تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 426 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 426

425

ثم بين سبحانه من لا يلزم الحجاب منه فقال: 55- "لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن" فهؤلاء لا يجب على نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا غيرهن من النساء الاحتجاب منهم، ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين. وقال الزجاج: العم والخال ربما يصفان المرأة لولديهما، فإن المرأة تحل لابن العم وابن الخال فكره لهما الرؤية، وهذا ضعيف جداً، فإن تجويز وصف المرأة لمن تحل له ممكن من غيرهما ممن يجوز له النظر إليها، لا سيما أبناء الإخوة وأبناء الأخوات، واللازم باطل فالملزوم مثله، وهكذا يستلزم أن لا يجوز للنساء الأجنبيات أن ينظرن إليها لأنهن يصفنها، واللازم باطل فالملزوم مثله، وهكذا لا وجه لما قاله الشعبي وعكرمة من أنه يكره للمرأة أن تضع خمارها عند عمها أو خالها، والأولى أن يقال أنه سبحانه اقتصر ههنا على بعض ما ذكره من المحارم في سورة النور اكتفاء بما تقدم "ولا نسائهن" هذه الإضافة تقتضي أن يكون المراد بالنساء المؤمنات، لأن الكافرات غير مأمونات على العورات، والنساء كلهن عورة "ولا ما ملكت أيمانهن" من العبيد والإماء، وقيل الإماء خاصة، ومن لم يبلغ من العبيد، والخلاف في ذلك معروف. وقد تقدم في سورة النور ما فيه كفاية. ثم أمرهن سبحانه بالتقوى التي هي ملاك الأمر كله، "و" المعنى "اتقين" الله في كل الأمور التي من جملتها ما هو مذكور هنا "إن الله كان على كل شيء شهيداً" لم يغب عنه شيء من الأشياء كائناً ما كان، فهو مجاز للمحسن بإحسانه وللمسيء بإساءته. وقد أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو حجبتهن، فأنزل الله الحجاب. وفي لفظ أنه قال عمر: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنز الله "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي" الآية. وأخرج ابن جرير عن عائشة أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع، وهو صعيد أفيح، وكان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم احجب نساءك، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة ليلة من الليالي عشاء، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر بصوته الأعلى: قد عرفناك يا سودة حرصاً على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله الحجاب، قال: "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي" الآية. وأخرج ابن سعد عن أنس قال: نزلت الحجاب مبتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، وذلك سنة خمس من الهجرة، وحجب نساءه من يومئذ وأنا ابن خمس عشرة سنة. وكذا أخرج ابن سعد عن صالح بن كيسان، وقال: نزل الحجاب على نسائه في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة، وبه قال قتادة والواقدي. وزعم أبو عبيدة وخليفة بن خياط أن ذلك كان في سنة ثلاث. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله" قال: نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده. قال سفيان: وذكروا أنها عائشة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال: أيحدبنا محمد عن بنات عمنا. ويتزوج نساءنا من بعدنا؟ لئن حدث به حدث لنتزوج نساءه من بعده، فنزلت هذه الآية. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن عيد وابن المنذر عن قتادة قال: قال طلحة بن عبيد الله: لو قبض النبي صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة. فنزلت. وأخرج ابن سعد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: نزلت في طلحة لأنه قال: إذا توفي النبي صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة. قال ابن عطية: وهذا عندي لا يصح على طلحة بن عبيد الله. قال القرطبي: قال شيخنا الإمام أبو العباس: وقد حكي هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة وحاشاهم عن مثله، وإنما الكذب في نقله، وإنما يليق مثل هذا القول بالمنافقين الجهال. وأخرج البيهقي في السنن عن ابن عباس قال: قال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لو قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة أو أم سلمة، فأنزل الله "وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله" الآية. وأخرج ابن جرير عنه "أن رجلاً أتى بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فكلمها وهو ابن عمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا، فقال: يا رسول الله إنها ابنة عمي، والله ما قلت لها منكراً ولا قالت لي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: قد عرفت ذلك إنه ليس أحد أغير من الله، وإنه ليس أحد أغير مني، فمضى ثم قال: يمنعني من كلام ابنة عمي لأتزوجها من بعده، فأنزل الله هذه الآية، فأعتق ذلك الرج رقبة وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله، وحج ماشياً توبة من كلمته". وأخرج ابن مردويه "عن أسماء بنت عميس قالت: خطبني علي فبلغ ذلك فاطمة، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أسماء متزوجة علياً، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم. ما كان لها أن تؤذي الله ورسوله". وأخرج ابن سعد عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف في قوله: "إن تبدوا شيئاً أو تخفوه" قال: إن تكلموا به فتقولون تتزوج فلانة لبعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، أو تخفوا ذلك في أنفسكم فلا تنطقوا به يعلمه الله. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "لا جناح عليهن" إلى آخر الآية قال: أنزلت هذه في نساء النبي صلى الله عليه وسلم: "نساء النبي" يعني نساء المسلمات " وما ملكت أيمانهم " من المماليك والإماء ورخص لهن أن يروهن بعد ما ضرب الحجاب عليهن.
