تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 424 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 424

424- تفسير الصفحة رقم424 من المصحف
الآية: 44 {تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريم}
اختلف في الضمير الذي في "يلقونه" على من يعود، فقيل على الله تعالى، أي كان بالمؤمنين رحيما، فهو يؤمنهم من عذاب الله يوم القيامة. وفي ذلك اليوم يلقونه. و"تحيتهم" أي تحية بعضهم لبعض. "سلام" أي سلامة. ولكم من عذاب الله. وقيل: هذه التحية من الله تعالى، المعنى: فيسلمهم من الآفات، أو يبشرهم بالأمن من المخافات "يوم يلقونه" أي يوم القيامة بعد دخول الجنة. قال معناه الزجاج، واستشهد بقوله جل وعز: "وتحيتهم فيها سلام" [يونس: 10]. وقيل: "يوم يلقونه" أي يوم: يلقون ملك الموت، وقد ورد أنه لا يقبض روح مؤمن إلا سلم عليه. روي عن البراء بن عازب قال: "تحيتهم يوم يلقونه سلام" فيسلم ملك الموت على المؤمن عند قبض روحه، لا يقبض روحه حتى عليه.
الآية: 45 - 46 {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منير}
هذه الآية فيها تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وتكريم لجميعهم. وهذه الآية من أسمائه صلى الله عليه وسلم ست أسماء ولنبينا صلى الله عليه وسلم أسماء كثيرة وسمات جليلة، ورد ذكرها في الكتاب والسنة والكتب المتقدمة. وقد سماه الله في كتابه محمدا وأحمد. وقال صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه الثقات العدول: (لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب). وفي صحيح مسلم حديث جبير بن مطعم: وقد سماه الله "رؤوفا رحيما". وفيه أيضا عن أبي موسى الأشعري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء، فيقول: (أنا محمد وأحمد والمقفي والحاشر ونبي التوبة ونبي الرحمة). وقد تتبع القاضي أبو الفضل عياض في كتابه المسمى (بالشفا) ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسول صلى الله عليه وسلم ومما نقل في الكتب المتقدمة، وإطلاق الأمة أسماء كثيرة وصفات عديدة، قد صدقت عليه صلى الله عليه وسلم مسمياتها، ووجدت فيه معانيها. وقد ذكر القاضي أبو بكر بن العربي في أحكامه في هذه الآية من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم سبعة وستين أسما وذكر صاحب (وسيلة المتعبدين إلى متابعة سيد المرسلين) عن ابن عباس أن لمحمد صلى الله عليه وسلم مائة وثمانين آسما، من أرادها وجدها هناك. وقال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ومعاذا، فبعثهما إلى اليمن، وقال: (اذهبا فبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا فإنه قد أنزل عليّ) وقرأ هذه الآية.
قوله تعالى: "شاهدا" قال سعيد عن قتادة: "شاهدا" على أمته بالتبليغ إليهم، وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم، ونحو ذلك "ومبشرا" معناه للمؤمنين برحمة الله وبالجنة "ونذيرا" معناه للعصاة والمكذبين من النار وعذاب الخلد."وداعيا إلى الله" الدعاء إلى الله هو تبليغ التوحيد والأخذ به، ومكافحة الكفرة. "بإذنه" هنا معناه: بأمره إياك، وتقديره ذلك في وقته وأوانه. "وسراجا منيرا" هنا استعارة للنور الذي يتضمنه شرعه. وقيل: "وسراجا" أي هاديا من ظلم الضلالة، وأنت كالمصباح المضيء. ووصفه بالإنارة لأن من السرج ما لا يضيء، إذا قل سليطه ودقت فتيلته. وفي كلام بعضهم: عن الموحشين. رسول بطيء، وسراج لا يضيء، ومائدة ينتظر لها من يجيء. وسئل بعضهم عن الموحشين فقال: ظلام ساتر وسراج فاتر، وأسند النحاس قال: حدثنا محمد بن إبراهيم الرازي قال حدثنا عبدالرحمن بن صالح الأزدي قال حدثنا عبدالرحمن، بن محمد المحاربي عن شيبان النحوي قال حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا. وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا" دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ومعاذا فقال: (انطلقا فبشرا ولا تعسرا فإنه قد نزل عليّ الليلة آية "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا. ومبشرا ونذيرا - من النار - وداعيا إلى الله - قال - شهادة أن لا إله إلا الله - بإذنه - بأمره - وسراجا منيرا - قال - بالقرآن". وقال الزجاج: "وسراجا" أي وذا سراج منير، أي كتاب نير. وأجاز أيضا أن يكون بمعنى: وتاليا كتاب الله.
