تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 419 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 419

419- تفسير الصفحة رقم419 من المصحف
الآية: 7 {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظ}
قوله تعالى: "وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم" أي عهدهم على الوفاء بما حملوا، وأن يبشر بعضهم ببعض، ويصدق بعضهم بعضا؛ أي كان مسطورا حين كتب الله ما هو كائن، وحين أخذ الله تعالى المواثيق من الأنبياء. "ومنك" يا محمد "ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم" وإنما خص هؤلاء الخمسة وإن دخلوا في زمرة النبيين تفضيلا لهم. وقيل: لأنهم أصحاب الشرائع والكتب، وأولو العزم من الرسل وأئمة الأمم. ويحتمل أن يكون هذا تعظيما في قطع الولاية بين المسلمين والكافرين؛ أي هذا مما لم تختلف فيه الشرائع، أي شرائع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. أي كان في ابتداء الإسلام توارث بالهجرة، والهجرة سبب متأكد في الديانة، ثم توارثوا بالقرابة مع الإيمان وهو سبب وكيد؛ فأما التوارث بين مؤمن وكافر فلم يكن في دين أحد من الأنبياء الذين أخذ عليهم المواثيق؛ فلا تداهنوا في الدين ولا تمالئوا الكفار. ونظيره: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا" إلى قوله "ولا تتفرقوا فيه" [الشورى: 13]. ومن ترك التفرق في الدين ترك موالاة الكفار. وقيل: أي النبّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم كان ذلك في الكتاب مسطورا ومأخوذا به المواثيق من الأنبياء. "وأخذنا منهم ميثاقا غليظا" أي عهدا وثيقا عظيما على الوفاء بما التزموا من تبليغ الرسالة،وأن يصدق بعضهم بعضا. والميثاق هو اليمين بالله تعالى؛ فالميثاق الثاني تأكيد للميثاق الأول باليمين. وقيل: الأول هو الإقرار بالله تعالى، والثاني في أمر النبوة. ونظير هذا قوله تعالى: "وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري" [آل عمران: 81] الآية. أي أخذ عليهم أن يعلنوا أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلن محمد صلى الله عليه وسلم أن لا نبّي بعده. وقّدم محمدا في الذكر لما روى قتادة عن الحسن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى "وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح" قال: (كنت أولهم في الخلق وآخرهم في البعث). وقال مجاهد: هذا في ظهر آدم عليه الصلاة والسلام.
الآية: 8 {ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليم}
قوله تعالى: "ليسأل الصادقين عن صدقهم" فيه أربعة أوجه: أحدها: ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم؛ حكاه النقاش. وفي هذا تنبيه؛ أي إذا كان الأنبياء يسألون فكيف من سواهم. الثاني: ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم؛ حكاه علّي بن عيسى. الثالث: ليسأل الأنبياء عليهم السلام عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم؛ حكاه ابن شجرة. الرابع: ليسأل الأفواه الصادقة عن القلوب المخلصة، وفي التنزيل: "فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين" [الأعراف: 6]. وقد تقّدم. وقيل: فائدة سؤالهم توبيخ الكفار؛ كما قال تعالى: "أأنت قلت للناس" [المائدة: 116]. "وأعد للكافرين عذابا أليما" وهو عذاب جهنم.
الآية: 9 {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصير}
يعني غزوة الخندق والأحزاب وبني قريظة، وكانت حالا شديدة معقبة بنعمة ورخاء وغبطة، وتضمنت أحكاما كثيرة وآيات باهرات عزيزة، ونحن نذكر من ذلك بعون الله تعالى ما يكفي في عشر مسائل.
الأولى: اختلف في أي سنة كانت؛ فقال ابن إسحاق: كانت في شوال من السنة الخامسة. وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك رحمه الله: كانت وقعة الخندق سنة أربع، وهي وبنو قريظة في يوم واحد، وبين بني قريظة والنضير أربع سنين. قال ابن وهب وسمعت مالكا يقول: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال من المدينة، وذلك قوله تعالى: "إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر" [الأحزاب: 10]. قال: ذلك يوم الخندق، جاءت قريش من ها هنا واليهود من ها هنا والنجدية من ها هنا. يريد مالك: إن الذين جاؤوا من فوقهم بنو قريظة، ومن أسفل منهم قريش وغطفان. وكان سببها: أن نفرا من اليهود منهم كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وسلام بن أبي الحقيق وسلام بن مشكم وحيّي بن أخطب النضريون وهوذة بن قيس وأبو عمار من بني وائل، وهم كلهم يهود، هم الذين حزبوا الأحزاب وألبوا وجمعوا، خرجوا في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل فأتوا مكة فدعوا إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وواعدوهم من أنفسهم بعون من انتدب إلى ذلك؛ فأجابهم أهل مكة إلى ذلك، ثم خرج اليهود المذكورون إلى غطفان فدعوهم إلى مثل ذلك فأجابوهم؛ فخرجت قريش يقودهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري على فزارة، والحارث بن عوف المري على بني مرة، ومسعود بن رخيلة على أشجع. فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتماعهم وخروجهم شاور أصحابه، فأشار عليه سلمان بحفر الخندق فرضي رأيه. وقال المهاجرون يومئذ: سلمان منا. وقال الأنصار: سلمان منا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سلمان منا أهل البيت). وكان الخندق أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ حر. فقال: يا رسول الله، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا؛ فعمل المسلمون في الخندق مجتهدين، ونكص المنافقون وجعلوا يتسللون لو إذا فنزلت فيهم آيات من القرآن ذكرها ابن إسحاق وغيره. وكان من فرغ من المسلمين من حصته عاد إلى غيره، حتى كمل الخندق. وكانت فيه آيات بينات وعلامات للنبوات.
