تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 432 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 432

432- تفسير الصفحة رقم432 من المصحف
"قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم" هو استفهام بمعنى الإنكار، أي ما رددناكم نحن عن الهدى بعد إذ جاءكم، ولا أكرهناكم. "بل كنتم مجرمين" أي مشركين مصرين على الكفر."وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار" المكر أصله في كلام العرب الاحتيال والخديعة، وقد مكر به يمكر فهو ماكر ومكار. قال الأخفش: هو على تقدير: هذا مكر الليل والنهار. قال النحاس: والمعنى - والله أعلم - بل مكركم في الليل والنهار، أي مساواتكم إيانا ودعاؤكم لنا إلى الكفر حملنا على هذا. وقال سفيان الثوري: بل عملكم في الليل والنهار. قتادة: بل مكركم بالليل والنهار صدنا؛ فأضيف المكر إليهما لوقوعه فيهما، وهو كقوله تعالى: "إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر" [نوح: 4] فأضاف الأجل إلى نفسه، ثم قال: "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون، ساعة" [الأعراف: 34] إذ كان الأجل لهم. وهذا من قبيل قولك: ليله قائم ونهاره صائم. قال المبرد: أي بل مكركم الليل والنهار، كما تقول العرب: نهاره صائم وليله قائم. وأنشد لجرير:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بنائم
وأنشد سيبويه:
فنام ليلي وتجلى همي
أي نمت فيه. ونظيره: "والنهار مبصرا" [يونس: 67]. وقرأ قتادة: "بل مكرٌ الليلَ والنهارَ" بتنوين "مكر" ونصب "الليل والنهار"، والتقدير: بل مكر كائن في الليل والنهار، فحذف. وقرأ سعيد بن جبير "بل مكَرُّ" بفتح الكاف وشد الراء بمعنى الكرور، وارتفاعه بالابتداء والخبر محذوف. ويجوز أن يرتفع بفعل مضمر دل عليه "أنحن صددناكم" كأنهم لما قالوا لهم أنحن صددناكم عن الهدى قالوا بل صدنا مكر الليل والنهار. وروي عن سعيد بن جبير "بل مكر الليل والنهار" قال: مر الليل والنهار عليهم فغفلوا. وقيل: طول السلامة فيهما كقوله "فطال عليهم الأمد" [الحديد: 16]. وقرأ راشد "بل مكَرَّ الليل والنهار" بالنصب، كما تقول: رأيته مقدم الحاج، وإنما يجوز هذا فيما يعرف، لو قلت: رأيته مقدم زيد، لم يجز؛ ذكره النحاس.
قوله تعالى: "إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا" أي أشباها وأمثالا ونظراء. قال محمد بن يزيد: فلان ند فلان، أي مثله. ويقال نديد؛ وأنشد:
أينما تجعلون إلي ندا وما أنتم لذي حسب نديد
وقد مضى هذا في "البقرة". "وأسروا الندامة" أي أظهروها، وهو من الأضداد يكون بمعنى الإخفاء والإبداء. قال امرؤ القيس:
تجاوزت أحراسا وأهوال معشر علي حراصا لو يسرون مقتلي
وروي "يشرون". وقيل: "وأسروا الندامة" أي تبينت الندامة في أسرار وجوههم. قيل: الندامة لا تظهر، وإنما تكون في القلب، وإنما يظهر ما يتولد عنها، حسبما تقدم بيانه في سورة "يونس، وآل عمران". وقيل: إظهارهم الندامة قولهم: "فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين" [الشعراء: 102]. وقيل: أسروا الندامة فيما بينهم ولم يجهروا القول بها؛ كما قال: "وأسروا النجوى" [الأنبياء: 3].
قوله تعالى: "وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا" الأغلال جمع غل، يقال: في رقبته غل من حديد. ومنه قيل للمرأة السيئة الخلق: غل قمل، وأصله أن الغل كان يكون من قد وعليه شعر فيقمل وغللت يده إلى عنقه؛ وقد غل فهو مغلول، يقال: ما له ؟؟ وغل. والغل أيضا والغلة: حرارة العطش، وكذلك الغليل؛ يقال منه: غل الرجل يغل غللا فهو مغلول، على ما لم يسم فاعله؛ عن الجوهري. أي جعلت الجوامع في أعناق التابعين والمتبوعين. قيل من غير هؤلاء الفريقين. وقيل يرجع "الذين كفروا" إليهم. وقيل: تم الكلام عند قوله: "لما رأوا العذاب" ثم ابتدأ فقال: "وجعلنا الأغلال" بعد ذلك في أعناق سائر الكفار. "هل يجزون إلا ما كانوا يعملون" في الدنيا.