الآية: 47 - 48 {وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا، ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيل}
قوله تعالى: "وبشر المؤمنين" الواو عاطفة جملة على جملة، والمعنى منقطع من الذي قبله. أمره تعالى أن يبشر المؤمنين بالفضل الكبير من الله تعالى. وعلى قول الزجاج: ذا سراج منير، أو وتاليا سراجا منيرا، يكون معطوفا على الكاف لا في "أرسلناك". قال ابن عطية: قال لنا أبي رضي الله عنه: هذه من أرجى آية عندي في كتاب الله تعالى، لأن الله عز وجل قد أمر نبيه أن يبشر المؤمنين بأن لهم عنده فضلا كبيرا، وقد بين تعالى الفضل الكبير في قوله تعالى: "والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير" [الشورى: 22]. فالآية التي في هذه السورة خبر، والتي في حم. عسق" تفسير لها. "ولا تطع الكافرين والمنافقين" أي لا تطعهم فيما يشيرون عليك من المداهنة في الدين ولا تمالئهم. "الكافرين": أبي سفيان وعكرمة وأبي الأعور السلمي، قالوا: يا محمد، لا تذكر آلهتنا بسوء نتبعك. "والمنافقين": عبدالله بن أبي وعبدالله بن سعد وطعمة بن أبيرق، حثوا النبي صلى الله عليه وسلم على إجابتهم بتعلة المصلحة. "ودع أذاهم" أي دع أن تؤذيهم مجازاة على إذايتهم إياك. فأمره تبارك وتعالى بترك معاقبتهم، والصفح عن زللهم؛ فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول. ونسخ من الآية على هذا التأويل ما يخص الكافرين، وناسخه آية السيف. وفيه معنى ثان: أي أعرض عن أقوالهم وما يؤذونك، ولا تشتغل به، فالمصدر على هذا التأويل مضاف إلى الفاعل. وهذا تأويل مجاهد، والآية منسوخة بآية السيف. "وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا" أمره بالتوكل عليه وآنسه بقوله "وكفى بالله وكيلا" وفي قوة الكلام وعد بنصر. والوكيل: الحافظ القاسم على الأمر.
الآية: 49 {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميل}
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن" لما جرت قصة زيد وتطليقه زينب، وكانت مدخولا بها، وخطبها النبي صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء عدتها - كما بيناه - خاطب الله المؤمنين بحكم الزوجة تطلق قبل البناء، وبين ذلك الحكم للأمة، فالمطلقة إذا لم تكن ممسوسة لا عدة عليها بنص الكتاب وإجماع الأمة على ذلك. فإن دخل بها فعليها العدة إجماعا.
النكاح حقيقة في الوطء، وتسمية العقد نكاحا لملابسته له من حيث إنه طريق إليه. ونظيره تسميتهم الخمر إثما لأنه سبب في اقتراف الإثم. ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد، لأنه في معنى الوطء، وهو من آداب القرآن، الكناية عنه بلفظ: الملامسة والمماسة والقربان والتغشي والإتيان.
