تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 456 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 456

455

وقوله: 43- "ووهبنا له أهله" معطوف على مقدر كأنه قيل: فاغتسل وشرب، فكشفنا بذلك ما به من ضر ووهبنا له أهله. قيل أحياهم الله بعد أن أماتهم: وقيل جمعهم بعد تفرقهم، وقيل غيرهم مثلهم، ثم زاده مثلهم معهم، وهو معنى قوله: "ومثلهم معهم" فكانوا مثل ما كانوا من قبل ابتلائه، وانتصاب قوله: "رحمةً منا وذكرى لأولي الألباب" على أنه مفعول لأجله: أي وهبناهم له لأجل رحمتنا إياه، وليتذكر بحاله أولو الألباب فيصبروا على الشدائد كما صبر، وقد تقدم في سورة الأنبياء تفسير هذه الآية مستوفى فلا نعيده.
44- "وخذ بيدك ضغثاً" معطوف على اركض، أو على وهبنا، أو التقدير وقلنا له "خذ بيدك ضغثاً" والضغث: عثكال النخل بشماريخه، وقيل هو قبضة من حشيش مختلط رطبها بيابسها وقيل الحزمة الكبيرة من القضبان وأصل المادة تدل على جمع المختلطات. قال الواحدي: الضغث ملء الكف من الشجر والحشيش والشماريخ "فاضرب به ولا تحنث" أي اضرب بذلك الضغث ولا تحنث في يمينك، والحنث: الإثم، ويطلق على فعل ما حلف على تركه، وكان أيوب قد حلف في مرضه أن يضرب امرأته مائة جلدة. واختلف في سبب ذلك، فقال سعيد بن المسيب أنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه به من الخبز فخاف خيانتها فحلف ليضربنها إن عوفي مائة جلدة. وقيل باعت ذؤابتها برغيفين إذ لم تجد شيئاً وكان أيوب يتعلق بها إذا أراد القيام، فلهذا حلف ليضربنها. وقيل جاءها إبليس في صورة طبيب فدعته لمداواة أيوب، فقال أداويه على أنه إذا برئ قال أنت شفيتني، لا أريد جزاءً سواه، قالت نعم، فأشارت على أيوب بذلك فحلف ليضربنها. وقد اخلتف العلماء هل هذا خاص بأيوب أو عام للناس كلهم؟ وأن من حلف خرج من يمينه بمثل ذلك. قال الشافعي: إذا حلف ليضربن فلاناً مائة جلدة أو ضرباً ولم يقل ضرباً شديداً ولم ينو بقلبه فكيفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية، حكاه ابن المنذر عنه وعن أبي ثور وأصحاب الرأي. وقال عطاء: هو خاص بأيوب ورواه ابن القاسم عن مالك. ثم أثنى الله سبحانه على أيوب فقال: "إنا وجدناه صابراً" أي على البلاء الذي ابتليناه به، فإنه ابتلي بالداء العظيم في جسده وذهاب ماله وأهله وولده فصبر "نعم العبد" أي أيوب "إنه أواب" أي رجاع إلى الله بالاستغفار والتوبة.
45- "واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب" قرأ الجمهور "عبادنا" بالجمع. وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد وابن محيصن وابن كثير "عبدنا" بالإفراد. فعلى قراءة الجمهور يكون إبراهيم وإسحاق ويعقوب عطف بيان، وعلى القراءة الأخرى يكون إبراهيم عطف بيان، وما بعده عطف على عبدنا لا على إبراهيم. وقد يقال لما كان المراد بعبدنا الجنس جاز إبدال الجماعة منه. وقيل إن إبراهيم وما بعده بدل، أو النصب بإضمار أعني وعطف البيان أظهر، وقراءة الجمهور أبين وقد اختارها أبو عبيد وأبو حاتم "أولي الأيدي والأبصار" الأيدي، جمع اليد التي بمعنى القوة والقدرة. قال قتادة: أعطوا قوة في العبادة ونصراً في الدين. قال الواحدي: وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير والمفسرون. قال النحاس: أما الأبصار فمتفق على أنها البصائر في الدين والعلم. وأما الأيدي فمختلف في تأويلها، فأهل التفسير يقولون إنها القوة في الدين، وقوم يقولون: الأيدي جمع يد وهي النعمة: أي هم أصحاب النعم: أي الذين أنعم الله عز وجل عليهم، وقيل هم أصحاب النعم على الناس والإحسان إليهم، لأنهم قد أحسنوا وقدموا خيراً، واختار هذا ابن جرير. قرأ الجمهور أولي الأيدي بإثبات الياء في الأيدي. وقرأ ابن مسعود والأعمش والحسن وعيسى الأيد بغير ياء، فقيل معناها معنى القراءة الأولى، وإنما حذفت الياء لدلالة كسرة الدال عليها، وقيل الأيد: القوة.
