تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 460 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 460

459

ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بما أمر به من التوحيد والإخلاص فقال: 11- " قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين " أي أعبده عبادة خالصة من الشرك والرياء وغير ذلك. قال مقاتل: إن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على الذي أتيتنا به، ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى فتأخذ بها؟ فأنزل الله الآية، وقد تقدم بيان معنى الآية في أول هذه السورة.
12- "وأمرت لأن أكون أول المسلمين" أي من هذه الأمة، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم فإنه أول من خالف دين آبائه ودعا إلى التوحيد، واللام للتعليل: أي وأمرت بما أمرت به لأجل أن أكون، وقيل إنها مزيدة للتأكيد، والأول أولى. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "إن تكفروا فإن الله غني عنكم" يعني الكفار الذي لم يردالله أن يطهر قلوبهم، فيقولون لا إله إلا الله ثم قال: "ولا يرضى لعباده الكفر" وهم عباده المخلصون الذين قال: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" فألزمهم شهادة أن لا إله إلا الله وحببها إليهم. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة "ولا يرضى لعباده الكفر" قال: لا يرضى لعباده المسلمين الكفر. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: والله ما رضي الله لعبد ضلالة ولا أمره بها ولا دعا إليها، ولكن رضي لكم طاعته وأمركم بها ونهاكم عن معصيته. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن ابن عمر أنه تلا هذه الآية: "أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة" قال: ذاك عثمان بن عفان وفي لفظ: نزلت في عثمان بن عفان. وأخرج ابن سعد في طبقاته وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس في قوله: "أمن هو قانت" الآية قال: نزلت في عمار بن ياسر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "يحذر الآخرة" يقول: يحذر عذاب الآخرة. وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أنس قال "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في الموت فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله وأخاف ذنوني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو وأمنه الذي يخاف". أخرجوه من طريق سيار بن حاتمعن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس. قال الترمذي: غريب، وقد رواه بعضهم عن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.
قوله: 13- " قل إني أخاف إن عصيت ربي " أي بترك إخلاص العبادة له وتوحيده والدعاء إلى ترك الشرك وتضليل أهله "عذاب يوم عظيم" وهو يوم القيامة. قال أكثر المفسرين: المعنى إني أخاف إن عصيت ربي بإجابة المشركين إلى ما دعوني إليه من عبادة غير الله. قال أبو حمزة اليماني وابن المسيب: هذه الآية منسوخة بقوله: "ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" وفي هذه الآية دليل على أن الأمر للوجوب، لأن قلبه "إنما أمرت أن أعبد الله" فالمراد عصيان هذا الأمر.
14- "قل الله أعبد" التقديم مشعر بالاختصاص: أي لا أعبد غيره لا استقالاً ولا على جهة الشركة، ومعنى "مخلصاً له ديني" أنه خالص لله غير مشوب بشرك ولا رياء ولا غيرهما، وقد تقدم تحقيقه في أول السورة. قال الرازي: فإن قيل ما معنى التكرير في قوله: "قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين" وقوله: " قل الله أعبد مخلصا له ديني " قلنا: ليس هذا بتكرير، لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالإيمان والعبادة، والثاني إخبار بأنه أمر أن لا يعبد أحداً غير الله.
15- "فاعبدوا ما شئتم" أن تعبدوه "من دونه" هذا الأمر للتهديد والتقريع والتوبيخ كقوله: " اعملوا ما شئتم " وقيل إن الأمر على حقيقته، وهو منسوخ بآية السيف، والأول أولى "قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة" أي إن الكاملين في الخسران هم هؤلاء، لأن من دخل النار فقد خسر نفسه وأهله. قال الزجاج: وهذا عيني به الكفار فإنهم خسروا وأنفسهم بالتخليد في النار، وخسروا أهليلهم، لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة، وجملة "ألا ذلك هو الخسران المبين" مستأنفة لتأكيد ما قبلها، وتصديرها بحرف التنبيه للإشعار بأن هذا الخسران ووصفه بكونه مبيناً، فإنه يدل على أنه الفرد الكامل من أفراد الخسران وأنه لا خسران يساويه ولا عقوبة تدانيه.