استدل بعض العلماء بقوله تعالى: "ثم طلقتموهن" وبمهلة "ثم" على أن الطلاق لا يكون إلا بعد نكاح وأن من طلق المرأة قبل نكاحها وإن عينها، فإن ذلك لا يلزمه. وقال هذا نيف على ثلاثين من صاحب وتابع وإمام. سمى البخاري منهم اثنين وعشرين. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا طلاق قبل نكاح) ومعناه: أن الطلاق لا يقع حتى يحصل النكاح. قال حبيب بن أبي ثابت: سئل علي بن الحسين رضي الله عنهما عن رجل قال لامرأة: إن تزوجتك فأنت طالق؟ فقال: ليس بشيء، ذكر الله عز وجل النكاح قبل الطلاق. وقالت طائفة من أهل العلم: إن طلاق المعينة الشخص أو القبيلة أو البلد لازم قبل النكاح، منهم مالك وجميع أصحابه، وجمع عظيم من علماء الأمة. وقد مضى في "التوبة" الكلام فيها ودليل الفريقين. والحمد لله. فإذا قال: كل امرأة أتزوجها طالق وكل عبد أشتريه حر، لم يلزمه شيء. وإن قال كل امرأة أتزوجها إلى عشرين سنة، أو إن تزوجت من بلد فلان أو من بني فلان فهي طالق، لزمه الطلاق ما لم يخف العنت على نفسه في طول السنين، أو يكون عمره في الغالب لا يبلغ ذلك، فله أن يتزوج. وإنما لم يلزمه الطلاق إذا عمم لأنه ضيق على نفسه المناكح، فلو منعناه ألا يتزوج لحرج وخيف عليه العنت. وقد قال بعض أصحابنا: إنه إن وجد ما يتسرر به لم ينكح، وليس بشيء وذلك أن الضرورات والأعذار ترفع الأحكام، فيصير هذا من حيث الضرورة كمن لم يحلف، قاله ابن خويز منداد.
استدل داود - ومن قال بقوله - إن المطلقة الرجعية إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها ثم فارقها قبل أن يمسها، أنه ليس عليها أن تتم عدتها ولا عدة مستقبلة، لأنها مطلقة قبل الدخول بها. وقال عطاء بن أبي رباح وفرقة: تمضى في عدتها من طلاقها الأول - وهو أحد قولي، الشافعي - ؛ لأن طلاقه لها إذا لم يمسها في حكم من طلقها في عدتها قبل أن يراجعها. ومن طلق، امرأته في كل طهر مره بنت ولم تستأنف. وقال مالك: إذا فارقها قبل أن يمسها إنها لا تبني على ما مضى من عدتها، وإنها تنشئ من يوم طلقها عدة مستقبلة. وقد ظلم زوجها نفسه وأخطأ إن كان أرتجعها ولا حاجة له بها. وعلى هذا أكثر أهل العلم، لأنها في حكم الزوجات المدخول بهن في النفقة والسكنى وغير ذلك، ولذلك تستأنف العدة من يوم طلقت، وهو قول جمهور فقهاء البصرة والكوفة ومكة والمدينة والشام. وقال الثوري: أجمع الفقهاء عندنا على ذلك.
فلو كانت بائنة غير مبتوتة فتزوجها في العدة ثم طلقها قبل الدخول فقد اختلفوا في ذلك أيضا، فقال مالك والشافعي وزفر وعثمان البتي: لها نصف الصداق وتتم بقية العدة الأولى. وهو قول الحسن وعطاء وعكرمة وابن شهاب. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والثوري والأوزاعي،: لها مهر كامل للنكاح الثاني وعدة مستقبلة. جعلوها في حكم المدخول بها لاعتدادها من مائه. وقال داود: لها نصف الصداق، وليس عليها بقية العدة الأولى ولا عدة مستقبلة. (والأولى ما قاله مالك والشافعي، والله أعلم.
