تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 413 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 413

413- تفسير الصفحة رقم413 من المصحف
الآية: 20 - 21 {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير}
قوله تعالى: "ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض" ذكر نعمه على بني آدم، وأنه سخر لهم "ما في السموات" من شمس وقمر ونجوم وملائكة تحوطهم وتجر إليهم منافعهم. "وما في الأرض" عام في الجبال والأشجار والثمار وما لا يحصى. "وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة" أي أكملها وأتمها. وقرأ ابن عباس ويحيى بن عمارة: "وأصبغ" بالصاد على بدلها من السين؛ لأن حروف الاستعلاء تجتذب السين من سفلها إلى علوها فتردها صادا. والنعم: جمع نعمة كسدرة وسدر (بفتح الدال) وهي قراءة نافع وأبي عمرو وحفص. الباقون: "نعمة" على الإفراد؛ والإفراد يدل على الكثرة؛ كقوله تعالى: "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها" [إبراهيم: 34]. وهي قراءة ابن عباس من وجوه صحاح. وقيل: إن معناها الإسلام؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس وقد سأله عن هذه الآية: (الظاهرة الإسلام وما حسن من خلقك، والباطنة ما ستر عليك من سيئ عملك). قال النحاس: وشرح هذا أن سعيد بن جبير قال في قول الله عز وجل: "ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم" [المائدة: 6] قال: يدخلكم الجنة. وتمام نعمة الله عز وجل على العبد أن يدخله الجنة، فكذا لما كان الإسلام يؤول أمره إلى الجنة سمي نعمة. وقيل: الظاهرة الصحة وكمال الخلق، والباطنة المعرفة والعقل. وقال المحاسبي: الظاهرة نعم الدنيا، والباطنة نعم العقبى. وقيل: الظاهرة ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال في الناس وتوفيق الطاعات، والباطنة ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله وحسن اليقين وما يدفع الله تعالى عن العبد من الآفات. وقد سرد الماوردي في هذا أقوالا تسعة، كلها ترجع إلى هذا.
قوله تعالى: "ومن الناس من يجادل في الله" تقدمت. نزلت في يهودي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أخبرني عن ربك، من أي شيء هو؟ فجاءت صاعقة فأخذته؛ قاله مجاهد. وقد مضى هذا في "الرعد". وقيل: إنها نزلت في النضر بن الحارث، كان يقول: إن الملائكة بنات الله؛ قاله ابن عباس. "يجادل" يخاصم "بغير علم" أي بغير حجة "ولا هدى ولا كتاب منير" أي نير بين؛ إلا الشيطان فيما يلقي إليهم. "وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم" [الأنعام: 121] وإلا تقليد الأسلاف كما في الآية بعد. "أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير" فيتبعونه.
الآية: 22 {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور}
قوله تعالى: "ومن يسلم وجهه إلى الله" أي يخلص عبادته وقصده إلى الله تعالى. "وهو محسن" لأن العبادة من غير إحسان ولا معرفة القلب لا تنفع؛ نظيره: "ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن" [طه: 112]. وفي حديث جبريل قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك). "فقد استمسك بالعروة الوثقى" قال ابن عباس: لا إله إلا الله؛ وقد مضى في "البقرة". وقد قرأ علّي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه والسلمي وعبدالله بن مسلم بن يسار: "ومن يسلم". النحاس: و"يسلم" في هذا أعرف؛ كما قال عز وجل: "فقل أسلمت وجهي لله" [آل عمران: 20] ومعنى: "أسلمت وجهي لله" قصدت بعبادتي إلى الله عز وجل؛ ويكون "يسلم" على التكثير؛ إلا أن المستعمل في سلمت أنه بمعنى دفعت؛ يقال سلمت في الحنطة، وقد يقال أسلمت. الزمخشري: قرأ علّي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: "ومن يسلم" بالتشديد؛ يقال: أسلم أمرك وسلم أمرك إلى الله تعالى؛ فإن قلت: ماله عدي بإلى، وقد عدي باللام في قول عز وجل: "بلى من أسلم وجهه لله"؟ [البقرة: 112] قلت: معناه مع اللام أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالما لله؛ أي خالصا له. ومعناه مع إلى راجع إلى أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه. والمراد التوكل عليه والتفويض إليه. "وإلى الله عاقبة الأمور" أي مصيرها.
الآية: 23 - 24 {ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور، نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ}
قوله تعالى: "ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا" أي نجازيهم بما عملوا. "إن الله عليم بذات الصدور". "نمتعهم قليلا" أي نبقيهم في الدنيا مدة قليلة يتمتعون بها. "ثم نضطرهم" أي نلجئهم ونسوقهم. "إلى عذاب غليظ" وهو عذاب جهنم. ولفظ "من" يصلح للواحد والجمع، فلهذا قال: "كفره" ثم قال: "مرجعهم" وما بعده على المعنى.
الآية: 25 - 26 {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون، لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد}
قوله تعالى: "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله" أي هم يعترفون بأن الله خالقهن فلم يعبدون غيره. "قل الحمد لله" أي على ما هدانا له من دينه، وليس الحمد لغيره. "بل أكثرهم لا يعلمون" أي لا ينظرون ولا يتدبرون."لله ما في السماوات والأرض" أي ملكا وخلقا. "إن الله هو الغني" أي الغني عن خلقه وعن عبادتهم، وإنما أمرهم لينفعهم. "الحميد" أي المحمود على صنعه.
