تفسير الطبري تفسير الصفحة 419 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 419
420
418
 الآية : 7
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مّيثَاقاً غَلِيظاً }.
يقول تعالـى ذكره: كان ذلك فـي الكتاب مسطورا, إذ كتبنا كلّ ما هو كائن فـي الكتاب وَإذْ أخَذْنا مِنَ النّبِـيّـينَ مِيثاقَهُمْ كان ذلك أيضا فـي الكتاب مسطورا, ويعنـي بـالـميثاق: العهد, وقد بـيّنا ذلك بشواهده فـيـما مضى قبل. وَمِنْكَ يا مـحمد وَمِنْ نُوحِ وإبْرَاهِيـم وَمُوسَى وَعِيسَى ابنِ مَرْيَـمَ, وأخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقا غَلِـيظا يقول: وأخذنا من جميعهم عهدا مؤكدا أن يصدّق بعضهم بعضا. كما:
21600ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَإذْ أخَذْنا مِنَ النّبِـيّـينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ قال: وذُكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «كُنْتُ أوّلَ الأَنْبِـياءِ فِـي الـخَـلْقِ, وآخِرَهُمْ فِـي البَعْثِ», وَإبْرَاهِيـمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَـمَ, وأخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقا غَلِـيظا ميثاق أخذه الله علـى النبـيـين, خصوصا أن يصدّق بعضهم بعضا, وأن يتبع بعضهم بعضا.
حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا سلـيـمان, قال: حدثنا أبو هلال, قال: كان قتادة إذا تلا هذه الاَية وَإذْ أخَذْنا مِنَ النّبِـيّـينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ قال: كان نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم فـي أوّل النبـيـين فـي الـخـلق.
21601ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله مِنَ النّبِـيّـينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ قال: فـي ظهر آدم.
21602ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وأخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقا غَلِـيظا قال: الـميثاق الغلـيظ: العهد.
الآية : 8
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لّيَسْأَلَ الصّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً }.
يقول تعالـى ذكره: أخذنا من هؤلاء الأنبـياء ميثاقهم كيـما أسأل الـمرسلـين عما أجابتهم به أمـمهم, وما فعل قومهم فـيـما أبلغوهم عن ربهم من الرسالة. وبنـحو قولنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21603ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن لـيث, عن مـجاهد لِـيَسْأَلَ الصّادقِـينَ عَنْ صِدْقِهِمْ قال: الـمبلغين الـمؤدّين من الرسل.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد لِـيَسْألَ الصّادقِـينَ عَنْ صدْقِهِمْ قال: الـمبلغين الـمؤدّين من الرسل.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أُسامة, عن سفـيان, عن رجل, عن مـجاهد لِـيَسْأَلَ الصّادقِـينَ عَنْ صِدْقِهِمْ قال: الرسل الـمؤدّين الـمبلغين.
وقوله: وأعَدّ للكافِرِينَ عَذَابـا ألِـيـما يقول: وأعدّ للكافرين بـالله من الأمـم عذابـا موجعا.
الآية : 9
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً }.
يقول تعالـى ذكره: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَـيْكُمْ التـي أنعمها علـى جماعتكم وذلك حين حوصر الـمسلـمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الـخندق إذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ: جنود الأحزاب: قُريش, وغَطفـان, ويهود بنـي النضير فأَرْسَلْنا عَلَـيْهِمْ رِيحا وهي فـيـما ذكر: ريح الصّبـا. كما:
21604ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا داود, عن عكرِمة, قال: قالتِ الـجنوبُ للشمال لـيـلة الأحزاب: انطلقـي ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال الشمال: إن الـحرّة لا تسري بـاللـيـل, قال: فكانت الريح التـي أُرسلت علـيهم الصّبـا.
21605ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا أبو عامر, قال: ثنـي الزبـير, يعنـي ابن عبد الله, قال: ثنـي ربـيح بن أبـي سعيد, عن أبـيه, عن أبـي سعيد, قال: قلنا يوم الـخندق: يا رسول الله بلغت القلوب الـحناجر, فهل من شيء تقوله؟ قال: «نَعَمْ قُولُوا: اللّهُمّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنا, وآمِنْ روْعاتِنا», فَضَرَبَ اللّهُ وُجُوهَ أعْدائهِ بـالرّيحِ, فهَزَمَهُمُ اللّهُ بـالرّيحِ.
21606ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثنـي عبد الله بن عمرو, عن نافع, عن عبد الله, قال: أرسلنـي خالـي عثمان بن مظعون لـيـلة الـخندق فـي برد شديد وريح, إلـى الـمدينة, فقال: ائتنا بطعام ولـحاف قال: فـاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأذن لـي وقال: «مَنْ لَقِـيتَ مِنْ أصحَابِـي فَمُرْهُم يَرْجِعُوا». قال: فذهبت والريح تَسْفِـي كل شيء, فجعلت لا ألقـى أحدا إلاّ أمرته بـالرجوع إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم, قال: فما يَـلْوِي أحد منهم عنقه قال: وكان معي تُرْس لـي, فكانت الريح تضربه علـيّ, وكان فـيه حديد, قال: فضربته الريح حتـى وقع بعض ذلك الـحديد علـى كفـي, فأنفذها إلـى الأرض.
