تفسير السعدي تفسير الصفحة 456 من المصحف


وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ ( 43 ) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( 44 ) .
( وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ ) قيل: إن اللّه تعالى أحياهم له ( وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) في الدنيا، وأغناه اللّه، وأعطاه مالا عظيما ( رَحْمَةً مِنَّا ) بعبدنا أيوب، حيث صبر فأثبناه من رحمتنا ثوابا عاجلا وآجلا. ( وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ ) أي: وليتذكر أولو العقول بحالة أيوب ويعتبروا، فيعلموا أن من صبر على الضر، أن اللّه تعالى يثيبه ثوابا عاجلا وآجلا ويستجيب دعاءه إذا دعاه.
( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) أي حزمة شماريخ ( فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ )
قال المفسرون: وكان في مرضه وضره، قد غضب على زوجته في بعض الأمور، فحلف: لئن شفاه اللّه ليضربنها مائة جلدة، فلما شفاه اللّه، وكانت امرأته صالحة محسنة إليه، رحمها اللّه ورحمه، فأفتاه أن يضربها بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة، فيبر في يمينه.
( إِنَّا وَجَدْنَاهُ ) أي: أيوب ( صَابِرًا ) أي: ابتليناه بالضر العظيم، فصبر لوجه اللّه تعالى. ( نِعْمَ الْعَبْدُ ) الذي كمل مراتب العبودية، في حال السراء والضراء، والشدة والرخاء.
( إِنَّهُ أَوَّابٌ ) أي: كثير الرجوع إلى اللّه، في مطالبه الدينية والدنيوية، كثير الذكر لربه والدعاء، والمحبة والتأله.
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ ( 45 ) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ( 46 ) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ ( 47 ) .
يقول تعالى: ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا ) الذين أخلصوا لنا العبادة ذكرا حسنا، ( إِبْرَاهِيمَ ) الخليل ( و ) ابنه ( إِسْحَاقَ وَ ) ابن ابنه ( يَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي ) أي: القوة على عبادة اللّه تعالى ( وَالأبْصَار ) أي: البصيرة في دين اللّه. فوصفهم بالعلم النافع، والعمل الصالح الكثير.
( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ) عظيمة، وخصيصة جسيمة، وهي: ( ذِكْرَى الدَّارِ ) جعلنا ذكرى الدار الآخرة في قلوبهم، والعمل لها صفوة وقتهم، والإخلاص والمراقبة للّه وصفهم الدائم، وجعلناهم ذكرى الدار يتذكر بأحوالهم المتذكر، ويعتبر بهم المعتبر، ويذكرون بأحسن الذكر.
( وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ ) الذين اصطفاهم اللّه من صفوة خلقه، ( الأخْيَارِ ) الذين لهم كل خلق كريم، وعمل مستقيم.
وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ ( 48 ) هَذَا ذِكْرٌ ( 49 ) .
أي: واذكر هؤلاء الأنبياء بأحسن الذكر، وأثن عليهم أحسن الثناء، فإن كلا منهم من الأخيار الذين اختارهم اللّه من الخلق، واختار لهم أكمل الأحوال، من الأعمال، والأخلاق، والصفات الحميدة، والخصال السديدة.
( هَذَا ) أي: ذكر هؤلاء الأنبياء الصفوة وذكر أوصافهم، ( ذكر ) في هذا القرآن ذي الذكر، يتذكر بأحوالهم المتذكرون، ويشتاق إلى الاقتداء بأوصافهم الحميدة المقتدون، ويعرف ما منَّ اللّه عليهم به من الأوصاف الزكية، وما نشر لهم من الثناء بين البرية.
فهذا نوع من أنواع الذكر، وهو ذكر أهل الخير، ومن أنواع الذكر، ذكر جزاء أهل الخير وأهل الشر، ولهذا قال:
وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ( 49 ) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ ( 50 ) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ( 51 ) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ( 52 ) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ( 53 ) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ( 54 ) .
