تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 424 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 424

423

ثم بين سبحانه أن هذه الرحمة منه لا تخص السامعين وقت الخطاب بل هي عامة لهم ولمن بعدهم وفي الدار الآخرة فقال: 44- "تحيتهم يوم يلقونه سلام" أي تحية المؤمنين من الله سبحانه يوم لقائهم له عند الموت أو عند البعث أو عند دخول الجنة هي التسليم عليهم منه عز وجل. وقيل المراد تحية بعضهم لبعض يوم يلقون ربهم سلام، وذلك لأنه كان بالمؤمنين رحيماً فلما شملتهم رحمته ,امنوا من عقابه حيا بعضهم بعضاً سروراً واستبشاراً. والمعنى: سلامة لنا من عذاب النار. قال الزجاج: المعنى فيسلمهم الله من الآفات ويبشرهم بالأمن من المخافات يوم يلقونه. وقيل الضمير في يلقونه راجع إلى ملك الموت، وهو الذي يحييهم كما ورد أنه لا يقبض روح مؤمن إلاسلم عليه. وقال مقاتل: هو تسليم الملائكة عليهم يوم يلقون الرب كما في قوله: " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم " "وأعد لهم أجراً كريماً" أي أعد لهم في الجنة رزقاً حسناً ما تشتهيه أنفسهم وتلذه أعينهم.
ثم ذكر سبحانه صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرسله لها فقال: 45- "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً" أي على أمته يشهد لمن صدقه وآمن به، وعلى من كذبه وكفر به: قال مجاهد: شاهداً على أمته بالتبليغ إليهم وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم إليهم "ومبشراً" للمؤمنين برحمة الله وبما أعده لهم من جزيل الثواب وعظيم الأجر" ونذيرا " للكافرين والعصاة بالنار ، وبما أعده الله لهم من عظيم العقاب .
46- "وداعياً إلى الله" يدعو عباد الله إلى التوحيد والإيمان بما جاء به، والعمل بما شرعه لهم، ومعنى "بإذنه" بأمره له بذلك وتقديره، وقيل بتبشيره "وسراجاً منيراً" أي يستضاء به في ظلم الضلالة كما يستضاء بالمصباح في الظلمة. قال الزجاج: "وسراجاً" أي ذا سرج منير أي كتاب نير، وانتصاب شاهداً وما بعده على الحال.
47- "وبشر المؤمنين" عطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قال فاشهد وبشر، أو فدبر أحوال الناس "وبشر المؤمنين" أو هو من عطف جملة على جملة، وهي المذكورة سابقاً، ولا يمنع من ذلك الاختلاف بين الجملتين بالإخبار والإنشاء. أمره سبحانه بأن يبشرهم بأن لهم من الله فضلاً كبيراً على سائر الأمم، وقد بين ذلك سبحانه بقوله: " والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير ".
ثم نهاه سبحانه عن طاعة أعداء الدين فقال: 48- "ولا تطع الكافرين والمنافقين" أي لا تطعهم فيما يشيرون عليك به من المداهنة في الدين، وفي الآية تعريض لغيره من أمته لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم عن طاعتهم في شيء مما يريدونه ويشيرون به عليه، وقد تقدم تفسير هذه الآية في أول السورة "ودع أذاهم" أي لا تبال بما يصدر منهم إليك من الأذى بسبب يصيبك في دين الله وشدتك على أعدائه، أو دع أن تؤذيهم مجازاة لهم على ما يفعلونه من الأذى لك، فالمصدر على الأول مضاف إلى الفاعل. وعلى الثاني مضاف إلى المفعول، وهي منسوخة بآية السيف "وتوكل على الله" في كل شؤونك "وكفى بالله وكيلاً" توكل إليه الأمور وتفوض إليه الشؤون، فمن فوض إليه أموره كفاه، ومن وكل إليه أحواله لم يحتج فيها إلى سواه. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "اذكروا الله ذكراً كثيراً" يوقل: لا يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها أجلاً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العضر غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حداً ينتهي إليه ولم يعذر أحد في تركه إلا مغلوباً على عقله، فقال: اذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم، بالليل والنهار، في البر والبحر، في السفر والحضر، في الغنى والفقر، وفي الصحة والسقم، في السر والعلانية وعلى كل حال، وقال: "وسبحوه بكرةً وأصيلاً" إذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته قال الله: "هو الذي يصلي عليكم وملائكته". وقد ورد في فضل الذكر والاستكثار منه