تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 433 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 433

433- تفسير الصفحة رقم433 من المصحف
الآية: 40 - 41 {ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون، قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون}
قوله تعالى: "ويوم يحشرهم جميعا" هذا متصل بقوله: "ولو ترى إذ الظالمون موقوفون" [سبأ: 31]. أي لو تراهم في هذه الحالة لرأيت أمرا فظيعا. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو وأمته ثم قال ولو تراهم أيضا "يوم نحشرهم جميعا" العابدين والمعبودين، أي نجمعهم للحساب "ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون" قال سعيد عن قتادة: هذا استفهام؛ كقول عز وجل لعيسى: "أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله" [المائدة: 116] قال النحاس: فالمعنى أن الملائكة صلوات الله عليهم إذا كذبتهم كان في ذلك تبكيت لهم؛ فهو استفهام توبيخ للعابدين."قالوا سبحانك" أي تنزيها لك. "أنت ولينا من دونهم" أي أنت ربنا الذي نتولاه ونطيعه ونعبده ونخلص في العبادة له. "بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون" أي يطيعون إبليس وأعوانه. وفي التفاسير: أن حيا يقال لهم بنو مليح من خزاعة كانوا يعبدون الجن، ويزعمون أن الجن تتراءى لهم، وأنهم ملائكة، وأنهم بنات الله؛ وهو قوله: "وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا" [الصافات: 158].
الآية: 42 {فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون}
قوله تعالى: "فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا" أي شفاعة ونجاة. "ولا ضرا" أي عذابا وهلاكا. وقيل: أي لا تملك الملائكة دفع ضر عن عابديهم؛ فحذف المضاف "ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون" يجوز أن يقول الله لهم أو الملائكة: ذوقوا.
الآية: 43 {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين}
قوله تعالى: "وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات" يعني القرآن. "قالوا ما هذا إلا رجل" يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم. "يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم" أي أسلافكم من الآلهة التي كانوا يعبدونها. "وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى" يعنون القرآن؛ أي ما هو إلا كذب مختلق. "وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين" فتارة قالوا سحر، وتارة قالوا إفك. ويحتمل أن يكون منهم من قال سحر ومنهم من قال إفك.
الآية: 44 - 45 {وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير، وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير}
قوله تعالى: "وما آتيناهم من كتب يدرسونها" أي لم يقرؤوا في كتاب أوتوه بطلان ما جئت به، ولا سمعوه من رسول بعث إليهم، كما قال: "أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون" [الزخرف: 21] فليس لتكذيبهم وجه يتشبث به ولا شبهة متعلق كما يقول أهل الكتاب وإن كانوا مبطلين: نحن أهل كتاب وشرائع ومستندون إلى رسل من رسل الله، ثم توعدهم على تكذيبهم بقوله الحق:"وكذب الذين من قبلهم" أي كذب قبلهم أقوام كانوا أشد من هؤلاء بطشا وأكثر أموالا وأولادا وأوسع عيشا، فأهلكتهم كثمود وعاد. "وما بلغوا" أي ما بلغ أهل مكة "معشار ما آتيناهم" تلك الأمم. والمعشار والعشر سواء، لغتان. وقيل: المعشار عشر العشر. الجوهري: ومعشار الشيء عشره، ولا يقولون هذا في شيء سوى العشر. وقال: ما بلغ الذين من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم؛ حكاه النقاش. وقيل: ما أعطى الله تعالى من قبلهم معشار ما أعطاهم من العلم والبيان والحجة والبرهان. قال ابن عباس: فليس أمة أعلم من أمة، ولا كتاب أبين من كتابه. وقيل: المعشار هو عشر العشير، والعشير هو عشر العشر فيكون جزءا من ألف جزء. الماوردي: وهو الأظهر، لأن المراد به المبالغة في التقليل. "فكذبوا رسلي فكيف كان نكير" أي عقابي في الأمم، وفيه محذوف وتقديره: فأهلكناهم فكيف كان نكيري.
