تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 456 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 456

456- تفسير الصفحة رقم456 من المصحف
قوله تعالى: "ووهبنا له أهله ومثلهم معهم" تقدم. "رحمة منا" أي نعمة منا. "وذكرى لأولي الألباب" أي عبرة لذوي العقول.
الآية: 44 {وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب}
كان أيوب حلف في مرضه أن يضرب امرأته مائة جلدة؛ وفي سبب ذلك
أربعة أقوال: أحدها: ما حكاه ابن عباس أن إبليس لقيها في صورة طبيب فدعته لمداواة أيوب، فقال أداويه عل أنه إذا برئ قال أنت شفيتني، لا أريد جزاء سواه. قالت: نعم فأشارت على أيوب بذلك فحلف ليضربنها. وقال: ويحك ذلك الشيطان. الثاني: ما حكاه سعيد بن المسيب، أنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه من الخبز، فخاف خيانتها فحلف ليضربنها. الثالث: ما حكاه يحيى بن سلام وغيره: أن الشيطان أغواها أن تحمل أيوب على أن يذبح سخلة تقربا إليه وأنه يبرأ، فذكرت ذلك له فحلف ليضربنها إن عوفي مائة. الرابع: قيل: باعت ذوائبها برغيفين إذ لم تجد شيئا تحمله إلى أيوب، وكان أيوب يتعلق بها إذا أراد القيام، فلهذا حلف ليضربنها، فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثا فيضرب به، فأخذ شماريخ قدر مائة فضربها ضربة واحدة. وقيل: الضغث قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس. وقال ابن عباس: إنه إثكال النخل الجامع بشماريخه.
تضمنت هذه الآية جواز ضرب الرجل امرأته تأديبا. وذلك أن امرأة أيوب أخطأت فحلف ليضربنها مائة، فأمره الله تعالى أن يضربها بعثكول من عثاكيل النخل، وهذا لا يجوز في الحدود. إنما أمره الله بذلك لئلا يضرب امرأته فوق حد الأدب. وذلك أنه ليس للزوج أن يضرب امرأته فوق حد الأدب؛ ولهذا قال عليه السلام: (واضربوهن ضربا غير مبرح) على ما تقدم في "النساء" بيانه.
واختلف العلماء في هذا الحكم هل هو عام أوخاص بأيوب وحده، فروى عن مجاهد أنه عام للناس. ذكره ابن العربي. وحكي عن القشيري أن ذلك خاص بأيوب. وحكى المهدوي عن عطاء بن أبي رباح أنه ذهب إلى أن ذلك حكم باق، وأنه إذا ضرب بمائة قضيب ونحوه ضربة واحدة بر. وروي نحوه الشافعي. وروى نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم في المقعد الذي حملت منه الوليدة، وأمر أن يضرب بعثكول فيه مائة شمراخ ضربة واحدة. وقال القشيري: وقيل لعطاء هل يعمل بهذا اليوم؟ فقال: ما أنزل القرآن إلا ليعمل به ويتبع. ابن العربي: وروي عن عطاء أنها لأيوب خاصة. وكذلك روى أبو زيد عن ابن القاسم عن مالك: من حلف ليضربن عبده مائة فجمعها فضربه بها ضربة واحدة لم يبر. قال بعض علمائنا: يريد مالك قوله تعالى: "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا" [المائدة: 48] أي إن ذلك منسوخ بشريعتنا. قال ابن المنذر: وقد روينا عن علي أنه جلد الوليد بن عقبة بسوط له طرفان أربعين جلدة. وأنكر مالك هذا وتلا قول الله عز وجل: "فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة" [النور: 2] وهذا مذهب أصحاب الرأي. وقد احتج الشافعي لقوله بحديث، وقد تكلم في إسناده؛ والله أعلم.
قلت: الحديث الذي احتج به الشافعي خرجه أبو داود في سننه قال: حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني، قال حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أنه أخبره بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار، أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى، فعاد جلدة على عظم، فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش لها فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك وقال: استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإني قد وقعت على جارية دخلت علي. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ما رأينا بأحد من الناس من الضر مثل الذي هو به؛ لو حملناه إليك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة. قال الشافعي: إذا حلف ليضربن فلانا مائة جلدة، أو ضربا ولم يقل ضربا شديدا ولم ينو ذلك بقلبه يكفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية ولا يحنث. قال ابن المنذر: وإذا حلف الرجل ليضربن عبده مائة فضربه ضربا خفيفا فهو بار عند الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي. وقال مالك: ليس الضرب إلا الضرب الذي يؤلم.