هذه الآية مخصصة لقوله تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" [البقرة: 228]، ولقوله: "واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر" [الطلاق: 4]. وقد مضى في "البقرة"، ومضى فيها الكلام في المتعة، فأغنى عن الإعادة هنا. "وسرحوهن سراحا جميلا" فيه وجهان: أحدهما: أنه دفع المتعة بحسب الميسرة والعسرة، قال ابن عباس. الثاني: أنه طلاقها طاهرا من غير جماع، قال قتادة وقيل: فسرحوهن بعد الطلاق إلى أهلهن، فلا يجتمع الرجل والمطلقة في موضع واحد.
قوله تعالى: "فمتعوهن" قال سعيد: هي منسوخة بالآية التي في البقرة، وهي قوله: "وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم" [البقرة: 237] أي فلم يذكر المتعة. وقد مضى الكلام فيه. وقوله "وسرحوهن" طلقوهن. والتسريح كناية عن الطلاق عند أبي حنيفة، لأنه يستعمل في غيره فيحتاج إلى النية. وعند الشافعي صريح. "جميلا" سنة، غير بدعة.
الآية: 50 {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيم}
روى السدي عن أبي صالح عن أم هانئ بنت أبى طالب قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني، ثم أنزل الله تعالى: "إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك" قالت: فلم أكن أحل له؛ لأني لم أهاجر، كنت من الطلقاء. خرجه أبو عيسى وقال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قال ابن العربي: وهو ضعيف جدا ولم يأت هذا الحديث من طريق صحيح يحتج بها.
لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترنه، حرم عليه التزوج بغيرهن والاستبدال بهن، مكافأة لهن على فعلهن. والدليل على ذلك قوله تعالى: "لا يحل لك النساء من بعد" الآية. وهل كان يحل له أن يطلق واحدة منهن بعه ذلك؟ فقيل: لا يحل له ذلك عزاء لهن على اختيارهن له. وقيل: كان يحل له ذلك كغيره من النساء ولكن لا يتزوج بدلها. ثم نسخ هذا التحريم فأباح له أن يتزوج بمن شاء عليهن من النساء، والدليل عليه قوله تعالى: "إنا أحللنا لك أزواجك" والإحلال يقتضي تقدم حظر. وزوجاته اللاتي في حياته لم يكن محرمات عليه، وإنما كان حرم عليه التزويج بالأجنبيات فانصرف الإحلال إليهن، ولأنه. قال في سياق الآية "وبنات عمك وبتات عماتك" الآية. ومعلوم أنه لم يكن تحته أحد من بنات عمه ولا من بنات عماته ولا من بنات خاله ولا من بنات خالاته، فثبت أنه أحل له التزويج بهذا ابتداء. وهذه الآية وإن كانت مقدمة في التلاوة فهي متأخرة النزول على الآية المنسوخة بها، كآيتي الوفاة في "البقرة".
وقد اختلف الناس في تأويل قوله تعالى:"إنا أحللنا لك أزواجك" فقيل: المراد بها أن الله تعالى أحل له أن يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها، قال ابن زيد والضحاك. فعلى هذا تكون الآية مبيحة جميع النساء حاشا ذوات المحارم. وقيل: المراد أحللنا لك أزواجك، أي الكائنات عندك، لأنهن قد اخترتك على الدنيا والآخرة، قال الجمهور من العلماء. وهو الظاهر، لأن قوله: "آتيت أجورهن" ماض، ولا يكون الفعل الماضي بمعنى الاستقبال إلا بشروط. ومجيء الأم على هذا التأويل ضيقا على النبي صلى الله عليه وسلم. ويؤيد هذا التأويل ما قاله ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج في أي الناس شاء، وكان يشق ذلك على نسائه، فلما نزلت. هذه الآية وحرم عليه بها النساء إلا من سمى، سر نساؤه بذلك.
قلت: والقول الأول أصح لما ذكرناه ويدل أيضا على صحته ما خرجه الترمذي عن عطاء قال قالت عائشة رضي الله عنها: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله تعالى له النساء. قال: هذا حديث حسن صحيح.