21607ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة: قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق, عن يزيد بن زياد, عن مـحمد بن كعب القُرَظِيّ, قال: قال فتـى من أهل الكوفة لـحُذَيفة بن الـيـمان: يا أبـا عبد الله, رأيتـم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتـموه؟ قال: نعم يا بن أخي, قال: فكيف كنتـم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نَـجْهَد, قال الفتـى: والله لو أدركناه ما تركناه يـمشيء علـى الأرض, لـحملناه علـى أعناقنا. قال حُذَيفة: يا بن أخي, والله لقد رأيتُنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بـالـخندق, وصلـى رسول الله هَوِيّا من اللـيـل, ثم التفت إلـينا فقال: «من رجل يقوم فـينظر لنا ما فعل القوم؟ يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يرجع أدخـله الله الـجنة», فما قام أحد, ثم صلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم هَوِيا من اللـيـل, ثم التفت إلـينا فقال مثله, فما قام منا رجل, ثم صلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم هَوِيا من اللـيـل, ثم التفت إلـينا فقال: «مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَـيَنْظُرُ لَنا ما فَعَلَ القَوْمُ ثُمّ يَرْجِعُ, يَشْتَرِطُ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلـى اللّهُ علـيهِ وسلّـمَ الرّجْعَةَ, أسأَلُ اللّهُ أنْ يكُونَ رَفِـيقـي فِـي الـجَنّةِ» فما قام رجل من شدّة الـخوف, وشدّة الـجوع, وشدّة البرد فلـما لـم يقم أحد, دعانـي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلـم يكن لـي بدّ من القـيام حين دعانـي, فقال: «يا حُذَيْفَةُ اذْهَبْ فـادْخُـلْ فِـي القَوْمِ فـانْظُرْ ما يَفْعَلونَ, وَلا تُـحْدِثَنّ شَيْئا حتـى تَأْتِـينَا». قال: فذهبت فدخـلت فـي القوم, والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل, لا تُقِرّ لهم قِدرا ولا نارا ولا بناء فقام أبو سُفـيان فقال: يا معشر قريش, لـينظر امرؤ من جلـيسه, فقال حُذَيفة: فأخذت بـيد الرجل الذي إلـى جنبـي, فقلت: من أنت؟ فقال: أنا فلان بن فلان ثم قال أبو سفـيان: يا معشر قريش, إنكم والله ما أصبحتـم بدار مقام, ولقد هلك الكراع والـخفّ, واختلفت بنو قريظة, وبلغنا عنهم الذي نكره, ولقـينا من هذه الريح ما ترون, والله ما يطمئنّ لنا قدر, ولا تقوم لنا نار, ولا يستـمسك لنا بناء, فـارتـحلوا فإنـي مرتـحل. ثم قام إلـى جمله وهو معقول, فجلس علـيه, ثم ضربه فوثب به علـى ثلاث, فما أطلق عقاله إلاّ وهو قائم. ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـيّ أن «لا تُـحدث شيئا حتـى تأتـينـي», لو شئت لقتلته بسهم قال حُذَيفة: فرجعت إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلـي فـي مرط لبعض نسائه فلـما رآنـي أدخـلنـي بـين رجلـيه, وطرح علـيّ طرَف الـمِرط, ثم ركع وسجد وإنـي لفـيه فلـما سلـم أخبرته الـخبر, وسمعت غَطفـان بـما فعلت قريش, فـانشمروا راجعين إلـى بلادهم.
21608ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله إذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ قال: الأحزاب: عيـينة بن بدر, وأبو سفـيان, وقريظة.
وقوله: فَأَرْسَلْنا عَلَـيْهِمْ رِيحا قال: ريح الصبـا أرسلت علـى الأحزاب يوم الـخندق, حتـى كفأت قدورهم علـى أفواهها, ونزعت فساطيطهم حتـى أظعنتهم. وقوله: وَجُنُودا لَـمْ تَرَوْها قال: الـملائكة ولـم تقاتل يومئذ.
21609ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله يا أيها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ, إذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فأرْسَلْنا عَلَـيْهِمْ رِيحا وَجُنُودا لَـمْ تَرَوْها قال: يعنـي الـملائكة, قال: نزلت هذه الاَية يوم الأحزاب وقد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا فخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأقبل أبو سفـيان بقريش ومن تبعه من الناس, حتـى نزلوا بعقوة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأقبل عُيـينة بن حصن, أحد بنـي بدر ومن تبعه من الناس حتـى نزلوا بعقوة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكاتبت الـيهود أبـا سفـيان وظاهروه, فقال حيث يقول الله تعالـى: إذْ جاءوُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أسْفَلَ مِنْكُمْ فبعث الله علـيهم الرعب والريح, فذكر لنا أنهم كانوا كلـما أوقدوا نارا أطفأها الله, حتـى لقد ذكر لنا أن سيد كلّ حيّ يقول: يا بنـي فلان هلـمّ إلـيّ, حتـى إذا اجتـمعوا عنده فقال: النـجاء النـجاء, أتـيتـم لـما بعث الله علـيهم من الرعب.
