سورة الأحزاب | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 426 من المصحف
الآية: 55 {لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيد}
لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ونحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب؟ فنزلت هذه الآية.
ذكر الله تعالى في هذه الآية من يحل للمرأة البروز له، ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين. وقد يسمى العم أبا، قال الله تعالى: "نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل" [البقرة: 133] وإسماعيل كان العم. قال الزجاج: العم والخال ربما يصفان المرأة لولديهما، فإن المرأة تحل لابن العم وابن الخال فكره لهما الرؤية. وقد كره الشعبي وعكرمة أن تضع المرأة خمارها عند عمها أو خالها. وقد ذكر في هذه الآية بعض المحارم وذكر الجميع في سورة "النور"، فهذه الآية بعض تلك، وقد مضى الكلام هناك مستوفى، والحمد لله.
قوله تعالى: "واتقين الله" لما ذكر الله تعالى الرخصة في هذه الأصناف وانجزمت الإباحة، عطف بأمرهن بالتقوى عطف جملة. وهذا في غاية البلاغة والإيجاز، كأنه قال: اقتصرن على هذا واتقين الله فيه أن تتعدينه إلى غيره. وخص النساء بالذكر وعنهن في هذا الأمر، لقلة تحفظهن وكثرة استرسالهن. والله أعلم. ثن توعد تعالى بقوله: "إن الله كان على كل شيء شهيدا".
الآية: 56 {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليم}
هذه الآية شرف الله بها رسوله عليه السلام حياته وموته، وذكر منزلته منه، وطهر بها سوء فعل من استصحب في جهته فكرة سوء، أو في أمر زوجاته ونحو ذلك. والصلاة من الله رحمته ورضوانه، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار، ومن لأمة الدعاء والتعظيم لأمره
مسألة: واختلف العلماء في الضمير في قوله: "يصلون" فقالت فرقة: الضمير فيه لله والملائكة، وهذا قول من الله تعالى شرف به ملائكته، فلا يصحبه الاعتراض الذي جاء في قول الخطيب: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بئس الخطيب أنت، قل ومن يعصى الله ورسوله) أخرجه الصحيح. قالوا: لأنه ليس لأحد أن يجمع ذكر الله تعالى مع غيره في ضمير، ولله أن يقع في ذلك ما يشاء. وقالت فرقة: في الكلام حذف، تقديره إن الله يصلي وملائكته يصلون، وليس في الآية اجتماع في ضمير، وذلك جائز للبشر فعله. ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم (بئس الخطيب أنت) لهذا المعنى، وإنما قال لأن الخطيب وقف على ومن يعصهما، وسكت سكتة. واستدلوا بما رواه أبو داود عن عدي بن حاتم أن خطيبا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسول ومن يعصهما. فقال: (قم - أو اذهب - بئس الخطيب أنت). إلا أنه يحتمل أن يكون لما خطأه في وقفه وقال له: (بئس الخطيب) أصلح له بعد ذلك جميع كلامه، فقال: (قل ومن يعص الله ورسول) كما في كتاب مسلم. وهو يؤيد القول الأول بأنه لم يقف على "ومن يعصهما". وقرأ ابن عباس: "وملائكه" بالرفع على موضع اسم الله قبل دخول "إن". والجمهور بالنصب عطفا على المكتوبة.
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه" أمر الله تعالى عباده بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم دون أنبيائه تشريفا له، ولا خلاف في أن الصلاة عليه فرض في العمر مرة، وفي كل حين من الواجبات وجوب السنن المؤكدة التي لا يسع تركها ولا يغفلها إلا من لا خير فيه. الزمخشري: فإن قلت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة أم مندوب إليها؟ قلت: بل واجبة. وقد اختلفوا في حال وجوبها، فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره. وفي الحديث: (من ذكرت عنده فلم يصل علي فدخل النار فأبعده الله). وروى أنه قيل له: يا رسول الله، أرأيت قول الله عز وجل: "إن الله وملائكته يصلون على النبي" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا من العلم المكنون ولولا أنكم سألتموني عنه ما أخبرتكم به إن الله تعالى وكل بي ملكين فلا أذكر عند مسلم فيصلي. علي إلا قال ذلك الملكان غفر. الله لك وقال الله تعالى وملائكته جوابا لذينك الملكين أمين. ولا أذكر. عند عبد مسلم فلا يصلي علي إلا قال ذلك الملكان لا غفر الله لك وقال الله تعالى وملائكته لذينك الملكين أمين). ومنهم من قال: تجب في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره، كما قال في آية السجدة وتشميت العاطس. وكذلك في كل دعاء في أوله وأخره ومنهم من أوجبها في العمر. وكذلك قال في إظهار الشهادتين. والذي يقتضيه الاحتياط: الصلاة عند كل ذكر، لما ورد من الأخبار في ذلك.
واختلفت الآثار في صفة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فروى مالك عن أبي مسعود الأنصاري قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى، تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى: (قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسلام كما قد علمتم). ورواه النسائي عن طلحة مثله، بإسقاط قوله: (في العالمين) وقوله: (والسلام كما قد علمتم). وفي الباب عن كعب بن عجرة وأبي حميد. الساعدي وأبي سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة وبريدة الخزاعي وزيد بن خارجة، ويقال ابن حارثة أخرجها أئمة أهل الحديث في كتبهم. وصحح الترمذي حديث كعب بن عجرة. أخرجه مسلم في صحيحه مع حديث أبي حميد الساعدي. قال أبو عمر: روى شعبة والثوري عن الحكم ابن عبدالرحمن بن ابن ليلى عن كعب بن عجرة قال: لما نزل قوله: تعالى: "يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما" جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذا السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة؟ فقال: (قل الهم صل على محمد. وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد) وهذا لفظ حديث الثوري لا حديث شعبة وهو يدخل في التفسير المسند إليه لقول الله تعالى: "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما" فبين كيف الصلاة عليه وعلمهم في التحيات كيف السلام. عليه، وهو قوله: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته). وروى المسعودي عن عون بن عبدالله عن أبي فاختة عن الأسود عن عبدالله أنه قال: إذا صليتم على النبي صلى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاة عليه، فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه. قالوا فعلمنا، قال: (قولوا اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام أبعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل حمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حمد مجيد). ورويناه بالإسناد المتصل في كتاب (الشفا) للقاضي عياض عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: عدهن في يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (عدهن في يدي جبريل وقال هكذا أنزلت من عند رب العزة اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم وتحنن على محمد وعلى آل محمد كما تحننت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد). قال ابن العربي: من هذه الروايات صحيح ومنها سقيم، وأصحها ما رواه مالك فاعتمدوه. ورواية غير مالك من زيادة الرحمة مع الصلاة وغيرها لا يقوى، وإنما على الناس أن ينظروا في أديانهم نظرهم في أموالهم، وهم لا يأخذون في البيع دينارا معيبا، وإنما يختارون السالم الطيب، كذلك لا يؤخذ من الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم سنده، لئلا يدخل في حيز الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هو يطلب الفضل إذا به قد أصاب النقص، بل ربما أصاب الخسران المبين.
في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا). وقال سهل بن عبدالله: الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم أفضل العبادات، لأن الله تعالى تولاها هو وملائكه، ثم أمر بها المؤمنين، وسائر العبادات ليس كذلك. قال أبو سليمان الداراني: من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسأل الله حاجته، ثم يختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى يقبل الصلاتين وهو أكرم من أن يرد ما بينهما. وروى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي عنه أنه قال: الدعاء يحجب دون السماء حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم رفع الدعاء. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى علي وسلم علي في كتاب لم تزل الملائكة يصلون عليه ما دام اسمي في ذلك الكتاب).