وجملة 46- "إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار" تعليل لما وصفوا به. قرأ الجمهور "بخالصة" بالتنوين وعدم الإضافة على أنها مصدر بمعنى الإخلاص، فيكون ذكرى منصوباً به، أو بمعنى الإخلاص، فيكون ذكرى منصوباً به، أو بمعنى الخلوص فيكون ذكرى مرفوعاً به، أو يكون خالصة اسم فاعل على بابه، وذكرى بدل منها أو بيان لها أو بإضمار أعني أو مرفوعة بإضمار مبتدأ، والدار يجوز أن تكون مفعولاً به لذكرى وأن تكون ظرفاً: إما على الاتساع، أو على إسقاط الخافض، وعلى كل تقدير فخالصة صفة لموصوف محذوف والباء للسببية: أي بسبب خصلة خالصة. وقرأ نافع وشيبة وأبو جعفر وهشام عن ابن عامر بإضافة خالصة إلى ذكرى على أن الإضافة للبيان، لأن الخالصة تكون ذكرى وغير ذكرى، أو على أن خالصة مصدر مضاف إلى مفعوله والفاعل محذوف. أي بأن أخلصوا ذكرى الدار، أو مصدر بمعنى الخلوص مضافاً إلى فاعله. قال مجاهد: معنى الآية استصفيناهم بذكر الآخرة فأخلصناهم بذكرها. وقال قتادة: كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله. وقال السدي: أخلصوا بخوف الآخرة. قال الواحدي: فمن قرأ بالتنوين في خالصة كان المعنى جعلناهم لنا خالصين بأن خلصت لهم ذكرى الدار، والخالصة مصدر بمعنى الخلوص والذكرى بمعنى التذكر: أي خلص لهم تذكر الدار، وهو أنهم يذكرون التأهب له ويزهدون في الدنيا، وذلك من شأن الأنبياء. وأما من أضاف فالمعنى: أخلصنا لهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار، والخالصة مصدر مضاف إلى الفاعل، والذكرى على هذا المعنى الذكر.
47- "وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار" الاصطفاء: الاختيار، والأخيار جمع خير بالتشديد والتخفيف كأموات في جمع ميت مشدداً ومخففاً، والمعنى: إنهم عندنا لمن المختارين من أنباء جنسهم من الأخيار.
48- "واذكر إسماعيل" قيل وجه إفراده بالذكر بعد ذكر أبيه وأخيه وابن أخيه للإشعار بأنه عريق في الصبر الذي هو المقصود بالتذكير هنا "واليسع وذا الكفل" قد تقدم ذكر اليسع، والكلام فيه في الأنعام، وتقدم ذكر ذا الكفل والكلام فيه في سورة الأنبياء، والمراد من ذكر هؤلاء أنهم من جملة من صبر من الأنبياء وتحملوا الشدائد في دين الله. أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يذكرهم ليسلك مسلكهم في الصبر "وكل من الأخيار" يعني الذين اختارهم الله لنبوته واصطفاهم من خلقه.
49- "هذا ذكر" الإشارة إلى ما تقدم من ذكر أوصافهم: أي هذا ذكر جميل في الدنيا وشرف يذكرون به أبداً "وإن للمتقين لحسن مآب" أي لهم مع هذا الذكر الجميل حسن مآب في الآخرة، والمآب: المرجع، والمعنى: أنهم يرجعون في الآخرة إلى مغفرة الله ورضوانه ونعيم جنته.