21610ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نَعْمَةَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ... الاَية, قال: كان يوم أبـي سفـيان يوم الأحزاب.
21611ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي يزيد بن رومان, فـي قول الله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ إذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فأَرْسَلْنا عَلَـيْهِم رِيحا وَجُنُودا لَـمْ تَرَوْها والـجنود قريش وغطفـان وبنو قريظة, وكانت الـجنود التـي أرسل الله علـيهم مع الريح: الـملائكة.
وقوله: وكانَ اللّهُ بِـمَا تَعْملُونَ بَصِيرا يقول تعالـى ذكره: وكان الله بأعمالكم يومئذٍ, وذلك صبرهم علـى ما كانوا فـيه من الـجَهْد والشدّة, وثَبـاتهم لعَدُوّهم, وغير ذلك من أعمالهم, بصيرا لا يخفـى علـيه من ذلك شيء, يُحصيه علـيهم, لـيجزيَهُمْ علـيه.
الآية : 10 -12
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِذْ جَآءُوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَاْ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ مّا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً }.
يقول تعالـى ذكره: وكان الله بـما تعملون بَصِيرا, إذ جاءتكم جنودُ الأحزاب من فوقِكم, ومن أسفلَ منكم. وقـيـل: إن الذين أتَوْهم من أسفل منهم, أبو سفـيان فـي قريش ومن معه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21612ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد إذْ جاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ قال عيـينة بن بدر فـي أهل نـجد, ومن أسفل منكم, قال: أبو سفـيان. قال: وواجَهَتْهم قُرَيظة.
21613ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبدة, عن هشام بن عروة, عن أبـيه, عن عائشة: ذكرت يوم الـخندق وقرأت: إذْ جاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أسْفَلَ مِنْكُمْ, وَإذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ, وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الـحَناجِرَ قالت: هو يوم الـخندق.
21614ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلَـمة, قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق, عن يزيد بن رُومان مولـى آل الزبـير, عن عُروة بن الزبـير, وعمن لاأتهم, عن عُبـيد الله بن كعب بن مالك, وعن الزّهريّ, وعن عاصم بن عمر بن قتادة, عن عبد الله بن أبـي بكر بن مـحمد بن عمرو بن حزم, وعن مـحمد بن كعب القُرَظيّ, وعن غيرهم من علـمائنا: أنه كان من حديث الـخندق, أن نَفَرا من الـيهود, منهم سلام بن أبـي الـحُقَـيق النّضَريّ, وحُيـيّ بن أخطب النّضَري, وكِنانة بن الرّبـيع بن أبـي الـحُقَـيق النضريّ, وهَوْذَة بن قـيس الوائلـيّ, وأبو عمار الوائلـيّ, فـي نفر من بنـي النضير, ونفر من بنـي وائل, وهم الذين حَزّبوا الأحزاب علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, خرجوا حتـى قدِموا مكة علـى قريش, فدعَوْهم إلـى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقالوا: إنا سنكون معكم علـيه, حتـى نستأصلَه. فقال لهم قريش: يا معشر يهود, إنكم أهل الكتاب الأوّل, والعلـم بـما أصبحنا نـختلف فـيه نـحن ومـحمد, أَفَدِيننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه, وأنتـم أولـى بـالـحقّ منه. قال: فهم الذين أنزل الله فـيهم: ألَـمْ تَرَ إلـى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبـا مِنَ الكِتابِ يُؤْمِنُونَ بـالـجِبْتِ والطّاغُوتِ, وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِـيلاً... إلـى قوله: وكَفَـى بِجَهَنّـمَ سَعِيرا فلـما قالوا ذلك لقريش, سرّهم ما قالوا, ونشطوا لـما دعوهم له من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فـاجتـمعوا لذلك, واتعدوا له. ثم خرج أولئك النفر من الـيهود, حتـى جاءوا غطفـان من قـيس عيلان, فدعوهم إلـى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأخبروهم أنهم سيكونون معهم علـيه, وأن قريشا قد تابعوهم علـى ذلك, فـاجتـمعوا فـيه, فأجابوهم فخرجت قريش وقائدها أبو سفـيان بن حرب, وخرجت غطفـان وقائدها عيـينة بن حصن بن حُذَيفة بن بدر فـي بنـي فزارة, والـحارث بن عوف بن أبـي حارثة الـمري فـي بنـي مرّة, ومسْعر بن رخيـلة بن نُوَيرة بن طريف بن سحمة بن عبدالله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفـان, فـيـمن تابعه من قومه من أشجع فلـما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبـما اجتـمعوا له من الأمر ضرب الـخندق علـى الـمدينة فلـما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الـخندق, أقبلت قريش حتـى نزلت بـمـجتـمع