تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 419 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 419

418

قوله: 7- " وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم " العامل في الظرف محذوف: أي واذكر، كأنه قال: يا أيها النبي اتق الله واذكر أن الله أخذ ميثاق النبيين. قال قتادة: أخذ الله الميثاق على النبيين خصوصاً أن يصدق بعضهم بعضاً ويتبع بعضهم بعضاً. وقال مقاتل: أخذ ميثاقهم على أن يعبدوا الله، ويدعوا إلى عبادة الله، وأن يصدق بعضهم بعضاً، وأن ينصحوا لقومهم. والميثاق هو اليميمن، وقيل هو الإقرار بالله، والأول أولى، وقد سبق تحقيقه. ثم خصص سبحانه بعض النبيين بالذكر بعد التعميم الشامل لهم ولغيرهم، فقال: "ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم" ووجه تخصيصهم بالذكر الإعلام بأن لهم مزيد شرف وفضل لكونهم من أصحاب الشرائع المشهورة ومن أولي العزم من الرسل، وتقديم ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم مع تأخر زمانه فيه من التشريف له والتعظيم ما لا يخفى. قال الزجاج: وأخذ الميثاق حيث أخرجوا من صلب آدم كالذر. ثم أكد ما أخذه على النبيين من الميثاق بتكرير ذكره ووصفه بالغلظ فقال: "وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً" أي عهداً شديداً على الوفاء بما حملوا وما أخذه الله عليهم، ويجوز أن يكون قد أخذ الله عليهم الميثاق مرتين، فأخذ عليهم في المرة الأولى مجر الميثاق بدون تغليظ ولا تشديد، ثم أخذه عليهم ثانياً مغلظاً مشدداً، ومثل هذه الآية قوله: " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ".
واللام في قوله: 8- "ليسأل الصادقين عن صدقهم" يجوز أن تكون لام كي: أي لكي يسأل الصادقين من النبيين عن صدقهم في تبليغ الرسالة إلى قومهم، وفي هذا وعيد لغيرهم، لأنهم إذا كانوا يسألون عن ذلك فكيف غيرهم. وقيل ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم كما في قوله: "فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين" ويجوز أن تتعلق بمحذوف: أي فعل ذلك ليسأل، "وأعد للكافرين عذاباً أليماً" معطوف على ما دل عليه "ليسأل الصادقين" إذ التقدير: أثاب الصادقين وأعد للكافرين، ويجوز أن يكون معطوفاً على أخذنا، لأن المعنى: أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه ليثيب المؤمنين وأعد للكافرين. وقيل إنه قد حذف من الثاني ما أثبت مقابله في الأول، ومن الأول ما أثبت مقابله في الثاني، والتقدير: ليسال الصادقين عن صدقهم فأثابهم، ويسأل الكافرين عما أجابوا به رسلهم وأعد لهم عذاباً أليماً. وقيل إنه معطوف على المقدر عاملاً في ليسأل كما ذكرنا، ويجوز أن يكون الكلام قد تم عند قوله: "ليسأل الصادقين عن صدقهم" وتكون جملة "وأعد لهم" مستأنفة لبيان ما أعده للكفار.