قلت: ففي هذا الذي ذكرناه من هذا الخبر من الفقه وهي:
الثانية: مشاورة السلطان أصحابه وخاصته في أمر القتال؛ وقد مضى ذلك في "آل عمران، والنمل". وفيه التحصن من العدو بما أمكن من الأسباب واستعمالها؛ وقد مضى ذلك في غير موضع. وفيه أن حفر الخندق يكون مقسوما على الناس؛ فمن فرغ منهم عاون من لم يفرغ، فالمسلمون يد على من سواهم؛ وفي البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال: لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق وارى عني الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة ويقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينـا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
وأما ما كان فيه من الآيات وهي:
الثالثة: فروى النسائي عن أبي سكينة رجل من المحررين عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ المعول ووضع رداءه ناحية الخندق وقال: "وتمت كلمة ربك صدقا" [الأنعام: 115] الآية؛ فندر ثلث الحجر وسلمان الفارسي قائم ينظر، فبرق مع ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم برقة، ثم ضرب الثانية وقال: "وتمت" [الأنعام: 115] الآية؛ فندر الثلث الآخر؛ فبرقت برقة فرآها سلمان، ثم ضرب الثالثة وقال: "وتمت كلمة ربك صدقا" الآية؛ فندر الثلث الباقي، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رداءه وجلس. قال سلمان: يا رسول الله، رأيتك حين ضربت! ما تضرب ضربة إلا كانت معها برقة؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت ذلك يا سلمان)؟ فقال: أي والذي بعثك بالحق يا رسول الله! قال: (فإني حين ضربت الضربة الأولى رفعت لي مدائن كسرى وما حولها ومدائن كثيرة حتى رأيتها بعيني - قال له من حضره من أصحابه: يا رسول الله، ادع الله أن يفتحها علينا ويغنمنا ذراريهم ويخرب بأيدينا بلادهم؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم ضربت الضربة الثانية فرفعت لي مدائن قيصر وما حولها حتى رأيتها بعيني - قالوا: يا رسول الله، ادع الله تعالى أن يفتحها علينا ويغنمنا ذراريهم ويخرب بأيدينا بلادهم؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم ضرب الضربة الثالثة فرفعت لي مدائن الحبشة وما حولها من القرى حتى رأيتها بعيني - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: دعوا الحبشة ما ودعوكم واتركوا الترك ما تركوكم). وخرجه أيضا عن البراء قال: لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحفر الخندق عرض لنا صخرة لا تأخذ فيها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى ثوبه وأخذ المعول وقال: (باسم الله) فضرب ضربة فكسر ثلث الصخرة ثم قال: (الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصر إلى قصورها الحمراء الآن من مكاني هذا) قال: ثم ضرب أخرى وقال: (باسم الله) فكسر ثلثا آخر ثم قال: (الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض). ثم ضرب الثالثة وقال: (باسم الله) فقطع الحجر وقال: (الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر باب صنعاء). صححه أبو محمد عبدالحق.
الرابعة: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حفر الخندق أقبلت قريش في نحو عشرة آلاف بمن معهم من كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان بمن معها من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى نزلوا بظهر سلع في ثلاثة آلاف وضربوا عسكرهم والخندق بينهم وبين المشركين، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم - في قول ابن شهاب - وخرج عدو الله حيّي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي، وكان صاحب عقد بني قريظة ورئيسهم، وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهده؛ فلما سمع كعب بن أسد حيي بن أخطب أغلق دونه باب حصنه وأبى أن يفتح له؛ فقال له: افتح لي يا أخي؛ فقال له: لا أفتح لك، فإنك رجل مشؤوم، تدعوني إلى خلاف محمد وأنا قد عاقدته وعاهدته، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا، فلست بناقض ما بيني وبينه. فقال حيّي: افتح لي حتى أكلمك وأنصرف عنك؛ فقال: لا أفعل؛ فقال: إنما تخاف أن آكل معك جشيشتك؛ فغضب كعب وفتح له؛ فقال: يا كعب! إنما جئتك بعّز الدهر، جئتك بقريش وسادتها، وغطفان وقادتها؛ قد تعاقدوا على أن يستأصلوا محمدا ومن معه؛ فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر وبجهام لا غيث فيه! ويحك يا حيّي؟ دعني فلست بفاعل ما تدعوني إليه؛ فلم يزل حيّي بكعب يعده ويغره حتى رجع إليه وعاقده على خذلان محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأن يسير معهم، وقال له حيّي بن أخطب: إن انصرفت قريش وغطفان دخلت عندك بمن معي من اليهود. فلما انتهى خبر كعب وحيّي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وسيد الأوس سعد بن معاذ، وبعث معهما عبدالله بن رواحة وخوات بن جبير، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انطلقوا إلى بني قريظة فإن كان ما قيل لنا حقا فالحنوا لنا لحنا ولا تفتوا في أعضاد الناس. وإن كان كذبا فاجهروا به للناس) فانطلقوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما قيل لهم عنهم، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: لا عهد له عندنا؛ فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه؛ وكانت فيه حّدة فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، فالذي بيننا وبينهم أكثر من ذلك، ثم أقبل سعد وسعد حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة المسلمين فقالا: عضل والقارة - يعرضان بغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع خبيب وأصحابه - فقال النبّي صلى الله عليه وسلم. (أبشروا يا معشر المسلمين) وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف، وأتى المسلمين عدوهم من فوقهم؛ يعني من فوق الوادي من قبل المشرق، ومن أسفل منهم من بطن الوادي من قبل المغرب، حتى ظنوا بالله الظنونا؛ وأظهر المنافقون كثيرا مما كانوا يسرون، فمنهم من قال: إن بيوتنا عورة، فلننصرف إليها، فإنا نخاف عليها.
