تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 432 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 432

432 : تفسير الصفحة رقم 432 من القرآن الكريم

** وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لَن نّؤْمِنَ بِهَـَذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بِالّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَىَ إِذِ الظّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لِلّذِينَ اسْتُضْعِفُوَاْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىَ بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مّجْرِمِينَ * وَقَالَ الّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نّكْفُرَ بِاللّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرّواْ النّدَامَةَ لَمّا رَأَوُاْ اْلَعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلاَلَ فِيَ أَعْنَاقِ الّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يخبر تعالى عن تمادي الكفار في طغيانهم وإصرارهم على عدم الإيمان بالقرآن الكريم, وبما أخبربه من أمر المعاد, ولهذا قال تعالى: {وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه} قال الله عز وجل متهدداً لهم ومتوعداً ومخبراً عن مواقفهم الذليلة بين يديه في حال تخاصمهم وتحاجهم {يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفو} وهم الأتباع {للذين استكبرو} منهم وهم قادتهم وسادتهم {لولا أنتم لكنا مؤمنين} أي لولا أنتم تصدوننا لكنا اتبعنا الرسل وآمنا بما جاؤونا به فقال لهم القادة والسادة وهم الذين استكبروا {أنحن صددناكم عن الهدى بعد إِذ جاءكم ؟} أي نحن ما فعلنا بكم أكثر من أنا دعوناكم فاتبعتمونا من غير دليل ولا برهان, وخالفتم الأدلة والبراهين والحجج التي جاءت بها الرسل لشهوتكم واختياركم لذلك, ولهذا قالوا {بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار} أي بل كنتم تمكرون بنا ليلاً نهاراً وتغروننا وتمنوننا وتخبروننا أنا على هدى وأنا على شيء, فإذا جميع ذلك باطل وكذب ومين.
قال قتادة وابن زيد {بل مكر الليل والنهار} يقول: بل مكركم بالليل والنهار, وكذا قال مالك عن زيد بن أسلم بالليل والنهار {إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداد} أي نظراء وآلهة معه وتقيمون لنا شبهاً وأشياء من المحال تضلوننا بها {وأسروا الندامة لما رأوا العذاب} أي الجميع من السادة والأتباع كل ندم على ما سلف منه {وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفرو} وهي السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم {هل يجزون إِلا ما كانوا يعملون} أي إِنما نجازيكم بأعمالكم كل بحسبه للقادة عذاب بحسبهم وللأتباع بحسبهم {قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا فروة بن أبي المغراء, حدثنا محمد بن سليمان بن الأصبهاني عن أبي سنان ضرار بن صرد عن عبد الله بن أبي الهذيل عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِن جهنم لما سيق إليها أهلها تلقاهم لهبها, ثم لفحتهم لفحة لم يبق لحم إلا سقط على العرقوب». وحدثنا أبي, حدثنا أحمد بن أبي الحواري, حدثنا الطيب أبو الحسن عن الحسن بن يحيى الخشني قال: ما في جهنم دار ولامغار ولاغل ولاقيد ولاسلسلة إِلا اسم صاحبها عليها مكتوب, قال: فحدثته أبا سليمان, يعني الداراني رحمة الله عليه, فبكى ثم قال: ويحك فكيف به لو جمع هذا كله عليه, فجعل القيد والغل في يديه, والسلسلة في عنقه, ثم أدخل النار وأدخل المغار ؟ اللهم سلم.
وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مّن نّذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذّبِينَ * قُلْ إِنّ رَبّي يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالّتِي تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىَ إِلاّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَـَئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ * وَالّذِينَ يَسْعَوْنَ فِيَ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ * قُلْ إِنّ رَبّي يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ
يقول تعالى مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم وآمراً بالتأسي بمن قبله من الرسل, ومخبره بأنه ما بعث نبياً في قرية إِلا كذبه مترفوها واتبعه ضعفاؤهم, كما قال قوم نوح عليه الصلاة والسلام {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون} {وما نراك اتبعك إِلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي} وقال الكبراء من قوم صالح {للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه ؟ قالوا إِنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إِنا بالذي آمنتم به كافرون} وقال عز وجل: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين} وقال تعالى: {وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيه} وقال جل وعلا: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدمير} وقال جل وعلا ههنا: {وما أرسلنا في قرية من نذير} أي نبي أو رسول {إِلا قال مترفوه} وهم أولو النعمة والحشمة والثروة والرياسة, قال قتادة: هم جبابرتهم وقادتهم ورؤوسهم في الشر {إِنا بما أرسلتم به كافرون} أي لا نؤمن به ولا نتبعه.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا هارون بن إِسحاق, حدثنا محمد بن عبد الوهاب عن سفيان بن عاصم عن أبي رزين قال: كان رجلان شريكان خرج أحدهما إلى الساحل وبقي الاَخر, فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتب إِلى صاحبه يسأله ما فعل. فكتب إِليه أنه لم يتبعه أحد من قريش إِنما اتبعه أراذل الناس ومساكينهم, قال: فترك تجارته ثم أتى صاحبه فقال: دلني عليه, قال: وكان يقرأ الكتب أو بعض الكتب, قال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إِلام تدعو ؟ قال «أدعوا إلى كذا وكذا» قال: أشهد أنك رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم «وما علمك بذلك ؟» قال: إِنه لم يبعث نبي إِلا اتبعه أراذل الناس ومساكينهم, قال: فنزلت هذه الاَية {وما أرسلنا في قرية من نذير إِلا قال مترفوها إِنا بما أرسلتهم به كافرون} الاَية, قال: فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم إِن الله عز وجل قد أنزل تصديق ما قلت, وهكذا قال هرقل لأبي سفيان حين سأله عن تلك المسائل قال فيها: وسألتك أضعفاء الناس اتبعه أم أشرافهم ؟ فزعمت بل ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل.