الآية: 27 {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم}
لما احتج على المشركين بما احتج بين أن معاني كلامه سبحانه لا تنفد، وأنها لا نهاية لها. وقال القفال: لما ذكر أنه سخر لهم ما في السموات وما في الأرض وأنه أسبغ النعم نبه على أن الأشجار لو كانت أقلاما، والبحار مدادا فكتب بها عجائب صنع الله الدالة على قدرته ووحدانيته لم تنفد تلك العجائب. قال القشيري: فرد معنى تلك الكلمات إلى المقدورات، وحمل الآية على الكلام القديم أولى؛ والمخلوق لا بد له من نهاية، فإذا نفيت النهاية عن مقدوراته فهو نفي النهاية عما يقدر في المستقبل على إيجاده، فأما ما حصره الوجود وعده فلا بد من تناهيه، والقديم لا نهاية له على التحقيق. وقد مضى الكلام في معنى "كلمات الله" في آخر "الكهف". وقال أبو علّي: المراد بالكلمات والله أعلم ما في المقدور دون ما خرج منه إلى الوجود. وهذا نحو مما قاله القفال، وإنما الغرض الإعلام بكثرة معاني كلمات الله وهي في نفسها غير متناهية، وإنما قرب الأمر على أفهام البشر بما يتناهى لأنه غاية ما يعهده البشر من الكثرة؛ لا أنها تنفد بأكثر من هذه الأقلام والبحور. ومعنى نزول الآية: يدل على أن المراد بالكلمات الكلام القديم. قال ابن عباس: إن سبب هذه الآية أن اليهود قالت: يا محمد، كيف عنينا بهذا القول "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" [الإسراء: 85] ونحن قد أوتينا التوراة فيها كلام الله وأحكامه، وعندك أنها تبيان كل شيء؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التوراة قليل من كثير) ونزلت هذه الآية، والآية مدنية. قال أبو جعفر النحاس: فقد تبين أن الكلمات ها هنا يراد بها العلم وحقائق الأشياء؛ لأنه عز وجل علم قبل أن يخلق الخلق ما هو خالق في السموات والأرض من كل شيء، وعلم ما فيه من مثاقيل الذّر، وعلم الأجناس كلها وما فيها من شعرة وعضو، وما في الشجرة من ورقة، وما فيها من ضروب الخلق، وما يتصرف فيه من ضروب الطعم واللون؛ فلو سمى كل دابة وحدها، وسمى أجزاءها على ما علم من قليلها وكثيرها وما تحولت عليه من الأحوال، وما زاد فيها في كل زمان، وبين كل شجرة وحدها وما تفرعت إليه، وقدر ما ييبس من ذلك في كل زمان، ثم كتب البيان على كل واحد منها ما أحاط الله جل ثناؤه به منها، ثم كان البحر مدادا لذلك البيان الذي بين الله تبارك وتعالى عن تلك الأشياء يمده من بعده سبعة أبحر لكان البيان عن تلك الأشياء أكثر.
قلت: هذا معنى قول القفال، وهو قول حسن إن شاء الله تعالى. وقال قوم: إن قريشا قالت سيتم هذا الكلام لمحمد وينحسر؛ فنزلت وقال السّدي: قالت قريش ما أكثر كلام محمد! فنزلت.
قوله تعالى: "والبحر يمده" قراءة الجمهور بالرفع على الابتداء، وخبره في الجملة التي بعدها، والجملة في موضع الحال؛ كأنه قال: والبحر هذه حاله؛ كذا قدرها سيبويه. وقال بعض النحويين: هو عطف على "أن" لأنها في موضع رفع بالابتداء. وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق: "والبحر" بالنصب على العطف على "ما" وهي اسم "أن". وقيل: أي ولو أن البحر يمده أي يزيد فيه. وقرأ ابن هرمز والحسن: "يمده"؛ من أمّد. قالت فرقة: هما بمعنى واحد. وقالت فرقة: مّد الشيء بعضه بعضا؛ كما تقول: مّد النيل الخليج؛ أي زاد فيه. وأمّد الشيء ما ليس منه. وقد مضى هذا في "البقرة. وآل عمران". وقرأ جعفر بن محمد: "والبحر مداده". "ما نفدت كلمات الله" تقدم. "إن الله عزيز حكيم". وقال أبو عبيدة: البحر ها هنا الماء العذب الذي ينبت الأقلام، وأما الماء الملح فلا ينبت الأقلام.
الآية: 28 {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير}
قوله تعالى: "ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة" قال الضحاك: المعنى ما ابتداء خلقكم جميعا إلا كخلق نفس واحدة، وما بعثكم يوم القيامة إلا كبعث نفس واحدة. قال النحاس: وهكذا قّدره النحويون بمعنى إلا كخلق نفس واحدة؛ مثل: "واسأل القرية" [يوسف: 82]. وقال مجاهد: لأنه يقول للقليل والكثير كن فيكون. ونزلت الآية في أبي بن خلف وأبي الأسدين ومنبِّه ونبيه ابني الحجاج بن السباق، قالوا للنبّي صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى قد خلقنا أطوارا، نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما، ثم تقول إنا نبعث خلقا جديدا جميعا في ساعة واحدة! فأنزل الله تعالى: "ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة"، لأن الله تعالى لا يصعب عليه ما يصعب على العباد، وخلقه للعالم كخلقه لنفس واحدة. "إن الله سميع" لما يقولون "بصير" بما يفعلون.