وممن قال ذلك: أوس بن قيظي. ومنهم من قال: يعدنا محمد أن يفتح كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه يذهب إلى الغائط! وممن قال: معتب ابن قشير أحد بني عمرو بن عوف. فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام المشركون بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر لم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصى. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اشتد على المسلمين البلاء بعث إلى عيينة بن حصن الفزاري، وإلى الحارث بن عوف المري، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما من غطفان ويخذلان قريشا ويرجعا بقومهما عنهم. وكانت هذه المقالة مراوضة ولم تكن عقدا؛ فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما أنهما قد أنابا ورضيا أتى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما واستشارهما فقالا: يا رسول الله، هذا أمر تحبه فنصنعه لك، أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع، أو أمر تصنعه لنا؟ قال: (بل أمر أصنعه لكم، والله ما أصنعه إلا أني قد رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة) فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، والله لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة إلا شراء أو قرى، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم!! فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: (أنتم وذاك). وقال لعيينة والحارث: (انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف). وتناول سعد الصحيفة وليس فيها شهادة فمحاها.
الخامسة: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون على حالهم، والمشركون يحاصرونهم ولا قتال بينهم؛ إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود العامري من بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب، وضرار بن الخطاب الفهري، وكانوا فرسان قريش وشجعانهم، أقبلوا حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: إن هذه لمكيدة، ما كانت العرب تكيدها. ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق، فضربوا خيلهم فاقتحمت بهم، وجاوزوا الخندق وصاروا بين الخندق وبين سلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها، وأقبلت الفرسان نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود أثبتته الجراح يوم بدر فلم يشهد أحدا، وأراد يوم الخندق أن يرى مكانه، فلما وقف هو وخيله؛ نادى: من يبارز؟ فبرز له علّي بن أبي طالب وقال له: يا عمرو، إنك عاهدت الله فيما بلغنا أنك لا تدعى إلى إحدى خلتين إلا أخذت إحداهما؟ قال نعم. قال: فإني أدعوك إلى الله والإسلام. قال: لا حاجة لي بذلك. قال: فأدعوك إلى البراز. قال: يا ابن أخي، والله ما أحب أن أقتلك لما كان بيني وبين أبيك. فقال له علّي: أنا والله أحب أن أقتلك. فحمي عمرو بن عبد ود ونزل عن فرسه، فعقره وصار نحو علّي، فتنازلا وتجاولا وثار النقع بينهما حتى حال دونهما، فما انجلى النقع حتى رئي علّي على صدر عمرو يقطع رأسه، فلما رأى أصحابه أنه قد قتله علّي اقتحموا بخيلهم الثغرة منهزمين هاربين. وقال علّي رضي الله عنه في ذلك:
نصر الحجارة من سفاهة رأيه ونصرت دين محمد بضراب
نازلته فتركته متجدلا كالجذع بين دكادك وروابي
وعففت عن أثواب ولو أنني كنت المقطر بزني أثوابي
لا تحسبن الله خاذل دينه ونبيه يا معشر الأحزاب
قال ابن هشام: أكثر أهل العلم بالسير يشك فيها لعلّي. قال ابن هشام: وألقى عكرمة بن أبي جهل رمحه يومئذ وهو منهزم عن عمرو؛ فقال حسان بن ثابت في ذلك:
فر وألقى لنا رمحه لعلك عكرم لم تفعل
ووليت تعدو كعدو الظليم ما إن تجور عن المعدل
ولم تلق ظهرك مستأنسا كأن قفاك قفا فرعل
قال ابن هشام: فرعل صغير الضباع. وكانت عائشة رضي الله عنها في حصن بني حارثة، وأم سعد بن معاذ معها، وعلى سعد درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه، وفي يده حربته وهو يقول:
لبث قليلا يلحق الهيجا جمل لا بأس بالموت إذا كان الأجل
ورمي يومئذ سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل. واختلف فيمن رماه؛ فقيل: رماه حبان بن قيس ابن العرقة، أحد بني عامر بن لؤي، فلما أصابه قال له: خذها وأنا ابن العرقة. فقال له سعد: عّرق الله وجهك في النار. وقيل: إن الذي رماه خفاجة بن عاصم بن حبان. وقيل: بل الذي رماه أبو أسامة الجشمّي، حليف بني مخزوم. ولحسان مع صفية بنت عبدالمطلب خبر طريف يومئذ؛ ذكره ابن إسحاق وغيره. قالت صفية بنت عبدالمطلب رضي الله عنها: كنا يوم الأحزاب في حصن حسان بن ثابت، وحسان معنا في النساء والصبيان، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في نحر العدّو لا يستطيعون الانصراف إلينا، فإذا يهودي يدور، فقلت لحسان: انزل إليه فاقتله؛ فقال: ما أنا بصاحب هذا يا ابنة عبدالمطلب! فأخذت عمودا ونزلت من الحصن فقتلته، فقلت: يا حسان، انزل فاسلبه، فلم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل. فقال: ما لي بسلبه حاجة يا ابنة عبدالمطلب! قال: فنزلت فسلبته. قال أبو عمر بن عبدالبر: وقد أنكر هذا عن حسان جماعة من أهل السير وقالوا: لو كان في حسان من الجبن ما وصفتم لهجاه بذلك الذين كان يهاجيهم في الجاهلية والإسلام، ولهجي بذلك ابنه عبدالرحمن؛ فإنه كان كثيرا ما يهاجي الناس من شعراء العرب؛ مثل النجاشي وغيره.