قوله تعالى: "ولا تحنث" دليل على أن الاستثناء في اليمين لا يرفع حكما إذا كان متراخيا. وقد مضى القول فيه في "المائدة" يقال: حنث في يمينه يحنث إذا لم يبر بها. وعند الكوفيين الواو مقحمة أي فاضرب لا تحنث.
قال ابن العربي: قوله تعالى: "فاضرب به ولا تحنث" يدل على أحد وجهين: إما أن يكون أنه لم يكن في شرعهم كفارة، وإنما كان البر والحنث. والثاني أن يكون صدر منه نذر لا يمين وإذا كان النذر معينا فلا كفارة فيه عند مالك وأبي حنيفة. وقال الشافعي: في كل نذر كفارة.
قلت: قول إنه لم يكن في شرعهم كفارة ليس بصحيح؛ فإن أيوب عليه السلام لما بقي في البلاء ثمان عشرة سنة، كما في حديث ابن شهاب، قال له صاحباه: لقد أذنبت ذنبا ما أظن أحدا بلغه. فقال أيوب صلى الله عليه وسلم: ما أدري ما تقولان، غير أن ربي عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتزاعمان فكل يحلف بالله، أو على النفر يتزاعمون فأنقلب إلى أهلى، فأكفر عن أيمانهم إرادة ألا يأثم أحد يذكره ولا يذكره إلا بحق فنادى ربه "أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين" [الأنبياء: 83] وذكر الحديث. فقد أفادك هذا الحديث أن الكفارة كانت من شرع أيوب، وأن من كفر عن غيره بغير إذنه فقد قام بالواجب عنه وسقطت عنه الكفارة.
قوله تعالى: "إنا وجدناه صابرا" أي على البلاء. "نعم العبد إنه أواب" أي تواب رجاع مطيع. وسئل سفيان عن عبدين ابتلى أحدهما فصبر، وأنعم على الآخر فشكر؛ فقال: كلاهما سواء؛ لأن الله تعالى أثنى على عبدين؛ أحدهما صابر والآخر شاكر ثناء واحدا؛ فقال في وصف أيوب: "نعم العبد إنه أواب" وقال في وصف سليمان: "نعم العبد إنه أواب".
قلت: وقد رد هذا الكلام صاحب (القوت) واستدل بقصة أيوب في تفضيل الفقير على الغني وذكر كلاما كثيرا شيد به كلامه، وقد ذكرناه في غير هذا الموضع من كتاب [منهج العباد ومحجة السالكين والزهاد]. وخفي عليه أن أيوب عليه السلام كان أحد الأغنياء من الأنبياء قبل البلاء وبعده، وإنما ابتلي بذهاب ماله وولده وعظيم الداء في جسده. وكذلك الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه صبروا على ما به امتحنوا وفتنوا. فأيوب عليه السلام دخل في البلاء على صفة، فخرج منه كما دخل فيه، وما تغير منه حال ولا مقال، فقد اجتمع مع أيوب في المعنى المقصود، وهو عدم التغير الذي يفضل فيه بعض الناس بعضا. وبهذا الاعتبار يكون الغني الشاكر والفقير الصابر سواء. وهو كما قال سفيان. والله أعلم. وفي حديث ابن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أيوب خرج لما كان يخرج إليه من حاجته فأوحى الله إليه: "اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب" فاغتسل فأعاد الله لحمه وشعره وبشره على أحسن ما كان ثم شرب فأذهب الله كل ما كان في جوفه من ألم أو ضعف وأنزل الله عليه ثوبين من السماء أبيضين فائتزر بأحدهما وارتدى بالآخر ثم أقبل يمشي إلى منزله وراث على امرأته فأقبلت حتى لقيته وهي لا تعرفه فسلمت عليه وقالت أي يرحمك الله هل رأيت هذا الرجل المبتلى؟ قال من هو؟ قالت نبي الله أيوب، أما والله ما رأيت أحدا قط أشبه به منك إذ كان صحيحا. قال فإني أيوب وأخذ ضغثا فضربها به) فزعم ابن شهاب أن ذلك الضغث كان ثماما. ورد الله إليه أهله ومثلهم معهم، فأقبلت سحابة حتى سجلت في أندر قمحه ذهبا حتى امتلأ، وأقبلت سحابة أخرى إلى أندر شعيره وقطانيه فسجلت فيه ورقا حتى امتلأ.
