تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 448 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 448

448 : تفسير الصفحة رقم 448 من القرآن الكريم

** فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ * قَالَ قَآئِلٌ مّنْهُمْ إِنّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنّكَ لَمِنَ الْمُصَدّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُمْ مّطّلِعُونَ * فَاطّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللّهِ إِن كِدتّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ * إِلاّ مَوْتَتَنَا الاُولَىَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذّبِينَ * إِنّ هَـَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَـَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ يخبر تعالى عن أهل الجنة أنه أقبل بعضهم على بعض يتساءلون أي عن أحوالهم وكيف كانوا في الدنيا وماذا كانوا يعانون فيها وذلك من حديثهم على شرابهم واجتماعهم في تنادمهم ومعاشرتهم في مجالسهم وهم جلوس على السرر والخدم بين أيديهم يسعون ويجيئون بكل خير عظيم من مآكل ومشارب وملابس وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {قال قائل منهم إني كان لي قرين} قال مجاهد يعني شيطاناً. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما هو الرجل المشرك يكون له صاحب من أهل الإيمان في الدنيا, ولا تنافي بين كلام مجاهد وابن عباس رضي الله عنهما فإن الشيطان يكون من الجن فيوسوس في النفس ويكون من الإنس فيقول كلاماً تسمعه الأذنان وكلاهما يتعاونان قال الله تعالى: {يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرور} وكل منهما يوسوس كما قال الله عز وجل: {من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس} ولهذا {قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أئنك لمن المصدقين} أي أأنت تصدق بالبعث والنشور والحساب والجزاء يعني يقول ذلك على وجه التعجب والتكذيب والاستبعاد والكفر والعناد, {أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمدينون} قال مجاهد والسدي لمحاسبون. وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومحمد بن كعب القرظي لمجزيون بأعمالنا وكلاهما صحيح قال تعالى: {قال هل أنتم مطلعون} أي مشرفون يقول المؤمن لأصحابه وجلسائه من أهل الجنة {فاطلع فرآه في سواء الجحيم} قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وخليد العصري وقتادة والسدي وعطاء الخراساني يعني في وسط الجحيم, وقال الحسن البصري في وسط الجحيم كأنه شهاب يتقد, وقال قتادة ذكر لنا أنه اطلع فرأى جماجم القوم تغلي, وذكر لنا أن كعب الأحبار قال في الجنة كوى إذا أراد أحد من أهلها أن ينظر إلى عدوه في النار اطلع فيها فازداد شكراً {قال تالله إن كدت لتردين} يقول المؤمن مخاطباً للكافر والله إن كدت لتهلكني لو أطعتك {ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين} أي ولولا فضل الله عليّ لكنتُ مثلك في سواء الجحيم حيث أنت محضر معك في العذاب ولكنه تفضل عليّ ورحمني فهداني للإيمان وأرشدني إلى توحيده {وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}. وقوله تعالى: {أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين} هذا من كلام المؤمن مغبطاً نفسه لما أعطاه الله تعالى من الخلد في الجنة والإقامة في دار الكرامة بلا موت فيها ولا عذاب ولهذا قال عز وجل: {إن هذا لهو الفوز العظيم}. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو عبد الله الظهراني حدثنا حفص بن عمر العدني حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تبارك وتعالى لأهل الجنة: {كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون} قال ابن عباس رضي الله عنهما قوله عز وجل: {هنيئ} أي لا يموتون فيها فعندها قالوا: {أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين} وقال الحسن البصري: علموا أن كل نعيم فإن الموت يقطعه فقالوا: {أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين} قيل لا {إن هذا لهو الفوز العظيم} وقوله جل جلاله {لمثل هذا فليعمل العاملون} قال قتادة هذا من كلام أهل الجنة, وقال ابن جرير هو من كلام الله تعالى ومعناه لمثل هذا النعيم وهذا الفوز فليعمل العاملون في الدنيا ليصيروا إليه في الاَخرة وقد ذكروا قصة رجلين كانا شريكين في بني إسرائيل تدخل في ضمن عموم هذه الاَية الكريمة, قال أبو جعفر بن جرير حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد حدثنا عتاب بن بشير عن خصيف عن فرات بن ثعلبة النهراني في قوله: {إني كان لي قرين} قال إن رجلين كانا شريكين فاجتمع لهما ثمانية آلاف دينار, وكان أحدهما له حرفة والاَخر ليس له حرفة, فقال الذي له حرفة للاَخر ليس عندك حرفة ما أراني إلا مفارقك ومقاسمك فقاسمه وفارقه ثم إن الرجل اشترى داراً بألف دينار كانت لملك مات فدعا صاحبه فأراه فقال كيف ترى هذه الدار ابتعتها بألف دينار ؟ قال ما أحسنها, فلما خرج قال اللهم إن صاحبي هذا ابتاع هذه الدار بألف دينار وإني أسألك داراً من دور الجنة فتصدق بألف دينار, ثم مكث ما شاء الله تعالى أن يمكث, ثم إنه تزوج بامرأة بألف دينار فدعاه وصنع له طعاماً فلما أتاه قال إني تزوجت هذه المرأة بألف دينار قال ما أحسن هذا فلما انصرف قال يا رب إن صاحبي تزوج امرأة بألف دينار, وإني أسألك امرأة من الحور العين فتصدق بألف دينار, ثم إنه مكث ما شاء الله تعالى أن يمكث ثم اشترى بستانين بألفي دينار ثم دعاه فأراه فقال إني ابتعت هذين البستانين بألفي دينار قال ما أحسن هذا فلما خرج قال يا رب إن صاحبي قد اشترى بستانين بألفي دينار وأنا أسألك بستانين في الجنة فتصدق بألفي دينار, ثم إن الملك أتاهما فتوفاهما ثم انطلق بهذا المتصدق فأدخله داراً تعجبه وإذا بامرأةٍ تطلع يضيء ما تحتها من حسنها ثم أدخله بستانين وشيئاً الله به عليم فقال عند ذلك ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا قال فإنه ذاك ولك هذا المنزل والبستانان والمرأة, قال فإنه كان لي صاحب يقول أئنك لمن المصدقين قيل له فإنه في الجحيم قال هل أنتم مطلعون ؟ فاطلع فرآه في سواء الجحيم فقال عند ذلك {تا لله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين} الاَيات قال ابن جرير وهذا يقوي قراءة من قرأ {أئنك لمن المصدقين} بالتشديد, وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عمرو بن عبد الرحمن الأبار أخبرنا أبو حفص قال سألت إسماعيل السدي عن هذه الاَية {قال قائل منهم إني كان لي قرين * يقول أئنك لمن المصدقين} قال فقال لي ما ذكرك هذا قلت قرأته آنفاً فأحببت أن أسألك عنه فقال: أما فاحفظ, كان شريكان في بني إسرائيل أحدهما مؤمن والاَخر كافر فافترقا على ستة آلاف دينار لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار ثم افترقا فمكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا, ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن ما صنعت في مالك ؟ أضربت به شيئاً أتجرت في شيء ؟ فقال له المؤمن لا فما صنعت أنت ؟ فقال اشتريت به أرضاً ونخلاً وثماراً وأنهاراً بألف دينار ـ قال: فقال له المؤمن أو فعلت ؟ قال نعم, قال فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه ثم قال: اللهم إن فلاناً ـ يعني شريكه الكافر ـ اشترى أرضاً ونخلاً وثماراً وأنهاراً بألف دينار ثم يموت غداً ويتركها اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف دينار أرضاً ونخلاً وثماراً وأنهاراً في الجنة ـ قال: ثم أصبح فقسمها في المساكين ـ قال ـ ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن ما صنعت في مالك أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال لا قال فما صنعت أنت ؟ قال كانت ضيعتي قد اشتد علي مؤنتها فاشتريت رقيقاً بألف دينار يقومون لي فيها ويعملون لي فيها فقال له المؤمن أو فعلت ؟ قال نعم ـ قال ـ فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه ثم قال اللهم إن فلاناً ـ يعني شريكه الكافر ـ اشترى رقيقاً من رقيق الدنيا بألف دينار يموت غداً فيتركهم أو يموتون فيتركونه, اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف الدينار رقيقاً في الجنة ـ قال ـ ثم أصبح فقسمها في المساكين ـ قال ـ ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن ما صنعت في مالك أضربت به في شيء أتجرت به في شيء ؟ قال لا فما صنعت أنت ؟ قال كان أمري كله قد تم إلا شيئاً واحداً فلانة قد مات عنها زوجها فأصدقتها ألف دينار فجاءتني بها ومثلها معها فقال له المؤمن أو فعلت ؟ قال نعم قال فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فلما انصرف أخذ الألف الدينار الباقية فوضعها بين يديه وقال اللهم إن فلاناً ـ يعني شريكه الكافر ـ تزوج زوجة من أزواج الدنيا بألف دينار فيموت غداً فيتركها أو تموت غداً فتتركه اللهم وإني أخطب إليك بهذه الألف الدينار حوراء عيناء في الجنة ـ قال ـ ثم أصبح فقسمها بين المساكين ـ قال ـ فبقي المؤمن ليس عنده شيء. قال فلبس قميصاً من قطن وكساء من صوف ثم أخذ مراً فجعله على رقبته يعمل الشيء ويحفر الشيء بقوته. قال فجاءه رجل فقال له يا عبد الله أتؤاجرني نفسك مشاهرة شهراً بشهر تقوم على دواب لي تعلفها وتكنس سرقينها قال أفعل قال فواجره نفسه مشاهرة شهراً بشهر يقوم على دوابه, قال وكان صاحب الدواب يغدو كل يوم ينظر إلى دوابه