قرأ الجمهور 56- "وملائكته" بنصب الملائكة عطفاً على لفظ اسم أن. وقرأ ابن عباس "وملائكته" بالرفع عطفاً على محل اسم إن، والضمير في قوله: "يصلون" راجع إلى الله وإلى الملائكة. وفيه تشريف للملائكة عظيم حيث جعل الضمير لهم ولله سبحانه واحداً، فلا يرد الاعتراض بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم" لما سمع قول الخطيب يقول: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال: بئس خطيب القوم أنت. قل ومن يعص الله ورسوله"، ووجه ذلك أنه ليس لأحج أن يجمع ذكر الله سبحانه مع غيره في ضمير واحد. وهذا الحديث ثابت في الصحيح. وثبت أيضاً في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر منادياً ينادي يوم خيبر: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية. ولأهل العلم أبحاث في الجمع بين الحديثين ليس هذا موضع ذكرها، والآية مؤيدة للجواز لجعل الضمير فيها لله ولملائكته واحداً، والتعليل بالتشريف للملائكة يقال مثله في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحمل الذم لذلك الخطيب الجامع بينهما على أنه صلى الله عيهل وسلم فهم منه إرادة التسوية بين الله سبحانه وبين رسوله، فيختص المنع بمثل ذلك، وهذا أحسن ما قيل في الجمع. وقالت طائفة: في هذه حذف، والتقدير: إن الله يصلي وملائكته يصلون. وعلى هذا القول فلا تكون الآية مما جمع فيه بين ذكر الله وذكر غيره في ضمير واحد، ولا يرد أيضاً ما قيل إن الصلاة من الله الرحمة ومن ملائكته الدعاء فكيف يجمع بين هذهين المعنيين المختلفين في لفظ يصلون، ويقال على القول الأول أنه أريد بيصلون معنى مجازي يعم المعنيين، وذلك بأن يراد بقوله يصلون يهتمون بإظهار شرفه، أو يعظمون شأنه، أو يعتنون بأمره. وحكى البخاري عن أبي العالية أن صلاة الله سبحانه ثناؤه عليه عند ملائكته وصلاة الملائكة الدعاء. وروى الترمذي في سننه عن سفيان الثوري وغير واحد من أهل العلم أنهم قالوا: صلاة الرب الرحمة، وصلاة الملائكة الاستغفار. وحكى الواحدي عن مقاتل أنه قال: أما صلاة الرب فالمغفرة، وأما صلاة الملائكة فالاستغفار. وقال عطاء بن أبي رباح: صلاته تبارك وتعالى سبوح وقدوس سبقت رحمتي غضبي. والمقصود من هذه الآية أن الله سبحانه أخبر عباده بمنزلة نبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند ملائكته وأن الملائكة تصلي عليه، وأمر عباده بأن يقتدوا بذلك ويصلوا عليه. وقد اختلف أهل العلم في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هل هي واجبة أم مستحبة؟ بعد اتفاقهم على أن الصلاة عليه فرض في العمر مرة. وقد حكى هذا الإجماع القرطبي في تفسيره، فقال قوم من أهل العلم: إنها واجبة عند ذكره، وقال قوم: تجب في كل مجلس مرة. وقد وردت أحاديث مصرحة بذم من سمع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصل عليه. واختلف العلماء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في تشهد الصلاة المفترضة هل هي واجبة أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنها فيها سنة مؤكدة غير واجبة. قال ابن المنذر: يستحب أن لا يصلي أحد صلاة إلا صلى فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ترك ذلك تارك فصلاته مجزئة في مذهب مالك وأهل المدينة وسفيان الثوري وأهل الكوفة من أصحاب الرأي وغيرهم، وهو قول الجمهور أهل العلم. قال: وشذ الشافعي فأوجب على تاركها الإعادة مع تعمد تركها دون النسيان، وهذا القول عن الشافعي لم يروه عنه إلا حرملة بن يحيى ولا يوجد عن الشافعي إلا من روايته. قال الطحاوي: لم يقل به أحد من أهل العلم غير الشافعي. وقال الخطابي، وهو من الشافعية: أنها ليست بواجبة في الصلاة. قال: وهو قول جماعة الفقهاء إلا الشافعي ولا أعلم له في ذلك قدوة انتهى. وقد قال بقول الشافعي جماعة من أهل العلم منهم الشعبي والباقر ومقاتل بن حيان، وإليه ذهب أحمد بن حنبل أخيراً، كما حكاه أبو زرعة الدمشقي، وبه قال ابن راهويه وابن المواز من المالكية. وقد جمعت في هذه المسألة رسالة مستقلة ذكرت فيها ما احتج به الموجبون لها وما أجاب به الجمهور، وأشف ما يستدل به على الوجوب الحديث الثابت بلفظ "أن الله أمرنا أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك في صلاتنا، فقال: قولوا..." الحديث. فإن هذا الأمر يصلح للاستدلال به على الوجوب. وأما على بطلان الصلاة بالترك ووجوب الإعادة لها فلا، لأن الواجبات لا يستلزم عدمها العدم كما يستلزم ذلك الشروط والأركان. واعلم أنه قد ورد فضل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة لو جمعت لجاءت في مصنف مستقل ولو لم يكن منها إلا الأحاديث الثابتة في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً". فناهيك بهذه الفضيلة الجليلة والمكرمة النبيلة. وأما صفة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فقد وردت فيها صفات كثيرة بأحاديث ثابتة في الصحيحين وغيرهما، منها ما هو مقيد بصفة الصلاة عليه في الصلاة، ومنها ما هو مطلق، وهي معروفة في كتب الحديث فلا نطيل بذكرها. والذي يحصل به الامتثال لمطلق الأمر في هذه الآية هو أن يقول القائل: اللهم صل وسلم على رسولك، أو على محمد أو على النبي، أو اللهم صل على محمد وسلم. ومن أراد أن يصلي عليه ويسلم عليه بصفة من الصفات التي ورد التعليم بها والإرشاد إلأيها فذلك أكمل، وهي صفات كثيرة قد اشتملت عليها كتب السنة المطهرة، وسيأتي بعضها آخر البحث، وسيأتي الكلام في الصلاة على الآل. وكان ظاهر هذا الأمر بالصلاة والتسليم في البحث، وسيأتي الكلام في الصلاة على الآل. وكان ظاهر هذا الأمر بالصلاة والتسليم في الآية أن يقول القائل: صليت عليه وسلمت عليه، أو الصالة عليه والسلام عليه، أو عليه الصلاة والتسليم، لأن الله سبحانه أمرنا بإيقاع الصلاة عليه والتسليم منا، فالامتثال هو أن يكون ذلك على ما ذكرنا، فكيف كان الامتثال لأمر الله لنا بذلك أن نقول: اللهم صل عليه وسلم بمقابلة أمر الله لنا بأمرنا له بأن نصلي عليه ويسلم عليه. وقد أجيب عن هذا بأن هذه الصلاة والتسليم لما كانتا شعاراً عظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم وتشريفاً كريماً وكلنا ذلك إلى الله عز وجل وأرجعناه إليه، وهذا الجواب ضعيف جداً. وأحسن ما يجاب به أن يقال: إن الصلاة والتسليم المأمور بهما في الآية هما أن نقول: اللهم صل عليه