الآية: 45 - 47 {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار، إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار، وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار}
قوله تعالى: "واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب" قرأ ابن عباس: "عبدنا" بإسناد صحيح؛ رواه ابن عيينة عن عمرو عن عطاء عنه، وهي قراءة مجاهد وحميد وابن محيصن وابن كثير؛ فعلى هذه القراءة يكون "إبراهيم" بدلا من "عبدنا" و"إسحاق ويعقوب" عطف. والقراءة بالجمع أبين، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، ويكون "إبراهيم" وما بعده على البدل. النحاس: وشرح هذا من العربية أنك إذا قلت: رأيت أصحابنا زيدا وعمرا وخالدا، فزيد وعمرو وخالد بدل وهم الأصحاب، وإذا قلت رأيت صاحبنا زيدا وعمرا وخالدا فزيد وحده بدل وهو صاحبنا، وزيد وعمرو عطف على صاحبنا وليسا بداخلين في المصاحبة إلا بدليل غير هذا، غير أنه قد علم أن قوله: "وإسحاق ويعقوب"داخل في العبودية. وقد استدل بهذه الآية من قال: إن الذبيح إسحاق لا إسماعيل، وهو الصحيح على ما ذكرناه في كتاب (الإعلام بمولد النبي عليه السلام). "أولي الأيدي والأبصار" قال النحاس: أما "الأبصار" فمتفق على تأويلها أنها البصائر في الدين والعلم. وأما "الأيدي" فمختلف في تأويلها؛ فأهل التفسير يقولون: إنها القوة في الدين. وقوم يقولون: "الأيدي" جمع يد وهي النعمة؛ أي هم أصحاب النعم؛ أي الذين أنعم الله عز وجل عليهم. وقيل: هم أصحاب النعم والإحسان؛ لأنهم قد أحسنوا وقدموا خيرا. وهذا اختيار الطبري. "وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار" أي الذين اصطفاهم من الأدناس واختارهم لرسالته ومصطفين جمع مصطفى والأصل مصتفى وقد مضى في "البقرة" عند قوله: "إن الله اصطفى لكم الدين" [البقرة: 132] "والأخيار" جمع خير. وقرأ الأعمش وعبدالوارث والحسن وعيسى الثقفي "أولي الأيد" بغير ياء في الوصل والوقف على معنى أولي القوة في طاعة الله. ويجوز أن يكون كمعنى قراءة الجماعة وحذف الياء تخفيفا.
قوله تعالى: "إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار" قراءة العامة "بخالصة" منونة وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ نافع وشيبة وأبو جعفر وهشام عن ابن عامر "بخالصة ذكرى الدار" بالإضافة فمن نون خالصة فـ "ذكرى الدار" بدل منها؛ التقدير إنا أخلصناهم بأن يذكروا الدار الآخرة ويتأهبوا لها ويرغبوا فيها ويرغبوا الناس فيها. ويجوز أن يكون "خالصة" مصدرا لخلص و"ذكرى" في موضع رفع بأنها فاعلة، والمعنى أخلصناهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار؛ أي تذكير الدار الآخرة. ويجوز أن يكون "خالصة" مصدرا لأخلصت فحذفت الزيادة، فيكون "ذكرى" على هذا في موضع نصب، التقدير: بأن أخلصوا ذكرى الدار. والدار يجوز أن يراد بها الدنيا؛ أي ليتذكروا الدنيا ويزهدوا فيها، ولتخلص لهم بالثناء الحسن عليهم، كما قال تعالى: "وجعلنا لهم لسان صدق عليا" [مريم: 50] ويجوز أن يراد بها الدار الآخرة وتذكير الخلق بها. ومن أضاف خالصة إلى الدار فهي مصدر بمعنى الإخلاص، والذكرى مفعول به أضيف إليه المصدر؛ أي بإخلاصهم ذكرى الدار. ويجوز أن يكون المصدر مضافا إلى الفاعل والخالصة مصدر بمعنى الخلوص؛ أي بأن خلصت لهم ذكرى الدار، وهي الدار الآخرة أو الدنيا على ما تقدم. وقال ابن زيد: معنى أخلصناهم أي بذكر الآخرة؛ أي يذكرون الآخرة ويرغبون فيها ويزهدون في الدنيا. وقال مجاهد: المعنى إنا أخلصناهم بأن ذكرنا الجنة لهم.