السادسة: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعّي فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت ولم يعلم قومي بإسلامي، فمرني بما شئت؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أنت رجل واحد من غطفان فلو خرجت فخذلت عنا إن استطعت كان أحب إلينا من بقائك معنا فأخرج فإن الحرب خدعة). فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة - وكان ينادمهم في الجاهلية - فقال: يا بني قريظة، قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم؛ قالوا: قل فلست عندنا بمتهم؛ فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، وإن قريشا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل، ولا طاقة لكم به، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا. ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لهم: قد عرفتم ودي لكم معشر قريش، وفراقي محمدا، وقد بلغني أمر أرى من الحق أن أبلغكموه ونصحا لكم، فاكتموا علّي؛ قالوا نفعل؛ قال: تعلمون أن معشر يهود، قد ندموا على ما كان من خذلانهم محمدا، وقد أرسلوا إليه: إنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على ما بقي منهم حتى نستأصلهم. ثم أتى غطفان فقال مثل ذلك. فلما كان ليلة السبت وكان ذلك من صنع الله عز وجل لرسوله والمؤمنين، أرسل أبو سفيان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان يقول لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا صبيحة غد للقتال حتى نناجز محمدا؛ فأرسلوا إليهم: إن اليوم يوم السبت، وقد علمتم ما نال منا من تعّدى في السبت، ومع ذلك فلا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا؛ فلما رجع الرسول بذلك قالوا: صدقنا والله نعيم بن مسعود؛ فردوا إليهم الرسل وقالوا: والله لا نعطيكم رهنا أبدأ فاخرجوا معنا إن شئتم وإلا فلا عهد بيننا وبينكم. فقال بنو قريظة: صدق والله نعيم بن مسعود. وخذل الله بينهم، واختلفت كلمتهم، وبعث الله عليهم ريحا عاصفا في ليال شديدة البرد؛ فجعلت الريح تقلب آنيتهم وتكفأ قدورهم.
السابعة: فلما اتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم اختلاف أمرهم، بعث حذيفة بن اليمان ليأتيه بخبرهم، فأتاهم واستتر في غمارهم، وسمع أبا سفيان يقول: يا معشر قريش، ليتعرف كل امرئ جليسه. قال حذيفة: فأخذت بيد جليسي وقلت: ومن أنت؟ فقال أنا فلان. ثم قال أبو سفيان: ويلكم يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة، ولقينا من هذه الريح ما ترون، ما يستمسك لنا بناء، ولا تثبت لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، فارتحلوا فإني مرتحل؛ ووثب على جمله فما حل عقال يده إلا وهو قائم. قال حذيفة: ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لي إذ بعثني، قال لي: (مر إلى القوم فاعلم ما هم عليه ولا تحدث شيئا) - لقتلته بسهم؛ ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رحيلهم، فوجدته قائما يصلي في مرط لبعض نسائه مراجل - قال ابن هشام: المراجل ضرب من وشي اليمن - فأخبرته فحمد الله.
قلت: وخبر حذيفة هذا مذكور في صحيح مسلم، وفيه آيات عظيمة، رواه جرير عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنا عند حذيفة فقال رجل لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت. فقال حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك! لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وقّر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة)؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال: (ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة)؟ فسكتنا فلم يجبه أحد. فقال: (قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم) فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم. قال: (اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم علّي) قال: فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم، فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهما في كبد القوس فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولا تذعرهم علّي) ولو رميته لأصبته: فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت قررت، فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائما حتى أصبحت، فلما أصبحت قال: (قم يا نومان). ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذهب الأحزاب، رجع إلى المدينة ووضع المسلمون سلاحهم، فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم في صورة دحية بن خليفة الكلبّي، على بغلة عليها قطيفه ديباج فقال له: يا محمد، إن كنتم قد وضعتم سلاحكم فما وضعت الملائكة سلاحها. إن الله يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة، وإني متقدم إليهم فمزلزل بهم حصونهم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي:
الثامنة: مناديا فنادى: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة؛ فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة. وقال آخرون: لا نصلّي العصر إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت. قال: فما عنف واحدا من الفريقين. وفي هذا من الفقه تصويب المجتهدين. وقد مضى بيانه في "الأنبياء". وكان سعد بن معاذ إذ أصابه السهم دعا ربه فقال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش فأبقني لها؛ فإنه لا قوم أحب أن أجاهدكم من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه. اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني في بني قريظة. وروى ابن وهب عن مالك قال: بلغني أن سعد بن معاذ مر بعائشة رضي الله عنها ونساء معها في الأطم (فارع)، وعليه درع مقلصة مشمر الكمين، وبه أثر صفرة وهو يرتجز:
لبث قليلا يدرك الهيجا جمل لا بأس بالموت إذا حان الأجل
فقالت عائشة رضي الله عنها: لست أخاف أن يصاب سعد اليوم إلا في أطرافه؛ فأصيب في أكحله. وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رجلا أجمل من سعد بن معاذ حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأصيب في أكحله ثم قال: اللهم إن كان حرب قريظة لم يبق منه شيء فاقبضني إليك، وإن كان قد بقيت منه بقية فأبقني حتى أجاهد مع رسولك أعداءه؛ فلما حكم في بني قريظة توفي؛ ففرح الناس وقالوا: نرجو أن يكون قد استجيبت دعوته.