الآية: 46 {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد}
قوله تعالى: "قل إنما أعظكم بواحدة" تمم الحجة على المشركين؛ أي قل لهم يا محمد: "إنما أعظكم" أي أذكركم وأحذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه. "بواحدة" أي بكلمة واحدة مشتملة على جميع الكلام، تقتضي نفي الشرك لإثبات الإله قال مجاهد: هي لا إله إلا الله وهذا قول ابن عباس والسدي. وعن مجاهد أيضا: بطاعة الله. وقيل: بالقرآن؛ لأنه يجمع كل المواعظ. وقيل: تقديره بخصلة واحدة، "أن تقوموا لله مثنى وفرادى" "أن" في موضع خفض على البدل من "واحدة"، أو في موضع رفع على إضمار مبتدأ، أي هي أن تقوموا. ومذهب الزجاج أنها في موضع نصب بمعنى لأن تقوموا. وهذا القيام معناه القيام إلى طلب الحق لا القيام الذي هو ضد القعود، وهو كما يقال: قام فلان بأمر كذا؛ أي لوجه الله والتقرب إليه. وكما قال تعالى: "وأن تقوموا لليتامى بالقسط" [النساء: 127]. "مثنى وفرادى" أي وحدانا ومجتمعين قاله السدي. وقيل: منفردا برأيه ومشاورا لغيره، وهذا قول مأثور. وقال القتبي: مناظرا مع غيره ومفكرا في نفسه، وكله متقارب. ويحتمل رابعا أن المثنى عمل النهار والفرادى عمل الليل، لأنه في النهار معان وفي الليل وحيد، قال الماوردي. وقيل: إنما قال: "مثنى وفرادى" لأن الذهن حجة الله على العباد وهو العقل، فأوفرهم عقلا أوفرهم حظا من الله، فإذا كانوا فرادى كانت فكرة واحدة، وإذا كانوا مثنى تقابل الذهنان فتراءى من العلم لهما ما أضعف على الانفراد؛ والله أعلم. "ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة" الوقف عند أبي حاتم وابن الأنباري على "ثم تتفكروا". وقيل: ليس هو بوقف لأن المعنى: ثم تتفكروا هل جربتم على صاحبكم كذبا، أو رأيتم فيه جنة، أو في أحواله من فساد، أو اختلف إلى أحد ممن يدعي العلم بالسحر، أو تعلم الأقاصيص وقرأ الكتب، أو عرفتموه بالطمع في أموالكم، أو تقدرون على معارضته في سورة واحدة؛ فإذا عرفتم بهذا الفكر صدقه فما بال هذه المعاندة. "إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد" وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية "وأنذر عشيرتك الأقربين" [الشعراء: 214] ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف: يا صباحاه؟ فقالوا: من هذا الذي يهتف!؟ قالوا محمد؛ فاجتمعوا إليه فقال: (يا بني فلان يا بني فلان يا بني عبد مناف يا بني عبدالمطلب فاجتمعوا إليه فقال أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي)؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد). قال فقال أبو لهب: تبا لك! أما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قال فنزلت هذه السورة: "تبت يدا أبي لهب وتب" [المسد: 1] كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة.
الآية: 47 {قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد}
قوله تعالى: "قل ما سألتكم من أجر" أي جعل على تبليغ الرسالة "فهو لكم" أي ذلك الجعل لكم إن كنت سألتكموه "إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد" أي رقيب وعالم وحاضر لأعمالي وأعمالكم، لا يخفى عليه شيء فهو يجازي الجميع.
الآية: 48 {قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب}
قوله تعالى: "قل إن ربي يقذف بالحق" أي يبين الحجة ويظهرها. قال قتادة: بالحق بالوحي. وعنه: الحق القرآن. وقال ابن عباس: أي يقذف الباطل بالحق علام الغيوب. وقرأ عيسى بن عمر "علام الغيوب" على أنه بدل، أي قل إن ربي علام الغيوب يقذف بالحق. قال الزجاج. والرفع من وجهين على الموضع، لأن الموضع موضع رفع، أو على البدل مما في يقذف. النحاس: وفي الرفع وجهان آخران: يكون خبرا بعد خبر، ويكون على إضمار مبتدأ. وزعم الفراء أن الرفع في مثل هذا أكثر في كلام العرب إذا أتى بعد خبر "إن" ومثله "إن ذلك لحق تخاصم أهل النار" [ص: 64] وقرئ: "الغيوب" بالحركات الثلاث، فالغيوب كالبيوت، والغيوب كالصبور، وهو الأمر الذي غاب وخفي جدا.