الآية: 34 - 38 {وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون، وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين، قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون، والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون}
قوله تعالى: "وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها" قال قتادة: أي أغنياؤها ورؤساؤها وجبابرتها وقادة الشر للرسل: "إنا بما أرسلتم به كافرون. وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا" أي فضلنا عليكم بالأموال والأولاد، ولو لم يكن ربكم راضيا بما نحن عليه من الدين والفضل لم يخولنا ذلك. "وما نحن بمعذبين" لأن من أحسن إليه فلا يعذبه، فرد الله عليهم قولهم وما احتجوا به من الغنى فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم:"قل إن ربي يبسط الرزق" أي يوسعه "لمن يشاء ويقدر" أي إن الله هو الذي يفاضل بين عباده في الأرزاق امتحانا لهم، فلا يدل شيء من ذلك على ما في العواقب، فسعة الرزق في الدنيا لا تدل على سعادة الآخرة فلا تظنوا أموالكم وأولادكم تغنى عنكم غدا شيئا. "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" لا يعلمون هذا لأنهم لا يتأملون. ثم قال تأكيدا: "وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى" قال مجاهد: أي قربى. والزلفة القربة. وقال الأخفش: أي إزلافا، وهو اسم المصدر، فيكون موضع "قربى" نصبا كأنه قال بالتي تقربكم عندنا تقريبا. وزعم الفراء أن التي" تكون للأموال والأولاد جميعا. وله قول آخر وهو مذهب أبي إسحاق الزجاج، يكون المعنى: وما أموالكم بالتي تقربكم عندنا، ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى، ثم حذف خبر الأول لدلالة الثاني عليه. وأنشد الفراء:
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
ويجوز في غير القرآن: باللتين وباللاتي وباللواتي وباللذين وبالذين؛ للأولاد خاصة أي لا تزيدكم الأموال عندنا رفعة ودرجة، ولا تقربكم تقريبا. "إلا من آمن وعمل صالحا" قال سعيد بن جبير: المعنى إلا من أمن وعمل صالحا فلن يضره ماله وولده في الدنيا. وروى ليث عن طاوس أنه كان يقول: اللهم ارزقني الإيمان والعمل، وجنبني المال والولد، فإني سمعت فيما أوحيت "وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عدنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا".
قلت: قول طاوس فيه نظر، والمعنى والله أعلم: جنبني المال والولد المطغيين أو اللذين لا خير فيهما؛ فأما المال الصالح والولد الصالح للرجل الصالح فنعم هذا وقد مضى هذ! في "آل عمران ومريم والفرقان". و"من" في موضع نصب على الاستثناء المنقطع، أي لكن من آمن وعمل صالحا فإيمانه وعمله يقربانه مني. وزعم الزجاج أنه في موضع نصب بالاستثناء على البدل من الكاف والميم التي في "تقربكم". النحاس: وهذا القول غلط؛ لأن الكاف والميم للمخاطب فلا يجوز البدل، ولو جاز هذا لجاز: رأيتك زيدا. وقول أبي إسحاق هذا هو قول الفراء. إلا أن الفراء لا يقول بدل لأنه ليس من لفظ الكوفيين، ولكن قول يؤول إل ذلك، وزعم أن مثله "إلا من أتى الله بقلب سليم" يكون منصوبا عنده بـ "ينفع". وأجاز الفراء أن يكون "من" في موضع رفع بمعنى: ما هو إلا من أمن، كذا قال، ولست أحصل معناه. "فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا" يعني قوله: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" [الأنعام: 160] فالضعف الزيادة، أي لهم جزاء التضعيف، وهو من باب إضافة المصدر إلى المفعول. وقيل: لهم جزاء الأضعاف، فالضعف في معنى الجمع، وإضافة الضعف إلى الجزاء كإضافة الشيء إلى نفسه، نحو: حق اليقين، وصلاة الأولى. أي لهم الجزاء المضعف، للواحد عشرة إلى ما يريد الله من الزيادة.