ثم بين حسن المرجع فقال: 50- "جنات عدن" قرأ الجمهور جنات بالنصب بدلاً من حسن مآب، سواء كان جنات عدن معرفة أو نكرة لأن المعرفة تبدل من النكرة وبالعكس، ويجوز أن يكون جنات عطف بيان إن كانت نكرة، ولا يجوز ذلك فيها إن كانت معرفة على مذهب جمهور النحاة وقد جوزه بعضهم. ويجوز أن يكون نصب جنات بإضمار فعل. والعدن في الأصل الإقامة، يقال عدن بالمكان: إذا أقام فيه وقيل هو اسم لقصر في الجنة، وقرئ برفع جنات على أنها مبتدأ. وخبرها مفتحة أو على أنها خبر مبتدأ محذوف: أي هن جنات عدن، وقوله: "مفتحة لهم الأبواب" حال من جنات، والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل، والأبواب مرتفعة باسم الفعول: كقوله: "وفتحت أبوابها" والرابط بين الحال وصاحبها ضمير مقدر، أي منها، أو الألف واللام لقيامه مقام الضمير، إذ الأصل أبوابها. وقيل إن ارتفاع الأبواب على البدل من الضمير في مفتحة العائد على جنات، وبه قال أبو علي الفارسي: أي مفتحة هي الأبواب. قال الفراء: المعنى مفتحة أبوابها، والعرب تجعل الألف واللام خلفاً من الإضافة. وقال الزجاج: المعنى مفتحة لهم الأبواب منها. قال الحسن: إن الأبواب يقال لها: انفتحي فتنفتح انغلقي فتنغلق، وقيل تفتح لهم الملائكة الأبواب.
وانتصاب 51- "متكئين فيها" على الحال من ضمير لهم، والعامل فيه مفتحة، وقيل هو حال من "يدعون" قدمت على العامل "فيها" أي يدعون في الجنات حال كونهم متكئين لدلالة الأول عليه، وعلى جعل متكئين حالاً من ضمير لهم، والعامل فيه مفتحة، فتكون جملة يدعون مستأنفة لبيان حالهم. وقيل إن يدعون في محل نصب على الحال من ضمير متكئين.
52- "وعندهم قاصرات الطرف أتراب" أي قاصرات طرفهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم، وقد مضى بيانه في سورة الصافات. والأتراب: المتحجات في السن، أو المتساويات في الحسن. وقال مجاهد: معنى أتراب أنهن متواخيات لا يتباغضن ولا يتغايرن. وقيل أتراباً للأزواج. والأتراب جمع ترب، واشتقاقه من التراب لأنه يمسهن في وقت واحد لاتحاد مولدهن.
53- "هذا ما توعدون ليوم الحساب" أي هذا الجزاء الذي وعدتم به لأجل يوم الحساب، فإن الحساب علة للوصول إلى الجزاء، أو المعنى في يوم الحساب. وقرأ الجمهور "ما توعدون" بالفوقية على الخطاب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن ويعقوب بالتحتية على الخبر، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لقوله وإن للمتقين فإنه خبر.
54- "إن هذا لرزقنا" أي إن هذا المذكور من النعم والكرامات لرزقنا الذي أنعمنا به عليكم "ما له من نفاد" أي انقطاع ولا يفنى أبداً، ومثله قوله: "عطاء غير مجذوذ" فنعم الجنة لا تنقطع عن أهلها. وقد أخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن عباس قال: إن الشيطان عرج إلى السماء، فقال: يا رب سلطني على أيوب، قال الله: لقد سلطتك على ماله وولده ولم أسلطك على جسده، فنزل فجمع جنوده، فقال لهم: قد سلطت على أيوب فأروني سلطانكم، فصاروا نيراناً ثم صاروا ماء، فبينما هم في المشرق إذا هم بالمغرب، وبينما هم بالمغرب إذا هم بالمشرق. فأرسل طائفة منهم إلى زرعه، وطائفة إلى أهله، وطائفة إلى بقره، وطائفة إلى غنمه وقال: إنه لا يعتصم منكم إلا بالمعروف، فأتوه بالمصائب بعضها على بعض، فجاء صاحب الزرع فقال: يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل على زرعك ناراً فأحرقته؟ ثم جاء صاحب الإبل، فقال، يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل إلى إبلك عدواً فذهب بها؟ ثم جاءه صاحب الغنم فقال: يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل على غنمك عدواً فذهب بها؟ وتفرد هو لبنيه فجمعهم في بيت أكبرهم، فبينما هم يأكلون ويشربون إذا هبت ريح فأخذت بأركان البيت فألقته عليهم، فلو رأيتهم حين اختلطت دماؤهم ولحومهم بطعامهم وشرابهم؟ فقال له أيوب: فأين كنت؟ قال، كنت معهم، قال: فكيف انفلت؟ قال انفلت، قال: أيوب أنت الشيطان، ثم قال أيوب: أنا اليوم كيوم ولدتني أمي، فقام فحلق رأسه وقام يصلي، فرن إبليس رنة سمعها أهل السماء وأهل الأرض، ثم عرج إلى السماء فقال: أي رب إنه قد اعتصم فسلطني عليه فإني لا أستطيعه إلا بسلطانك، قال: قد سلطتك على جسده ولم أسطلك على قلبه، فكانت امرأته تسعى عليه، حتى قالت له: الا ترى يا أيوب قد نزل والله بي من الجهد والفاقة ما إن بعث قروني برغيف فأطعمتك فادع الله أن يشفيك ويريحك قال: ويحك كنا في النعيم سبعين عاماً فاصبري حتى نكون في الضراء سبعين عاماً، فكان في البلاء سبع سنين ودعا فجاء جبريل يوماً فدعا بيده، ثم قال قم، فقام فنحاه عن مكانه وقال: اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فركض برجله فنبعت عين، فقال اغتسل، فاغتسل منها، ثم جاء أيضاً فقال: اركض برجلك فنبعت عين أخرى فقال له اشرب منها، وهو قوله: "اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب" وألبسه الله حلة من الجنة، فتنحى أيوب فجلس في ناحية وجاءت امرأته فلم تعرفه، فقالت: يا عبد الله أين المبتلى الذي كان ها هنا؟ لعل الكلاب قد ذهبت به أو الذئاب وجعلت تكلمه ساعة، فقال: ويحك أنا أيوب قد رد الله عليه جسدي، ورد عليه ماله وولده عياناً ومثلهم معهم، وأمطر عليه جراداً من ذهب، فجعل يأخذ الجراد بيده ثم يجعله في ثوبه وينشر كساءه ويأخذه فيجعل فيه، فأوحى الله إليه يا أيوب أما شبعت؟ قال: يا رب من ذا الذي يشبع من فضلك ورحمتك. وفي هذا نكارة شديدة فإن الله سبحانه لا يمكن الشيطان من نبي من أنبيائه ويسلط عليه هذا التسليط العظيم. وأخرج أحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن عباس قال: إن إبليس قعد على الطريق وأخذ تابوتاً يداوي الناس، فقالت امرأة أيوب: يا عبد الله إن ها هنا مبتلى من أمره كذا وكذا فهل لك أن تداويه قال: نعم بشرط إن أنا شفيته أن يقول أنت شفيتني لا أريد منه أجراً غيره. فأتت أيوب فذكرت له ذلك، فقال: ويحك ذاك الشيطان، لله علي إن شفاني الله أن أجلدك مائة جلدة، فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثاً فيضربها به، فأخذ عذقاً فيه مائة شمراخ فضربها ضربة واحدة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه في قوله: "وخذ بيدك ضغثاً" قال: هو الأسل. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال: الضغث القبض من المرعى الرطب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: الضغث الحزمة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والطبراني وابن عساكر من طريق أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: حملت وليدة في بني ساعدة من زنا، فقيل لها ممن حملك؟ قالت من فلان المقعد، فسئل المقعد فقال صدقت، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خذوا عثكولاً فيه مائة شمراخ فاضربوه به ضربة واحدة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والطبراني وابن عساكر نحوه من طريق أخرى عن أبي أماة بن سهل بن حنيف عن سعيد بن سعد بن عبادة. وأخرج الطبراني عن سهل بن سعد نحوه. وأخرج ابن عساكر عن ابن مسعود قال: أيوب رأس الصابرين يوم القيامة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله: " أولي الأيدي " قال: القوة في العبادة "والأبصار" قال: الفقه في الدين. وأخرج ابن أبي حاتم عنه "أولي الأيدي" قال: النعمة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار" قال: أخلصوا بذكر دار الآخرة أن يعملوا لها.