قوله تعالى: "وما ملكت يمينك" أحل الله تعالى السراري لنبيه صلى الله عليه وسلم ولأمته مطلقا، وأحل الأزواج لنبيه عليه الصلاة والسلام مطلقا، وأحله للخلق بعدد. "مما أفاء الله عليك" أي رده عليك من الكفار. والغنيمة قد تسمى فيئا، أي مما أفاء الله عليك من النساء بالمأخوذ على وجه القهر والغلبة.
قوله تعالى: "وبنات عمك وبنات عماتك" أي أحللنا لك ذلك زائدا من الأزواج اللاتي أتيت أجورهن وما ملكت يمينك، على قول الجمهور، لأنه لو أراد أحللنا لك كل امرأة تزوجت وأتيت أجرها، لما قال بعد ذلك: "وبنات عمك وبنات عماتك" لأن ذلك داخل فيما تقدم.
قلت: وهذا لا يلزم، وإنما خص هؤلاء بالذكر تشريفا، كما قال تعالى: "فيهما فاكهة ونخل ورمان" [الرحمن: 68]. والله أعلم.
قوله تعالى: "اللاتي هاجرن معك" فيه قولان: الأول: لا يحل لك من قرابتك كبنات عمك العباس وغيره من أولاد عبدالمطلب، وبنات أولاد بنات عبدالمطلب، وبنات الخال من ولد بنات عبد مناف بن زهرة إلا من أسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله تعالى عنه). الثاني: لا يحل لك منهن إلا من هاجر إلى المدينة، لقوله تعالى. "والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء. حتى يهاجروا" ومن لم يهاجر لم يكمل، ومن لم يكمل لم يصلح للنبي صلى الله عليه وسلم الذي كمل وشرف وعظم، صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى "معك" المعية هنا الاشتراك في الهجرة لا في الصحة فيها، ومن هاجر حل له، كان في صحبته إذ هاجر أو لم يكن. يقال: دخل فلان معي وخرج معي، أي كان عمله كعملي لأن لم يقترن فيه عملكما. ولو قلت: خرجنا معا لاقتضى ذلك المعنيين جميعا: الاشتراك في الفعل، والاقتران فيه.
ذكر الله تبارك وتعالى العم فردا والعمات جحه. وكذلك قال: "خالك"، "وخالاتك" والحكمة في ذلك: أن العم والخال في الإطلاق اسم جنس كالشاعر والراجز، وليس كذلك العمة والخالة. وهذا عرف لغوي، فجاء الكلام عليه بغاية البيان لرفع الإشكال، وهذا دقيق فتأملوه، قاله ابن العربي.
قوله تعالى: "وامرأة مؤمنة" عطف على "أحللنا" المعنى وأحللنا كل امرأة تهب نفسها من غير صداق. وقد اختلف في هذا المعنى، فروي عن ابن عباس أنه قال: لم تكن. عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين. فأما الهبة فلم يكن عنده منهن أحد. وقال قوم: كانت عنده موهوبة.
قلت: والذي في الصحيحين يقوي هذا القول ويعضده، روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أما تستحي امرأة تهب نفسها لرجل! حتى أنزل الله تعالى "ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء" [الأحزاب: 51] فقلت: والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. وروى البخاري عن عائشة أنها قالت: كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدل هذا على أنهن كن غير واحدة. والله تعالى أعلم. الزمخشري: وقيل الموهبات أربع: ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية، وأم شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم.
قلت: وفي بعض هذا اختلاف. قال قتادة: هي ميمونة بنت الحارث. وقال الشعبي: هي زينب بنت خزيمة أم المساكين امرأة من الأنصار. وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل: هي أم شريك بنت جابر الأسدية. وقال عروة. بن الزبير: أم حكيم بنت الأوقص السلمية.