فإذا رأى منها دابة ضامرة أخذ برأسه فوجأ عنقه ثم يقول له سرقت شعير هذه البارحة قال فلما رأى المؤمن هذه الشدة قال لاَتين شريكي الكافر فلأعملن في أرضه فليطعمني هذه الكسرة يوماً بيوم ويكسوني هذين الثوبين إذا بليا, قال فانطلق يريده فانتهى إلى بابه وهو ممس فإذا قصر مشيد في السماء وإذا حوله البوابون فقال لهم استأذنوا لي على صاحب هذا القصر فإنكم إذا فعلتم سره ذلك, فقالوا له انطلق إن كنت صادقاً فنم في ناحية فإذا أصبحت فتعرض له. قال فانطلق المؤمن فألقى نصف كسائه تحته ونصفه فوقه ثم نام فلما أصبح أتى شريكه فتعرض له فخرج شريكه الكافر وهو راكب فلما رآه عرفه فوقف وسلم عليه وصافحه ثم قال له ألم تأخذ المال مثل ما أخذت ؟ قال بلى قال وهذه حالي وهذه حالك ؟ قال بلى قال أخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال لا تسألني عنه, قال فما جاء بك ؟ قال جئت أعمل في أرضك هذه فتطعمني هذه الكسرة يوماً بيوم وتكسوني هذين الثوبين إذا بليا, قال لا ولكن أصنع بك ما هو خير من هذا ولكن لا ترى مني خيراً حتى تخبرني ما صنعت في مالك قال أقرضته قال من ؟ قال المليء الوفي قال من ؟ قال الله ربي قال وهو مصافحه فانتزع يده من يده ثم قال {أئنك لمن المصدقين * أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمدينون} قال السدي محاسبون قال فانطلق الكافر وتركه, قال فلما رآه المؤمن وليس يلوي عليه رجع وتركه, يعيش المؤمن في شدة من الزمان ويعيش الكافر في رخاء من الزمان قال فإذا كان يوم القيامة وأدخل الله تعالى المؤمن الجنة يمر فإذا هو بأرض ونخل وثمار وأنهار فيقول لمن هذا ؟ فيقال هذا لك فيقول يا سبحان الله أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ قال ثم يمر فإذ هو برقيق لا تحصى عدتهم فيقول لمن هذا ؟ فيقال هؤلاء لك, فيقول يا سبحان الله أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا, قال ثم يمر فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء مجوفة فيها حوراء عيناء فيقول لمن هذه فيقال هذه لك فيقول يا سبحان الله أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا, قال ثم يذكر المؤمن شريكه الكافر فيقول: {إني كان لي قرين * يقول أئنك لمن المصدقين. أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمدينون} قال فالجنة عالية والنار هاوية قال فيريه الله تعالى شريكه في وسط الجحيم من بين أهل النار فإذا رآه المؤمن عرفه فيقول: {تا لله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين * أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين * إن هذا لهو الفوز العظيم * لمثل هذا فليعمل العاملون} بمثل ما قد منّ عليه. قال فيتذكر المؤمن ما مر عليه في الدنيا من الشدة فلا يذكر مما مر عليه في الدنيا من الشدة أشد عليه من الموت.

** أَذَلِكَ خَيْرٌ نّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزّقّومِ * إِنّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لّلظّالِمِينَ * إِنّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِيَ أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنّهُ رُءُوسُ الشّيَاطِينِ * فَإِنّهُمْ لاَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمّ إِنّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ * ثُمّ إِنّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ * إِنّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلّينَ * فَهُمْ عَلَىَ آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ
يقول الله تعالى أهذا الذي ذكره من نعيم الجنة وما فيها من مآكل ومشارب ومناكح وغير ذلك من الملاذ خير ضيافة وعطاء {أم شجرة الزقوم} أي التي في جهنم وقد يحتمل أن يكون المراد بذلك شجرة واحدة معينة كما قال بعضهم إنها شجرة تمتد فروعها إلى جميع محال جهنم كما أن شجرة طوبى ما من دار في الجنة إلا وفيها منها غصن, وقد يحتمل أن يكون المراد بذلك جنس شجر يقال له الزقوم كقوله تعالى: {وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للاَكلين} يعني الزيتونة ويؤيد ذلك قوله تعالى: {ثم إنكم أيها الضالون المكذبون * لاَكلون من شجر من زقوم} وقوله عز وجل: {إنا جعلناها فتنة للظالمين} قال قتادة ذكرت شجرة الزقوم فافتتن بها أهل الضلالة وقالوا صاحبكم ينبئكم أن في النار شجرة والنار تأكل الشجر فأنزل الله تعالى: {إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم} غذيت من النار ومنها خلقت. وقال مجاهد {إنا جعلناها فتنة للظالمين} قال أبو جهل لعنه الله: إنما الزقوم التمر والزبد أتزقمه. قلت ومعنى الاَية إنما أخبرناك يا محمد بشجرة الزقوم اختباراً نختبر به الناس من