الآية: 48 - 54 {واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار، هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب، جنات عدن مفتحة لهم الأبواب، متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب، وعندهم قاصرات الطرف أتراب، هذا ما توعدون ليوم الحساب، إن هذا لرزقنا ما له من نفاد}
قوله تعالى: "واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل" وقد مضى ذكرهم. "وكل من الأخيار" أي ممن اختير للنبوة. "هذا ذكر" بمعنى هذا ذكر جميل في الدنيا وشرف يذكرون به في الدنيا أبدا. "وإن للمتقين لحسن مآب" أي لهم مع هذا الذكر الجميل في الدنيا حسن المرجع في القيامة. "جنات عدن" والعدن في اللغة الإقامة؛ يقال: عدن بالمكان إذا أقام. وقال عبدالله بن عمر: إن في الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج والمروج فيه خمسة آلاف باب على كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد. "مفتحة" حال "لهم الأبواب" رفعت الأبواب لأنه اسم ما لم يسم فاعله. قال الزجاج: أي مفتحة لهم الأبواب منها. وقال الفراء: مفتحة لهم أبوابها. وأجاز الفراء: "مفتحة لهم الأبواب" بالنصب. قال الفراء: أي مفتحة الأبواب ثم جئت بالتنوين فنصبت. وأنشد هو وسيبويه:
ونأخذ بعده بذناب عيش أجب الظهر ليس له سنام
وإنما قال: "مفتحة"ولم يقل مفتوحة؛ لأنها تفتح لهم بالأمر لا بالمس. قال الحسن: تُكلم: انفتحي فتنفتح انغلقي فتنغلق. وقيل: تفتح لهم الملائكة الأبواب.
قوله تعالى: "متكئين فيها" هو حال قدمت على العامل فيها وهو قوله: "يدعون فيها" أي يدعون في الجنات متكئين فيها. "بفاكهة كثيرة" أي بألوان الفواكه
قوله تعالى: "وشراب" أي وشراب كثير فحذف لدلالة الكلام عليه.
قوله تعالى: "وعندهم قاصرات الطرف" أي على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم وقد مضى. "أتراب" أي على سن واحد. وميلاد امرأة واحدة، وقد تساوين في الحسن والشباب، بنات ثلاث وثلاثين سنة. قال ابن عباس: يريد الآدميات. و"أتراب" جمع ترب وهو نعت لقاصرات؛ لأن "قاصرات" نكرة وإن كان مضافا إلى المعرفة. والدليل على ذلك أن الألف واللام يدخلانه كما قال:
من القاصرات الطرف لو دب محول من الذر فوق الإتب منها لأثرا
قوله تعالى: "هذا ما توعدون ليوم الحساب" أي هذا الجزاء الذي وعدتم به. وقراءة العامة بالتاء أي ما توعدون أيها المؤمنون. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب بالياء على الخبر، وهي قراءة السلمي واختيار أبي عبيد وأبي حاتم؛ لقوله تعالى: "وإن للمتقين لحسن مآب" فهو خبر. "ليوم الحساب" أي في يوم الحساب، قال الأعشى:
المهينين ما لهم لزمان السـ ـوء حتى إذا أفاق أفاقوا
أي في زمان السوء. "إن هذا لرزقنا ما له من نفاد" دليل على أن نعيم الجنة دائم لا ينقطع؛ كما قال: "عطاء غير مجذوذ" [هود: 108] وقال: "لهم أجر غير ممنون" [التين: 6].