وقد اختلف في اسم الواهبة نفسها، فقيل هي أم شريك الأنصارية، اسمها غزية. وقيل غزيلة. وقيل ليلى بنت حكيم. وقيل: هي ميمونة بنت الحارث حين خطبها النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءها الخاطب وهي على بعيرها فقالت: البعير وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: هي أم شريك العامرية، وكانت عند أبي العكر الأزدي. وقيل عند. الطفيل بن الحارث فولدت له شريكا. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها، ولم يثبت ذلك. والله تعالى أعلم، ذكره أبو عمر بن عبدالبر. وقال الشعبي وعروة: وهي زينب بنت خزيمة أم المساكين. والله تعالى أعلم.
قرأ جمهور الناس "إن وهبت" بكسر الألف، وهذا يقتضي استئناف الأمر، أي إن وقع فهو حلال له. وقد روي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا: لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة موهوبة، وقد دللنا على خلافه. وروى الأئمة من طريق سهل وغيره في الصحاح: أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت أهب لك نفسي، فسكت حتى قام رجل فقال: زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة. فلو كانت هذه الهبة غير جائزة لما سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يقر على الباطل إذا سمعه، أنه يحتمل أن يكون سكوته منتظرا بيانا، فنزلت الآية. بالتحليل والتخيير، فاختار تركها وزوجها من غيره. ويحتمل أن يكون سكت ناظرا في ذلك حتى قام الرجل لها طالبا. وقرأ الحسن البصري وأبى بن كعب والشعبي "أن" يفتح الألف. وقرأ الأعمش "وامرأة مؤمنة وهبت". قال النحاس: وكسر "إن" أجمع للمعاني، لأنه قيل إنهن نساء. وإذا فتح كان المعنى. على واحدة بعينها، لأن الفتح على البدل من امرأة، أو بمعنى لأن.
قوله تعالى: "مؤمنة" يدل على أن الكافرة لا تحل له. قال إمام الحرمين: وقد اختلف في تحريم الحرة الكافرة عليه. قال ابن العربي: والصحيح عندي تحريمها عليه. وبهذا يتميز علينا، فإنه ما كان من جانب الفضائل والكرامة فحظه فيه أكثر، وما كان جانب النقائص فجانبه عنها أطهر؛ فجوز لنا نكاح الحرائر الكتابيات، وقصر هو صلى الله عليه وسلم لجلالته على المؤمنات. وبهذا كان لا يحل له من لم تهاجر لنقصان فضل الهجرة فأحرى ألا تحل له الكافرة الكتابية لنقصان الكفر.
و "إن وهبت نفسها" دليل على أن النكاح عقد معاوضة على صفات مخصوصة، قد تقدمت في "النساء" وغيرها. وقال الزجاج: معنى "إن وهبت نفسها للنبي" حلت. وقرأ الحسن: "إن وهبت" بفتح الهمزة. و"أن" في موضع نصب. قال الزجاج: أي لأن. وقال غيره: "إن وهبت" بدل اشتمال من "امرأة".
قوله تعالى: "إن أراد النبي أن يستنكحها" أي إذا وهبت المرأة نفسها وقبلها النبي صلى الله عليه وسلم حلت له، وإن لم يقبلها لم يلزم ذلك. كما إذا وهبت لرجل، شيئا فلا يجب عليه القبول، بد أن من مكارم أخلاق نبينا أن يقبل من الواهب هبته. ويرى الأكارم أن ردها هجنة في العادة، ووصمة على الواهب وأذية لقلبه، فبين الله ذلك في حق رسول صلى الله عليه وسلم وجعله قرآنا يتلى، ليرفع عنه الحرج، ومبطل بطل الناس في عادتهم وقولهم.
قوله تعالى "خالصة لك" أي هبة النساء أنفسهن خالصة ومزية لا تجوز، فلا يجوز أن تهب المرأة نفسها لرجل. ووجه الخاصية أنها لو طلبت فرض المهر قبل الدخول لم يكن لها ذلك. فأما فيما بيننا فللمفوضة طلب المهر قبل الدخول، ومهر المثل بعد الدخول.