التاسعة: ولما خرج المسلمون إلى بني قريظة أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية علّي بن أبي طالب، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ونهض علّي وطائفة معه حتى أتوا بني قريظة ونازلوهم، فسمعوا سب الرسول صلى الله عليه وسلم، فانصرف علّي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله، لا تبلغ إليهم، وعرض له. فقال له: (أظنك سمعت منهم شتمي. لو رأوني لكفوا عن ذلك) ونهض إليهم فلما رأوه أمسكوا. فقال لهم: (نقضتم العهد يا إخوة القرود أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته) فقالوا: ما كنت جاهلا يا محمد فلا تجهل علينا؛ ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة. وعرض عليهم سيدهم كعب ثلاث خصال ليختاروا أيها شاؤوا: إما أن يسلموا ويتبعوا محمدا على ما جاء به فيسلموا. قال: وتحرزوا أموالكم ونساءكم وأبناءكم، فوالله إنكم لتعلمون أنه الذي تجدونه مكتوبا في كتابكم. وإما أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم ثم يتقدموا؛ فيقاتلون حتى يموتوا من آخرهم. وإما أن يبيتوا المسلمين ليلة السبت في حين طمأنينتهم فيقتلوهم قتلا. فقالوا له: أما الإسلام فلا نسلم ولا نخالف حكم التوراة، وأما قتل أبنائنا ونسائنا فما جزاؤهم المساكين منا أن نقتلهم، ونحن لا نتعّدى في السبت. ثم بعثوا إلى أبي لبابة، وكانوا حلفاء بني عمرو بن عوف وسائر الأوس، فأتاهم فجمعوا إليه أبناءهم ونساءهم ورجالهم وقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟ فقال نعم، - وأشار بيده إلى حلقه - إنه الذبح إن فعلتم. ثم ندم أبو لبابة في الحين، وعلم أنه خان الله ورسوله، وأنه أمر لا يستره الله عليه عن نبيه صلى الله عليه وسلم. فانطلق إلى المدينة ولم يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فربط نفسه في سارية وأقسم ألا يبرح من مكانه حتى يتوب الله عليه فكانت امرأته تحله لوقت كل صلاة. قال ابن عيينة وغيره: فيه نزلت: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم" [الأنفال: 27] الآية. وأقسم ألا يدخل أرض بني قريظة أبدا مكانا أصاب فيه الذنب. فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من فعل أبي لبابة قال: (أما إنه لو أتاني لاستغفرت له وأما إذ فعل ما فعل فلا أطلقه حتى يطلقه الله تعالى) فأنزل الله تعالى في أمر أبي لبابة: "وآخرون اعترفوا بذنوبهم" [التوبة: 102] الآية. فلما نزل فيه القرآن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاقه، فلما أصبح بنو قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواثب الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله، وقد علمت أنهم حلفاؤنا، وقد أسعفت عبدالله بن أبي ابن سلول في بني النضير حلفاء الخزرج، فلا يكن حظنا أوكس وأنقص عندك من حظ غيرنا، فهم موالينا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الأوس ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم - قالوا بلى. قال - : فذلك إلى سعد بن معاذ). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب له خيمة في المسجد، ليعوده من قريب في مرضه من جرحه الذي أصابه في الخندق. فحكم فيهم بأن تقتل المقاتلة، وتسبى الذرية والنساء، وتقسم أموالهم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبع أرقعة). وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجوا إلى موضع بسوق المدينة اليوم - زمن ابن إسحاق - فخندق بها خنادق، ثم أمر عليه السلام فضربت أعناقهم في تلك الخنادق، وقتل يومئذ حيّي بن أخطب وكعب بن أسد، وكانا رأس القوم، وكانوا من الستمائة إلى السبعمائة. وكان على حيّي حلة فقاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة، أنملة أنملة لئلا يسلبها. فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتي به ويداه مجموعتان إلى عنقه بحبل قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك. ولكنه من يخذل الله يخذل
ثم قال: يا أيها الناس، لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه. وقتل من نسائهم امرأة، وهي بنانة امرأة الحكم القرظّي التي طرحت الّرحى على خلاد ابن سويد فقتلته. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كل من أنبت منهم وترك من لم ينبت. وكان عطية القرظّي ممن لم ينبت، فاستحياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مذكور في الصحابة. ووهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس ولد الزبير بن باطا فاستحياهم؛ منهم عبدالرحمن بن الزبير أسلم وله صحبة. ووهب أيضا عليه السلام رفاعة بن سموأل القرظي لأم المنذر سلمى بنت قيس، أخت سليط بن قيس من بني النجار، وكانت قد صلت إلى القبلتين؛ فأسلم رفاعة وله صحبة ورواية. وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قال: أتى ثابت بن قيس بن شماس إلى ابن باطا - وكانت له عنده يد - وقال: قد استوهبتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدك التي لك عندي، قال: ذلك يفعل الكريم بالكريم، ثم قال: وكيف يعيش رجل لا ولد له ولا أهل؟ قال: فأتى ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأعطاه أهله وولده؛ فأتى فأعلمه فقال: كيف يعيش رجل لا مال له؟ فأتى ثابت النبي صلى الله عليه وسلم فطلبه فأعطاه ماله، فرجع إليه فأخبره؛ قال: ما فعل ابن أبي الحقيق الذي كأن وجهه مرآة صينية؟ قال: قتل. قال: فما فعل المجلسان، يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة؟ قال: قتلوا. قال: فما فعلت الفئتان؟ قال: قتلتا. قال: برئت ذمتك، ولن أصب فيها دلوا أبدا، يعني النخل، فألحقني بهم، فأبى أن يقتله فقتله غيره. واليد التي كانت لابن باطا عند ثابت أنه أسره يوم بعاث فجز ناصيته وأطلقه.
العاشرة: وقسم صلى الله عليه وسلم أموال بني قريظة فأسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما. وقد قيل: للفارس سهمان وللراجل سهم. وكانت الخيل للمسلمين يومئذ ستة وثلاثين فرسا. ووقع للنبي صلى الله عليه وسلم من سبيهم ريحانة بنت عمرو بن جنافة أحد بني عمرو بن قريظة، فلم تزل عنده إلى أن مات صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن غنيمة قريظة هي أول غنيمة قسم فيها للفارس والراجل، وأول غنيمة جعل فيها الخمس. وقد تقدم أن أول ذلك كان في بعث عبدالله بن جحش؛ فالله أعلم. قال: أبو عمر: وتهذيب ذلك أن تكون غنيمة قريظة أول غنيمة جرى فيها الخمس بعد نزول قوله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول" [الأنفال: 41] الآية. وكان عبدالله بن جحش قد خمس قبل ذلك في بعثه، ثم نزل القرآن بمثل ما فعله؛ وكان ذلك من فضائله رحمة الله عليه.
