراء أن هذا معنى النفي؛ أي ما يعلمه أحد إلا الله تعالى. قال أبو جعفر النحاس: وإنما صار فيه معنى النفي والإيجاب بتوقيف الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال في قوله الله عز وجل: "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو" [الأنعام: 59]: (إنها هذه):
قلت: قد ذكرنا في سورة "الأنعام" حديث ابن عمر في هذا، خرجه البخاري. وفي حديث جبريل عليه السلام قال: (أخبرني عن الساعة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، هن خمس لا يعلمهن إلا الله تعالى: إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ما تكسب غدا) قال: (صدقت). لفظ أبي داود الطيالسّي. وقال عبدالله بن مسعود: كل شيء أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم غير خمس: "إن الله عنده علم الساعة، الآية إلى آخرها. وقال ابن عباس: هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى، ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبّي مرسل؛ فمن ادعى أنه يعلم شيئا من هذه فقد كفر بالقرآن؛ لأنه خالفه. ثم إن الأنبياء يعلمون كثيرا من الغيب بتعريف الله تعالى إياهم. والمراد إبطال كون الكهنة والمنجمين ومن يستسقي بالأنواء وقد يعرف بطول التجارب أشياء من ذكورة الحمل وأنوثته إلى غير ذلك؛ حسبما تقدم ذكره في الأنعام. وقد تختلف التجربة وتنكسر العادة ويبقى العلم لله تعالى وحده. وروي أن يهوديا كان يحسب حساب النجوم، فقال لابن عباس: إن شئت نبأتك نجم ابنك، وأنه يموت بعد عشرة أيام، وأنت لا تموت حتى تعمى، وأنا لا يحول علّي الحول حتى أموت. قال: فأين موتك يا يهودّي؟ فقال: لا أدري. فقال ابن عباس: صدق الله. "وما تدري نفس بأي أرض تموت" فرجع ابن عباس فوجد ابنه محموما، ومات بعد عشرة أيام. ومات اليهودّي قبل الحول، ومات ابن عباس أعمى. قال علّي بن الحسين راوي هذا الحديث: هذا أعجب الأحاديث. وقال مقاتل: إن هذه الآية نزلت في رجل من أهل البادية اسمه الوارث بن عمرو بن حارثة، أتى النبّي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد، وبلادنا جدبة فأخبرني متى ينزل الغيث، وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت، وقد علمت ما عملت اليوم فأخبرني ماذا أعمل غدا، وأخبرني متى تقوم الساعة؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ ذكره القشيري والماوردّي. وروى أبو المليح عن أبي عّزة الهذلي قال قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله تعالى قبض روح عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - "إن الله عنده علم الساعة - إلى قوله - بأي أرض تموت") ذكره الماوردّي، وخرجه ابن ماجة من حديث ابن مسعود بمعناه. وقد ذكرناه في كتاب {التذكرة} مستوفى. وقراءة العامة: "وينزل" مشددا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزه والكسائي مخففا. وقرأ أبي بن كعب: "بأية أرض" الباقون "بأي أرض". قال الفراء: اكتفى بتأنيث الأرض من تأنيث أي. وقيل: أراد بالأرض المكان فذكر. قال الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها
وقال الأخفش: يجوز مررت بجارية أي جارية، وأية جارية. وشبه سيبويه تأنيث "أي" بتأنيث كل في قولهم: كلتهن. "إن الله عليم خبير" "خبير" نعت لـ "عليم" أو خبر بعد خبر. والله تعالى أعلم.