الآية: 55 - 61 {هذا وإن للطاغين لشر مآب، جهنم يصلونها فبئس المهاد، هذا فليذوقوه حميم وغساق، وآخر من شكله أزواج، هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار، قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار، قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار}
قوله تعالى: "هذا وإن للطاغين لشر مآب" "هذا" لما ذكر ما للمتقين ذكر ما للطاغين قال الزجاج: "هذا" خبر ابتداء محذوف أي الأمر هذا فيوقف على "هذا" قال ابن الأنباري: "هذا" وقف حسن. ثم ابتداء "وإن للطاغين" وهم الذين كذبوا الرسل. "لشر مآب" أي منقلب يصيرون إليه. "جهنم يصلونها فبئس المهاد" أي بئس ما مهدوا لأنفسهم، أو بئس الفراش لهم. ومنه مهد الصبي. وقيل: فيه حذف أي بئس موضع المهاد. وقيل: أي هذا الذي وصفت لهؤلاء المتقين، ثم قال: وإن للطاغين لشر مرجع فيوقف على "هذا" أيضا.
قوله تعالى: "هذا فليذوقوه حميم وغساق" "هذا" في موضع رفع بالابتداء وخبره "حميم" على التقديم والتأخير؛ أي هذا حميم وغساق فليذوقوه. ولا يوقف على "فليذوقوه" ويجوز أن يكون "هذا" في موضع رفع بالابتداء و"فليذوقوه" في موضع الخبر، ودخلت الفاء للتنبيه الذي في "هذا" فيوقف على "فليذوقوه" ويرتفع "حميم" على تقدير هذا حميم. قال النحاس: ويجوز أن يكون المعنى الأمر هذا، وحميم وغساق إذا لم تجمعهما خبرا فرفعهما على معنى هو حميم وغساق. والفراء يرفعهما بمعنى منه حميم ومنه غساق وأنشد:
حتى إذا ما أضاء الصبح في غلس وغودر البقل ملوى ومحصود
وقال آخر:
لها متاع وأعوان غدون به قتب وغرب إذا ما أفرغ أنسحقا
ويجوز أن يكون "هذا" في موضع نصب بإضمار فعل يفسره "فليذوقوه" كما تقول زيدا اضربه. والنصب في هذا أولى فيوقف على "فليذوقوه" وتبتدئ "حميم وغساق" على تقدير الأمر حميم وغساق. وقراءة أهل المدينة وأهل البصرة وبعض الكوفيين بتخفيف السين في "وغساق". وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي "وغساق" بالتشديد، وهما لغتان بمعنى واحد في قول الأخفش. وقيل: معناهما مختلف؛ فمن خفف فهو اسم مثل عذاب وجواب وصواب، ومن شدد قال: هو اسم فاعل نقل إلى فعال للمبالغة، نحو ضراب وقتال وهو فعال من غسق يغسق فهو غساق وغاسق. قال ابن عباس: هو الزمهرير يخوفهم ببرده. وقال مجاهد ومقاتل: هو الثلج البارد الذي قد انتهى برده. وقال غيرهما. إنه يحرق ببرده كما يحرق الحميم بحره. وقال عبدالله بن عمرو: هو قيح غليظ لو وقع منه شيء بالمشرق لأنتن من في المغرب، ولو وقع منه شيء في المغرب لأنتن من في المشرق. وقال قتادة: هوما يسيل من فروج الزناة ومن نتن لحوم الكفرة وجلودهم من الصديد والقيح والنتن. وقال محمد بن كعب: هو عصارة أهل النار. وهذا القول أشبه باللغة؛ يقال: غسق الجرح يغسق غسقا إذا خرج منه ماء أصفر؛ قال الشاعر:
إذا ما تذكرت الحياة وطيبها إلي جرى دمع من الليل غاسق
أي بارد. ويقال: ليل غاسق؛ لأنه أبرد من النهار. وقال السدي: الغساق الذي يسيل من أعينهم ودموعهم يسقونه مع الحميم. وقال ابن زيد: الحميم دموع أعينهم، يجمع في حياض النار فيسقونه، والصديد الذي يخرج من جلودهم. والاختيار على هذا "وغساق" حتى يكون مثل سيال. وقال كعب: الغساق عين في جهنم يسيل إليها سم كل ذي حمة من عقرب وحية. وقيل: هو مأخوذ من الظلمة والسواد. والغسق أول ظلمة اليل، وقد غسق الليل يغسق إذا أظلم. وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال (لوأن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا).
قلت: وهذا أشبه على الاشتقاق الأول كما بينا، إلا أنه يحتمل أن يكون الغساق مع سيلانه أسود مظلما فيصح الاشتقاقان. والله أعلم.