وكان فتح قريظة في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة من الهجرة. فلما تم أمر بني قريظة أجيبت دعوة الرجل الفاضل الصالح سعد بن معاذ، فانفجر جرحه، وانفتح عرقه، فجرى دمه ومات رضي الله عنه. وهو الذي أتى الحديث فيه: (اهتز لموته عرش الرحمن) يعني سكان العرش من الملائكة فرحوا بقدوم روحه واهتزوا له. وقال ابن القاسم عن مالك: حدثني يحيى بن سعيد قال: لقد نزل لموت سعد بن معاذ سبعون ألف ملك، ما نزلوا إلى الأرض قبلها. قال مالك: ولم يستشهد يوم الخندق من المسلمين إلا أربعة أو خمسة.
قلت: الذي استشهد يوم الخندق من المسلمين ستة نفر فيما ذكر أهل العلم بالسير: سعد بن معاذ أبو عمرو من بني عبدالأشهل، وأنس بن أوس بن عتيك، وعبدالله بن سهل، وكلاهما أيضا من بني عبدالأشهل، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن غنمة، وكلاهما من بني سلمة، وكعب بن زيد من بني دينار بن النجار، أصابه سهم غرب فقتله، رضي الله عنهم. وقتل من الكفار ثلاثة: منبه بن عثمان ابن عبيد بن السباق بن عبدالدار، أصابه سهم مات منه بمكة. وقد قيل: إنما هو عثمان بن أمية بن منبه بن عبيد بن السباق. ونوفل بن عبدالله بن المغيرة المخزومي، اقتحم الخندق فتورط فيه فقتل، وغلب المسلمون على جسده؛ فروي عن الزهري أنهم أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جسده عشرة آلاف درهم فقال: (لا حاجة لنا بجسده ولا بثمنه) فخلى بينهم وبينه. وعمرو بن عبد ودّ الذي قتله علّي مبارزة، وقد تقدم. واستشهد يوم قريظة من المسلمين خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو من بني الحارث بن الخزرج؛ طرحت عليه امرأة من بني قريظة رحى فقتلته. ومات في الحصار أبو سنان بن محصن بن حرثان الأسدي، أخو عكاشة بن محصن، فدفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقبرة بني قريظة التي يتدافن فيها المسلمون السكان بها اليوم. ولم يصب غير هذين، ولم يغز كفار قريش المؤمنين بعد الخندق. وأسند الدارمي أبو محمد في مسنده: أخبرنا يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن عبدالرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال: حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هوي من الليل حتى كفينا؛ وذلك قول الله عز وجل: "وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا" [الأحزاب: 25] فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا فأقام فصلى الظهر فأحسن كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام العصر فصلاها، ثم أمره فأقام المغرب فصلاها، ثم أمره فأقام العشاء فصلاها، وذلك قبل أن ينزل: "فإن خفتم فرجالا أو ركبانا" [البقرة: 239] خرجه النسائي أيضا. وقد مضت هذه المسألة في "طه". وقد ذكرنا في هذه الغزاة أحكاما كثيرة لمن تأملها في مسائل عشر. ثم نرجع إلى أول الآي وهي تسع عشرة آية تضمنت ما ذكرناه.
قوله تعالى: "إذ جاءتكم جنود" يعني الأحزاب. "فأرسلنا عليهم ريحا" قال مجاهد: هي الصبا، أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى ألقت قدورهم ونزعت فساطيطهم. قال: والجنود الملائكة ولم تقاتل يومئذ. وقال عكرمة: قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب: انطلقي لنصرة النبّي صلى الله عليه وسلم، فقالت الشمال: إن محوة لا تسري بليل. فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور). وكانت هذه الريح معجزة للنبّي الله عليه وسلم؛ لأن النبّي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كانوا قريبا منها، لم يكن بينهم وبينها إلا عرض الخندق، وكانوا في عافية منها، ولا خبر عندهم بها. "وجنودا لم تروها" وقرئ بالياء؛ أي لم يرها المشركون. قال المفسرون: بعث الله تعالى عليهم الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، وأرسل الله عليهم الرعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب العسكر؛ حتى كان سيد كل خباء يقول: يا بني فلان هلم إلي فإذا اجتمعوا قال لهم: النجاء النجاء؛ لما بعث الله تعالى عليهم من الرعب. "وكان الله بما تعملون بصيرا" وقرئ: "يعملون" بالياء على الخبر، وهي قراءة أبي عمرو. الباقون بالتاء؛ يعني من حفر الخندق والتحرز من العدو.