واختلف العلماء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فالذي عليه الجم الغفير والجمهور الكثير: أن ذلك من سنن الصلاة ومستحباتها. قال ابن المنذر: يستحب ألا يصلي أحد صلاة إلا صلى الله عليه وسلم فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ترك ذلك تارك فصلاته مجزية في مذاهب مالك وأهل المدينة وسفيان الثوري وأهل الكوفة من أصحاب الرأي وغيرهم. وهو قول جل أهل العلم. وحكي عن مالك وسفيان أنها في التشهد الأخير مستحبة، وأن تاركها في التشهد مسيء وشذ الشافعي فأوجب على تاركها في الصلاة الإعادة وأوجب إسحاق الإعادة مع تعمد تركها دون النسيان. وقال أبو عمر: قال الشافعي إذا لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير بعد التشهد وقبل التسليم أعاد الصلاة. قال: وإن صلى الله عليه وسلم عليه قبل ذلك لم تجزه. وهذا قول حكاه عنه حرملة بن يحيى، لا يكاد يوجد هكذا عن الشافعي إلا من وراية حرملة عنه، وهو من كبار أصحابه الذين كتبوا كتبه. وقد تقلده أصحاب الشافعي ومالوا إليه وناظروا عليه، وهو عندهم تحصيل مذهبه. وزعم الطحاوي أنه لم يقل به أحد من أهل العلم غيره. وقال الخطابي وهو من أصحاب الشافعي: وليست بواجبة في، الصلاة، وهو قول جماعة الفقهاء إلا الشافعي، ولا أعلم له فيها قدوة. والدليل على أنها ليست من فروض، الصلاة عمل السلف الصالح قبل الشافعي وإجماعهم عليه، وقد شنع عليه في هذه المسألة جدا. وهذا تشهد ابن مسعود الذي اختاره الشافعي وهو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك كل من روي التشهد عنه صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عمر: فإن أبو بكر يعلمنا الشهد على المنبر كما تعلمون الصبيان في الكتاب. وعلمه أيضا على المنبر عمر، وليس فيه ذكر الصلاة على، النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: قد قال بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة محمد. بن المواز من أصحابنا فيما ذكر ابن القصار وعبدالوهاب، واختاره ابن العربي للحديث الصحيح: إن الله أمرنا أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟ فعلم الصلاة ووقتها فتعينت كيفية ووقتا. وذكر الدارقطني عن أبي جعفر محمد ابن علي بن الحسين أنه قال: لو صليت صلاة لم أصل فيها على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على أهل بيته لرأيت أنها لا تتم. وروي مرفوعا عنه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم. والصواب أنه قول أبي جعفر، قال الدارقطني.
قوله تعالى: "وسلموا تسليما" قال القاضي أبو بكر بن بكير: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم فأمر الله أصحابه أن يسلموا عليه. وكذلك من بعدهم امروا أن يسلموا عليه عند حضورهم قبره وعند ذكره. وروى النسائي عن عبدالله بن أبي طلحة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبشر يرى في وجهه، فقلت: إنا لنرى البشرى في وجهك! فقال: (إنه أتاني الملك فقال يا محمد إن ربك يقول أما يرضيك إنه لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشرا ولا يسلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشرا). وعن محمد بن عبدالرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد يسلم علي إذا مت إلا جاءني سلامه مع جبريل يقول يا محمد هذا فلان بن فلان يقرأ عليك السلام فأقول وعليه السلام ورحمة الله وبركاته) وروى النسائي عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام). قال القشيري والتسليم قولك: سلام عليك.
الآية: 57 {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهين}
اختلف العلماء في أذية الله بماذا تكون؟ فقال الجمهور من العلماء: معناه بالكفر ونسبة الصاحبة والولد والشريك إليه، ووصفه بما لا يليق به، كقول اليهود لعنهم الله: وقالت اليهود يد الله مغلولة. والنصارى: المسيح ابن الله. والمشركون: الملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه. وفي صحيح البخاري قال الله تعالى: (كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك...) الحديث. وقد تقدم في سورة "مريم" وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال الله تبارك وتعالى: (يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما). هكذا جاء هذا الحديث موقوفا على أبي هريرة في هذه الرواية. وقد جاء مرفوعا عنه (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار) أخرجه أيضا مسلم. وقال عكرمة: معناه بالتصوير والتعرض لفعل ما لا يفعله إلا الله بنحت الصور وغيرها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (لعن الله المصورين).
قلت: وهذا مما يقوي قول مجاهد في المنع من تصوير الشجر وغيرها؛ إذ كل ذلك صفة اختراع وتشبه بفعل الله الذي انفرد به سبحانه وتعالى. وقد تقدم هذا في سورة "النمل" والحمد لله. وقالت فرقة: ذلك على حذف مضاف، تقديره: يؤذون أولياء الله. وأما أذية رسوله صلى الله عليه وسلم فهي كل ما يؤذيه من الأقوال في غير معنى واحد، ومن الأفعال أيضا. أما قولهم: "فساحر شاعر. كاهن مجنون. وأما فعلهم: فكسر رباعيته وشج وجهه يوم أحد، وبمكة إلقاء السلى على ظهره وهو ساجد" إلى غير ذلك. وقال ابن عباس: نزلت في الذين طعنوا عليه حين اتخذ صفية بنت أبي حيي. وأطلق إيذاء الله ورسوله وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات، لأن إيذاء الله ورسول لا يكون إلا بغير حق أبدا. وأما إيذاء المؤمنين والمؤمنات فمنه .. ومنه..
قال علماؤنا: والطعن في تأمير أسامة بن زيد أذية له عليه السلام. وروى الصحيح عن ابن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد فطعن الناس في إمرته؛ فقام رسول الله صلى فقال: (إن تطعنوا في إمرته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل وايم الله إن كان لخليقا للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي وإن هذا لمن أحب الناس إلى بعده). وهذا البعث - والله أعلم - هو الذي جهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أسامة وأمره عليهم وأمره أن يغزوا "أبنى" وهي القرية التي عند موتة، الموضع الذي قتل فيه زيد أبوه جعفر بن أبي طالب وعبدالله بن رواحة. فأمره أن يأخذ بثأر أبيه فطعن من في قلبه ريب في إمرته؛ من حيث إنه كان من الموالي، ومن حيث إنه كان صغير السن؛ لأنه كان إذ ذاك ابن ثمان عشرة سنة؛ فمات النبي صلى الله عليه وسلم وقد برز هذا البعث عن المدينة ولم ينفصل بعد عنها؛ فنفذه أبو بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم.
في هذا الحديث أوضح دليل على جواز إمامة المولى والمفضول على غيرهما ما عدا الإمامة الكبرى. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم مولى أبي حذيفة على الصلاة بقباء، فكان يؤمهم وفيهم أبو بكر وعمر وغيرهم من كبراء قريش. وروى الصحيح عن عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله محلى مكة فقال: من استعملت على هذا الوادي؟ قال: ابن أبزى. قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا. قال: فاستخلفت عليهم مولى! قال: إنه لقارئ لكتاب الله لأنه لعالم بالفرائض - قال - أما إن نبيكم قد قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين).
كان أسامة رضي الله عنه الحب ابن الحب وبذلك كان يدعي، وكان أسود شديد السواد، وكأن زيد أبوه أبيض من القطن. هكذا ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح. وقال غير أحمد: كان زيد أزهر اللون وكان أسامة شديد الأدمة. ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحسن أسامة وهو صغير ويمسح مخاطه، وينقي أنفه ويقول: (لو كان أسامة جارية لزيناه وجهزناه وحببناه إلى الأزواج). وقد ذكر أن سبب ارتداد العرب بعد النبي صلى الله عليه وسلم، أنه لما كان عليه السلام في حجة الوداع بجبل عرفة عشية عرفة عند النفر، احتبس النبي صلى الله عليه وسلم قليلا بسبب أسامة إلى أن أتاه؛ فقالوا: ما أحتبس إلا لأجل هذا! تحقيرا له. فكان قولهم هذا سبب ارتدادهم. ذكره البخاري في التاريخ بمعناه. والله أعلم.