وسلم، أو نحو ذلك مما يؤدي عناه كما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا، فاقتضى ذلك البيان في الأحاديث الكثيرة أن هذه هي الصلاة الشرعية. واعلم أن هذه الصلاة من الله على رسوله وأن كان معناها الرحمة فقد صارت شعاراً له يختص به دون غيره، فلا يجوز لنا أن نصلي على غيره من أمته كما يجوز لنا أن نقول: اللهم ارحم فلاناً أو رحم الله فلاناً، وبهذا قال جمهور العلماء مع اختلافهم هل هو محرم، أو مكروه كراهة شديدة، أو مكروه كراهة تنزيه على ثلاثة أقوال. وقد قال ابن عباس كما رواه عنه ابن أبي شيبةlلأ والبيهقي في الشعب لا تصلح الصلاة على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالاستغفار. وقال قوم: إن ذلك جائز لقوله تعالى: "وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم" ولقوله: "أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة" ولقوله: "هو الذي يصلي عليكم وملائكته" ولحديث عبد الله بن أبي أوفى الثابت في الصحيحين وغيرهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليهم، فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى". ويجاب عن هذا بأن هذا الشعار الثابت لرسول الله صلى الله عليه وسلم له أن يخص به من شاء، وليس لنا أن نطلقه على غيره. وأما قوله تعالى: "هو الذي يصلي عليكم وملائكته" وقوله: "أولئك عليهم صلوات من ربهم" فهذا ليس فيه إلا أن الله سبحانه يصلي على طوائف من عباده كما يصلي على من صلى على رسوله مرة واحدة عشر صلوات، وليس في ذلك أمر لنا ولا شرعه الله في حقنا، بل لم يشرع لنا إلا الصلاة والتسليم على رسوله. وكما أن لفظ الصلاة على رسول الله شعار له، فكذا لفظ السلام عليه. وقد جرت عادة جمهور هذه الأمة والسواد الأعظم من سلفها وخلفها على الترضي عن الصحابة والترحم على من بعدهم والدعاء لهم بمغفرة الله وعفوه كما أرشدنا إلى ذلك بقوله سبحانه: " والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ".
ثم لما ذكر سبحانه ما يجب لرسوله من التعظيم ذكر الوعيد الشديد للذين يؤذونه فقال: 57- "إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة" قيل والمراد بالأذى هنا هو فعل ما يكرهانه من المعاصي لاستحالة التأذي منه سبحانه. قال الواحدي: قال المفسرون هم المشركون واليهود والنصارى وصفوا الله بالولد فقالوا: عزيز ابن الله، والمسيح ابن الله، والملائكة بنات الله، وكذبوا رسول الله، وشجوا وجهه وكسروا رباعيته وقالوا: مجنون شاعر كذاب ساحر. قال القرطبي: وبهذا قال جمهور العلماء. وقال عكرمة: الأذية لله سبحانه بالتصوير والتعرض لفعل ما لا يفعله إلا الله بنحت الصور وغيرها. وقال جماعة: إن الآية على حذف مضاف، والتقديرك إن الذين يؤذون أولياء الله، وأما أذية رسوله فهي كل ما يؤذيه من الأقوال والأفعال، ومعنى اللعنة: الطرد والإبعاد من رحمته، وجعل ذلك في الدنيا والآخرة لتشملهم اللعنة فيهما بحيث لا يبقى وقت من أوقات محياهم ومماتهم إلا واللعنة واقعة عليهم ومصاحبة لهم "وأعد لهم" مع ذلك اللعن "عذاباً مهيناً" يصيرون به في الإهانة في الدار الآخرة لما يفيده معنى الإعداد من كونه في الدار الآخرة.