الأسيال من رومة بـين الـجرف والغابة فـي عشرة آلاف من أحابـيشهم, ومن تابعهم من بنـي كنانة وأهل تهامة, وأقبلت غطَفـان ومن تابعهم من أهل نـجد, حتـى نزلوا بذنب نَقَمَى إلـى جانب أحد, وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والـمسلـمون حتـى جعلوا ظهورهم إلـى سَلْع فـي ثلاثة آلاف من الـمسلـمين, فضرب هنالك عسكره, والـخندق بـينه وبـين القوم, وأمر بـالذّراري والنساء, فرفعوا فـي الاَطام, وخرج عدوّ الله حيـي بن أخطب النضري, حتـى أتـى كعب بن أسد القرظيّ, صاحب عقد بنـي قريظة وعهدهم, وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم علـى قومه, وعاهده علـى ذلك وعاقده, فلـما سمع كعب بحيـيّ بن أخطب, أغلق دونه حصنه, فـاستأذن علـيه, فأبى أن يفتـح له, فناداه حيـيّ: يا كعب افتـح لـي, قال: ويحك يا حيـيّ, إنك امرؤ مشؤوم, إنـي قد عاهدت مـحمدا, فلست بناقض ما بـينـي وبـينه, ولـم أر منه إلاّ وفـاء وصدقا قال: ويحك افتـح لـي أكلـمك, قال: ما أنا بفـاعل. قال: والله إن أغلقت دونـي إلاّ تـخوّفت علـى جشيشتك أن آكل معك منها, فأحفظ الرجل, ففتـح له, فقال: يا كعب جئتك بعزّ الدهر, وببحر طمّ, جئتك بقريش علـى قاداتها وساداتها, حتـى أنزلتهم بـمـجتـمع الأسيال من رُومَة, وبغطَفـان علـى قاداتها وساداتها حتـى أنزلتهم بذنب نَقَمَى إلـى جانب أُحد, قد عاهدونـي وعاقدونـي أن لا يبرحوا حتـى يستأصلوا مـحمدا ومن معه, فقال له كعب بن أسد: جئتنـي والله بذلّ الدهر, وبجهام قد هراق ماءه, يرعد ويبرق, لـيس فـيه شيء, فدعنـي ومـحمدا وما أنا علـيه, فلـم أر من مـحمد إلاّ صدقا ووفـاء فلـم يزل حيـيّ بكعب يفتله فـي الذروة والغارب حتـى سمـح له علـى أن أعطاهم عهدا من الله وميثاقا لئن رجعت قريش وغطفـان ولـم يصيبوا مـحمدا أن أدخـل معك فـي حصنك حتـى يصيبنـي ما أصابك. فنقض كعب بن أسد عهده, وبرىء مـما كان علـيه, فـيـما بـينه وبـين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلـما انتهى إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم الـخبر, وإلـى الـمسلـمين, بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ بن النعمان بن امرىء القـيس, أحد بنـي الأشهل, وهو يومئذٍ سيد الأوس, وسعد بن عبـادة بن ديـلـم أخي بنـي ساعدة بن كعب بن الـخزرج, وهو يومئذٍ سيد الـخزرج, ومعهما عبد الله بن رواحة أخو بلـحرث بن الـخزرج, وخوات بن جبـير أخو بنـي عمرو بن عوف, فقال: انطلقوا حتـى تنظروا أحقّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟, فإن كان حقا فـالـحنوا لـي لـحنا أعرفه, ولا تفتوا فـي أعضاد الناس, وإن كانوا علـى الوفـاء فـيـما بـيننا وبـينهم, فـاجهروا به للناس. فخرجوا حتـى أتوهم, فوجدوهم علـى أخبث ما بلغهم عنهم, ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: لا عهد بـيننا وبـين مـحمد ولا عقد, فشاتـمهم سعد بن عبـادة وشاتـموه, وكان رجلاً فـيه حدّة, فقال له سعد بن معاذ: دع عنك مشاتـمتهم, فما بـيننا وبـينهم أربى من الـمشاتـمة. ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فسلـموا علـيه, ثم قالوا: عضل والقارة: أي كغدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب الرجيع خبـيب بن عديّ وأصحابه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر, أبشروا يا معشر الـمسلـمين», وعظم عند ذلك البلاء, واشتدّ الـخوف, وأتاهم عدوّهم من فوقهم, ومن أسفل منهم, حتـى ظنّ الـمسلـمون كلّ ظنّ, ونـجم النفـاق من بعض الـمنافقـين, حتـى قال معتب بن قشير أخو بنـي عمرو بن عوف: كان مـحمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقـيصر, وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلـى الغائط, وحتـى قال أوس بن قـيظي أحد بنـي حارثة بن الـحارث: يا رسول الله إن بـيوتنا لعورة من العدوّ, وذلك عن ملإ من رجال قومه, فأذن لنا فلنرجع إلـى دارنا, وإنها خارجة من الـمدينة, فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وعشرين لـيـلة قريبـا من شهر, ولـم يكن بـين القوم حرب إلاّ الرمي بـالنبل والـحصار».
21615ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, قال: ثنـي يزيد بن رومان, قوله إذْ جاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أسْفَلَ مِنْكُمْ فـالذين جاءوهم من فوقهم: قريظة, والذين جاءوهم من أسفل منهم: قريش وغطفـان.
وقوله: وَإذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ يقول: وحين عدلت الأبصار عن مقرّها, وشخصت طامـحة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21616ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَإذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ: شخصت.