كان عمر رضي الله عنه يفرض لأسامة في العطاء خمسة آلاف، ولابنه عبدالله ألفين؛ فقال له عبدالله: فضلت علي أسامة وقد شهدت ما لم يشهد! فقال: إن أسامة كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، وأباه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، أبيك، ففضل رضي الله عنه من محبوب رسول الله صلى الله عليه وسلم على محبوبه. وهكذا يجب أن يحب ما أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغض من أبغض. وقد قابل مروان هذا الحب بنقيضه؛ وذلك أنه مر بأسامة بن زيد وهو يصلي عند باب بيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مروان: إنما أردت أن نرى مكانك، فقد رأينا مكانك، فعل الله بك! وقال قولا قبيحا. فقال له أسامة: إنك أذيتني، وإنك فاحش متفحش، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(إن الله تعالى يبغض الفاحش المتفحش). فانظر ما بين الفعلين وقس ما بين الرجلين، فقد أذى بنو أمية النبي صلى الله عليه وسلم في أحبابه، وناقضوه في محابه.
قوله تعالى: "لعنهم الله" معناه أبعدوا من كل خير. واللعن في اللغة: الإبعاد، ومنه اللعان. "وأعد لهم عذابا مهينا" تقدم معناه في غير موضع. والحمد لله رب العالمين.
الآية: 58 {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبين}
أذية المؤمنين والمؤمنات هي أيضا بالأفعال والأقوال القبيحة، كالبهتان والتكذيب الفاحش المختلق. وهذه الآية نظير الآية التي في النساء: "ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا" [النساء: 112] كما قال هنا. وقد قيل: إن من الأذية تعييره بحسب مذموم، أو حرفة مذمومة، أو شيء يثقل عليه إذا سمعه، لأن أذاه في الجملة حرام. وقد ميز الله تعالى بين أذاه وأذى الرسول وأذى المؤمنين فجعل الأول كفرا والثاني كبيرة، فقال في أذى المؤمنين: "فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا" وقد بيناه. وروي أن عمر بن الخطاب قال لأبي بن كعب: قرأت البارحة هذه الآية ففزعت منها "والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا" الآية، والله إني لأضربهم وأنهرهم. فقال له أبي: يا أمير المؤمنين، لست منهم، إنما أنت معلم ومقوم. وقد قال: إن سبب نزول هذه الآية أن عمر رأى جارية من الأنصار فضربها وكره ما رأى من زينتها، فخرج أهلها فآذوا عمر بالسان؛ فأنزل الله هذه الآية. وقيل: نزلت في علي، فإن المنافقين كانوا يؤذونه ويكذبون عليه. رضي الله عنه.
الآية: 59 {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيم}
قوله تعالى: "قل لأزواجك وبناتك" قد مضى الكلام في تفضيل أزواجه واحدة واحدة. قال قتادة: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسع. خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة. وثلاث من سائر العرب: ميمونة، وزينب بنت جحش، وجويرية. وواحدة من بني هارون: صفية. وأما أولاده فكان للنبي صلى الله عليه وسلم أولاد ذكور وإناث.
فالذكور من أولاده: القاسم، أمه خديجة، وبه كان يكنى صلى الله عليه وسلم، وهو أول من مات من أولاده، وعاش سنتين. وقال عروة: ولدت خديجة للنبي صلى الله ليه وسلم القاصم والطاهر وعبدالله والطيب. وقال أبو بكر البرقي: ويقال إن الطاهر هو الطيب وهو عبدالله. وإبراهيم أمه مارية القبطية، ولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، وتوفي ابن ستة عشر شهرا، وقيل ثمانية عشر؛ ذكره الدارقطني. ودفن بالبقيع. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن له موضعا تتم رضاعه في الجنة). وجميع أولاد النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة سوى إبراهيم. وكل أولاده ماتوا في حياته غير فاطمة.
وأما الإناث من أولاده فمنهن: فاطمة الزهراء بنت خديجة، ولدتها وقريش تبني النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة بخمس سنين، وهي أصغر بناته، وتزوجها علي رضي الله عنهما في السنة الثانية من الهجرة في رمضان، وبنى بها في ذي الحجة. وقيل: تزوجها في رجب، وتوفيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسير، وهي أول من لحقه من أهل بيته. رضى الله عنها..
ومنهن: زينب - أمها خديجة - تزوجها ابن خالتها أبو العاصي بن الربيع، وكانت أم العاصي هالة بنت خويلد أخت خديجة. واسم أبي العاصي لقيط. وقيل هاشم. وقيل هشيم وقيل مقسم. وكانت أكبر بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وتوفيت - ثمان من الهجرة، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبرها.
ومنهن: رقة - أمها خديجة - تزوجها عتبة بن أبي لهب قبل النبوة، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم اله عليه وسلم وأنزل عليه: "تبت يدا أبي لهب" [المسد: 1] قال أبو لهب لابنه: رأسي من رأسك حرام إن لم تطلق ابنته؛ ففارقها ولم يكن بنى بها. وسلمت حين أسلمت أمها خديجة، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وأخواتها حين بايعه النساء، وتزوجها عثمان بن عفان، وكانت نساء قريش يقلن حين تزوجها عثمان:
أحسن شخصين رأى إنسان رقية وبعلها عثمان
وهاجرت معه إلى أرض الحبشة الهجرتين، وكانت قد أسقطت من عثمان سقطا، ثم ولدت بعد ذلك عبدالله، وكان عثمان يكنى به في الإسلام، وبلغ ست سنين فنقره ديك في وجهه فمات، ولم تلد له شيئا بعد ذلك. وهاجرت إلى المدينة ومرضت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى بدر فخلف عثمان عليها، فتوفيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر، على رأس سبعة عشر شهرا من الهجرة. وقدم زيد بن حارثة بشيرا من بدر، فدخل المدينة حين سوي التراب على بقية. ولم يشهد دفنها رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم.
ومنهن: أم كلثوم - أمها خديجة - تزوجها عتيبة بن أبي لهب - أخو عتبة - قبل النبوة، وأمره أبوه أن يفارقها للسبب المذكور في أمر رقية، ولم يكن دخل بها، حتى نزل بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم وأسلمت حين أسلمت أمها، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخواتها حين بايعه النساء، وهاجرت إلى المدينة حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم الله صلى الله عليه وسلم. فلما توفيت رقية تزوجها عثمان، وبذلك سمي ذا النورين. وتوقيت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة تسع من الهجرة. وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرها، ونزل في حفرتها علي والفضل وأسامة. وذكر الزبير بن بكار أن أكبر ولد النبي صلى الله عليه وسلم: القاسم، ثم زينب، ثم عبدالله، وكان يقال له الطيب والطاهر، وولد بعد النبوة ومات صغيرا ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية. فمات القاسم بمكة ثم مات عبدالله.
لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن، وتشعب الفكرة فيهن، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن، وكن يتبرزن في الصحراء قبل أن تتخذ الكنف - فيقع الفرق بينهن وبين الإماء، فتعرف الحرائر بسترهن، فيكف عن معارضتهن من كان عزبا أو شابا. وكانت المرأة من نساء المؤمنين قبل نزول هذه الآية تتبرز للحاجة فيتعرض لها بعض الفجار. يظن أنها أمة، فتصيح به فيذهب، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت الآية بسبب ذلك. قال معناه الحسن وغيره.
قوله تعالى: "من جلابيبهن" الجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار. وروى عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء. وقد قيل: إنه القناع. والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن. وفي صحيح مسلم عن أم عطية: قلت: يا رسول الله. إحدانا لا يكون لها. جلباب؟ قال: (لتلبسها أختها من جلبابها).
واختلف الناس في صورة إرخائه؛ فقال ابن عباس وزبيدة السلماني: ذلك أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها. وقال ابن عباس أيضا وقتادة: ذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه. وقال الحسن: تغطي نصف وجهها.