ثم لما فرغ من الذم لمن آذى الله ورسوله ذكر الأذية لصالحي عباده فقال: 58- "والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات" بوجه من وجوه الأذى من قول أو فعل، ومعنى "بغير ما اكتسبوا" أنه لم يكن ذلك لسبب فعلوه يوجب عليهم الأذية ويستحقونها به، فأما الأذية للمؤمن والمؤمنة بما كسبه مما يوجب عليه حداً أو تعزيراً أو نحوهما، فذلك حق أثبته الشرع وأمر أمرنا الله به وندبنا إليه، وهكذا إذا وقع من المؤمنين والمؤمنات الابتداء بشتم لمؤمن أو مؤمنة أو ضر، فإن القصاص من الفاعل ليس من الأذية المحرمة على أي وجه كان ما لم يجاوز ما شرعه الله. ثم أخبر عما لهؤلاء الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقال: "فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً" أي ظاهراً واضحاً لا شك في كونه من البهتان والإثم، وقد تقدم بيان حقيقة البهتان وحقيقة الإثم. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس "يصلون على النبي" يبركون. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في الظمة وابن مردويه عن ابن عباس أن بني إسرائيل قالوا لموسى: هل يصلي ربك؟ فناداه ربه: يا موسى سألوك هل يصلي ربك؟ فقل نعم أنا أصلي وملائكتي عن أنبيائي ورسلي، فأنزل الله على نبيه "إن الله وملائكته يصلون على النبي" الآية. وأخرج ابن مردويه عنه قال: إن صلاة الله على النبي هي المغفرة، إن الله لا يصلي ولكن يغفر، وأما صلاة الناس على النبي فهي الاستغفار له. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قرأ صلوا عليه كما صلى الله عليه وسلموا تسليما. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن كعب بن عجرة قال:" لما نزلت "إن الله وملائكته يصلون على النبي" الآية، قلنا: يا رسول الله قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد". وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديثه بلفظ: "قال رجل يا رسول الله: أما السلام عليك فقد علمناه فكيف الصلاة عليك قال: قل اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأحمد والنسائي من حديث طلحة بن عبيد الله قال: "قلت يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال: قل اللهم صل على محمدوعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم و آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد". وفي الأحاديث اختلاف، ففي بعضها على إبراهيم فقط، وفي بعضها على آل إبراهيم فقط، وفي بعضها بالجمع بينهما كحديث طلحة هذا. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي حميد الساعدي "أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد". والأحاديث في هذا الباب كيرة جداً، وفي بعضها التقييد بالصلاة كما في حديث أبي مسعود عند ابن خزيمة والحاكم وصححه والبيهقي في سننه: أن رجلاً قال: يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ الحديث. وأخرج الشافعي في مسنده من حديث أبي هريرة مثله. وجميع التعليمات الواردة عنه صلى الله عليه وسلم في الصلاة عليه مشتملة على الصلاة على آله معه إلا النادر اليسير من الأحاديث، فينبغي للمصلي عليه أن يضم آله إليه في صلاته عليه، وقد قال بذلك جماعة، ونقله إمام الحرمين والغزالي قولاً عن الشافعي كما رواه عنهما ابن كثير في تفسيره، ولا حاجة إلى التمسك بقول قائل في مثل هذا مع تصريح الأحاديث الصحيحة به، ولا وجه لقول من قال إن هذه التعليمات الواردة عنه صلى الله عليه وسلم في صفة الصلاة عليه مقيدة بالصلاة في الصلاة حملاً لمطلق الأحاديث على المقيد منها بذلك القيد، لما في حديث كعب بن عجرة وغيره أن ذلك السؤال لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند نزول الآية. وأخرج عبد الرزاق وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا على أنبياء الله ورسله، فإن الله بعثهم كما بعثني". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إن الذين يؤذون الله ورسوله" الآية قال: نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى الله عليه وسلم حين اتخذ صفية بنت حيي وروي عنه أنها نزلت في الذين قذفوا عائشة.
لما فرغ سبحانه من الزجر لمن يؤذي رسوله والمؤمنين والمؤمنات من عباده أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأمر بعض من ناله الأذى ببعض ما يدفع ما يقع عليه منه فقال: 59- "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن" من للتبعيض، والجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار. قال الجوهري الجلباب الملحفة، وقيل القناع، وقيل هو ثوب يستر جميع بدن المرأة، كما ثبت في الصحيح من حديث أم عطية "أنها قالت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب، فقال: لتلبسها أختها من جلبابها"، قال الواحدي: قال المفسرون يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا عيناً واحدة، فيعلم أهن حرائر فلا يعرض لهن بأذى. وقال الحسن: تغطي نصف وجهها. وقال قتادة: تلويه فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى إدناء الجلابيب، وهو مبتدأ وخبره "أدنى أن يعرفن" أي أقرب أن يعرفن فيتميزن عن الإماء ويظهر للناس أنهن حرائر "فلا يؤذين" من جهة أهل الريبة بالتعرض لهن مراقبة لهن ولأهلهن، وليس المراد بقوله: "ذلك أدنى أن يعرفن" أن تعرف الواحدة منهن من هي، بل المراد أن يعرفن أنهن حرائر لا إماء لأنهن قد لبسن لبسة تختص بالحرائر "وكان الله غفوراً" لما سلف منهن من ترك إدناء الجلابيب "رحيماً" بهن أو غفوراً لذنوب المذنبين رحيماً بهم فيدخلن في ذلك دخولاً أولياً.