أحاديث كثيرة وقد صنف في الأذكار المتعلقة بالليل والنهار جماعة من الأئمة كالنسائي والنووي والجزري وغيرهم، وقد نطقت الآيات القرآنية بفضل الذاكرين وفضيلة الذكر "ولذكر الله أكبر" وقد ورد أنه أفضل من الجهاد كما في حديث أبي سعيد الخدري عند أحمد والترمذي والبيهقي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: الذاكرون الله كثيراً، قلت: يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دماً لكان الذاكرون أفضل منه درجة". وأخرج أحمد عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعا في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال: ذكر الله عز وجل". وأخرجه أيضاً الترمذي وابن ماجه. وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً". وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون". وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذكروا الله حتى يقول المنافقون إنكم مراؤون". وورد في فضل التسبيح بخصوصه أحاديث ثابته في الصحيحين وغيرهما، فمن ذلك حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال في يوم مائة مرة سبحان الله وبحمده حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر". وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم عن سعد بن أبي وقاص قال "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيعجز أحدكم أن يكتسب في اليوم ألف حسنة؟ فقال رجل: كيف يكتسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: يسبح الله مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة ويحط عنه ألف خطيئة". وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في ذكر الموت وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن البراء بن عازب في قوله: "تحيتهم يوم يلقونه سلام" قال: يوم يلقون ملك الموت ليس من مؤمن يقبض روحه إلا سلم عليه. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن ابن عباس قال:" لما نزلت "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً". وقد كان أمر علياً ومعاذاً أن يسيرا إلى اليمن، فقال: انطلقا فبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، فإنها قد أنزلت علي " يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا " قال: شاهداً على أمتك، ومبشراً بالجنة، ونذيراً من النار، وداعياً إلى شهادة أن لا إله إلا الله "بإذنه وسراجاً منيراً" بالقرآن". وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفاته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا تجزي بالسيئة السيئة، ولكن تعفو وتصفح زاد أحمد ولن يقبضه الله حتى يقيم الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، فيفتح بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً. وقد ذكر البخاري في صحيحه في البيوع هذا الحديث فقال: وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام، ولم يقل عبد الله بن عمرو، وهذا أولى، فعبد الله بن سلام هو الذي كان يسأل عن التوراة فيخبر بما فيها.
لما ذكر سبحانه قصة زيد وطلاقه لزينب، وكان قد دخل بها وخطبها النبي صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء عدتها كما تقدم خاطب المؤمنين مبيناً لهم حكم الزوجة إذا طلقها زوجها قبل الدخول فقال: 49- "يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات" أي عقدتم بهن عقد النكاح، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد كما قاله صاحب الكشاف والقرطبي وغيرهما. وقد اختلف في لفظ النكاح هل هو حقيقة في الوطء، أو في العقد، أو فيهما على طريقة الاشتراك، وكلام صاحب الكشاف في هذا الموضع يشعر بأنه حقيقة في الوطء، فإه قال النكاح الوطء، وتسمية العقد نكاحاً لملابسته له من حيث أنه طريق إليه، ونظيره تسمية الخمر إثماً لأنها سبب في اقتراف الإثم. "من قبل أن تمسوهن" من قبل أن تجامعوهن، فكنى عن ذلك بلفظ المس "فما لكم عليهن من عدة تعتدونها" وهذا مجمع عليه كما حكى ذلك القرطبي وابن كثير، ومعنى تعتدونها: تستوفون عددها، من عددت الدراهم فأنا أعتدها. وإسناد ذلك إلى