أمر الله سبحانه جميع النساء بالستر، أو ذلك لا يكون إلا بما لا يصف جلدها، إلا إذا كانت مع زوجها فلها أن تلبس ما شاءت؛ لأن له أن يستمتع بها كيف شاء. ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال: (سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن وماذا فتح من الخزائن من يوقظ صواحب الحجر رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة). وروي أن دحية الكلبي لما رجع من عند هرقل فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قبطية؛ فقال: (اجعل صديعا لك قميصا وأعط صاحبتك صديعا تختمر به). والصديع النصف. ثم قال له: (مرها تجعل تحتها شيئا لئلا يصف). وذكر أبو هريرة رقة الثياب للنساء فقال: الكاسيات العاريات الناعمات الشقيات. ودخل نسوة من بني تميم على عائشة رضي الله عنها عليهن ثياب رقاق، فقالت عائشة: إن كنتن مؤمنات فليس هذا بلباس المؤمنات، وإن كنتن غير مؤمنات فتمتعينه. وأدخلت امرأة عروس على عائشة رضي الله عنها وعليها خمار قبطي معصفر، فلما رأتها قالت: لم تؤمن بسورة "النور" امرأة تلبس هذا. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن مثل أسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها). وقال عمر رضي الله عنه: ما يمنع المرأة المسلمة إذ كانت لها حاجة أن تخرج في أطمارها أو أطمار جارتها مستخفية، لا يعلم بها أحد حتى ترجع إلى بيتها.
قوله تعالى: "ذلك أدنى أن يعرفن" أي الحراس، حتى لا يختلط بالإماء؛ فإذا عرفن لم يقابلن بأدنى من المعارضة مراقبة لرتبة الحرية، فتنقطع الأطماع عنهن. وليس المعنى أن تعرف المرأة حتى تعلم من هي. وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى أمة قد تقنعت ضربها بالدرة، محافظة على زي الحرائر. وقد قيل: إنه يجب الستر والتقنع الآن في حق الجميع من الحرائر والإماء. وهذا كما أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا النساء المساجد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) حتى قالت - عائشة رضي الله عنها: لو عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا لمنعهن من الخروج إلى المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل. "وكان الله غفورا رحيما" تأنيس للنساء في ترك الجلابيب قبل هذا الأمر المشروع.
الآية: 60 - 62 {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا، ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا، سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديل}
قوله تعالى: "لئن لم ينته المنافقون" الآية. أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد؛ كما روى سفيان بن سعيد عن منصور عن أبي رزين قال: "المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة" قال: هم شيء واحد، يعني أنهم قد جمعوا هذه الأشياء. والواو مقحمة، كما قال:
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة، وقد مضى في "البقرة". وقيل: كان منهم قوم يرجفون، وقوم يتبعون النساء للريبة وقوم يشككون المسلمين. قال عكرمة وشهر بن حوشب: "الذين في قلوبهم مرض" يعني الذين هي قلوبهم الزنى. وقال طاوس: نزلت هذه الآية في أمر النساء. وقال سلمة بن كهيل: نزلت في أصحاب الفواحش، والمعنى متقارب. وقيل: المنافقون والذين في قلوبهم مرض شيء واحد، عبر عنهم بلفظين؛ دليله آية المنافقين في أول سورة "البقرة". والمرجفون في المدينة قوم كانوا يخبرون المؤمنين بما يسوءهم من عدوهم، فيقولون إذا خرجت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: إنهم قد قتلوا أو هزموا، وإن العدو قد أتاكم، قال قتادة وغيره. وقيل كانوا يقولون: أصحاب الصفة قوم عزاب، فهم الذين يتعرضون للنساء. وقيل: هم قوم من المسلمين ينطقون بالأخبار الكاذبة حبا للفتنة. وقد كان في أصحاب الإفك قوم مسلمون ولكنهم خاضوا حبا للفتنة. وقال ابن عباس: الإرجاف التماس الفتنة، والإرجاف: إشاعة الكذب والباطل للاغتمام به. وقيل: تحريك القلوب، يقال: رجفت الأرض - أي تحركت وتزلزلت - ترجف رجفا. والرجفان: الاضطراب الشديد. والرجاف: البحر، سمي به لاضطرابه. قال الشاعر:
المطعمون اللحم كل عشية حتى تغيب الشمس في الرجاف
والإرجاف: واحد أراجيف الأخبار. وقد أرجفوا في الشيء، أي خاضوا فيه. قال الشاعر:
فإنا وإن عيرتمونا بقتله وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
وقال آخر: أبس الأراجيف يا ابن اللؤم توعدني وفي الأراجيف خلت اللؤم والخور فالإرجاف حرام، لأن فيه إذاية. فدلت الآية على تحريم الإيذاء بالإرجاف.
قوله تعالى: "لنغرينك بهم" أي لنسلطنك عليهم فتستأصلهم بالقتل. وقال ابن عباس: لم ينتهوا عن إيذاء النساء وأن الله عز وجل قد أغراه بهم. ثم إنه قال عز وجل: "ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره" [التوبة: 84] وإنه أمره بلعنهم، وهذا هو الإغراء؛ وقال محمد بن يزيد: قد أغراه بهم في الآية التي تلي هذه مع اتصال الكلام بها، وهو قوله عز وجل: "أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا". فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم؛ أي هذا حكمهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (خمس يقتلن في الحل والحرم). فهذا فيه معنى الأمر كالآية سواء. النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية. وقيل: إنهم قد انتهوا عن الإرجاف فلم يغر بهم. ولام "لنغرينك" لام القسم، واليمين واقعة عليها، وأدخلت اللام في "إن" توطئة لها. "ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا" أي في المدينة. "إلا قليلا" نصب على الحال من الضمير في "يجاورونك"؛ فكان الأمر كما قال تبارك وتعالى؛ لأنهم لم يكونوا إلا أقلاء. فهذا أحد جوابي الفراء، وهو الأولى عنده، أي لا يجاورونك إلا في حال قلتهم. والجواب الآخر: أن يكون المعنى إلا وقتا قليلا، أي لا يبقون معك إلا مدة يسيرة، أي لا يجاورونك فيها إلا جوارا قليلا حتى يهلكوا، فيكون نعتا لمصدر أو ظرف محذوف. ودل على أن من كان معك ساكنا بالمدينة فهو جار. وقد مضى في "النساء".
قوله تعالى: "ملعونين" هذا تمام الكلام عند محمد بن يزيد، وهو منصوب على الحال. وقال ابن الأنباري: "قليلا ملعونين" وقف حسن. النحاس: ويجوز أن يكون التمام "إلا قليلا" وتنصب "ملعونين" على الشتم. كما قرأ عيسى بن عمر: "وامرأته حمالة الحطب". وقد حكي عن بعض النحويين أنه قال: يكون المعنى أينما ثقفوا أخذوا ملعونين. وهذا خطأ لا يعمل ما كان مع المجازاة فيما قبله وقيل: معنى الآية إن أصروا على النفاق لم يكن لهم مقام بالمدنية إلا وهم مطرودون ملعونون. وقد فعل بهم هذا، فإنه لما نزلت سورة "التوبة" جمعوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا فلان قم فاخرج فإنك منافق ويا فلان قم) فقام إخوانهم من المسلمين وتولوا إخراجهم من المسجد. "سنة الله" نصب على المصدر؛ أي سن الله جل وعز فيمن أرجف بالأنبياء وأظهر نفاقه أن يؤخذ ويقتل. "ولن تجد لسنة الله تبديلا" أي تحويلا وتغييرا، حكاه النقاش. وقال السدي: يعني أن من قتل بحق فلا دية على قاتله. المهدوي: وفي الآية دليل على جواز ترك إنفاذ الوعيد، والدليل على ذلك بقاء المنافقين معه حتى مات. والمعروف من أهل الفضل إتمام وعدهم وتأخير وعيدهم، وقد مضى هذا في "آل عمران" وغيرها.
تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 426
426- تفسير الصفحة رقم426 من المصحفالآية: 55 {لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيد}
لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ونحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب؟ فنزلت هذه الآية.
ذكر الله تعالى في هذه الآية من يحل للمرأة البروز له، ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين. وقد يسمى العم أبا، قال الله تعالى: "نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل" [البقرة: 133] وإسماعيل كان العم. قال الزجاج: العم والخال ربما يصفان المرأة لولديهما، فإن المرأة تحل لابن العم وابن الخال فكره لهما الرؤية. وقد كره الشعبي وعكرمة أن تضع المرأة خمارها عند عمها أو خالها. وقد ذكر في هذه الآية بعض المحارم وذكر الجميع في سورة "النور"، فهذه الآية بعض تلك، وقد مضى الكلام هناك مستوفى، والحمد لله.
قوله تعالى: "واتقين الله" لما ذكر الله تعالى الرخصة في هذه الأصناف وانجزمت الإباحة، عطف بأمرهن بالتقوى عطف جملة. وهذا في غاية البلاغة والإيجاز، كأنه قال: اقتصرن على هذا واتقين الله فيه أن تتعدينه إلى غيره. وخص النساء بالذكر وعنهن في هذا الأمر، لقلة تحفظهن وكثرة استرسالهن. والله أعلم. ثن توعد تعالى بقوله: "إن الله كان على كل شيء شهيدا".
الآية: 56 {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليم}
هذه الآية شرف الله بها رسوله عليه السلام حياته وموته، وذكر منزلته منه، وطهر بها سوء فعل من استصحب في جهته فكرة سوء، أو في أمر زوجاته ونحو ذلك. والصلاة من الله رحمته ورضوانه، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار، ومن لأمة الدعاء والتعظيم لأمره
مسألة: واختلف العلماء في الضمير في قوله: "يصلون" فقالت فرقة: الضمير فيه لله والملائكة، وهذا قول من الله تعالى شرف به ملائكته، فلا يصحبه الاعتراض الذي جاء في قول الخطيب: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بئس الخطيب أنت، قل ومن يعصى الله ورسوله) أخرجه الصحيح. قالوا: لأنه ليس لأحد أن يجمع ذكر الله تعالى مع غيره في ضمير، ولله أن يقع في ذلك ما يشاء. وقالت فرقة: في الكلام حذف، تقديره إن الله يصلي وملائكته يصلون، وليس في الآية اجتماع في ضمير، وذلك جائز للبشر فعله. ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم (بئس الخطيب أنت) لهذا المعنى، وإنما قال لأن الخطيب وقف على ومن يعصهما، وسكت سكتة. واستدلوا بما رواه أبو داود عن عدي بن حاتم أن خطيبا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسول ومن يعصهما. فقال: (قم - أو اذهب - بئس الخطيب أنت). إلا أنه يحتمل أن يكون لما خطأه في وقفه وقال له: (بئس الخطيب) أصلح له بعد ذلك جميع كلامه، فقال: (قل ومن يعص الله ورسول) كما في كتاب مسلم. وهو يؤيد القول الأول بأنه لم يقف على "ومن يعصهما". وقرأ ابن عباس: "وملائكه" بالرفع على موضع اسم الله قبل دخول "إن". والجمهور بالنصب عطفا على المكتوبة.
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه" أمر الله تعالى عباده بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم دون أنبيائه تشريفا له، ولا خلاف في أن الصلاة عليه فرض في العمر مرة، وفي كل حين من الواجبات وجوب السنن المؤكدة التي لا يسع تركها ولا يغفلها إلا من لا خير فيه. الزمخشري: فإن قلت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة أم مندوب إليها؟ قلت: بل واجبة. وقد اختلفوا في حال وجوبها، فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره. وفي الحديث: (من ذكرت عنده فلم يصل علي فدخل النار فأبعده الله). وروى أنه قيل له: يا رسول الله، أرأيت قول الله عز وجل: "إن الله وملائكته يصلون على النبي" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا من العلم المكنون ولولا أنكم سألتموني عنه ما أخبرتكم به إن الله تعالى وكل بي ملكين فلا أذكر عند مسلم فيصلي. علي إلا قال ذلك الملكان غفر. الله لك وقال الله تعالى وملائكته جوابا لذينك الملكين أمين. ولا أذكر. عند عبد مسلم فلا يصلي علي إلا قال ذلك الملكان لا غفر الله لك وقال الله تعالى وملائكته لذينك الملكين أمين). ومنهم من قال: تجب في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره، كما قال في آية السجدة وتشميت العاطس. وكذلك في كل دعاء في أوله وأخره ومنهم من أوجبها في العمر. وكذلك قال في إظهار الشهادتين. والذي يقتضيه الاحتياط: الصلاة عند كل ذكر، لما ورد من الأخبار في ذلك.
واختلفت الآثار في صفة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فروى مالك عن أبي مسعود الأنصاري قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى، تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى: (قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسلام كما قد علمتم). ورواه النسائي عن طلحة مثله، بإسقاط قوله: (في العالمين) وقوله: (والسلام كما قد علمتم). وفي الباب عن كعب بن عجرة وأبي حميد. الساعدي وأبي سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة وبريدة الخزاعي وزيد بن خارجة، ويقال ابن حارثة أخرجها أئمة أهل الحديث في كتبهم. وصحح الترمذي حديث كعب بن عجرة. أخرجه مسلم في صحيحه مع حديث أبي حميد الساعدي. قال أبو عمر: روى شعبة والثوري عن الحكم ابن عبدالرحمن بن ابن ليلى عن كعب بن عجرة قال: لما نزل قوله: تعالى: "يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما" جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذا السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة؟ فقال: (قل الهم صل على محمد. وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد) وهذا لفظ حديث الثوري لا حديث شعبة وهو يدخل في التفسير المسند إليه لقول الله تعالى: "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما" فبين كيف الصلاة عليه وعلمهم في التحيات كيف السلام. عليه، وهو قوله: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته). وروى المسعودي عن عون بن عبدالله عن أبي فاختة عن الأسود عن عبدالله أنه قال: إذا صليتم على النبي صلى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاة عليه، فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه. قالوا فعلمنا، قال: (قولوا اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام أبعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل حمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حمد مجيد). ورويناه بالإسناد المتصل في كتاب (الشفا) للقاضي عياض عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: عدهن في يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (عدهن في يدي جبريل وقال هكذا أنزلت من عند رب العزة اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم وتحنن على محمد وعلى آل محمد كما تحننت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد). قال ابن العربي: من هذه الروايات صحيح ومنها سقيم، وأصحها ما رواه مالك فاعتمدوه. ورواية غير مالك من زيادة الرحمة مع الصلاة وغيرها لا يقوى، وإنما على الناس أن ينظروا في أديانهم نظرهم في أموالهم، وهم لا يأخذون في البيع دينارا معيبا، وإنما يختارون السالم الطيب، كذلك لا يؤخذ من الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم سنده، لئلا يدخل في حيز الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هو يطلب الفضل إذا به قد أصاب النقص، بل ربما أصاب الخسران المبين.
في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا). وقال سهل بن عبدالله: الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم أفضل العبادات، لأن الله تعالى تولاها هو وملائكه، ثم أمر بها المؤمنين، وسائر العبادات ليس كذلك. قال أبو سليمان الداراني: من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسأل الله حاجته، ثم يختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى يقبل الصلاتين وهو أكرم من أن يرد ما بينهما. وروى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي عنه أنه قال: الدعاء يحجب دون السماء حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم رفع الدعاء. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى علي وسلم علي في كتاب لم تزل الملائكة يصلون عليه ما دام اسمي في ذلك الكتاب).