أجمع العلماء على أن هبة المرأة نفسها غير جائز، وأن هذا اللفظ من الهبة لا يتم عليه نكاح، إلا ما روي عن أبي حنيفة وصاحبيه فإنهم قالوا: إذا وهبت فأشهد هو على، نفسه بمهر فذلك جائز. قال ابن عطية: فليس في قولهم إلا تجويز العبارة ولفظة الهبة، وإلا فالأفعال التي أشترطوها هي أفعال النكاح بعينه، وقد تقدمت هذه المسألة في "القصص" مستوفاة. والحمد لله.
خص الله تعالى رسوله في أحكام الشريعة بمعان لم يشاركه فيها أحد - في باب الفرض والتحريم والتحليل - مزية على الأمة وهبت له، ومرتبة خص بها، ففرضت عليه أشياء ما فرضت على غيره، وحرمت عليه أفعال لم تحرم عليهم، وحللت له. أشياء لم تحلل لهم، منها متفق عليه ومختلف فيه.
فأما ما فرض عليه فتسعة: الأول - التهجد بالليل، يقال: إن قيام الليل كان واجبا عليه إلى أن مات، لقوله تعالى: "يا أيها المزمل قم الليل" [المزمل: 1 - 2] الآية. والمنصوص أنه كان، واجبا عليه ثم نسخ بقوله تعالى: "ومن الليل فتهجد به نافلة لك" [الإسراء: 79] وسيأتي. الثاني: الضحى. الثالث: الأضحى. الرابع: الوتر، وهو يدخل في قسم التهجد. الخامس: السواك. السادس: قضاء دين من مات معسرا. السابع: مشاورة ذوي الأحلام في غير الشرائع. الثامن: تخير النساء. التاسع: إذا عمل عملا أثبته. زاد غيره: وكان يجب عليه إذا رأى منكرا أنكره وأظهره، لأن إقراره لغيره على ذلك يدل على جوازه، ذكره صاحب البيان.
وأما ما حرم عليه فجملته عشرة: الأول: تحريم الزكاة عليه وعلى آله. الثاني: صدقة التطوع عليه، وفي آله تفصيل باختلاف. الثالث: خائنة الأعين، وهو أن يظهر خلاف ما يضمر، أو ينخدع عما يجب. وقد ذم بعض الكفار عند إذنه ثم ألان له القول عند دخول. الرابع: حرم الله عليه إذا ليس بأمته أن يخلعها عنه أو يحكم الله بينه وبين محاربه. الخامس: الأكل متكئا. السادس: أكل الأطعمة الكريهة الرائحة. السابع: التبدل بأزواجه، وسيأتي. الثامن: نكاح امرأة تكره صحبته. التاسع: نكاح الحرة الكتابية. العاشر: نكاح الأمة.
وحرم الله عليه أشياء لم يحرمها غيره تنزيها له وتطهيرا. فحرم الله عليه الكتابة وقول الشعر وتعليمه، تأكيدا لحجته وبيانا لمعجزته قال الله تعالى: "وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك" [العنكبوت: 48]. وذكر النقاش أن النبي صلى الله عليه وسلم ما مات حتى كتب، والأول هو المشهور. وحرم عليه أن يمد عينيه إلى ما متع به الناس، قال الله تعالى: "لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم" [الحجر: 88] الآية.
وأما ما أحل له صلى الله عليه وسلم فجملته ستة عشر: الأول: صفي المغنم. الثاني: الاستبداد بخمس الخمس أو الخمس. الثالث: الوصال. الرابع: الزيادة على أربع نسوة. الخامس: النكاح بلفظ الهبة. السادس: النكاح بغير ولي. السابع: النكاح بغير صداق. الثامن: نكاحه في حالة الإحرام. التاسع: سقوط القسم بين الأزواج عنه، وسيأتي. العاشر: إذا وقع بصره على امرأة وجب على زوجها طلاقها، وحل له نكاحها. قال ابن العربي: هكذا قال إمام الحرمين، وقد مضى ما للعلماء في قصة زيد من هذا المعنى. الحادي عشر: أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها. الثاني عشر: دخول مكة بغير إحرام، وفي حقنا فيه اختلاف. الثالث عشر: القتال بمكة. الرابع عشر: أنه لا يورث. وإنما ذكر هذا في قسم التحليل لأن الرجل إذا قال الموت بالمرض زال عنه أكثر ملكه، ولم يبق له إلا الثلث خالصا، وبقي ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما تقرر بيانه في آية المواريث، وسورة "مريم" بيانه أيضا.