الرجال للدلالة على أن العدة حق لهم كما يفيده "فما لكم عليهن من عدة" قرأ الجمهور "تعتدونها" بتشديد الدال، وقرأ ابن كثير في رواية عنه وأهل مكة بتخفيفها. وفي هذه القراءة وجهان: أحدهما أن تكون بمعنى الأولى، مأخوذ من الاعتداد: أي تستوفون عددها ولكنهم تركوا التضيف لقصد التخفيف. قال الرازي: ولو كان من الاعتداء الذي هو الظلم لضعف، لأن الاعتداء يتعدى بعلى. وقيل يجوز أن يكون من الاعتداد بحذف حرف الجر: أي تعتدون عليها: أي على العدة مجازاً، ومثله قوله: تحن فتبدي ما بها من صبابة وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني أي لقضى علي. والوجه الثاني أن يكون المعنى تعتدون فيها، والمراد بالاعتداء هذا هو ما فيه قوله: "ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدواً" فيكون معنى الآية على القراءة الآخرة: فلما لكم عليهن من عدة تعتدون عليهن فيها بالمضارة. وقد أنكر ابن عطية صحة هذه القراءة عن ابن كثير وقال: إن البزي غلط عليه، وهذه الآية مخصصة لعموم قوله تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" وبقوله: "واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر" والمتعة المذكورة هنا قد تقدم الكلام فيها في البقرة. وقال سعيد بن جبير: هذه المتعة المذكورة هنا منسوخة بالآية التي في سورة البقرة وهي قوله: "وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم" وقيل المتعة هنا هي أعم من أن تكون نصف الصداق، أو المتعة خاصة إن لم يكن قد سمي لها، فمع التسمية للصداق تستحق نصف المسمى عملاً بقوله: " فنصف ما فرضتم "، ومع عدم التسمية تستحق المتعة عملاً بهذه الآية، ويؤيد ذلك قوله تعالى: "لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره" وهذا الجمع لا بد منه، وهو مقدم على الترجيح وعلى دعوى النسخ، وتخصص من هذه الآية المتوفى عنها زوجها، فإنه إذا مات بعد العقد عليها وقبل الدخول بها كان الموت كالدخول فتعتد أربعة أشهر وعشراً. قال ابن كثير بالإجماع، فيكون المخصص هو الإجماع، وقد استدل بهذه الآية القائلو ن بأنه لا طلاق قبل النكاح، وهم الجمهورن وذهب مالك وأبو حنيفة إلى صحة الطلاق قبل النكاح إذا قال: إن تزوجت فلانه فهي طالق، فتطلق إذا تزوجها. ووجه الاستدلال بالآية لما قاله الجمهور أنه قال: "إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن" فعقب الطلاق بالنكاح بلفظ ثم المشعرة بالترتيب والمهملة "وسرحوهن سراحاً جميلاً" أي أخرجوهن من منازلكم: إذ ليس لكم عليهن عدة، والسراح الجميل هنا كناية عن الطلاق، وهو بعيد لأنه قد تقدم ذكر الطلاق ورتب عليه التمتيع وعطف عليه السراح الجميل، فلا بد أن يراد به معنى غير الطلاق.
50- "يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن" ذكر سبحانه في هذه الآية أنواع الأنكحة التي أحلها لرسوله، وبدأ بأزواجه اللاتي قد أعطاهن أجورهن: أي مهورهن، فإن المهور أجور الإبضاع، وإيتاؤها: إما تسليمها معجلة أو تسميتها في العقد. واختلف في معنى قوله: "أحللنا لك أزواجك" فقال: ابن زيد والضحاك: إن الله أحل له أن يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها، فتكون الآية مبيحة لجميع النساء ما عدا ذوات المحارم. وقال الجمهور: المراد أحللنا لك أزواجك الكائنات عندك لأنهن قد اخترنك على الدنيا وزينتها، وهذا هو الظاهر، لأن قوله أحللنا وأتيت ماضيان، وتقييد الإحلال بإيتاء الأجور ليس لتوقف الحل عليه، لأنه يصح العقد بلا تسمية، ويجب مهر المثل مع الوطء والمتعة مع عدمه، فكأنه لقصد الإرشاد إلى ما هو أفضل "وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك" أي السراري اللاتي دخلن في ملكه بالغنيمة. ومعنى "مما أفاء الله عليك" مما رده الله عليك من الكفار بالغنيمة لنسائهم المأخوذات على وجه القهر والغلبة، وليس المراد بهذا القيد أخراج ما ملكه بغير الغنيمة، فإنها تحل له السرية المشتراة والموهوبة ونحوهما، ولكنه إشارة إلى ما هو أفضل كالقيد الأول المصرح بإيتاء الأجور، وهكذا قيد المهاجرة في قوله: " وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك " فإنه للإشارة إلى ما هو أفضل، وللإيذان