وقال تبارك وتعالى إِخباراً عن المترفين المكذبين: {وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين} أي افتخروا بكثرة الأموال والأولاد, واعتقدوا أن ذلك دليل على محبة الله تعالى لهم واعتنائه بهم, وأنه ما كان ليعطيهم هذا في الدنيا ثم يعذبهم في الاَخرة وهيهات لهم ذلك قال الله تعالى: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} وقال تبارك وتعالى: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إِنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنياوتزهق أنفسهم وهم كافرون} وقال عز وجل {ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالاً ممدوداً وبنين شهوداً ومهدت له تمهيداً ثم يطمع أن أزيد كلا إِنه كان لاَياتنا عنيداً سأرهقه صعود} وقد أخبر الله عز وجل عن صاحب تينك الجنتين أنه كان ذا مال وثمر وولد, ثم لم يغن عنه شيئاً بل سلب ذلك كله في الدنيا قبل الاَخرة, ولهذا قال عز وجل ها هنا: {قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} أي يعطي المال لمن يحب ومن لا يحب, فيفقر من يشاء ويغني من يشاء, وله الحكمة التامة البالغة والحجة القاطعة الدامغة {ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
ثم قال تعالى: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى} أي ليست هذه دليلاً على محبتنا لكم ولا إعتنائنا بكم. قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا كثير, حدثنا جعفر, حدثنا يزيد بن الأصم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم, ولكن إِنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» ورواه مسلم وابن ماجه من حديث كثير بن هشام عن جعفر بن برقان به, ولهذا قال الله تعالى: {إلا من آمن وعمل صالح} أي إِنما يقربكم عندنا زلفى الإيمان والعمل الصالح {فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملو} أي تضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف {وهم في الغرفات آمنون} أي في منازل الجنة العالية آمنون منن كل بأس وخوف وأذى ومن كل شر يحذر منه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا فروة بن أبي المغراء الكندي, حدثنا القاسم وعلي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إِسحاق عن النعمان بن سعد عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِن في الجنة لغرفاً ترى ظهورها من بطونها, وبطونها من ظهورها» فقال أعرابي: لمن هي ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لمن طيب الكلام, وأطعم الطعام, وأدام الصيام, وصلى بالليل والناس نيام» {والذين يسعون في آياتنا معاجزين} أي يسعون في الصد عن سبيل اللهواتباع رسله والتصديق بآياته {فأولئك في العذاب محضرون} أي جميعهم مجزيون بأعمالهم فيها بحسبهم.
وقوله تعالى: {قل إِن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له} أي بحسب ماله في ذلك من الحكمة يبسط على هذا من المال كثيراً. ويضيق على هذا ويقتر على رزقه جداً. وله في ذلك من الحكمة مالا يدركها غيره, كما قال تعالى: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللاَخرة أكبر درجات وأكبر تفضيل} أي كما هم متفاوتون في الدنيا هذا فقير وهذا غني موسع عليه, فكذلك هم في الأخرة هذا في الغرفات في أعلى الدرجات, وهذا في الغمرات في أسفل الدركات, وأطيب الناس في الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه» رواه مسلم من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما.
وقوله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم, فهو يخلفة عليكم في الدنيا بالبدل, وفي الأخرة بالجزاء والثواب, كما ثبت في الحديث «يقول الله تعالى أنفق, أنفق عليك» وفي الحديث أن ملكين يصبحان كل يوم يقول أحدهما: اللهم أعط ممسكاً تلفاً, ويقول الأخر: اللهم أعط منفقاً خلفاً, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنفق بلالاً, ولا تخشى من ذي العرش إِقلالاً». وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي عن يزيد بن عبد العزيز الفلاس, حدثنا هشيم عن الكوثر بن حكيم عن مكحول قال: بلغني عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال سول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض, يعض الموسر ما في يده حذار الإنفاق» ثم تلا هذه الاَية {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين}.
وقال الحافظ أبو يعلي الموصلي: حدثنا روح بن حاتم, حدثنا هشيم عن الكوثر بن حكيم عن مكحول قال: بلغني عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض, يعض الموسر على ما في يده حذار الإنفاق» قال الله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} وفي الحديث «شرار الناس يبايعون كل مضطر ألا إن بيع المضطرين حرام, ألا إن بيع المضطرين حرام, المسلم أخو المسلم لايظلمه ولايخذله إن كان عندك معروف فعد به على أخيك, وإلا فلا تزده هلاكاً إلى هلاكه» هذا حديث غريب من هذا الوجه, وفي إسناده ضعف. وقال سفيان الثوري عن أبي يونس الحسن بن يزيد قال: قال مجاهد لا يتأولن أحدكم هذه الاَية {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} إذا كان عند أحدكم ما يقيمه, فليقصد فيه, فإن الرزق مقسوم.