وقوله: وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الـحَناجِرَ يقول: نبت القلوب عن أماكنها من الرعب والـخوف, فبلغت إلـى الـحناجر. كما:
21617ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا سويد بن عمرو, عن حماد بن زيد, عن أيوب, عن عكرِمة: وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الـحَناجِرَ قال: من الفزع.
وقوله: وَتَظُنّونَ بـاللّهِ الظّنُونا يقول: وتظنون بـالله الظنونَ الكاذبة, وذلك كظنّ من ظنّ منهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُغلب, وأن ما وعده الله من النصر أن لا يكون, ونـحو ذلك من ظنونهم الكاذبة التـي ظنها من ظنّ مـمن كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي عسكره.
21618ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا هوذة بن خـلـيفة, قال: حدثنا عوف, عن الـحسن وَتَظُنّونَ بـالله الظّنُونا قال: ظنونا مختلفة: ظنّ الـمنافقون أن مـحمدا وأصحابه يُستأصلون, وأيقن الـمؤمنون أن ما وعدهم الله حقّ, أنه سيظهره علـى الدين كله ولو كره الـمشركون.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: وَتَظُنّونَ بـالله الظّنُونا فقرأ ذلك عامة قرّاء الـمدينة, وبعض الكوفـيـين: الظّنَونا بإثبـات الألف, وكذلك وأطَعْنا الرّسُولا فأضَلّونا السّبِـيلا فـي الوصل والوقـف وكان اعتلال الـمعتلّ فـي ذلك لهم, أن ذلك فـي كل مصاحف الـمسلـمين بإثبـات الألف فـي هذه الأحرف كلها. وكان بعض قرّاء الكوفة يثبت الألف فـيهنّ فـي الوقـف, ويحذفها فـي الوصل اعتلالاً بأن العرب تفعل ذلك فـي قوافـي الشعر ومصاريعها, فتلـحق الألف فـي موضع الفتـح للوقوف, ولا تفعل ذلك فـي حشو الأبـيات, فإن هذه الأحرف, حسُن فـيها إثبـات الألفـات, لأنهنّ رؤوس الاَي تـمثـيلاً لها بـالقوافـي. وقرأ ذلك بعض قرّاء البصرة والكوفة بحذف الألف من جميعه فـي الوقـف والوصل, اعتلالاً بأن ذلك غير موجود فـي كلام العرب إلاّ فـي قوافـي الشعر دون غيرها من كلامهم, وأنها إنـما تفعل ذلك فـي القوافـي طلبـا لإتـمام وزن الشعر, إذ لو لـم تفعل ذلك فـيها لـم يصحّ الشعر, ولـيس ذلك كذلك فـي القرآن, لأنه لا شيء يضطرهم إلـى ذلك فـي القرآن, وقالوا: هنّ مع ذلك فـي مصحف عبد الله بغير ألف.
وأولـى القرَاءات فـي ذلك عندي بـالصواب, قراءة من قرأه بحذف الألف فـي الوصل والوقـف, لأن ذلك هو الكلام الـمعروف من كلام العرب, مع شهرة القراءة بذلك فـي قرّاء الـمصرين: الكوفة, والبصرة ثم القراءة بإثبـات الألف فـيهنّ فـي حالة الوقـف والوصل, لأن علة من أثبت ذلك فـي حال الوقـف أنه كذلك فـي خطوط مصاحف الـمسلـمين. وإذا كانت العلة فـي إثبـات الألف فـي بعض الأحوال كونه مثبتا فـي مصاحف الـمسلـمين, فـالواجب أن تكون القراءة فـي كل الأحوال ثابتة, لأنه مثبت فـي مصاحفهم. وغير جائز أن تكون العلة التـي توجب قراءة ذلك علـى وجه من الوجوه فـي بعض الأحوال موجودة فـي حال أخرى, والقراءة مختلفة, ولـيس ذلك لقوافـي الشعر بنظير, لأن قوافـي الشعر إنـما تلـحق فـيها الألفـات فـي مواضع الفتـح, والـياء فـي مواضع الكسر, والواو فـي مواضع الضمّ طلبـا لتتـمة الوزن, وأن ذلك لو لـم يفعل كذلك بطل أن يكون شعرا لاستـحالته عن وزنه, ولا شيء يضطرّ تالـي القرآن إلـى فعل ذلك فـي القرآن.
وقوله: هُنالكَ ابْتُلِـيَ الـمُؤْمِنُونَ يقول: عند ذلك اختبر إيـمان الـمؤمنـين, ومـحّص القوم وعرف الـمؤمن من الـمنافق. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21619ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله هُنالكَ ابْتُلِـيَ الـمُؤْمِنُونَ قال: مـحصوا.
وقوله: وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدا يقول: وحرّكوا بـالفتنة تـحريكا شديدا, وابتلوا وفتنوا.
وقوله: وَإذْ يقُولُ الـمُنافِقونَ وَالّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: شَكّ فـي الإيـمان, وضعف فـي اعتقادهم إياه: ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غُرورا, وذلك فـيـما ذُكِر قولُ معتّب بن قُشَير. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21620ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي يزيد بن رُومان وَإذْ يَقُولُ الـمُنافِقُونَ وَالّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسُولُهُ إلاّ غُرُورا يقول: مُعَتّب بن قُشَير, إذ قال ما قال يوم الـخندق.