وبهذه الآية استدل من فضل الغنى على الفقر. وقال محمد بن كعب: إن المؤمن إذا كان غنيا تقيا أتاه الله أجره مرتين بهذه الآية. قراءة العامة "جزاء الضعف" بالإضافة. وقرأ الزهري ويعقوب ونصر بن عاصم "جزاء" منونا منصوبا "الضعف" رفعا؛ أي فأولئك لهم الضعف جزاء، على التقديم والتأخير. "وجزاء الضعف" على أن يجازوا الضعف. و"جزاء الضعف" مرفوعان، الضعف بدل من جزاء. وقرأ الجمهور "في الغرفات" على الجمع، وهو اختيار أبى عبيد؛ لقوله: "لنبوئنهم من الجنة غرفا" [العنكبوت: 58]. الزمخشري: وقرئ "في الغرفات" بضم الراء وفتحها وسكونها. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة وخلف "في الغرفة" على التوحيد؛ لقوله تعالى: "أولئك يجزون الغرفة" [الفرقان: 75]. والغرفة قد يراد بها اسم الجمع واسم الجنس. قال ابن عباس: هي غرف من ياقوت وزبرجد ودر وقد مضى بيان ذلك. "آمنون" أي من العذاب والموت والأسقام والأحزان. "والذين يسعون في آياتنا" في إبطال أدلتنا وحجتنا وكتابنا. "معاجزين" معاندين، يحسبون أنهم يفوتوننا بأنفسهم. "أولئك في العذاب محضرون" أي في جهنم تحضرهم الزبانية فيها.
الآية: 39 {قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين}
قوله تعالى: "قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له" كرر تأكيدا. "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه" أي قل يا محمد لهؤلاء المغترين بالأموال والأولاد إن الله يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء، فلا تغتروا بالأموال والأولاد بل أنفقوها في طاعة الله، فإن ما أنفقتم في طاعة الله فهو يخلفه. وفيه إضمار، أي فهو يخلفه عليكم؛ يقال: أخلف له وأخلف عليه، أي يعطيكم خلفه وبدله، وذلك البدل إما في الدنيا وإما في الآخرة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا. وفيه أيضا عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله قال لي أنفق أنفق عليك...) الحديث. وهذه إشارة إلى الخلف في الدنيا بمثل المنفق فيها إذا كانت النفقة في طاعة الله. وقد لا يكون الخلف في الدنيا فيكون كالدعاء كما تقدم سواء في الإجابة أو التكفير أو الادخار؛ والادخار ها هنا مثله في الأجر.
مسألة: روى الدارقُطني وأبو أحمد بن عدي عن عبدالحميد الهلالي عن محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (كل معروف صدقة وما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة وما وقى به الرجل عرضه فهو صدقة وما أنفق الرجل من نفقة فعلى الله خلفها إلا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية). قال عبدالحميد: قلت لابن المنكدر: "ما وقى الرجل عرضه"؟ قال: يعطي الشاعر وذا اللسان. عبدالحميد وثقه ابن معين.
قلت: أما ما أنفق في معصية فلا خلاف أنه غير مثاب عليه ولا مخلوف له. وأما البنيان فما كان منه ضروريا يكن الإنسان ويحفظه فذلك، مخلوف عليه ومأجور ببنيانه. وكذلك كحفظ بنيته وستر عورته، قال صلى الله عليه وسلم: (ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال، بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء). وقد مضى هذا المعنى في "الأعراف" مستوفى.
قوله تعالى: "وهو خير الرازقين" لما كان يقال في الإنسان: إنه يرزق عياله والأمير جنده؛ قال: "وهو خير الرازقين" والرازق من الخلق يرزق، لكن ذلك من مال يملك عليهم ثم ينقطع، والله تعالى يرزق من خزائن لا تفنى ولا تتناهى. ومن أخرج من عدم إلى الوجود فهو الرازق على الحقيقة، كما قال: "إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين" [الذاريات: 58].