بشرف الهجرة وشرف من هاجر والمراد بالمعية هنا الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة فيها. وقيل إن هذا القيد: أعني المهاجرة معتبر وأنها لا تحل له من لم تهاجر من هؤلاء كما في قوله: "والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا" ويؤيد هذا حديث أم هانيء، وسيأتي آخر البحث هذا إن شاء الله تعالى ووجه إفراد العم والخال وجمع العمة والخالة ما ذكره القرطبي أن العم والخال في الإطلاق اسم جنس الشاعر والراجز، وليس كذلك العمة والخالة. قال: وهذا عرف لغوي، فجاء الكلام عليه بغاية البيان. وحكاه عن ابن العربي. وقال ابن كثير: إنه وحد لفظ الذكر لشرفه، وجمع الأنثى كقوله: "عن اليمين والشمائل" وقوله: "يخرجهم من الظلمات إلى النور" و "جعل الظلمات والنور" وله نظائر كثيرة انتهى. وقال النيسابوري. وإنما لم يجمع العم والخال اكتفاءً بجنسيتهما مع أن لجمع البنات دلالة على ذلك لامتناع أختين تحت واحد، ولم يحسن هذا الاختصار في العمة والخالة لإمكان سبق الوهم إلى أن التاء فيهما للوحدة انتهى. وكل وجه من هذه الوجوه يحتمل المناقشة بالنقض والمعارضة، وأحسنها تعليل جمع العمة والخالة بسبق الوهم إلى أن التاء للوحدة، وليس في العم والخال ما يسبق الوهم إليه بأنه أريد به الوحدة إلا مجرد سيغة الإفراد وهي لا تقتضي ذلك بعد إضافتها لما تقرر من عموم أسماء الأجناس المضافة، على أن هذا الوجه الأحسن لا يصفو عن شوب المناقشة "وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي" هو معطوف على مفعول أحللنا: أي وأحللنا لك امرأة مصدقة بالتوحيد إن وهبت نفسها منك بغير صداق. وأما من لم تكن مؤمنة فلا تحل لك بمجرد هبتها ولهذا قال: "إن أراد النبي أن يستنكحها" أي يصيرها منكوحة له ويتملك بضعها بتلك الهبة بلا مهر. وقد قيل إنه لم ينكح النبي صلى الله عليه وسلم من الواهبات أنفسهن أحداً ولم يكن عنده منهن شيء. وقيل كان عنده منهن خولة بنت حكيم كما في صحيح البخاري عن عائشة. وقال قتادة: هي ميمونة بنت الحارث. وقال الشعبي: هي زينب بنت خزيمة الأنصارية أم المساكين. وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل: هي أم شريك بنت جابر الأسدية. وقال عروة بن الزبير: هي أم حكيم بنت الأوقص السلمية. ثم بين سبحانه أن هذا النوع من النكاح خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل لغيره من أمته فقال: "خالصة لك من دون المؤمنين" أي هذا الإحلال الخالص هو خاص بك دون غيرك من المؤمنين. ولفظ خالصة إما حال من امرأة، قاله الزجاج. أو مصدر مؤكد كوعد الله. أي خالص لك خلوصاً. قرأ الجمهور "وامرأة" بالنصب. وقرأ أبو حيوة بالرفع على الابتداء. وقرأ الجمهور "إن وهبت" بكسر إن. وقرأ أبي والحسن وعيسى بن عمر بفتحها على الابتداء. وقرأ الجمهور "خالصة" بالنصب، وقرئ بالرفع على أنها صفة لامرأة على قراءة من قرأ امرأة بالرفع، وقد أجمع العلماء على أن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يجوز لغيره ولا نيعقد النكاح بهبة المرأة نفسها إلا ما روي عن أبي حنيفة في أن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: "قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم" أي ما فرضه الله سبحانه على المؤمنين في حق أزواجهم من شرائط العقد وحقوقه، فإن ذلك حق عليهم مفروض لا يحل لهم الإخلال به، ولا الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما خصه الله به توسعة عليه وتكريماً له، فلا يتزوجوا إلا أربعاً بمهر وبينة وولي "وما ملكت أيمانكم" أي وعلمنا ما فرضنا عليهم فيما ملكت أيمانهم من كونهن مما يجوز سبيه وحريه، لا من كان لا يجوز سبيه أو كان له عهد من المسلمين "لكيلا يكون عليك حرج". قال المفسرون: هذا يرجع إلى أول الآية: أي أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك والموهوبة لكيلا يكون عليك حرج، فتكون اللام متعلقة بأحللنا، وقيل هي متعلقة بخالصة، والأول أولى والحرج الضيق: أي وسعنا عليك في التحليل لك لئلا يضيق صدرك، فتظن أنك قد أثمت في بعض المنكوحات " وكان الله غفورا رحيما " يغفر الذنوب ويرحم العباد، ولذلك وسع الأمر ولم يضيقه.