واختلف العلماء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فالذي عليه الجم الغفير والجمهور الكثير: أن ذلك من سنن الصلاة ومستحباتها. قال ابن المنذر: يستحب ألا يصلي أحد صلاة إلا صلى الله عليه وسلم فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ترك ذلك تارك فصلاته مجزية في مذاهب مالك وأهل المدينة وسفيان الثوري وأهل الكوفة من أصحاب الرأي وغيرهم. وهو قول جل أهل العلم. وحكي عن مالك وسفيان أنها في التشهد الأخير مستحبة، وأن تاركها في التشهد مسيء وشذ الشافعي فأوجب على تاركها في الصلاة الإعادة وأوجب إسحاق الإعادة مع تعمد تركها دون النسيان. وقال أبو عمر: قال الشافعي إذا لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير بعد التشهد وقبل التسليم أعاد الصلاة. قال: وإن صلى الله عليه وسلم عليه قبل ذلك لم تجزه. وهذا قول حكاه عنه حرملة بن يحيى، لا يكاد يوجد هكذا عن الشافعي إلا من وراية حرملة عنه، وهو من كبار أصحابه الذين كتبوا كتبه. وقد تقلده أصحاب الشافعي ومالوا إليه وناظروا عليه، وهو عندهم تحصيل مذهبه. وزعم الطحاوي أنه لم يقل به أحد من أهل العلم غيره. وقال الخطابي وهو من أصحاب الشافعي: وليست بواجبة في، الصلاة، وهو قول جماعة الفقهاء إلا الشافعي، ولا أعلم له فيها قدوة. والدليل على أنها ليست من فروض، الصلاة عمل السلف الصالح قبل الشافعي وإجماعهم عليه، وقد شنع عليه في هذه المسألة جدا. وهذا تشهد ابن مسعود الذي اختاره الشافعي وهو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك كل من روي التشهد عنه صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عمر: فإن أبو بكر يعلمنا الشهد على المنبر كما تعلمون الصبيان في الكتاب. وعلمه أيضا على المنبر عمر، وليس فيه ذكر الصلاة على، النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: قد قال بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة محمد. بن المواز من أصحابنا فيما ذكر ابن القصار وعبدالوهاب، واختاره ابن العربي للحديث الصحيح: إن الله أمرنا أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟ فعلم الصلاة ووقتها فتعينت كيفية ووقتا. وذكر الدارقطني عن أبي جعفر محمد ابن علي بن الحسين أنه قال: لو صليت صلاة لم أصل فيها على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على أهل بيته لرأيت أنها لا تتم. وروي مرفوعا عنه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم. والصواب أنه قول أبي جعفر، قال الدارقطني.
قوله تعالى: "وسلموا تسليما" قال القاضي أبو بكر بن بكير: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم فأمر الله أصحابه أن يسلموا عليه. وكذلك من بعدهم امروا أن يسلموا عليه عند حضورهم قبره وعند ذكره. وروى النسائي عن عبدالله بن أبي طلحة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبشر يرى في وجهه، فقلت: إنا لنرى البشرى في وجهك! فقال: (إنه أتاني الملك فقال يا محمد إن ربك يقول أما يرضيك إنه لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشرا ولا يسلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشرا). وعن محمد بن عبدالرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد يسلم علي إذا مت إلا جاءني سلامه مع جبريل يقول يا محمد هذا فلان بن فلان يقرأ عليك السلام فأقول وعليه السلام ورحمة الله وبركاته) وروى النسائي عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام). قال القشيري والتسليم قولك: سلام عليك.
الآية: 57 {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهين}
اختلف العلماء في أذية الله بماذا تكون؟ فقال الجمهور من العلماء: معناه بالكفر ونسبة الصاحبة والولد والشريك إليه، ووصفه بما لا يليق به، كقول اليهود لعنهم الله: وقالت اليهود يد الله مغلولة. والنصارى: المسيح ابن الله. والمشركون: الملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه. وفي صحيح البخاري قال الله تعالى: (كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك...) الحديث. وقد تقدم في سورة "مريم" وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال الله تبارك وتعالى: (يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما). هكذا جاء هذا الحديث موقوفا على أبي هريرة في هذه الرواية. وقد جاء مرفوعا عنه (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار) أخرجه أيضا مسلم. وقال عكرمة: معناه بالتصوير والتعرض لفعل ما لا يفعله إلا الله بنحت الصور وغيرها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (لعن الله المصورين).
قلت: وهذا مما يقوي قول مجاهد في المنع من تصوير الشجر وغيرها؛ إذ كل ذلك صفة اختراع وتشبه بفعل الله الذي انفرد به سبحانه وتعالى. وقد تقدم هذا في سورة "النمل" والحمد لله. وقالت فرقة: ذلك على حذف مضاف، تقديره: يؤذون أولياء الله. وأما أذية رسوله صلى الله عليه وسلم فهي كل ما يؤذيه من الأقوال في غير معنى واحد، ومن الأفعال أيضا. أما قولهم: "فساحر شاعر. كاهن مجنون. وأما فعلهم: فكسر رباعيته وشج وجهه يوم أحد، وبمكة إلقاء السلى على ظهره وهو ساجد" إلى غير ذلك. وقال ابن عباس: نزلت في الذين طعنوا عليه حين اتخذ صفية بنت أبي حيي. وأطلق إيذاء الله ورسوله وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات، لأن إيذاء الله ورسول لا يكون إلا بغير حق أبدا. وأما إيذاء المؤمنين والمؤمنات فمنه .. ومنه..
قال علماؤنا: والطعن في تأمير أسامة بن زيد أذية له عليه السلام. وروى الصحيح عن ابن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد فطعن الناس في إمرته؛ فقام رسول الله صلى فقال: (إن تطعنوا في إمرته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل وايم الله إن كان لخليقا للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي وإن هذا لمن أحب الناس إلى بعده). وهذا البعث - والله أعلم - هو الذي جهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أسامة وأمره عليهم وأمره أن يغزوا "أبنى" وهي القرية التي عند موتة، الموضع الذي قتل فيه زيد أبوه جعفر بن أبي طالب وعبدالله بن رواحة. فأمره أن يأخذ بثأر أبيه فطعن من في قلبه ريب في إمرته؛ من حيث إنه كان من الموالي، ومن حيث إنه كان صغير السن؛ لأنه كان إذ ذاك ابن ثمان عشرة سنة؛ فمات النبي صلى الله عليه وسلم وقد برز هذا البعث عن المدينة ولم ينفصل بعد عنها؛ فنفذه أبو بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم.
في هذا الحديث أوضح دليل على جواز إمامة المولى والمفضول على غيرهما ما عدا الإمامة الكبرى. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم مولى أبي حذيفة على الصلاة بقباء، فكان يؤمهم وفيهم أبو بكر وعمر وغيرهم من كبراء قريش. وروى الصحيح عن عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله محلى مكة فقال: من استعملت على هذا الوادي؟ قال: ابن أبزى. قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا. قال: فاستخلفت عليهم مولى! قال: إنه لقارئ لكتاب الله لأنه لعالم بالفرائض - قال - أما إن نبيكم قد قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين).
كان أسامة رضي الله عنه الحب ابن الحب وبذلك كان يدعي، وكان أسود شديد السواد، وكأن زيد أبوه أبيض من القطن. هكذا ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح. وقال غير أحمد: كان زيد أزهر اللون وكان أسامة شديد الأدمة. ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحسن أسامة وهو صغير ويمسح مخاطه، وينقي أنفه ويقول: (لو كان أسامة جارية لزيناه وجهزناه وحببناه إلى الأزواج). وقد ذكر أن سبب ارتداد العرب بعد النبي صلى الله عليه وسلم، أنه لما كان عليه السلام في حجة الوداع بجبل عرفة عشية عرفة عند النفر، احتبس النبي صلى الله عليه وسلم قليلا بسبب أسامة إلى أن أتاه؛ فقالوا: ما أحتبس إلا لأجل هذا! تحقيرا له. فكان قولهم هذا سبب ارتدادهم. ذكره البخاري في التاريخ بمعناه. والله أعلم.