9- "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم" هذا تحقيق لما سبق من الأمر بتقوى الله بحيث لا يبقى معها خوف من أحد وقوله عليكم متعلق بالنعمة إن كانت مصدراً أو بمحذوف هو حال: أي كائنة عليكم، ومعنى "إذ جاءتكم جنود" حين جاءتكم جنود، وهو ظرف للنعمة، أو للمقدر عاملاً في عليكم، أو لمحذوف هو اذكر، والمراد بالجنود: جنود الأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزوه إلى المدينة، وهي الغزوة المسماة غزوة الخندق وهم: أبو سفيان بن حرب بقريش ومن معهم من الألفاف، وعيينة بن حصن الفزاري ومن معه من قومه غطفان وبنو قريظة والنضير، فضايقوا المسلمين مضايقة شديدة كما وصف الله سبحانه في هذه الآيات، وكانت هذه الغزوة في شوال سنة خمس من الهجرة. قاله ابن إسحاق. وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك: كانت في سنة أربع. وقد بسط أهل السير في هذه الوقعة ما هو معروف فلا نطيل بذكرها "فأرسلنا عليهم ريحاً" معطوف على جاءتكم. قال مجاهد: هي الصبا، أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى ألقت قدورهم ونزعت فساطيطهم، ويدل على هذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور، والمراد بقوله: "وجنوداً لم تروها" الملائكة. قال المفسرونك بعث الله عليهم الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، وأرسل الله عليهم الرعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب العسكر حتى كان سيد كل قوم يقول لقومه: يا بني فلان هلم إلي، فإذا اجتمعوا قال لهم: النجاء النجاء "وكان الله بما تعملون بصيراً" قرأ الجمهور "تعملون" بالفوقية: أي بما تعملون أيها المسلمون من ترتيب الحرب، وحفر الخندق، واستنصاركم به، وتوكلكم عليه، وقرأ أبو عمرو بالتحتية: أي بما يعمله الكفار من العناد لله ولرسوله، والتحزب على المسلمين واجتماعهم عليهم من كل جهة.
10- " إذ جاءوكم من فوقكم " إذ هذه وما بعدها بدل من إذ الأولى، والعامل في هذه هو العامل في تلك، وقيل منصوبة بمحذوف هو اذكر، ومعنى "من فوقكم" من أعلى الوادي، وهو من جهة المشرق، والذين جاءوا من هذه الجهة هم غطفان وسيدهم عيينة بن حصين، وهوازن وسيدهم عوف بن مالك، وأهل نجد وسيدهم طليحة بن خويلد الأسدي، وانضم إليهم عوف بن مالك وبنوا النضير، ومعنى "ومن أسفل منكم" من أسفل الوادي من جهة المغرب من ناحية مكة، وهم قريش ومن معهم من الأحابيش، وسيدهم أبو سفيان بن حرب، وجاء أبو الأعور السلمي ومعه حيي بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة من وجه الخندق، ومعهم عامر بن الطفيل، وجملة " وإذ زاغت الأبصار " معطوفة على ما قبلها: أي مالت عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى عدوها مقبلاً من كل جانب، وقيل شخصت دهشاً من فرط الهول والحيرة "وبلغت القلوب الحناجر" جمع حنجرة، وهي جوف الحلقوم: أي ارتفعت القلوب عن مكانها، ووصلت من الفزع والخوف إلى الحناجر، فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها، وهو الذي نهايته الحنجرة لخرجت، كذا قال قتادة. وقيل هو على طريق المبالغة المعهودة في كل العرب وإن لم ترتفع القلوب إلى ذلك المكان ولا خرجت عن موضعها، ولكنه مثل في إضطرابها وجنبها. قال الفراء: والمعنى أنهم جبنوا وجزع أكثرهم، وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته، فإذا انتفخت الرئة ارتفع القلب إلى الحنجرة، ولهذا يقال للجبان: انتفخ سحره "وتظنون بالله الظنونا" أي الظنون المختلفةن فبعضهم ظن النصر ورجا الظفر، وبعضهم ظن خلاف ذلك. وقال الحسن: ظن المنافقون أنه يستأصل محمد وأصحابه، وظن المؤمنون أنه ينصر. وقيل الآية خطاب للمنافقين، والأولى ما قاله الحسن. فيكون الخطاب لمن أظهر الإسلام على الإطلاق أعم من أن يكون مؤمناً في الواقع أو منافقاً. واختلف القراء في هذه الألف في "الظنونا": فأثبتها وصلا ووقفا نافع وابن عامر وأبو بكر، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو والكسائي، وتمسكوا بخطف المصحف العثماني وجميع المصاحف في جميع البلدان فإن الألف فيها كلها ثابتة، واختار هذه القراءة أبو عبيدة إلا أنه قال: لا ينبغي للقارئ أن يدرج القراءة بعدهن بل يقف عليهن، وتمسكوا أيضاً بما في أشعار العرب من مثل هذا. وقرأ أبو عمرو وحمزة والجحدري ويعقوب بحذفها في الوصل والوقف معاً، وقالوا: هي من زيادات الخط فكتبت كذلك، ولا ينبغي النطق بها. وأما في الشعر فهو يجوز فيه للضرورة ما لا يجوز في غيره. وقرأ ابن كثير والنسائي وابن محيصن بإثباتها وقفاً وحذفها وصلاً، وهذه القراءة راجحة باعتبار اللغة العربية، وهذه الألف هي التي تسميها النحاة ألف الإطلاق، والكلام فيها معروف في علم النحو، وهكذا اختلف القراء في الألف التي في قوله "الرسولا" و "السبيلا" كما سيأتي آخر هذه السورة.