بقاء زوجيته من بعد الموت. السادس عشر: إذا طلق امرأة تبقى حرمته عليها فلا تنكح. وهذه الأقسام الثلاثة تقدم مفصلا في مواضعها. وسيأتي إن شاء الله تعالى. وأبيح له عليه الصلاة والسلام أخذ الطعام، والشراب من الجائع والعطشان، وإن كان من هو معه يخاف على نفسه الهلاك، لقوله تعالى: "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم" [الأحزاب: 6]. وعلى كل أحد من المسلمين أن يقي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه. وأبيح له أن يحمي لنفسه. وأكرمه الله بتحليل الغنائم. وجعلت الأرض له ولأمته. مسجدا وطهورا. وكان من الأنبياء من لا تصح صلاتهم إلا في المساجد. ونصر بالرعب، فكان يخافه العدو من مسيرة شهر. وبعث إلى كافة الخلق، وقد كان من قبله من الأنبياء يبعث. الواحد إلى بعض الناس دون بعض. وجعلت معجزاته. كمعجزات الأنبياء قبله وزيادة. وكانت معجزة موسى عليه السلام العصا وانفجار الماء من الصخرة وقد أنشق القمر للنبي صلى الله عليه وسلم وخرج الماء من أبين أصابعه صلى الله عليه وسلم وكانت معجزة عيسى صلى الله عليه وسلم الله إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. وقد سبح الحصى في يد النبي صلى الله عليه وسلم، وحن الجذع إليه، وهذا أبلغ. وفضله الله عليهم بأن جعل القرآن معجزة له، وجعل معجزته فيه باقية إلى يوم القيامة، ولهذا جعلت نبوته مؤبدة لا تنسخ إلى يوم القيامة.
قوله تعالى "من دون المؤمنين" فائدته أن الكفار وإن كانوا مخاطبين بفروع الشريعة عندنا فليس لهم في ذلك دخول لأن تصريف الأحكام إنما يكون فيهم على تقدير الإسلام.
قوله تعالى: "أن يستنكحها" أي ينكحها، يقال: نكح واستنكح، مثل عجب واستعجب، وعجل واستعجل. ويجوز أن يرد الاستنكاح بمعنى طلب النكاح، أو طلب الوطء. و"خالصة" نصب على الحال، قال الزجاج. وقيل: حال من ضمير متصل بفعل مضمر دل عليه المضمر، تقديره: أحللنا لك أزواجك، وأحللنا لك امرأة مؤمنة أحللناها خالصة، بلفظ الهبة وبغير صداق وبغير ولي.
قوله تعالى: "من دون المؤمنين" فائدته أن الكفار وإن كانوا مخاطبين بفروع الشريعة عندنا فليس لهم في ذلك دخول، لأن تصريف الأحكام إنما يكون فيهم على تقدير الإسلام. أي ما أوجبنا على المؤمنين، وهو ألا يتزوجوا إلا أربع نسوة بمهر وبينة وولي. قال معناه أبي بن كعب وقتاه وغيرهما.
قوله تعالى: "لكيلا يكون عليك حرج" أي ضيق في أمر أنت فيه محتاج إلى السعة، أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح "لكيلا يكون عليك حرج". فـ "لكيلا" متعلق بقوله: "إنا أحللنا أزواجك" أي فلا يضيق قلبك حتى يظهر منك أنك قد أثمت عند ربك، في شيء. "وكان الله غفورا رحيما" ثم آنس تعالى جميع المؤمنين بغفرانه ورحمته فقال تعالى: "وكان الله غفورا رحيما".