الآية: 10 {إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون}
قوله تعالى: "إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم" "إذ" في موضع نصب بمعنى واذكر. وكذا "وإذ قالت طائفة منهم". "من فوقكم" يعني من فوق الوادي، وهو أعلاه من قبل المشرق، جاء منه عوف بن مالك في بني نصر، وعيينه بن حصن في أهل نجد، وطليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد. "ومن أسفل منكم" يعني من بطن الوادي من قبل المغرب، جاء منه أبو سفيان بن حرب على أهل مكة، ويزيد بن جحش على قريش، وجاء أبو الأعور السلمي ومعه حيي بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة مع عامر بن الطفيل من وجه الخندق. "وإذ زاغت الأبصار" أي شخصت. وقيل: مالت؛ فلم تلتفت إلا إلى عدوها دهشا من فرط الهول. "وبلغت القلوب الحناجر" أي زالت عن أماكنها من الصدور حتى بلغت الحناجر وهي الحلاقيم، واحدها حنجرة؛ فلولا أن الحلوق ضاقت عنها لخرجت؛ قاله قتادة. وقيل: هو على معنى المبالغة على مذهب العرب على إضمار كاد؛ قال:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
أي كادت تقطر. ويقال: إن الرئة تنفتح عند الخوف فيرتفع القلب حتى يكاد يبلغ الحنجرة مثلا؛ ولهذا يقال للجبان: انتفخ سحره. وقيل: إنه مثل مضروب في شدة الخوف ببلوغ القلوب الحناجر وإن لم تزل عن أماكنها مع بقاء الحياة. قال معناه عكرمة. روى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال: بلغ فزعها. والأظهر أنه أراد اضطراب القلب وضربانه، أي كأنه لشدة اضطرابه بلغ الحنجرة. والحنجرة والحنجور (بزيادة النون) حرف الحلق. "وتظنون بالله الظنونا" قال الحسن: ظن المنافقون أن المسلمين يستأصلون، وظن المؤمنون أنهم ينصرون. وقيل: هو خطاب للمنافقين؛ أي قلتم هلك محمد وأصحابه. واختلف القراء في قوله تعالى: "الظنونا، والرسولا، والسبيلا" آخر السورة؛ فأثبت ألفاتها في الوقف والوصل نافع وابن عامر. وروي عن أبي عمرو الكسائي تمسكا بخط المصحف، مصحف عثمان، وجميع المصاحف في جميع البلدان. واختاره أبو عبيد؛ إلا أنه قال: لا ينبغي للقارئ أن يدرج القراءة بعدهن لكن يقف عليهن. قالوا: ولأن العرب تفعل ذلك في قوافي أشعارهم ومصاريعها؛ قال:
نحن جلبنا القرح القوافلا تستنفر الأواخر الأوائلا
وقرأ أبو عمرو والجحدري ويعقوب وحمزة بحذفها في الوصل والوقف معا. قالوا: هي زائدة في الخط كما زيدت الألف في قوله تعالى: "ولأوضعوا خلالكم" [التوبة: 47] فكتبوها كذلك، وغير هذا. وأما الشعر فموضع ضرورة، بخلاف القرآن فإنه أفصح اللغات ولا ضرورة فيه. قال ابن الأنباري: ولم يخالف المصحف من قرأ. "الظنون. والسبيل. والرسول" بغير ألف في الحروف الثلاثة، وخطهن في المصحف بألف لأن الألف التي في "أطعنا" والداخلة في أول "الرسول. والظنون. والسبيل" كفى من الألف المتطرفة المتأخرة كما كفت ألف أبي جاد من ألف هواز. وفيه حجة أخرى: أن الألف أنزلت منزلة الفتحة وما يلحق دعامة للحركة التي تسبق والنية فيه السقوط؛ فلما عمل على هذا كانت الألف مع الفتحة كالشيء الواحد يوجب الوقف سقوطهما ويعمل على أن صورة الألف في الخط لا توجب موضعا في اللفظ، وأنها كالألف في "سحران" وفي "فطر السموات والأرض" وفي "وعدنا موسى" وما يشبههن مما يحذف من الخط وهو موجود في اللفظ، وهو مسقط من الخط. وفيه حجة ثالثة هي أنه كتب على لغة من يقول لقيت الرجلا. وقرئ على لغة من يقول: لقيت الرجل، بغير ألف. أخبرنا أحمد بن يحيى عن جماعة من أهل اللغة أنهم رووا عن العرب قام الرجلو، بواو، ومررت بالرجلي، بياء، في الوصل والوقف. ولقيت الرجلا؛ بألف في الحالتين كلتيهما. قال الشاعر:
أسائلة عميرة عن أبيها خلال الجيش تعترف الركابا
فأثبت الألف في "الركاب" بناء على هذه اللغة. وقال الآخر:
إذا الجوزاء أردفت الثريا ظننت بآل فاطمة الظنونا
وعلى هذه اللغة بنى نافع وغيره. وقرأ ابن كثير وابن محيصن والكسائي بإثباتها في الوقف وحذفها في الوصل. قال ابن الأنباري: ومن وصل بغير ألف ووقف بألف فجائز أن يحتج بأن الألف احتاج إليها عند السكت حرصا على بقاء الفتحة، وأن الألف تدعمها وتقويها.
الآية: 11 {هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديد}
قوله تعالى: "هنالك ابتلي المؤمنون" "هنا" للقريب من المكان. و"هنالك" للبعيد. و"هناك" للوسط. ويشار به إلى الوقت؛ أي عند ذلك اختبر المؤمنون ليتبين المخلص من المنافق. وكان هذا الابتلاء بالخوف والقتال والجوع والحصر والنزال. "وزلزلوا زلزالا شديدا" أي حركوا تحريكا. قال الزجاج: كل مصدر من المضاعف على فعلال يجوز فيه الكسر والفتح؛ نحو قلقلته قلقالا وقلقالا، وزلزلوا زلزالا وزلزالا. والكسر أجود؛ لأن غير المضاعف على الكسر نحو دحرجته دحراجا. وقراءة العامة بكسر الزاي. وقرأ عاصم والجحدري "زلزالا" بفتح الزاي. قال ابن سلام: أي حركوا بالخوف تحريكا شديدا. وقال الضحاك: هو إزاحتهم عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلا موضع الخندق. وقيل: إنه اضطرابهم عما كانوا عليه؛ فمنهم من اضطرب في نفسه ومنهم من اضطرب في دينه. و"هنالك" يجوز أن يكون العامل فيه "ابتلي" فلا يوقف على "هنالك". ويجوز أن يكون "وتظنون بالله الظنونا" فيوقف على "هنالك".