21621ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله وَإذْ يَقُولُ الـمنافقون والّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال: تكلّـمهم بـالنفـاق يومئذٍ, وتَكَلّـمَ الـمؤمنون بـالـحقّ والإيـمان, قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله.
21622ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله وَإذْ يَقولُ الـمُنافِقُونَ وَالّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسُولُهُ إلاّ غُرُورا قال: قال ذلك أُناس من الـمنافقـين: قد كان مـحمد يعدُنا فتـح فـارس والروم, وقد حُصِرنا هاهنا, حتـى ما يستطيع أحدُنا أن يبرُز لـحاجته ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غرورا.
21623ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, قال: قال رجل يوم الأحزاب لرجل من صحابة النبـيّ صلى الله عليه وسلم: يا فلان أرأيت إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذَا هَلَكَ قَـيْصَرُ فَلا قَـيْصَرَ بَعْدَهُ, وَإذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلا كِسْرَى بَعْدَهُ, وَالّذِي نَفْسِي بِـيَدِهِ لَتُنْفَقَنّ كُنُوزُهُما فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ». فأينَ هذا من هذا, وأحدُنا لا يستطيع أن يخرج يبول من الـخوف؟ ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسُولُهُ إلاّ غُرُورا. فقال له: كذبت, لأُخْبِرَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرك, قال: فأَتـى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم, فأخبره, فدعاه فقال: «ما قلت؟» فقال: كذبَ علـيّ يا رسول الله, ما قلت شيئا, ما خرج هذا من فمي قطّ قال الله: يَحْلِفُونَ بـالله ما قالُوا, وَلَقَدْ قالُوا كَلِـمَةَ الكُفْرِ... حتـى بلغ وَما لَهُمْ فـي الأَرْضِ مِنْ وَلِـيّ وَلا نَصِيرٍ قال: «فهذا قول الله: إنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذّبْ طائِفَةً.
21624ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مـحمد بن خالد بن عَثْمة, قال: حدثنا كثـير بن عبد الله بن عمرو بن عوف الـمُزَنـيّ, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, قال: خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الـخندق عام ذُكِرت الأحزاب, من أحمر الشيخين, طرف بنـي حارثة, حتـى بلغ الـمَذَاد, ثم جعل أربعين ذراعا بـين كلّ عشرة, فـاختلف الـمهاجرون والأنصار فـي سَلْـمان الفـارسيّ, وكان رجلاً قويّا, فقال الأنصار: سَلْـمان منا, وقال الـمهاجرون: سلـمان منا, فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «سَلْـمانُ مِنّا أهْلَ البَـيْتِ». قال عمرو بن عوف: فكنت أنا وسَلْـمانُ وحُذَيفةُ بن الـيـمان والنّعمانُ بن مُقَرّن الـمُزَنـيّ, وستةٌ من الأنصار, فـي أربعين ذراعا, فحفَرنا تـحت دوبـار حتـى بلغنا الصّرَى, أخرج الله من بطن الـخندق صخرة بـيضاء مروة, فكسرت حديدنا, وشَقّت علـينا, فقلنا: يا سلـمان, ارْقَ إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأخبره خبر هذه الصخرة, فإما أن نعدل عنها, فإن الـمعدل قريب, وإما أن يأمرنا فـيها بأمره, فإنا لا نـحبّ أن نـجاوز خَطّه. فرقـي سَلـمان حتـى أتـى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب علـيه قُبةً تركية, فقال: يا رسول الله بأبـينا أنت وأمنا, خرجت صخرة بـيضاء من بطن الـخندق, مَرْوَة, فكسرت حديدنا, وشقّت علـينا, حتـى ما يجيء منها قلـيـل ولا كثـير, فمرنا فـيها بأمرك, فإنا لا نـحبّ أن نـجاوز خَطّك. فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلـمان فـي الـخندق, ورَقِـينا نـحن التسعة علـى شَفَة الـخندق, فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الـمِعْول من سَلـمان, فضرب الصخرة ضربة صَدَعها, وبَرَقت منها بَرْقة أضاءت ما بـين لابتـيها, يعنـي: لابتـي الـمدينة, حتـى لكأن مصبـاحا فـي جوف بـيت مظلـم, فكّبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبـير فتـح, وكبر الـمسلـمون. ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانـية, فصَدَعها وبَرَقت منها بَرْقة أضاءت ما بـين لابتـيها, حتـى لكأن مصبـاحا فـي جوف بـيت مظلـم, فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبـير فتـح, وكبر الـمسلـمون, ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثالثة, فكسرها, وبَرَقَت منها بَرْقة أضاءت ما بـين لابتـيها, حتـى لكأن مصبـاحا فـي جوف بـيت مظلـم, فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبـير فتـح, ثم أخذ بـيد سَلْـمانَ فَرِقـي, فقال سلـمان: بأبـي أنت وأمي يا رسول الله, لقد رأيت شيئا ما رأيته قطّ, فـالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى القوم, فقال: «هَلْ رأيْتُـمْ ما يقُولُ سَلْـمانُ؟» قَالُوا: نعم يا رسول الله, بأبـينا أنت وأمنا وقد رأيناك تضرب, فـيخرج بَرْق كالـموجِ, فرأيناك تكبّر فنكبر, ولا نرى شيئا غير ذلك, قال: «صَدَقْتُـمْ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِـي الأُولـى, فبَرَقَ الّذِي رأيتُـمْ, أضَاءَ لـي مِنْهُ قُصُورُ الْـحِيرَةِ وَمَدَائِنُ كسْرَى, كأنّها أنْـيابُ الكِلابِ, فأخْبَرَنِـي جَبْرَائِيـلُ عَلَـيْهِ السّلامُ أنّ أُمّتِـي ظاهِرَةٌ عَلَـيْها, ثُمّ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِـي الثّانِـيَةَ, فبَرَقَ الّذِي رأيْتُـمْ, أضَاءَ لـي مِنْهُ قُصُورُ الـحُمْرِ مِنْ أرْضِ الرّومِ, كأنّها أنْـيابُ الكِلابِ, وأخْبَرَنِـي جَبْرائِيـلُ عَلَـيْهِ السّلامُ أنّ أُمّتِـي ظاهِرَةٌ عَلَـيْها, ثُمّ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِـي الثّالِثَةَ, وَبَرَقَ مِنْها الّذِي رأيْتُـمْ, أضَاءَتْ لـي مِنْها قُصُورُ صَنْعاءَ, كأنّها أنْـيابُ الكِلابِ, وأخْبَرَنِـي جَبْرَائِيـلُ عَلَـيْهِ السّلامُ أنّ أُمّتِـي ظاهِرَةٌ عَلَـيْها, فأَبْشِرُوا, يُبَلّغْهُمُ النصْرُ, وأبْشِرُوا, يُبَلّغُهُمُ النّصْرُ, وأبْشِرُوا يُبَلّغُهُمُ النّصْرُ». فـاستبشر الـمسلـمون, وقالوا: الـحمد لله موعود صدق, بأن وعَدَنا النصر بعد الـحَصْر, فطَبّقت الأحزاب, فقال الـمسلـمون هَذا ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسولُهُ... الاَية, وقال الـمنافقون: ألا تعجبون.؟ يُحَدّثكم ويـمنـيكم ويَعِدكم البـاطل, يُخْبركم أنه يبصر من يثربَ قصور الـحِيرة ومدائن كسرى, وأنها تفتُـح لكم, وأنتـم تـحفرون الـخندق من الفَرَق, ولا تستطيعون أن تَبْرزُوا؟ وأُنزل القرآن: وَإذْ يَقُولُ الـمُنافِقُونَ وَالّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسُولُهُ إلاّ غُرُورا.

الآية : 13 -14
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذْ قَالَت طّآئِفَةٌ مّنْهُمْ يَأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النّبِيّ يَقُولُونَ إِنّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاّ فِرَاراً * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مّنْ أَقْطَارِهَا ثُمّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لاَتَوْهَا وَمَا تَلَبّثُواْ بِهَآ إِلاّ يَسِيراً }.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَإذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ وإذ قال بعضهم: يا أهل يثرب, ويثرب: اسم أرض, فـيقال: إن مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي ناحية من يثرب. وقوله: «لا مَقامَ لَكُمْ فـارْجِعُوا» بفتـح الـميـم من مقام. يقول: لا مكان لكم, تقومون فـيه, كما قال الشاعر:
فأيّـيّ ما وأَيّكَ كانَ شَرّافَقـيدَ إلـى الـمَقامَةِ لا يَرَاها
قوله فـارْجِعُوا يقول: فـارجعوا إلـى منازلكم أمرهم بـالهرب من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والفرار منه, وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقـيـل: إن ذلك من قـيـل أوس بن قـيظي ومن وافقه علـى رأيه. ذكر من قال ذلك:
21625ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي يزيد, بن رومان وَإذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أهْلَ يَثْرِبِ... إلـى فِرَارا يقول: أوس بن قـيظي, ومن كان علـى ذلك من رأيه من قومه. والقراءة علـى فتـح الـميـم من قوله: «لا مَقامَ لَكُمْ» بـمعنى: لا موضع قـيام لكم, وهي القراءة التـي لا أستـجيز القراءة بخلافها, لإجماع الـحجة من القرّاء علـيها. وذُكر عن أبـي عبد الرحمن السلـمي أنه قرأ ذلك: لا مُقامَ لَكُمْ بضم الـميـم, يعنـي: لا إقامة لكم.
وقوله: وَيَسْتأذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النّبِـيّ يَقُولُونَ إنّ بُـيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ يقول تعالـى ذكره: ويستأذن بعضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي الإذن بـالانصراف عنه إلـى منزله, ولكنه يريد الفرار والهرب من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21626ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَيَسْتأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النّبِـيّ... إلـى قوله إلاّ فِرَارا قال: هم بنو حارثة, قالوا: بـيوتنا مخـلـية نـخشى علـيها السرق.