قوله تعالى: "وآخر من شكله أزواج" قرأ أبو عمرو: "وأخر" جمع أخرى مثل الكبرى والكبر. الباقون: "وآخر" مفرد مذكر. وأنكر أبو عمرو "وآخر" لقوله تعالى: "أزواج" أي لا يخبر بواحد عن جماعة. وأنكر عاصم الجحدري "وأخر" قال: ولو كانت "وأخر" لكان من شكلها. وكلا الردين لا يلزم والقراءتان صحيحتان. "وآخر" أي وعذاب آخر سوى الحميم والغساق. "من شكله" قال قتادة: من نحوه. قال ابن مسعود: هو الزمهرير. وارتفع "وآخر" بالابتداء و"أزواج" مبتدأ ثان و"من شكله" خبره والجملة خبر "آخر". ويجوز أن يكون "وآخر" مبتدأ والخبر مضمر دل عليه "هذا فليذوقوه حميم وغساق" لأن فيه دليلا على أنه لهم، فكأنه قال: ولهم آخر ويكون "من شكله أزواج" صفة لآخر فالمبتدأ متخصص بالصفة و"أزواج" مرفوع بالظرف. ومن قرأ "وأخر" أراد وأنواع من العذاب أُخَر، ومن جمع وهو يريد الزمهرير فعلى أنه جعل الزمهرير أجناسا فجمع لاختلاف الأجناس. أو على أنه جعل لكل جزء منه زمهريرا ثم جمع كما قالوا: شابت مفارقه. أو على أنه جمع لما في الكلام من الدلالة على جواز الجمع؛ لأنه جعل الزمهرير الذي هو نهاية البرد بإزاء الجمع في قوله: "هذا فليذوقوه حميم وغساق" والضمير في "شكله" يجوز أن يعود على الحميم أو الغساق. أو على معنى "وآخر من شكله" ما ذكرنا، ورفع "آخر" على قراءة الجمع بالابتداء و"من شكله" صفة له وفيه ذكر يعود على المبتدأ و"أزواج" خبر المبتدأ. ولا يجوز أن يحمل على تقدير ولهم آخر و"من شكله" صفة لأخر و"أزواج" مرتفعة بالظرف كما جاز في الإفراد؛ لأن الصفة لا ضمير فيها من حيث ارتفع "أزواج" مفرد،؛ قاله أبو علي. و"أزواج" أي أصناف وألوان من العذاب. وقال يعقوب: الشكل بالفتح المثل وبالكسر الدل.
قوله تعالى: "هذا فوج مقتحم معكم" قال ابن عباس: هو أن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع، قالت الخزنة للقادة: "هذا فوج" يعني الأتباع والفوج الجماعة "مقتحم معكم" أي داخل النار معكم؛ فقالت السادة: "لا مرحبا بهم"
قوله تعالى: "لا مرحبا بهم" أي لا اتسعت منازلهم في النار. والرحب السعة، ومنه رحبة المسجد وغيره. وهو في مذهب الدعاء فلذلك نصب؛ قال النابغة:
لا مرحبا بغد ولا أهلا به إن كان تفريق الأحبة في غد
قال أبو عبيدة العرب تقول: لا مرحبا بك؛ أي لا رحبت عليك الأرض ولا اتسعت. "إنهم صالو النار" قيل: هو من قول القادة، أي إنهم صالو النار كما صليناها. وقيل: هو من قول الملائكة متصل بقولهم: "هذا فوج مقتحم معكم" و"قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم" هو من قول الأتباع وحكى النقاش: إن الفوج الأول قادة المشركين ومطعموهم يوم بدر، والفوج الثاني أتباعهم ببدر والظاهر من الآية أنها عامة في كل تابع ومتبوع. "أنتم قدمتموه لنا" أي دعوتمونا إلى العصيان "فبئس القرار" لنا ولكم "قالوا" يعني الأتباع "ربنا من قدم لنا هذا" قال الفراء: من سوغ لنا هذا وسنه وقال غيره من قدم لنا هذا العذاب بدعائه إيانا إلى المعاصي "فزده عذابا ضعفا في النار" وعذابا بدعائه إيانا فصار ذلك ضعفا. وقال ابن مسعود: معنى عذابا ضعفا في النار الحيات والأفاعي. ونظير هذه الآية قوله تعالى: "ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار" [الأعراف: 38].