قوله: 55- "هذا" قال الزجاج: هذا خبر مبتدإ محذوف: أي الأمر هذا فيوقف على هذا. قال ابن الأنباري: وهذا وقف حسن ثم يبتدئ "وإن للطاغين" ويجوز أن يكون هذا مبتدأ وخبره محذوف: أي هذا كما ذكر، أو هذا ذكر. ثم ذكر سبحانه ما لأهل الشر بعد أن ذكر ما لأهل الخير فقال: "وإن للطاغين لشر مآب" أي الذين طغوا على الله وكذبوا رسله لشر مآب لشر منقلب بنقلبون إليه.
ثم بين ذلك فقال: 56- "جهنم يصلونها" وانتصاب جهنم على أنها بدل من شر مآب، أو منصوبة بأعني، ويجوز أن يكون عطف بيان على قول البعض كما سلف قريباً، ويجوز أن يكون منصوباً على الاشتغال: أي يصلون جهنم يصلونها، ومعنى يصلونها يدخلونها، وهو في محل نصب على الحالية "فبئس المهاد" أي بئس ما مهدوا لأنفسهم، وهو الفراش، مأخوذ من مهد الصبي، ويجوز أن يكون المراد بالمهد الموضع، والمخصوص بالذم محذوف: أي بئس المهاد هي كما في قوله: "لهم من جهنم مهاد" شبه الله سبحانه ما تحتهم من نار جهنم بالمهاد.
57- "هذا فليذوقوه حميم وغساق" وهذا في موضع رفع بالابتداء وخبره حميم وغساق على التقدير والتأخير: أي هذا حميم وغساق فليذوقوه. قال الفراء والزجاج: تقدير الآية: هذا حميم وغساق فليذوقوه: أو يقال لهم في ذلك اليوم هذه المقالة. والحميم الماء الحار الذي قد انتهى حره، والغساق ما سال من جلود أهل النار من القيح والصديد، من قولهم غسقت عينه إذا انصبت، والغسقان الانصباب. قال النحاس: ويجوز أن يكون المعنى الأمر هذا، وارتفاع حميم وغساق على أنهما خبران لمبتدإ محذوف: أي هو حميم وغساق، ويجوز أن يكون هذا في موضع نصب بإضمار فعل يفسره ما بعده: أي ليذوقوا هذا فليذوقوه، ويجوز أن يكون حميم مرتفع على الابتداء وخبره مقدر قبله: أي منه حميم ومنه غساق، ومثله قول الشاعر: حتى ما إذا أضاء البرق في غلس وغودر البقل ملوي ومخضود أي منه ملوي ومنه مخضود، وقيل الغساق ما قتل ببرده، ومنه قيل لليل غاسق، لأنه أبرد من النهار، وقيل هو الزمهرير، وقيل الغساق المنتن، وقيل الغساق عين في جهنم يسيل منه كل ذوب حية وعقرب. وقال قتادة: هو ما يسيل من فروج النساء الزواني ومن نتن لحوم يسيل من دموع أهل النار يسقونه مع الحميم، وكذا قال ابن زيد. وقال مجاهد ومقاتل: هو الثلج البارد الذي قد انتهى برده، وتفسير الغساق بالبارد أنسب بما تقتضيه لغة العرب، ومنه قول الشاعر: إذا ما تذكرت الحياة وطيبها إلي جرى دمع من الليل غاسق أي بارد، وأنسب أيضاً بمقابلة الحميم. وقرأ أهل المدينة وأهل البصرة وبعض الكوفيين بتخفيف السين من غساق وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة بالتشديد، وهما لغتان بمعنى واحد كما قال الأخفش. وقيل معناهما مختلف، فمن خفف فهو اسم مثل عذاب وجواب وصواب، ومن شدد قال: هو اسم فاعل للمبالغة نحو ضراب وقتال.