الآية: 12 {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرور}
قوله تعالى: "وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض" أي شك ونفاق. "ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا" أي باطلا من القول. وذلك أن طعمة بن أبيرق ومعتب بن قشير وجماعة نحو من سبعين رجلا قالوا يوم الخندق: كيف يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا يستطيع أحدنا أن يتبرز؟ وإنما قالوا ذلك لما فشا في أصحاب النبّي صلى الله عليه وسلم من قوله عند ضرب الصخرة، على ما تقدم في حديث النسائي؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
الآية: 13 {وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرار}
قوله تعالى: "وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا" الطائفة تقع على الواحد فما فوقه. وعني به هنا أوس بن قيظي والد عرابة بن أوس؛ الذي يقول فيه الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
و "يثرب" هي المدينة؛ وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبة وطابة. وقال أبو عبيدة: يثرب اسم أرض، والمدينة ناحية منها. السهيلّي: وسميت يثرب لأن الذي نزلها من العماليق اسمه يثرب بن عميل بن مهلائيل بن عوض بن عملاق بن لاوذ بن إرم. وفي بعض هذه الأسماء اختلاف. وبنو عميل هم الذين سكنوا الجحفة فأجحفت بهم السيول فيها. وبها سميت الجحفة. "لا مقام لكم" بفتح الميم قراءة العامة. وقرأ حفص والسلمي والجحدري وأبو حيوة: بضم الميم؛ يكون مصدرا من أقام يقيم؛ أي لا إقامة، أو موضعا يقيمون فيه. ومن فتح فهو اسم مكان؛ أي لا موضع لكم تقيمون فيه. "فارجعوا" أي إلى منازلكم. أمروهم بالهروب من عسكر النبّي صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: قالت اليهود لعبدالله بن أبي ابن سلول وأصحابه من المنافقين: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان وأصحابه! فارجعوا إلى المدينة فإنا مع القوم فأنتم آمنون.
قوله تعالى: "ويستأذن فريق منهم النبي" في الرجوع إلى منازلهم بالمدينة، وهم بنو حارثة ابن الحارث، في قول ابن عباس. وقال يزيد بن رومان: قال ذلك أوس بن قيظّي عن ملأ من قومه. "يقولون إن بيوتنا عورة" أي سائبة ضائعة ليست بحصينة، وهي مما يلي العدّو. وقيل: ممكنة للسراق لخلوها من الرجال. يقال: دار معورة وذات عورة إذا كان يسهل دخولها. يقال: عور المكان عورا فهو عور. وبيوت عورة. وأعور فهو معور. وقيل: عورة ذات عورة. وكل مكان ليس بممنوع ولا مستور فهو عورة؛ قاله الهروي. وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو رجاء العطاردي: "عورة" بكسر الواو؛ يعني قصيرة الجدران فيها خلل. تقول العرب: دار فلان عورة إذا لم تكن حصينة. وقد أعور الفارس إذا بدا فيه خلل للضرب والطعن؛ قال الشاعر:
متى تلقهم لم تلق في البيت معورا ولا الضيف مفجوعا ولا الجار مرملا
الجوهري: والعورة كل خلل يتخوف منه في ثغر أو حرب. النحاس: يقال أعور المكان إذا تبينت فيه عورة، وأعور الفارس إذا تبين فيه موضع الخلل. المهدوي: ومن كسر الواو في "عورة" فهو شاذ؛ ومثله قولهم: رجل عور؛ أي لا شيء له، وكان القياس أن يعل فيقال: عار؛ كيوم راح، ورجل مال؛ أصلهما روح ومول. ثم قال تعالى "وما هي بعورة" تكذيبا لهم وردا عليهم فيما ذكروه. "إن يريدون إلا فرارا" أي ما يريدون إلا الهرب. قيل: من القتل. وقيل: من الدين. وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في قبيلتين من الأنصار: بني حارثة وبني سلمة؛ وهموا أن يتركوا مراكزهم يوم الخندق، وفيهم أنزل الله تعالى: "إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا" [آل عمران: 122] الآية. فلما نزلت هذه الآية قالوا: والله ما ساءنا ما كنا هممنا به؛ إذ الله ولينا. وقال السدي: الذي استأذنه منهم رجلان من الأنصار من بني حارثة أحدهما - أبو عرابة بن أوس، والآخر أوس بن قيظّي. قال الضحاك: ورجع ثمانون رجلا بغير إذنه.
الآية: 14 {ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسير}
قوله تعالى: "ولو دخلت عليهم من أقطارها" وهي البيوت أو المدينة؛ أي من نواحيها وجوانبها، الواحد قطر، وهو الجانب والناحية. وكذلك القتر لغة في القطر. "ثم سئلوا الفتنة لآتوها" أي لجاؤوها؛ هذا على قراءة نافع وابن كثير بالقصر. وقرأ الباقون بالمّد؛ أي لأعطوها من أنفسهم، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقد جاء في الحديث: أن أصحاب النبّي صلى الله عليه وسلم كانوا يعذبون في الله ويسألون الشرك، فكل أعطى ما سألوه إلا بلالا. وفيه دليل على قراءة المّد، من الإعطاء. ويدل على قراءة القصر قوله: "ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار"؛ فهذا يدل على "لأتوها" مقصورا. وفي "الفتنة" هنا وجهان: أحدهما: سئلوا القتال في العصبية لأسرعوا إليه؛ قاله الضحاك. الثاني: ثم سئلوا الشرك لأجابوا إليه مسرعين؛ قاله الحسن. "وما تلبثوا بها إلا يسيرا" أي بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى يهلكوا؛ قال السدي والقتيبّي والحسن والفراء. وقال أكثر المفسرين: أي وما احتبسوا عن فتنة الشرك إلا قليلا ولأجابوا بالشرك مسرعين؛ وذلك لضعف نياتهم ولفرط نفاقهم؛ فلو اختلطت بهم الأحزاب لأظهروا الكفر.
الآية: 15 {ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤول}
قوله تعالى: "ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل" أي من قبل غزوة الخندق وبعد بدر. قال قتادة: وذلك أنهم غابوا عن بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والنصر، فقالوا لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلّن. وقال يزيد بن رومان: هم بنو حارثة، هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله ألا يعودوا لمثلها فذكر الله لهم الذي أعطوه من أنفسهم. "وكان عهد الله مسؤولا" أي مسؤولا عنه. قال مقاتل والكلبي: هم سبعون رجلا بايعوا النبّي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وقالوا: اشترط لنفسك ولربك ما شئت. فقال: (أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأموالكم وأولادكم) فقالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك يا نبّي الله؟ قال: (لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة). فذلك قوله تعالى: "وكان عهد الله مسؤولا" أي أن الله ليسألهم عنه يوم القيامة.