21627ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: إنّ بُـيُوتَنا عَوْرَةٌ قال: نـخشى علـيها السرق.
21628ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَيَسْتأذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النّبِـيّ يَقُولُونَ إنّ بُـيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بعَوْرَةٍ وإنها مـما يـلـي العدوّ, وإنا نـخاف علـيها السرّاق, فبعث النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فلا يجد بها عدوّا, قال الله: إنْ يُرِيدُونَ إلاّ فِرَارا يقول: إنـما كان قولهم ذلك إنّ بُـيُوتَنا عَوْرَةٌ إنـما كان يريدون بذلك الفرار.
21629ـ حدثنا مـحمد بن سنان القزاز, قال: حدثنا عبـيد الله بن حمران, قال: حدثنا عبد السلام بن شدّاد أبو طالوت عن أبـيه فـي هذه الاَية إنّ بُـيُوتَنا عَوْرَةٌ, وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ قال: ضائعة.
وقوله: وَلَوْ دُخِـلَتْ عَلَـيْهِمْ مِنْ أقْطارِها يقول: ولو دخـلت الـمدينة علـى هؤلاء القائلـين إنّ بُـيُوتَنا عَوْرَةٌ من أقطارها, يعنـي: من جوانبها ونواحيها, واحدها: قطر, وفـيها لغة أخرى: قُتر, وأقتار ومنه قول الراجز:
إنْ شِئْتَ أنْ تدهن أو تـمرافَوَلّهِنّ قُتْرَكَ الأشَرّا
وقوله: ثُمّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ يقول: ثم سئلوا الرجوع من الإيـمان إلـى الشرك لاَتَوْها يقول: لفعلوا ورجعوا عن الإسلام وأشركوا. وقوله: وَما تَلَبّثُوا بها إلاّ يَسِيرا يقول: وما احتبسوا عن إجابتهم إلـى الشرك إلاّ يسيرا قلـيلاً, ولأسرعوا إلـى ذلك. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21630ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَلَوْ دُخِـلَتْ عَلَـيْهِمْ مِنْ أقْطارها أي لو دخـل علـيهم من نواحي الـمدينة ثُمّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ: أي الشرك لاَتَوْها يقول: لأعطوها, وَما تَلَبّثُوا بِها إلاّ يَسِيرا يقول: إلاّ أعطوه طيبة به أنفسهم ما يحتبسونه.
21631ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله وَلَوْ دُخِـلَتْ عَلَـيْهِمْ مِنْ أقْطارِها يقول: لو دخـلت الـمدينة علـيهم من نواحيها ثُمّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ لاَتَوْها سئلوا أن يكفروا لكفروا قال: وهؤلاء الـمنافقون لو دخـلت علـيهم الـجيوش, والذين يريدون قتالهم ثم سئلوا أن يكفروا لكفروا قال: والفتنة: الكفر, وهي التـي يقول الله الفِتْنَةُ أشَدّ مِنَ القَتْلِ أي الكفر يقول: يحملهم الـخوف منهم, وخبث الفتنة التـي هم علـيها من النفـاق علـى أن يكفروا به.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: لاَتَوْها فقرأ ذلك عامة قرّاء الـمدينة وبعض قرّاء مكة: «لاَءَتَوْها» بقصر الألف, بـمعنى جاءوها. وقرأه بعض الـمكيـين وعامة قرّاء الكوفة والبصرة: لاَتَوْها بـمدّ الألف, بـمعنى: لأعطوها, لقوله: ثم سئلوا الفتنة وقالوا: إذا كان سؤال كان إعطاء, والـمدّ أعجب القراءتـين إلـيّ لـما ذكرت, وإن كانت الأخرى جائزة.

الآية : 15
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلّونَ الأدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْئُولاً }.
يقول تعالـى ذكره: ولقد كان هؤلاء الذين يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي الانصراف عنه, ويقولون إن بـيوتنا عورة, عاهدوا الله من قبل ذلك, إن لا يولوا عدوّهم الأدبـار, إن لقولهم فـي مشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم معهم, فما أوفوا بعهدهم وكانَ عَهْد اللّهِ مَسْئُولاً يقول: فـيسأل الله ذلك من أعطاه إياه من نفسه. وذُكر أن ذلك نزل فـي بنـي حارثة لـما كان من فعلهم فـي الـخندق بعد الذي كان منهم بأُحد. ذكر من قال ذلك:
21632ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي يزيد بن رومان وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلّونَ الأَدْبـارَ, وكانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْئُولاً وهم بنو حارثة, وهم الذين همّوا أن يفشلوا يوم أُحد مع بنـي سلـمة حين همّا بـالفشل يوم أُحد, ثم عاهدوا الله لا يعودون لـمثلها, فذكر الله لهم الذي أعطوه من أنفسهم.
21633ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلّونَ الأدْبـارَ وكانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْئُولاً قال: كان ناس غابوا عن وقعة بدر, ورأوا ما أعطى الله أصحاب بدر من الكرامة والفضيـلة, فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلنّ, فساق الله ذلك إلـيهم حتـى كان فـي ناحية الـمدينة