أي: ( وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ ) ربهم، بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، من كل مؤمن ومؤمنة، ( لَحُسْنَ مَآبٍ ) أي: لمآبا حسنا، ومرجعا مستحسنا.
ثم فسره وفصله فقال: ( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) أي: جنات إقامة، لا يبغي صاحبها بدلا منها، من كمالها وتمام نعيمها، وليسوا بخارجين منها ولا بمخرجين.
( مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ ) أي: مفتحة لأجلهم أبواب منازلها ومساكنها، لا يحتاجون أن يفتحوها هم ، بل هم مخدومون، وهذا دليل أيضا على الأمان التام، وأنه ليس في جنات عدن، ما يوجب أن تغلق لأجله أبوابها.
( مُتَّكِئِينَ فِيهَا ) على الأرائك المزينات، والمجالس المزخرفات. ( يَدْعُونَ فِيهَا ) أي: يأمرون خدامهم، أن يأتوا ( بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ) من كل ما تشتهيه نفوسهم، وتلذه أعينهم، وهذا يدل على كمال النعيم، وكمال الراحة والطمأنينة، وتمام اللذة.
( وَعِنْدَهُمْ ) من أزواجهم، الحور العين ( قَاصِرَاتُ ) طرفهن على أزواجهن، وطرف أزواجهن عليهن، لجمالهم كلهم، ومحبة كل منهما للآخر، وعدم طموحه لغيره، وأنه لا يبغي بصاحبه بدلا ولا عنه عوضا. ( أَتْرَابٌ ) أي: على سن واحد، أعدل سن الشباب وأحسنه وألذه.
( هَذَا مَا تُوعَدُونَ ) أيها المتقون ( لِيَوْمِ الْحِسَابِ ) جزاء على أعمالكم الصالحة.
( إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا ) الذي أوردناه على أهل دار النعيم ( مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ) أي: انقطاع، بل هو دائم مستقر في جميع الأوقات، متزايد في جميع الآنات.
وليس هذا بعظيم على الرب الكريم، الرءوف الرحيم، البر الجواد، الواسع الغني، الحميد اللطيف الرحمن، الملك الديان، الجليل الجميل المنان، ذي الفضل الباهر، والكرم المتواتر، الذي لا تحصى نعمه، ولا يحاط ببعض بره.
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ( 55 ) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ ( 56 ) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ( 57 ) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ( 58 ) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ( 59 ) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ ( 60 ) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ( 61 ) .
( هَذَا ) الجزاء للمتقين ما وصفناه ( وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ ) أي: المتجاوزين للحد في الكفر والمعاصي ( لَشَرَّ مَآبٍ ) أي: لشر مرجع ومنقلب.
ثم فصله فقال: ( جَهَنَّمَ ) التي جمع فيها كل عذاب، واشتد حرها، وانتهى قرها ( يَصْلَوْنَهَا ) أي: يعذبون فيها عذابا يحيط بهم من كل وجه، لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل.
( فَبِئْسَ الْمِهَادُ ) المعد لهم مسكنا ومستقرا.
( هَذَا ) المهاد، هذا العذاب الشديد، والخزي والفضيحة والنكال ( فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ ) ماء حار، قد اشتد حره، يشربونه فَيقَطعُ أمعاءهم. ( وَغَسَّاقٌ ) وهو أكره ما يكون من الشراب، من قيح وصديد، مر المذاق، كريه الرائحة.
( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ ) أي: من نوعه ( أَزْوَاجٌ ) أي: عدة أصناف من أصناف العذاب، يعذبون بها ويخزون بها.
وعند تواردهم على النار يشتم بعضهم بعضا، ويقول بعضهم لبعض: ( هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ) النار ( لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ )
( قَالُوا ) أي: الفوج المقبل المقتحم: ( بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ ) أي: العذاب ( لَنَا ) بدعوتكم لنا، وفتنتكم وإضلالكم وتسببكم. ( فَبِئْسَ الْقَرَارُ ) قرار الجميع، قرار السوء والشر.
ثم دعوا على المغوين لهم، فـ ( قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ )
وقال في الآية الأخرى: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ .