سورة الأحزاب | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 424 من المصحف
** يَأَيّهَا النّبِيّ إِنّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مّنِيراً * وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنّ لَهُمْ مّنَ اللّهِ فَضْلاً كِبِيراً * وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكّـلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَىَ بِاللّهِ وَكِـيلاً
قال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود, حدثنا فليح بن سليمان, حدثنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما, فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة, قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذير} وحرزاً للأميين, أنت عبدي ورسولي, سميتك المتوكل, لست بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق, ولا يدفع السيئة بالسيئة, ولكن يعفو ويصفح ويغفر, ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملّة العوجاء, بأن يقولوا لا إله إلا الله, فيفتح بها أعيناً عمياً, وآذاناً صماً, وقلوباً غلفاً, وقد رواه البخاري في البيوع عن محمد بن سنان عن فليح بن سليمان عن هلال بن علي به. ورواه في التفسير عن عبد الله,قيل ابن رجاء, وقيل ابن صالح,عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو به. ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن عبد الله بن رجاء عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون به.
وقال البخاري في البيوع: وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه, وقال وهب بن منبه: إِن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له شعياء: أن قم في قومك بني إسرائيل فإني منطق لسانك بوحي وأبعث أمياً من الأميين, أبعثه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق, لو يمر إلى جنب سراج لم يطفئه من سكينته, ولو يمشي على القصب لم يسمع من تحت قدميه, أبعثه مبشراً ونذيراً لا يقول الخنا, أفتح به أعيناً كمهاً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً, أسدده لكل أمر جميل وأهب له كل خلق كريم, وأجعل السكينة لباسه, والبر شعاره, والتقوى ضميره, والحكمة منطقه, والصدق والوفاء طبيعته, والعفو والمعروف خلقه, والحق شريعته, والعدل سيرته والهدى إمامه, والإسلام ملته, وأحمد اسمه أهدي به بعد الضلال, وأعلم به بعد الجهالة, وأرفع به بعد الخمالة, وأعرف به بعد النكرة, وأكثر به بعد القلة, وأغني به بعد العيلة, وأجمع به بعد الفرقة, وأؤلف به بين أمم متفرقة وقلوب مختلفة, وأهواء متشتتة, وأستنقذ به فئاماً من الناس عظيمة من الهلكة, وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر, موحدين مؤمنين مخلصين مصدقين لما جاءت به رسلي, ألهمهم التسبيح والتحميد, والثناء والتكبير والتوحيد, في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومنقلبهم ومثواهم يصلون لي قياناً وقعوداً ويقاتلون في سبيل الله صفوفاً وزحوفاً, ويخرجون من ديارهم ابتغاء مرضاتي ألوفاً, يطهرون الوجوه والأطراف ويشدون الثياب في الأنصاف, قربانهم دماؤهم, وأناجيلهم في صدورهم, رهبان بالليل ليوث بالنهار, وأجعل في أهل بيته, وذريته السابقين والصديقين والشهداء والصالحين, أمته من بعده يهدون بالحق وبه يعدلون, وأعز من نصرهم وأؤيد من دعا لهم, وأجعل دائرة السوء على من خالفهم, أو بغى عليهم أو أراد أن ينتزع شيئاً مما في أيديهم, أجعلهم ورثة لنبيهم, والداعية إلى ربهم, يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويوفون بعهدهم أختم بهم الخير الذي بدأته بأولهم, ذلك فضلي أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم. هكذا رواه ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه اليماني رحمه الله.
ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الرحمن بن صالح, حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي عن شيبان النحوي, أخبرني قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذير} وقد كان أمر علياً ومعاذاً رضي الله عنهما أن يسيرا إلى اليمن فقال «انطلقا فبشرا ولا تنفرا, ويسرا ولا تعسرا, إنه قد أنزل علي {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذير}» ورواه الطبراني عن محمد بن نصر بن حميد البزاز البغدادي, عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي, عن عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي بإسناده مثله, وقال في آخره «فإنه قد أنزل علي يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً على أمتك ومبشراً بالجنة ونذيراً من النار وداعياً إلى شهادة أن لا إله إلا الله بإذنه وسراجاً منيراً بالقرآن». فقوله تعالى: {شاهد} أي لله بالوحدانية, وأنه لا إله غيره وعلى الناس بأعمالهم يوم القيامة وجئنا بك على هؤلاء شهيداً كقوله: {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيد}. وقوله عز وجل: {ومبشراً ونذير} أي بشيراً للمؤمنين بجزيل الثواب, ونذيراً للكافرين من وبيل العقاب. وقوله جلت عظمته: {وداعياً إلى الله بإذنه} أي داعياً للخلق إلى عبادة ربهم عن أمره لك بذلك {وسراجاً منير} أي وأمرك ظاهر فيما جئت به من الحق كالشمس في إشرافها وإضاءتها لا يجحدها إلا معاند. وقوله جل وعلا {ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم} أي لا تطعهم وتسمع منهم في الذي يقولونه {ودع أذاهم} أي اصفح وتجاوز عنهم, وكل أمرهم إلى الله تعالى, فإن فيه كفاية لهم, ولهذا قال جل جلاله: {وتوكل على الله وكفى بالله وكيل}.
** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسّوهُنّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنّ مِنْ عِدّةٍ تَعْتَدّونَهَا فَمَتّعُوهُنّ وَسَرّحُوهُنّ سَرَاحاً جَمِيلاً
هذه الاَية الكريمة فيها أحكام كثيرة منها إطلاق النكاح على العقد وحده, وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منها, وقد اختلفوا في النكاح: هل هو حقيقة في العقد وحده أو في الوطء أو فيهما ؟ على ثلاثة أقوال, واستعمال القرآن إنما هو في العقد والوطء بعده إلا في هذه الاَية, فإنه استعمل في العقد وحده لقوله تبارك وتعالى: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها.
وقوله تعالى: {المؤمنات} خرج مخرج الغالب إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك بالاتفاق, وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن المسيب والحسن البصري وعلي بن الحسين زين العابدين وجماعة من السلف بهذه الاَية على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح, لأن الله تعالى قال: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} فعقب النكاح بالطلاق, فدل على أنه لا يصح ولا يقع قبله, وهذا مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وطائفة كثيرة من السلف والخلف رحمهم الله تعالى, وذهب مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى إلى صحة الطلاق قبل النكاح فيما إذا قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق, فعندهما متى تزوجها طلقت منه, واختلفا فيما إذا قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق فقال مالك: لا تطلق حتى يعين المرأة. وقال أبو حنيفة رحمه الله: كل امرأة يتزوجها بعد هذا الكلام تطلق منه, فأما الجمهور فاحتجوا على عدم وقوع الطلاق بهذه الاَية.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور المروزي, حدثنا النضر بن شميل, حدثنا يونس يعني ابن أبي إسحاق, قال: سمعت آدم مولى خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق, قال: ليس بشيء من أجل أن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} الاَية وحدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي, حدثنا وكيع عن مطر عن الحسن بن مسلم بن يناق عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما قال الله عز وجل: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} ألا ترى أن الطلاق بعد النكاح, وهكذا روى محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال الله تعالى: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} فلا طلاق قبل النكاح. وقد ورد الحديث بذلك عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه. وقال الترمذي. هذا حديث حسن, وهو أحسن شيء روي في هذا الباب, وهكذا روى ابن ماجه عن علي والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا طلاق قبل نكاحٍ».
وقوله عز وجل: {فما لكم عليهمن من عدة تعتدونه} هذا أمر مجمع عليه بين العلماء, أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها لا عدة عليها, فتذهب فتتزوج في فورها من شاءت, ولا يستثنى من هذا إلا المتوفى عنها زوجها, فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشراً, وإن لم يكن دخل بها بالإجماع أيضاً. وقوله تعالى: {فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جيمل} المتعة ههنا أعم من أن تكون نصف الصداق المسمى أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمي لها. قال الله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} وقال عز وجل {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين} وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد وأبي أسيد رضي الله عنهما قالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أميمة بنت شراحيل, فلما أن دخلت عليه صلى الله عليه وسلم بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقيين, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن كان سمى لها صداقاً فليس لها إلا النصف, وإن لم يكن سمى لها صداقاً أمتعها على قدر عسره ويسره, وهو السراح الجميل.
** يَأَيّهَا النّبِيّ إِنّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاّتِيَ آتَيْتَ أُجُورَهُنّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّآ أَفَآءَ اللّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمّكَ وَبَنَاتِ عَمّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنّبِيّ إِنْ أَرَادَ النّبِيّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِيَ أَزْوَاجِهِـمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً
يقول تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه قد أحل له من النساء أزواجه اللاتي أعطاهن مهورهن وهي الأجور ههنا, كما قاله مجاهد وغير واحد. وقد كان مهره لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونشاً وهو نصف أوقية, فالجميع خمسمائة درهم إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان, فإنه أمهرها عنه النجاشي رحمه الله تعالى أربعمائة دينار وإلا صفية بنت حيي فإنه اصطفاها من سبي خيبر, ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها, كذلك جويرية بنت الحارث المصطلقية أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شماس وتزوجها ـ رضي الله عنهن أجمعين ـ.
وقوله تعالى: {وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك} أي وأباح لك التسري مما أخذت من المغانم, وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما, وملك ريحانة بنت شمعون النضرية ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم عليهما السلام, وكانتا من السراري رضي الله عنهما. وقوله تعالى: {وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خلاتك} الاَية, هذا عدل وسط بين الإفراط والتفريط, فإن النصارى لا يتزوجون المرأة إلا إذا كان الرجل بينه وبينها سبعة أجداد فصاعداً, واليهود يتزوج أحدهم بنت أخيه وبنت أخته, فجاءت هذه الشريعة الكاملة الطاهرة بهدم إفراط النصارى, فأباح بنت العم والعمة, وبنت الخال والخالة, وتحريم ما فرطت فيه اليهود من إباحة بنت الأخ والأخت وهذا شنيع فظيع, وإنما قال: {وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك} فوحد لفظ الذكر لشرفه وجمع الإناث لنقصهن كقوله: {عن اليمين والشمائل} {يخرجهم من الظلمات إلى النور} {وجعل الظلمات والنور} وله نظائر كثيرة.
وقوله تعالى: {اللاتي هاجرن معك} قال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث الرازي, حدثنا عبيد الله بن موسى, حدثنا إسرائيل عن السدي عن أبي صالح عن أم هانىء قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني, ثم أنزل الله تعالى: {إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك} قالت: فلم أكن أحل له, ولم أكن ممن هاجر معه كنت من الطلقاء. ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن عبيد الله بن موسى به, ثم رواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح عنها بنحوه, ورواه الترمذي في جامعه. وهكذا قال أبو رزين وقتادة إن المراد من هاجر معه إلى المدينة. وفي رواية عن قتادة {اللاتي هاجرن معك} أي أسلمن, وقال الضحاك: قرأ ابن مسعود {واللائي هاجرن معك}.
وقوله تعالى: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك} الاَية, أي ويحل لك أيها النبي المرأة المؤمنة إن وهبت نفسها لك أن تتزوجها بغير مهر إن شئت ذلك. وهذه الاَية توالى فيها شرطان, كقوله تعالى إخباراً عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم} وكقول موسى عليه السلام {يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين} وقال ههنا: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي} الاَية.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق, أخبرنا مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك, فقامت قياماً طويلاً, فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل عندك من شيء تصدقها إياه ؟» فقال: ما عندي إلا إزاري هذا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك, فالتمس شيئاً» فقال: لا أجد شيئاً, فقال «التمس ولو خاتماً من حديد» فالتمس فلم يجد شيئاً, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هل معك من القرآن شيء ؟» قال: نعم سورة كذا وسورة كذا ـ السور يسميها ـ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «زوجتكها بما معك من القرآن» أخرجاه من حديث مالك.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا مرحوم, سمعت ثابتاً يقول: كنت مع أنس جالساً وعنده ابنة له, فقال أنس: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله هل لك في حاجة ؟ فقالت ابنته: ما كان أقل حياءها, فقال: «هي خير منك رغبت في النبي فعرضت عليه نفسها» انفرد بإخراجه البخاري من حديث مرحوم بن عبد العزيز عن ثابت البناني عن أنس به. وقال أحمد أيضاً: حدثنا عبد الله بن بكير, حدثنا سنان بن ربيعة عن الحضرمي عن أنس بن مالك أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ابنة لي كذا وكذا, فذكرت من حسنها وجمالها فآثرتك بها, فقال: «قد قبلتها» فلم تزل تمدحها حتى ذكرت أنها لم تصدع ولم تشك شيئاً قط, فقال: «لا حاجة لي في ابنتك» لم يخرجوه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا منصور بن أبي مزاحم, حدثنا ابن أبي الوضاح يعني محمد بن مسلم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم وقال ابن وهب عن سعيد بن عبد الرحمن وابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه: أن خولة بنت حكيم بن الأوقص من بني سليم كانت من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية له عن سعيد بن عبد الرحمن عن هشام عن أبيه: كنا نتحدث أن خولة بنت حكيم كانت وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت امرأة صالحة. فيحتمل أن أم سليم هي خولة بنت حكيم أو هي امرأة أخرى.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي, حدثنا وكيع, حدثنا موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب وعمربن الحكم وعبد الله بن عبيدة قالوا: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة امرأة, ستاً من قريش: خديجة وعائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة, وثلاثاً من بني عامر بن صعصعة, وامرأتين من بني هلال بن عامر: ميمونة بنت الحارث وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وزينب أم المساكين, وامرأة من بني بكر بن كلاب من القرظيات, وهي التي اختارت الدنيا, وامرأة من بني الجون وهي التي استعاذت منه, وزينب بنت جحش الأسدية, والسبيتين صفية بنت حيي بن أخطب وجويرية بنت الحارث بن عمرو بن المصطلق الخزاعية. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي} قال: هي ميمونة بنت الحارث, فيه انقطاع, هذا مرسل, والمشهور أن زينب التي كانت تدعى أم المساكين هي زينب بنت خزيمة الأنصارية, وقد ماتت عند النبي صلى الله عليه وسلم في حياته, فالله أعلم. والغرض من هذا أن اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم كثير, كما قال البخاري: حدثنا زكريا بن يحيى, حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم وأقول: أتهب المرأة نفسها ؟ فلما أنزل الله تعالى: {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك} قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن منصور الجعفي, حدثنا يونس بن بكير عن عنبسة بن الأزهر عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له. ووراه ابن جرير عن أبي كريب عن يونس بن بكير, أي أنه لم يقبل واحدة ممن وهبت نفسها له وإن كان ذلك مباحاً له ومخصوصاً به, لأنه مردود إلى مشيئته, كما قال الله تعالى: {إن أراد النبي أن يستنكحه} أي إن اختار ذلك.
وقوله تعالى: {خالصة لك من دون المؤمنين} قال عكرمة أي لا تحل الموهوبة لغيرك, ولو أن امرأة وهبت نفسها لرجل لم تحل له حتى يعطيها شيئاً, وكذا قال مجاهد والشعبي وغيرهما, أي أنها إذا فوضت المرأة نفسها إلى رجل فإنه متى دخل بها وجب عليه لها مهر مثلها, كما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق لما فوضت, فحكم لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بصداق مثلها لما توفي عنها زوجها, والموت والدخول سواء في تقرير المهر وثبوت مهر المثل في المفوضة لغير النبي صلى الله عليه وسلم, فأما هو عليه الصلاة والسلام فإنه لا يجب عليه للمفوضة شيء ولو دخل بها, لأن له أن يتزوج بغير صداق ولا ولي, ولا شهود, كما في قصة زينب بنت جحش رضي الله عنها, ولهذا قال قتادة في قوله: {خالصة لك من دون المؤمنين} يقول: ليس لا مرأة تهب نفسها لرجل بغير ولي ولا مهر إلا للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم} قال أبي بن كعب ومجاهد والحسن وقتادة وابن جرير في قوله: {قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم} أي من حصرهم في أربع نسوة حرائر, وما شاؤوا من الإماء واشتراط الولي والمهر والشهود عليهم, وهم الأمة وقد رخصنا لك في ذلك فلم نوجب عليك شيئاً منه {لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفوراً رحيم}.
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 424
424 : تفسير الصفحة رقم 424 من القرآن الكريم** يَأَيّهَا النّبِيّ إِنّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مّنِيراً * وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنّ لَهُمْ مّنَ اللّهِ فَضْلاً كِبِيراً * وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكّـلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَىَ بِاللّهِ وَكِـيلاً
قال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود, حدثنا فليح بن سليمان, حدثنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما, فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة, قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذير} وحرزاً للأميين, أنت عبدي ورسولي, سميتك المتوكل, لست بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق, ولا يدفع السيئة بالسيئة, ولكن يعفو ويصفح ويغفر, ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملّة العوجاء, بأن يقولوا لا إله إلا الله, فيفتح بها أعيناً عمياً, وآذاناً صماً, وقلوباً غلفاً, وقد رواه البخاري في البيوع عن محمد بن سنان عن فليح بن سليمان عن هلال بن علي به. ورواه في التفسير عن عبد الله,قيل ابن رجاء, وقيل ابن صالح,عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو به. ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن عبد الله بن رجاء عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون به.
وقال البخاري في البيوع: وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه, وقال وهب بن منبه: إِن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له شعياء: أن قم في قومك بني إسرائيل فإني منطق لسانك بوحي وأبعث أمياً من الأميين, أبعثه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق, لو يمر إلى جنب سراج لم يطفئه من سكينته, ولو يمشي على القصب لم يسمع من تحت قدميه, أبعثه مبشراً ونذيراً لا يقول الخنا, أفتح به أعيناً كمهاً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً, أسدده لكل أمر جميل وأهب له كل خلق كريم, وأجعل السكينة لباسه, والبر شعاره, والتقوى ضميره, والحكمة منطقه, والصدق والوفاء طبيعته, والعفو والمعروف خلقه, والحق شريعته, والعدل سيرته والهدى إمامه, والإسلام ملته, وأحمد اسمه أهدي به بعد الضلال, وأعلم به بعد الجهالة, وأرفع به بعد الخمالة, وأعرف به بعد النكرة, وأكثر به بعد القلة, وأغني به بعد العيلة, وأجمع به بعد الفرقة, وأؤلف به بين أمم متفرقة وقلوب مختلفة, وأهواء متشتتة, وأستنقذ به فئاماً من الناس عظيمة من الهلكة, وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر, موحدين مؤمنين مخلصين مصدقين لما جاءت به رسلي, ألهمهم التسبيح والتحميد, والثناء والتكبير والتوحيد, في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومنقلبهم ومثواهم يصلون لي قياناً وقعوداً ويقاتلون في سبيل الله صفوفاً وزحوفاً, ويخرجون من ديارهم ابتغاء مرضاتي ألوفاً, يطهرون الوجوه والأطراف ويشدون الثياب في الأنصاف, قربانهم دماؤهم, وأناجيلهم في صدورهم, رهبان بالليل ليوث بالنهار, وأجعل في أهل بيته, وذريته السابقين والصديقين والشهداء والصالحين, أمته من بعده يهدون بالحق وبه يعدلون, وأعز من نصرهم وأؤيد من دعا لهم, وأجعل دائرة السوء على من خالفهم, أو بغى عليهم أو أراد أن ينتزع شيئاً مما في أيديهم, أجعلهم ورثة لنبيهم, والداعية إلى ربهم, يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويوفون بعهدهم أختم بهم الخير الذي بدأته بأولهم, ذلك فضلي أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم. هكذا رواه ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه اليماني رحمه الله.
ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الرحمن بن صالح, حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي عن شيبان النحوي, أخبرني قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذير} وقد كان أمر علياً ومعاذاً رضي الله عنهما أن يسيرا إلى اليمن فقال «انطلقا فبشرا ولا تنفرا, ويسرا ولا تعسرا, إنه قد أنزل علي {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذير}» ورواه الطبراني عن محمد بن نصر بن حميد البزاز البغدادي, عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي, عن عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي بإسناده مثله, وقال في آخره «فإنه قد أنزل علي يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً على أمتك ومبشراً بالجنة ونذيراً من النار وداعياً إلى شهادة أن لا إله إلا الله بإذنه وسراجاً منيراً بالقرآن». فقوله تعالى: {شاهد} أي لله بالوحدانية, وأنه لا إله غيره وعلى الناس بأعمالهم يوم القيامة وجئنا بك على هؤلاء شهيداً كقوله: {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيد}. وقوله عز وجل: {ومبشراً ونذير} أي بشيراً للمؤمنين بجزيل الثواب, ونذيراً للكافرين من وبيل العقاب. وقوله جلت عظمته: {وداعياً إلى الله بإذنه} أي داعياً للخلق إلى عبادة ربهم عن أمره لك بذلك {وسراجاً منير} أي وأمرك ظاهر فيما جئت به من الحق كالشمس في إشرافها وإضاءتها لا يجحدها إلا معاند. وقوله جل وعلا {ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم} أي لا تطعهم وتسمع منهم في الذي يقولونه {ودع أذاهم} أي اصفح وتجاوز عنهم, وكل أمرهم إلى الله تعالى, فإن فيه كفاية لهم, ولهذا قال جل جلاله: {وتوكل على الله وكفى بالله وكيل}.
** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسّوهُنّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنّ مِنْ عِدّةٍ تَعْتَدّونَهَا فَمَتّعُوهُنّ وَسَرّحُوهُنّ سَرَاحاً جَمِيلاً
هذه الاَية الكريمة فيها أحكام كثيرة منها إطلاق النكاح على العقد وحده, وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منها, وقد اختلفوا في النكاح: هل هو حقيقة في العقد وحده أو في الوطء أو فيهما ؟ على ثلاثة أقوال, واستعمال القرآن إنما هو في العقد والوطء بعده إلا في هذه الاَية, فإنه استعمل في العقد وحده لقوله تبارك وتعالى: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها.
وقوله تعالى: {المؤمنات} خرج مخرج الغالب إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك بالاتفاق, وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن المسيب والحسن البصري وعلي بن الحسين زين العابدين وجماعة من السلف بهذه الاَية على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح, لأن الله تعالى قال: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} فعقب النكاح بالطلاق, فدل على أنه لا يصح ولا يقع قبله, وهذا مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وطائفة كثيرة من السلف والخلف رحمهم الله تعالى, وذهب مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى إلى صحة الطلاق قبل النكاح فيما إذا قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق, فعندهما متى تزوجها طلقت منه, واختلفا فيما إذا قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق فقال مالك: لا تطلق حتى يعين المرأة. وقال أبو حنيفة رحمه الله: كل امرأة يتزوجها بعد هذا الكلام تطلق منه, فأما الجمهور فاحتجوا على عدم وقوع الطلاق بهذه الاَية.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور المروزي, حدثنا النضر بن شميل, حدثنا يونس يعني ابن أبي إسحاق, قال: سمعت آدم مولى خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق, قال: ليس بشيء من أجل أن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} الاَية وحدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي, حدثنا وكيع عن مطر عن الحسن بن مسلم بن يناق عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما قال الله عز وجل: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} ألا ترى أن الطلاق بعد النكاح, وهكذا روى محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال الله تعالى: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} فلا طلاق قبل النكاح. وقد ورد الحديث بذلك عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه. وقال الترمذي. هذا حديث حسن, وهو أحسن شيء روي في هذا الباب, وهكذا روى ابن ماجه عن علي والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا طلاق قبل نكاحٍ».
وقوله عز وجل: {فما لكم عليهمن من عدة تعتدونه} هذا أمر مجمع عليه بين العلماء, أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها لا عدة عليها, فتذهب فتتزوج في فورها من شاءت, ولا يستثنى من هذا إلا المتوفى عنها زوجها, فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشراً, وإن لم يكن دخل بها بالإجماع أيضاً. وقوله تعالى: {فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جيمل} المتعة ههنا أعم من أن تكون نصف الصداق المسمى أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمي لها. قال الله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} وقال عز وجل {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين} وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد وأبي أسيد رضي الله عنهما قالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أميمة بنت شراحيل, فلما أن دخلت عليه صلى الله عليه وسلم بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقيين, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن كان سمى لها صداقاً فليس لها إلا النصف, وإن لم يكن سمى لها صداقاً أمتعها على قدر عسره ويسره, وهو السراح الجميل.
** يَأَيّهَا النّبِيّ إِنّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاّتِيَ آتَيْتَ أُجُورَهُنّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّآ أَفَآءَ اللّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمّكَ وَبَنَاتِ عَمّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنّبِيّ إِنْ أَرَادَ النّبِيّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِيَ أَزْوَاجِهِـمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً
يقول تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه قد أحل له من النساء أزواجه اللاتي أعطاهن مهورهن وهي الأجور ههنا, كما قاله مجاهد وغير واحد. وقد كان مهره لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونشاً وهو نصف أوقية, فالجميع خمسمائة درهم إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان, فإنه أمهرها عنه النجاشي رحمه الله تعالى أربعمائة دينار وإلا صفية بنت حيي فإنه اصطفاها من سبي خيبر, ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها, كذلك جويرية بنت الحارث المصطلقية أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شماس وتزوجها ـ رضي الله عنهن أجمعين ـ.
وقوله تعالى: {وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك} أي وأباح لك التسري مما أخذت من المغانم, وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما, وملك ريحانة بنت شمعون النضرية ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم عليهما السلام, وكانتا من السراري رضي الله عنهما. وقوله تعالى: {وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خلاتك} الاَية, هذا عدل وسط بين الإفراط والتفريط, فإن النصارى لا يتزوجون المرأة إلا إذا كان الرجل بينه وبينها سبعة أجداد فصاعداً, واليهود يتزوج أحدهم بنت أخيه وبنت أخته, فجاءت هذه الشريعة الكاملة الطاهرة بهدم إفراط النصارى, فأباح بنت العم والعمة, وبنت الخال والخالة, وتحريم ما فرطت فيه اليهود من إباحة بنت الأخ والأخت وهذا شنيع فظيع, وإنما قال: {وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك} فوحد لفظ الذكر لشرفه وجمع الإناث لنقصهن كقوله: {عن اليمين والشمائل} {يخرجهم من الظلمات إلى النور} {وجعل الظلمات والنور} وله نظائر كثيرة.
وقوله تعالى: {اللاتي هاجرن معك} قال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث الرازي, حدثنا عبيد الله بن موسى, حدثنا إسرائيل عن السدي عن أبي صالح عن أم هانىء قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني, ثم أنزل الله تعالى: {إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك} قالت: فلم أكن أحل له, ولم أكن ممن هاجر معه كنت من الطلقاء. ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن عبيد الله بن موسى به, ثم رواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح عنها بنحوه, ورواه الترمذي في جامعه. وهكذا قال أبو رزين وقتادة إن المراد من هاجر معه إلى المدينة. وفي رواية عن قتادة {اللاتي هاجرن معك} أي أسلمن, وقال الضحاك: قرأ ابن مسعود {واللائي هاجرن معك}.
وقوله تعالى: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك} الاَية, أي ويحل لك أيها النبي المرأة المؤمنة إن وهبت نفسها لك أن تتزوجها بغير مهر إن شئت ذلك. وهذه الاَية توالى فيها شرطان, كقوله تعالى إخباراً عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم} وكقول موسى عليه السلام {يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين} وقال ههنا: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي} الاَية.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق, أخبرنا مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك, فقامت قياماً طويلاً, فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل عندك من شيء تصدقها إياه ؟» فقال: ما عندي إلا إزاري هذا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك, فالتمس شيئاً» فقال: لا أجد شيئاً, فقال «التمس ولو خاتماً من حديد» فالتمس فلم يجد شيئاً, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هل معك من القرآن شيء ؟» قال: نعم سورة كذا وسورة كذا ـ السور يسميها ـ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «زوجتكها بما معك من القرآن» أخرجاه من حديث مالك.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا مرحوم, سمعت ثابتاً يقول: كنت مع أنس جالساً وعنده ابنة له, فقال أنس: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله هل لك في حاجة ؟ فقالت ابنته: ما كان أقل حياءها, فقال: «هي خير منك رغبت في النبي فعرضت عليه نفسها» انفرد بإخراجه البخاري من حديث مرحوم بن عبد العزيز عن ثابت البناني عن أنس به. وقال أحمد أيضاً: حدثنا عبد الله بن بكير, حدثنا سنان بن ربيعة عن الحضرمي عن أنس بن مالك أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ابنة لي كذا وكذا, فذكرت من حسنها وجمالها فآثرتك بها, فقال: «قد قبلتها» فلم تزل تمدحها حتى ذكرت أنها لم تصدع ولم تشك شيئاً قط, فقال: «لا حاجة لي في ابنتك» لم يخرجوه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا منصور بن أبي مزاحم, حدثنا ابن أبي الوضاح يعني محمد بن مسلم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم وقال ابن وهب عن سعيد بن عبد الرحمن وابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه: أن خولة بنت حكيم بن الأوقص من بني سليم كانت من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية له عن سعيد بن عبد الرحمن عن هشام عن أبيه: كنا نتحدث أن خولة بنت حكيم كانت وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت امرأة صالحة. فيحتمل أن أم سليم هي خولة بنت حكيم أو هي امرأة أخرى.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي, حدثنا وكيع, حدثنا موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب وعمربن الحكم وعبد الله بن عبيدة قالوا: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة امرأة, ستاً من قريش: خديجة وعائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة, وثلاثاً من بني عامر بن صعصعة, وامرأتين من بني هلال بن عامر: ميمونة بنت الحارث وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وزينب أم المساكين, وامرأة من بني بكر بن كلاب من القرظيات, وهي التي اختارت الدنيا, وامرأة من بني الجون وهي التي استعاذت منه, وزينب بنت جحش الأسدية, والسبيتين صفية بنت حيي بن أخطب وجويرية بنت الحارث بن عمرو بن المصطلق الخزاعية. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي} قال: هي ميمونة بنت الحارث, فيه انقطاع, هذا مرسل, والمشهور أن زينب التي كانت تدعى أم المساكين هي زينب بنت خزيمة الأنصارية, وقد ماتت عند النبي صلى الله عليه وسلم في حياته, فالله أعلم. والغرض من هذا أن اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم كثير, كما قال البخاري: حدثنا زكريا بن يحيى, حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم وأقول: أتهب المرأة نفسها ؟ فلما أنزل الله تعالى: {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك} قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن منصور الجعفي, حدثنا يونس بن بكير عن عنبسة بن الأزهر عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له. ووراه ابن جرير عن أبي كريب عن يونس بن بكير, أي أنه لم يقبل واحدة ممن وهبت نفسها له وإن كان ذلك مباحاً له ومخصوصاً به, لأنه مردود إلى مشيئته, كما قال الله تعالى: {إن أراد النبي أن يستنكحه} أي إن اختار ذلك.
وقوله تعالى: {خالصة لك من دون المؤمنين} قال عكرمة أي لا تحل الموهوبة لغيرك, ولو أن امرأة وهبت نفسها لرجل لم تحل له حتى يعطيها شيئاً, وكذا قال مجاهد والشعبي وغيرهما, أي أنها إذا فوضت المرأة نفسها إلى رجل فإنه متى دخل بها وجب عليه لها مهر مثلها, كما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق لما فوضت, فحكم لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بصداق مثلها لما توفي عنها زوجها, والموت والدخول سواء في تقرير المهر وثبوت مهر المثل في المفوضة لغير النبي صلى الله عليه وسلم, فأما هو عليه الصلاة والسلام فإنه لا يجب عليه للمفوضة شيء ولو دخل بها, لأن له أن يتزوج بغير صداق ولا ولي, ولا شهود, كما في قصة زينب بنت جحش رضي الله عنها, ولهذا قال قتادة في قوله: {خالصة لك من دون المؤمنين} يقول: ليس لا مرأة تهب نفسها لرجل بغير ولي ولا مهر إلا للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم} قال أبي بن كعب ومجاهد والحسن وقتادة وابن جرير في قوله: {قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم} أي من حصرهم في أربع نسوة حرائر, وما شاؤوا من الإماء واشتراط الولي والمهر والشهود عليهم, وهم الأمة وقد رخصنا لك في ذلك فلم نوجب عليك شيئاً منه {لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفوراً رحيم}.
الصفحة رقم 424 من المصحف تحميل و استماع mp3