كان عمر رضي الله عنه يفرض لأسامة في العطاء خمسة آلاف، ولابنه عبدالله ألفين؛ فقال له عبدالله: فضلت علي أسامة وقد شهدت ما لم يشهد! فقال: إن أسامة كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، وأباه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، أبيك، ففضل رضي الله عنه من محبوب رسول الله صلى الله عليه وسلم على محبوبه. وهكذا يجب أن يحب ما أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغض من أبغض. وقد قابل مروان هذا الحب بنقيضه؛ وذلك أنه مر بأسامة بن زيد وهو يصلي عند باب بيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مروان: إنما أردت أن نرى مكانك، فقد رأينا مكانك، فعل الله بك! وقال قولا قبيحا. فقال له أسامة: إنك أذيتني، وإنك فاحش متفحش، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(إن الله تعالى يبغض الفاحش المتفحش). فانظر ما بين الفعلين وقس ما بين الرجلين، فقد أذى بنو أمية النبي صلى الله عليه وسلم في أحبابه، وناقضوه في محابه.
قوله تعالى: "لعنهم الله" معناه أبعدوا من كل خير. واللعن في اللغة: الإبعاد، ومنه اللعان. "وأعد لهم عذابا مهينا" تقدم معناه في غير موضع. والحمد لله رب العالمين.
الآية: 58 {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبين}
أذية المؤمنين والمؤمنات هي أيضا بالأفعال والأقوال القبيحة، كالبهتان والتكذيب الفاحش المختلق. وهذه الآية نظير الآية التي في النساء: "ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا" [النساء: 112] كما قال هنا. وقد قيل: إن من الأذية تعييره بحسب مذموم، أو حرفة مذمومة، أو شيء يثقل عليه إذا سمعه، لأن أذاه في الجملة حرام. وقد ميز الله تعالى بين أذاه وأذى الرسول وأذى المؤمنين فجعل الأول كفرا والثاني كبيرة، فقال في أذى المؤمنين: "فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا" وقد بيناه. وروي أن عمر بن الخطاب قال لأبي بن كعب: قرأت البارحة هذه الآية ففزعت منها "والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا" الآية، والله إني لأضربهم وأنهرهم. فقال له أبي: يا أمير المؤمنين، لست منهم، إنما أنت معلم ومقوم. وقد قال: إن سبب نزول هذه الآية أن عمر رأى جارية من الأنصار فضربها وكره ما رأى من زينتها، فخرج أهلها فآذوا عمر بالسان؛ فأنزل الله هذه الآية. وقيل: نزلت في علي، فإن المنافقين كانوا يؤذونه ويكذبون عليه. رضي الله عنه.
الآية: 59 {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيم}
قوله تعالى: "قل لأزواجك وبناتك" قد مضى الكلام في تفضيل أزواجه واحدة واحدة. قال قتادة: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسع. خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة. وثلاث من سائر العرب: ميمونة، وزينب بنت جحش، وجويرية. وواحدة من بني هارون: صفية. وأما أولاده فكان للنبي صلى الله عليه وسلم أولاد ذكور وإناث.
فالذكور من أولاده: القاسم، أمه خديجة، وبه كان يكنى صلى الله عليه وسلم، وهو أول من مات من أولاده، وعاش سنتين. وقال عروة: ولدت خديجة للنبي صلى الله ليه وسلم القاصم والطاهر وعبدالله والطيب. وقال أبو بكر البرقي: ويقال إن الطاهر هو الطيب وهو عبدالله. وإبراهيم أمه مارية القبطية، ولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، وتوفي ابن ستة عشر شهرا، وقيل ثمانية عشر؛ ذكره الدارقطني. ودفن بالبقيع. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن له موضعا تتم رضاعه في الجنة). وجميع أولاد النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة سوى إبراهيم. وكل أولاده ماتوا في حياته غير فاطمة.
وأما الإناث من أولاده فمنهن: فاطمة الزهراء بنت خديجة، ولدتها وقريش تبني النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة بخمس سنين، وهي أصغر بناته، وتزوجها علي رضي الله عنهما في السنة الثانية من الهجرة في رمضان، وبنى بها في ذي الحجة. وقيل: تزوجها في رجب، وتوفيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسير، وهي أول من لحقه من أهل بيته. رضى الله عنها..
ومنهن: زينب - أمها خديجة - تزوجها ابن خالتها أبو العاصي بن الربيع، وكانت أم العاصي هالة بنت خويلد أخت خديجة. واسم أبي العاصي لقيط. وقيل هاشم. وقيل هشيم وقيل مقسم. وكانت أكبر بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وتوفيت - ثمان من الهجرة، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبرها.
ومنهن: رقة - أمها خديجة - تزوجها عتبة بن أبي لهب قبل النبوة، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم اله عليه وسلم وأنزل عليه: "تبت يدا أبي لهب" [المسد: 1] قال أبو لهب لابنه: رأسي من رأسك حرام إن لم تطلق ابنته؛ ففارقها ولم يكن بنى بها. وسلمت حين أسلمت أمها خديجة، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وأخواتها حين بايعه النساء، وتزوجها عثمان بن عفان، وكانت نساء قريش يقلن حين تزوجها عثمان:
أحسن شخصين رأى إنسان رقية وبعلها عثمان
وهاجرت معه إلى أرض الحبشة الهجرتين، وكانت قد أسقطت من عثمان سقطا، ثم ولدت بعد ذلك عبدالله، وكان عثمان يكنى به في الإسلام، وبلغ ست سنين فنقره ديك في وجهه فمات، ولم تلد له شيئا بعد ذلك. وهاجرت إلى المدينة ومرضت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى بدر فخلف عثمان عليها، فتوفيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر، على رأس سبعة عشر شهرا من الهجرة. وقدم زيد بن حارثة بشيرا من بدر، فدخل المدينة حين سوي التراب على بقية. ولم يشهد دفنها رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم.
ومنهن: أم كلثوم - أمها خديجة - تزوجها عتيبة بن أبي لهب - أخو عتبة - قبل النبوة، وأمره أبوه أن يفارقها للسبب المذكور في أمر رقية، ولم يكن دخل بها، حتى نزل بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم وأسلمت حين أسلمت أمها، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخواتها حين بايعه النساء، وهاجرت إلى المدينة حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم الله صلى الله عليه وسلم. فلما توفيت رقية تزوجها عثمان، وبذلك سمي ذا النورين. وتوقيت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة تسع من الهجرة. وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرها، ونزل في حفرتها علي والفضل وأسامة. وذكر الزبير بن بكار أن أكبر ولد النبي صلى الله عليه وسلم: القاسم، ثم زينب، ثم عبدالله، وكان يقال له الطيب والطاهر، وولد بعد النبوة ومات صغيرا ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية. فمات القاسم بمكة ثم مات عبدالله.
لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن، وتشعب الفكرة فيهن، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن، وكن يتبرزن في الصحراء قبل أن تتخذ الكنف - فيقع الفرق بينهن وبين الإماء، فتعرف الحرائر بسترهن، فيكف عن معارضتهن من كان عزبا أو شابا. وكانت المرأة من نساء المؤمنين قبل نزول هذه الآية تتبرز للحاجة فيتعرض لها بعض الفجار. يظن أنها أمة، فتصيح به فيذهب، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت الآية بسبب ذلك. قال معناه الحسن وغيره.
قوله تعالى: "من جلابيبهن" الجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار. وروى عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء. وقد قيل: إنه القناع. والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن. وفي صحيح مسلم عن أم عطية: قلت: يا رسول الله. إحدانا لا يكون لها. جلباب؟ قال: (لتلبسها أختها من جلبابها).
واختلف الناس في صورة إرخائه؛ فقال ابن عباس وزبيدة السلماني: ذلك أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها. وقال ابن عباس أيضا وقتادة: ذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه. وقال الحسن: تغطي نصف وجهها.