58- "وآخر من شكله" قرأ الجمهور "وأخر" مفرد مذكر، وقرأ أبو عمرو "وآخر" بضم الهمزة على أنه جمع، وأنكر قراءة الجمهور لقوله أزواج، وأنكر عاصم الجحدري قراءة أبي عمرو وقال: لو كانت كما قرأ لقال من شكلها، وارتفاع آخر على أنه مبتدأ وخبره أزواج، ويجوز أن يكون من شكله خبراً مقدماً وأزواج مبتدأً مؤخراً والجملة خبر آخر، ويجوز أن يكون خبر آخر مقدراً: أي وآخر لهم، و "من شكله أزواج" جملة مستقلة، ومعنى الآية على قراءة الجمهور: وعذاب آخر أو مذوق آخر، أو نوع آخر من شكل ذلك المذوق أو النوع المتقدم. وإفراد الضمير في شكله على تأويل المذكور: أي من شكل المذكور، ومعنى "أزواج" أجناس وأنواع وأشباه. وحاصل معنى الآية: أن لأهل النار حميماً وغساقاً وأنواعاً من العذاب من مثل الحميم والغساق. قال الواحدي: قال المفسرون: هو الزمهرير، ولا يتم هذا الذي حكاه عن المفسرين إلا على تقدير أن الزمهرير أنواع مختلفة وأجناس متفاوتة ليطابق معنى أزواج، أو على تقدير أن لكل فرد من أهل النار زمهريراً.
59- "هذا فوج مقتحم معكم" الفوج الجماعة، والاقتحام الدخول، وهذا حكاية لقول الملائكة الذين هم خزنة النار وذلك أن القادة والرؤساء إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع. قالت الخزنة للقادة: هذا فوج، يعنون الأتباع مقتحم معكم: أي داخل معكم إلى النار، وقوله: "لا مرحباً بهم" من قول القادة والرؤساء لما قالت لهم الخزنة ذلك قالوا لا مرحباً بهم: أي لا اتسعت منازلهم في النار، والرحب السعة، والمعنى: لا كرامة لهم، وهذا إخبار من الله سبحانه بانقطاع المودة بين الكفار، وأن المودة التي كانت بينهم تصير عداوة. وجملة لا مرحباً بهم دعائية لا محل لها من الإعراب، أو صفة للفوج، أو حال منه أو بتقدير القول: أي مقولاً في حقهم لا مرحباً بهم، وقيل إنها من تمام قول الخزنة. والأول أولى كما يدل عليه جواب الأتباع الآتي، وجملة "إنهم صالوا النار" تعليل من جهة القائلين لا مرحباً بهم: أي إنهم صالوا النار كما صليناها ومستحقون لها كما استحقيناها.
وجملة 60- "قالوا بل أنتم لا مرحباً بكم" مستأنفة جواب سؤال مقدر: أي قال الأتباع عند سماع ما قاله الرؤساء لهم بل أنتم لا مرحباً بكم: أي لا كرامة لكم، ثم عللوا ذلك بقولهم: "أنتم قدمتموه لنا" أي أنتم قدمتم العذاب أو الصلى لنا وأوقعتمونا فيه ودعوتمونا إليه بما كنتم تقولون لنا من أن الحق ما أنتم عليه وأن الأنبياء غير صادقين فيما جاءوا به "بئس القرار" أي بئس المقر جهنم لنا ولكم.
ثم حكى عن الأتباع أيضاً أنهم أردفوا هذا القول بقول آخر، وهو 61- "قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذاباً ضعفاً في النار" أي زده عذاباً ذا ضعف، والضعف بأن يزيد عليه مثله، ومعنى من قدم لنا هذا من دعانا إليه وسوغه لنا. قال الفراء: المعنى من سوغ لنا هذا وسنه، وقيل معناه: قدم لنا هذا العذاب بدعائه إيانا إلى الكفر فزده عذاباً ضعفاً في النار: أي عذاباً بكفره وعذاباً بدعائه إيانا، فصار ذلك ضعفاً، ومثله قوله سبحانه: "ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار" وقوله: "ربنا آتهم ضعفين من العذاب" وقيل المراد بالضعف هنا الحيات والعقارب.