يصدق منهم ممن يكذب كقوله تبارك وتعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغياناً كبير}. وقوله تعالى: {إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم} أي أصل منبتها في قرار النار {طلعها كأنه رؤوس الشياطين} تبشيع لها وتكريه لذكرها. قال وهب بن منبه شعور الشياطين قائمة إلى السماء, وإنما شبهها {برؤوس الشياطين} وإن لم تكن معروفة عند المخاطبين لأنه قد استقر في النفوس أن الشياطين قبيحة المنظر, وقيل المراد بذلك ضرب من الحيات رؤوسها بشعة المنظر, وقيل جنس من النبات طلعه في غاية الفحاشة وفي هذين الاحتمالين نظر, وقد ذكرهما ابن جرير والأول أقوى وأولى, والله أعلم. وقوله تعالى: {فإنهم لاَكلون منها فمالئون منها البطون}. ذكر تعالى أنهم يأكلون من هذه الشجرة التي لا أبشع منها ولا أقبح من منظرها مع ما هي عليه من سوء الطعم والريح والطبع فإنهم ليضطرون إلى الأكل منها لأنهم لا يجدون إلا إياها وما هو في معناها كما قال تعالى: {ليس لهم طعام إلا من ضريع * لا يسمن ولا يغني من جوع} وقال ابن أبي حاتم رحمه الله حدثنا أبي حدثنا عمرو بن مرزوق حدثنا شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الاَية وقال: «اتقوا الله حق تقاته فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن يكون طعامه ؟» ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث شعبة وقال الترمذي حسن صحيح. وقوله تعالى: {ثم إن لهم عليها لشوباً من حميم} قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني شرب الحميم على الزقوم, وقال في رواية عنه شوباً من حميم, مزجاً من حميم, وقال غيره يمزج لهم الحميم بصديد وغساق مما يسيل من فروجهم وعيونهم وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا حيوة بن شريح الحضرمي حدثنا بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو وأخبرني عبيد الله بن بسر عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول «يقرب ـ يعني إلى أهل النار ـ ماء فيتكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فيه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره» وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عمرو بن رافع حدثنا يعقوب بن عبد الله عن جعفر وهارون بن عنترة عن سعيد بن جبير قال إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم فأكلوا منها فاختلست جلود وجوههم فلو أن ماراً مر بهم يعرفهم لعرفهم بوجوههم فيها ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل وهو الذي قد انتهى حره فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود ويصهر ما في بطونهم فيمشون تسيل أمعاؤهم وتتساقط جلودهم ثم يضربون بمقامع من حديد فيسقط كل عضو على حياله يدعو بالثبور. وقوله عز وجل: {ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم} أي ثم إن مردهم بعد هذا الفصل لإلى نار تتأجج وجحيم تتوقد وسعير تتوهج فتارة في هذا وتارة في هذا كما قال تعالى: {يطوفون بينها وبين حميم آن} هكذا تلا قتادة هذه الاَية وهو تفسير حسن قوي, وقال السدي في قراءة عبد الله رضي الله عنه {ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم} وكان عبد الله رضي الله عنه يقول والذي نفسي بيده لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار, ثم قرأ {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيل} وروى الثوري عن ميسرة عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة عن عبد الله رضي الله عنه قال: لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء ويقيل هؤلاء قال سفيان أراه ثم قرأ {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيل} ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم قلت على هذا التفسير تكون ثم عاطفة لخبر على خبر. وقوله تعالى: {إنهم ألفوا آباءهم ضالين} أي إنما جازيناهم بذلك لأنهم وجدوا آباءهم على الضلالة فاتبعوهم فيها بمجرد ذلك من غير دليل ولا برهان, ولهذا قال: {فهم على آثارهم يهرعون} قال مجاهد شبيهة بالهرولة, وقال سعيد بن جبير يسفهون.

** وَلَقَدْ ضَلّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مّنذِرِينَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ * إِلاّ عِبَادَ اللّهِ الْمُخْلَصِينَ
يخبر تعالى عن الأمم الماضية أن أكثرهم كانوا ضالين يجعلون مع الله آلهة أخرى, وذكر تعالى أنه أرسل فيهم منذرين ينذرون بأس الله ويحذرونهم سطوته ونقمته ممن كفر به وعبد غيره وأنهم تمادوا على مخالفة رسلهم وتكذيبهم فأهلك المكذبين ودمرهم ونجى المؤمنين ونصرهم وظفرهم ولهذا قال تعالى: {فانظر كيف كان عاقبة المنذرين إلا عباد الله المخلصين}.