أمر الله سبحانه جميع النساء بالستر، أو ذلك لا يكون إلا بما لا يصف جلدها، إلا إذا كانت مع زوجها فلها أن تلبس ما شاءت؛ لأن له أن يستمتع بها كيف شاء. ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال: (سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن وماذا فتح من الخزائن من يوقظ صواحب الحجر رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة). وروي أن دحية الكلبي لما رجع من عند هرقل فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قبطية؛ فقال: (اجعل صديعا لك قميصا وأعط صاحبتك صديعا تختمر به). والصديع النصف. ثم قال له: (مرها تجعل تحتها شيئا لئلا يصف). وذكر أبو هريرة رقة الثياب للنساء فقال: الكاسيات العاريات الناعمات الشقيات. ودخل نسوة من بني تميم على عائشة رضي الله عنها عليهن ثياب رقاق، فقالت عائشة: إن كنتن مؤمنات فليس هذا بلباس المؤمنات، وإن كنتن غير مؤمنات فتمتعينه. وأدخلت امرأة عروس على عائشة رضي الله عنها وعليها خمار قبطي معصفر، فلما رأتها قالت: لم تؤمن بسورة "النور" امرأة تلبس هذا. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن مثل أسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها). وقال عمر رضي الله عنه: ما يمنع المرأة المسلمة إذ كانت لها حاجة أن تخرج في أطمارها أو أطمار جارتها مستخفية، لا يعلم بها أحد حتى ترجع إلى بيتها.
قوله تعالى: "ذلك أدنى أن يعرفن" أي الحراس، حتى لا يختلط بالإماء؛ فإذا عرفن لم يقابلن بأدنى من المعارضة مراقبة لرتبة الحرية، فتنقطع الأطماع عنهن. وليس المعنى أن تعرف المرأة حتى تعلم من هي. وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى أمة قد تقنعت ضربها بالدرة، محافظة على زي الحرائر. وقد قيل: إنه يجب الستر والتقنع الآن في حق الجميع من الحرائر والإماء. وهذا كما أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا النساء المساجد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) حتى قالت - عائشة رضي الله عنها: لو عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا لمنعهن من الخروج إلى المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل. "وكان الله غفورا رحيما" تأنيس للنساء في ترك الجلابيب قبل هذا الأمر المشروع.
الآية: 60 - 62 {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا، ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا، سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديل}
قوله تعالى: "لئن لم ينته المنافقون" الآية. أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد؛ كما روى سفيان بن سعيد عن منصور عن أبي رزين قال: "المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة" قال: هم شيء واحد، يعني أنهم قد جمعوا هذه الأشياء. والواو مقحمة، كما قال:
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة، وقد مضى في "البقرة". وقيل: كان منهم قوم يرجفون، وقوم يتبعون النساء للريبة وقوم يشككون المسلمين. قال عكرمة وشهر بن حوشب: "الذين في قلوبهم مرض" يعني الذين هي قلوبهم الزنى. وقال طاوس: نزلت هذه الآية في أمر النساء. وقال سلمة بن كهيل: نزلت في أصحاب الفواحش، والمعنى متقارب. وقيل: المنافقون والذين في قلوبهم مرض شيء واحد، عبر عنهم بلفظين؛ دليله آية المنافقين في أول سورة "البقرة". والمرجفون في المدينة قوم كانوا يخبرون المؤمنين بما يسوءهم من عدوهم، فيقولون إذا خرجت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: إنهم قد قتلوا أو هزموا، وإن العدو قد أتاكم، قال قتادة وغيره. وقيل كانوا يقولون: أصحاب الصفة قوم عزاب، فهم الذين يتعرضون للنساء. وقيل: هم قوم من المسلمين ينطقون بالأخبار الكاذبة حبا للفتنة. وقد كان في أصحاب الإفك قوم مسلمون ولكنهم خاضوا حبا للفتنة. وقال ابن عباس: الإرجاف التماس الفتنة، والإرجاف: إشاعة الكذب والباطل للاغتمام به. وقيل: تحريك القلوب، يقال: رجفت الأرض - أي تحركت وتزلزلت - ترجف رجفا. والرجفان: الاضطراب الشديد. والرجاف: البحر، سمي به لاضطرابه. قال الشاعر:
المطعمون اللحم كل عشية حتى تغيب الشمس في الرجاف
والإرجاف: واحد أراجيف الأخبار. وقد أرجفوا في الشيء، أي خاضوا فيه. قال الشاعر:
فإنا وإن عيرتمونا بقتله وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
وقال آخر: أبس الأراجيف يا ابن اللؤم توعدني وفي الأراجيف خلت اللؤم والخور فالإرجاف حرام، لأن فيه إذاية. فدلت الآية على تحريم الإيذاء بالإرجاف.
قوله تعالى: "لنغرينك بهم" أي لنسلطنك عليهم فتستأصلهم بالقتل. وقال ابن عباس: لم ينتهوا عن إيذاء النساء وأن الله عز وجل قد أغراه بهم. ثم إنه قال عز وجل: "ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره" [التوبة: 84] وإنه أمره بلعنهم، وهذا هو الإغراء؛ وقال محمد بن يزيد: قد أغراه بهم في الآية التي تلي هذه مع اتصال الكلام بها، وهو قوله عز وجل: "أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا". فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم؛ أي هذا حكمهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (خمس يقتلن في الحل والحرم). فهذا فيه معنى الأمر كالآية سواء. النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية. وقيل: إنهم قد انتهوا عن الإرجاف فلم يغر بهم. ولام "لنغرينك" لام القسم، واليمين واقعة عليها، وأدخلت اللام في "إن" توطئة لها. "ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا" أي في المدينة. "إلا قليلا" نصب على الحال من الضمير في "يجاورونك"؛ فكان الأمر كما قال تبارك وتعالى؛ لأنهم لم يكونوا إلا أقلاء. فهذا أحد جوابي الفراء، وهو الأولى عنده، أي لا يجاورونك إلا في حال قلتهم. والجواب الآخر: أن يكون المعنى إلا وقتا قليلا، أي لا يبقون معك إلا مدة يسيرة، أي لا يجاورونك فيها إلا جوارا قليلا حتى يهلكوا، فيكون نعتا لمصدر أو ظرف محذوف. ودل على أن من كان معك ساكنا بالمدينة فهو جار. وقد مضى في "النساء".
قوله تعالى: "ملعونين" هذا تمام الكلام عند محمد بن يزيد، وهو منصوب على الحال. وقال ابن الأنباري: "قليلا ملعونين" وقف حسن. النحاس: ويجوز أن يكون التمام "إلا قليلا" وتنصب "ملعونين" على الشتم. كما قرأ عيسى بن عمر: "وامرأته حمالة الحطب". وقد حكي عن بعض النحويين أنه قال: يكون المعنى أينما ثقفوا أخذوا ملعونين. وهذا خطأ لا يعمل ما كان مع المجازاة فيما قبله وقيل: معنى الآية إن أصروا على النفاق لم يكن لهم مقام بالمدنية إلا وهم مطرودون ملعونون. وقد فعل بهم هذا، فإنه لما نزلت سورة "التوبة" جمعوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا فلان قم فاخرج فإنك منافق ويا فلان قم) فقام إخوانهم من المسلمين وتولوا إخراجهم من المسجد. "سنة الله" نصب على المصدر؛ أي سن الله جل وعز فيمن أرجف بالأنبياء وأظهر نفاقه أن يؤخذ ويقتل. "ولن تجد لسنة الله تبديلا" أي تحويلا وتغييرا، حكاه النقاش. وقال السدي: يعني أن من قتل بحق فلا دية على قاتله. المهدوي: وفي الآية دليل على جواز ترك إنفاذ الوعيد، والدليل على ذلك بقاء المنافقين معه حتى مات. والمعروف من أهل الفضل إتمام وعدهم وتأخير وعيدهم، وقد مضى هذا في "آل عمران" وغيرها.
الصفحة رقم 426 من المصحف تحميل و استماع mp3