ثم توعد سبحانه أهل النفاق والإرجاف فقال: 60- "لئن لم ينته المنافقون" عما هم عليه من النفاق "والذين في قلوبهم مرض" أي شك وريبة عما هم عليه من الاضطراب "والمرجفون في المدينة" عما يصدر منهم من الإرجاف بذكر الأخبار الكاذبة المتضمنة لتوهين جانب المسلمين وظهور المشركين عليهم. قال القرطبي: أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد، والمعنى: أن المنافقين قد جمعوا بين النفاق ومرض القلوب والإرجاف على المسلمين، فهو على هذا من باب قوله: إلى الملك القروم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم أي إلى الملك القرم بن الهمام ليث الكتيبة. وقال عكرمة وشهر بن حوشب: الذين في قلوبهم مرض هم الزناة. والإرجاف في اللغة: إشاعة الكذب والباطل، يقال أرجف بكذا: إذا أخبر به على غير حقيقة لكونه خبراً متزلزلاً غير ثابت، من الرجفة وهي الزلزلة. يقال رجفت الأرض: أي تحركت وتزلزلت ترجف رجفاً، والرجفان: الاضطراب الشديد، وسمي البحر رجافاً لاضطرابه، ومنه قول الشاعر: المطعمون اللحم كل عشية حتى تغيب الشمس في الرجاف والإرجاف واحد الأراجيف، وأرجفوا في الشيء خاضوا فيه، ومنه قول شاعر: فإنا وإن عيرتمونا بقلة وأرجف بالإسلام باغ وحاسد وقول الآخر: أبالأراجيف يابن اللوم توعدني وفي الأراجيف خلت اللؤم والخور وذلك بأن هؤلاء المرجفين كانوا يخبرون عن سرايا المسلمين بأنهم هزموا، وتارة بأنهم قتلوا، وتارة بأنهم غلبوا ونحو ذلك مما تنكسر له قلوب المسلمين من الأخبار، فتوعدهم الله سبحانه بقوله: "لنغرينك بهم" أي لنسلطنك عليهم بالقتل والتشريد بأمرنا لك بذلك. قال المبرد: قد أغراه الله بهم في قوله بعد هذه الآية.
61- "ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً" فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم: أي هذا حكمهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية. وأقول ليس هذا بحسن ولا أحسن، فإن قوله ملعونين إلخ، إنما هو لمجرد الدعاء عليهم لا أنه أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقتالهم ولا تسليط له عليهم، وقد قيل إنهم انتهوا بعد نزول هذه الآية عن الإرجاف فلم يغره الله بهم، وجملة " لنغرينك بهم " جواب القسم، وجملة "ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً" معطوفة على جملة جواب القسم: أي لا يجاورونك فيها إلا جواراً قليلاً حتى يهلكوا، وانتصاب "ملعونين" على الحال كما قال المبرد وغيره، والمعنى مطرودين "أينما" وجدوا وأدركوا "أخذوا وقتلوا" دعاء عليهم بأن يؤخذوا ويقتلوا "تقتيلاً" وقيل إن هذا هو الحكم فيهم وليس بدعاء عليهم، والأول أولى. وقيل معنى الآية: أنهم أصروا على النفاق لم يكن لهم مقام بالمدينة إلا وهم مطرودون.
62- "سنة الله في الذين خلوا من قبل" أي سن الله ذلك في الأمم الماضية، وهو لعن المنافقين وأخذهم وتقتيلهم، وكذا حكم المرجفين، وهو منتصب على المصدر. قال الزجاج: بين الله في الذين ينافقون الأنبياء ويرجفون بهم أن يقتلوا حيثما ثقفوا "ولن تجد لسنة الله تبديلاً" أي تحويلاً وتغييراً، بل هي ثابتة دائمة في أمثال هؤلاء في الخلف والسلف.