11- " هنالك ابتلي المؤمنون " الظرف منتصب بالفعل الذي بعده، وقيل بتظنون، واستضعفه ابن عطية، وهو ظرف مكان يقال للمكان البعيد هنالك كما يقال للمكان القريب هنا، وللمتوسط هناك. وقد يكون ظرف زمان: أي عند ذلك الوقت ابتلى المؤمنون ومنه قول الشاعر: وإذا الأمور تعاظمت وتشاكلت فهناك يعترفون أين المفزع أي في ذلك الوقت، والمعنى: أن في ذلك المكان أو الزمان اختبر المؤمنون بالخوف والقتال والجوع والحصر والنزال ليتبين المؤمن من المنافق "وزلزلوا زلزالاً شديداً" قرأ الجمهور "زلزلوا" بضم الزاي الأولى وكسر الثانية على ما هو الأصل في المبني للمفعول، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ بكسر الأولى، وروى الزمخشري عنه أنه قرأ بإشمامها كسراً، وقرأ الجمهور "زلزالاً"بكسر الزاي الأولى، وقرأ عاصم والجحدري وعيسى بن عمر بفتحها. قال الزجاج: كل مصدر من المضاعف على فعلال يجوز فيه الكسر والفتح: نحو قلقلته قلقالاً، وزلزلوا زلزالاً، والكسر أجود. قال ابن سلام: معنى زلزلوا: حركوا بالخوف تحريكاً شديداً. وقال الضحاك: هو إزاحتهم عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلا موضع الخندق، وقيل المعنى أنهم اضطربوا اضطراباً مختلفاً، فمنهم من اضطرب في نفسه، ومنهم من اضطرب في دينه.
12- "وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض" معطوف على إذ زاغت الأبصار، والمرض في القلوب هو الشك والريبة، والمراد بالمنافقون: عبد الله بن أبي وأصحابه، وبالذين في قلوبهم مرض: أهل الشك والاضطراب " ما وعدنا الله ورسوله " من النصر والظفر "إلا غروراً" أي باطلاً من القول، وكان القائلون بهذه المقالة نحو سبعين رجلاً من أهل النفاق والشك، وهذا القول المحكي عن هؤلاء هو كالتفسير للظنون المذكورة: أي كان ظن هؤلاء هذا الظن، كما ظن المؤمنين النصر وإعلاء كلمة الله.
13- "وإذ قالت طائفة منهم" أي من المنافقين. قال مقاتل: هم بنو سالم من المنافقين. وقال السدي: هم عبد الله بن أبي وأصحابه، وقيل: هم أوس بن قبطي وأصحابه، والطائفة تقع على الواحد فما فوقه، والقول الذي قالته هذه الطائفة هو قوله: "يا أهل يثرب لا مقام لكم" أي لا موضع إقامة لكم، أو لا إقامة لكم ها هنا في العسكر. قال أبو عبيد: يثرب اسم الأرض، ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم في ناحية منها. قال السهيلي: وسميت يثرب، لأن الذي نزلها من العمالقة اسمه يثرب بن عميل، قرأ الجمهور "لا مقام لكم" بفتح الميم، وقرأ حفص والسلمي والجحدري وأبو حيوة بضمها، على أنه مصدر من أقام يقيم، وعلى القراءة الأولى هو اسم مكان "فارجعوا" أي إلى منازلكم، أمروهم بالهرب من عسكر النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين خرجوا عام الخندق حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع والخندق بينهم وبين القوم، فقال هؤلاء الممنافقون: ليس ها هنا موضع إقامة، وأمروا الناس بالرجوع إلى منازلهم بالمدينة "ويستأذن فريق منهم النبي" معطوف على قالت طائفة منهم: أي يستأذنون في الرجوع إلى منازلهم وهم بنو حارثة وبنو سلمة، وجملة "يقولون" بدل من قوله يستأذن أو حال أو استئناف جواباً لسؤال مقدر، والقول الذي قالوه وهو قولهم: "إن بيوتنا عورة" أي ضائعة سائبة ليست بحصينة ولا ممتنعة من العدو. قال الزجاج: يقال عور المكان يعور عوراً وعورة، وبيوت عورة وعورة، وهي مصدر. قال مجاهد ومقاتل والحسن: قالوا بيوتنا ضائعة نخشى عليها السراق. وقال قتادة: قالوا بيوتنا مما يلي العدو ولا نأمن على أهلنا. قال الهروي: كل مكان ليس بممنوع ولا مستور فهو عورة، والعورة في الأصل: الخلل فأطلقت على المختل، والمراد: ذات عورة، وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو رجاء العطاردي عروة بكسر الواو أي قصر الجدران. قال الجوهري: العورة كل حال يتخوف منه في ثغر أو حرب. قال النحاس يقال أعور المكان: إذا تبينت فيه عورة، وأعور الفارس: إذا تبين منه موضع الخلل، ثم رد سبحانه عليهم بقوله: "وما هي بعورة" فكذبهم الله سبحانه فيما ذكروه، والجملة في محل نصب على الحال، ثم بين سبب استئذانهم وما يريدونه به، فقال: "إن يريدون إلا فراراً" أي ما يريدون إلا الهرب من القتال، وقيل المراد: ما يريدون إلا الفرار من الدين.
14- "ولو دخلت عليهم من أقطارها" يعني بيوتهم أو المدينة، والأقطار: النواحي جمع قطر، وهو الجانب والناحية، والمعنى: لو دخلت عليهم بيوتهم أو المدينة من جوانبها جميعاً لا من بعضها، نزلت بهم هذه النازلة الشديدة، واستبيحت ديارهم، وهتكت حرمهم ومنازلهم "ثم سئلوا الفتنة" من جهة أخرى عند نزول هذه النازلة الشديدة بهم " لأتوها " أي لجاءوها أو أعطوها، ومعنى الفتنة هنا: إما القتال في العصبية كما قال الضحاك، أو الشرك بالله والرجعة إلى الكفر الذي يبطنونه ويظهرون خلافه كما قال الحسن، قرأ الجمهور " لأتوها " بالمد: أي لأعطوها من أنفسهم، وقرأ نافع وابن كثير بالقصر: أي لجاءوها "وما تلبثوا بها إلا يسيراً" أي بالمدينة بعد أن أتوى الفتنة إلا تلبثاً يسيراً حتى يهلكوا، كذا قال الحسن والسدي والفراء والقتيبي. وقال أكثر المفسيرين: إن المعنى: وما احتبسوا عن فتنة الشرك إلا قليلاً، بل هم مسرعون إليها راغبون فيها لا يقفون عنها إلا مجرد وقوع السؤال لهم، ولا يتعللن عن الإجابة بأن بيوتهم في هذه الحالة عورة مع أنها قد صارت عورة على الحقيقة كما تعللوا عن أجابة الرسول والقتال معه بأنها عورة ولم تكن إذ ذاك عورة.
ثم حكى سبحانه عنهم ما قد كان وقع منهم من قبل من المعاهدة لله ولرسوله بالثبات في الحرب وعدم الفرار عنه فقال: 15- "ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار" أي من قبل غزوة الخندق ومن بعد بدر قال قتادة: وذكل أنهم غابوا عن بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والنصر فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلن، وهم بنو حارثة وبنو سلمة "وكان عهد الله مسؤولاً" أي مسؤولاً عنه، ومطلوباً صاحبه بالوفاء به، ومجازى على ترك الوفاء به.