ثم بين سبحانه هذا الخسران الذي حل بهم والبلاء النازل فوقهم بقوله: 16-"لهم من فوقهم ظلل من النار" الظلل عبارة عن أطباق النار: أي لهم من فوقهم أطباق من النار تلتهب عليهم "ومن تحتهم ظلل" أي أطباق من النار، وسمي ما تحتهم ظللاً لأنها تظل من تحتها من أهل النار، لأن طبقات النار صار في كل طبقة منها طائفة من طوائف الكفار ، ومثل هذه الآية قوله : " لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش " وقوله: "يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم" والإشارة بقوله: "ذلك" إلى ما تقدم ذكره من وصف عذابهم في النار، وهو مبتدأ وخبره قوله: "يخوف الله به عباده" أي يحذرهم بما توعد به الكفار من العذاب ليخافوه فيتقوه، وهو معنى "يا عباد فاتقون" أي اتقوا هذه المعاصي الموجبة لمثل هذا العذاب على الكفار، ووجه تخصيص العباد بالمؤمنين أن الغالب في القرآن إطلاق لفظ العباد عليهم، وقيل هو للكفار وأهل المعاصي، وقيل هو عام للمسلمين والكفار.
17- "والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها" الموصول مبتدأ وخبره قوله: "لهم البشرى" والطاغوت بناء مبالغة في المصدر كالرحموت والعظموت، وهو الأوثان والشيطان. وقال مجاهد وابن زيد: هو الشيطان. وقال الضحاك والسدي: هو الأوثان. وقيل إنه الكاهن، وقيل هو اسم أعجمي مثل طالوت وجالوت، وقيل إنه اسم عربي مشتق من الطغيان. قال الأخفش: الطاغوت جمع، ويجوز أن يكون واحده مؤنثاً، ومعنى اجتنبوا الطاغوت: أعرضوا عن عبادته وخصوا عبادتهم بالله عز وجل، وقوله: أن يعبدوها في محل نصب على البدل من الطاغوت بدل اشتمال، كأنه قال: اجتنبوا عبادة الطاغوت، وقد تقدم الكلام على تفسير الطاغوت مستوفى في سورة البقرة، وقوله: "وأنابوا إلى الله" معطوف على اجتنبوا، والمعنى: رجعوا إليه وأقبلوا على عبادته معرضين عما سواه "لهم البشرى" بالثواب الجزيل وهو الجنة، وهذه البشرى إما على ألسنة الرسل، أو عند حضور الموت أو عند البعث.
18- " فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " المراد بالعباد هنا العموم، فيدخل الموصوفون بالاجتناب والإنابة إليه دخولاً أولياً، والمعنى: يستمعون القول الحق من كتاب الله وسنة رسوله فيتبعون أحسنه أي محكمه، ويعملون به. قال السدي: يتبعون أحسن ما يؤمرون به فيعملون بما فيه، وقيل هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح فلا يتحدث به، وقيل يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن، وقيل يستمعون الرخص والعزائم فيتبعون العزائم ويتركون الرخص، وقيل يأخذون بالعفو ويتركون العقوبة. ثم أثنى سبحانه على هؤلاء المذكورين فقال: " أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب " أي هم الذين أوصلهم الله إلى الحق وهم أصحاب العقول الصحيحة، لأنهم الذين انتفعوا بعقولهم ولم ينتفع من عداهم بعقولهم.
ثم ذكر سبحانه من سبقت له الشقاوة وحرم السعادة فقال: 19- "أفمن حق عليه كلمة العذاب" من هذه يحتمل أن تكون موصولة في محل رفع بالابتداء وخبرها محذوف: أي كمن يخاف، أو فأنت تخلصه أو تتأسف عليه ويحتمل أن تكون شرطية، وجوابه "أفأنت تنقذ من في النار" فالفاء فاء الجواب دخلت على جملة الجزاء وأعيدت الهمزة الإنكارية لتأكيد معين الإنكار. وقال سيبويه إنه كرر الاستفهام لطول الكلام. وقال الفراء: المعنى أفأنت تنقذ من حقت عليه كلمة العذاب، والمراد بكلمة العذاب هنا هي قوله تعالى لإبليس: "لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين" وقوله: "لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين" ومعنى الآية التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان حريصاً على إيمان قومه، فأعلمه الله أن من سبق عليه القضاء وحقت عليه كلمة الله لا يقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينقذه من النار بأن يجعله مؤمناً. قال عطاء: يريد أبا لهب وولده ومن تخلف من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، وفي الآية تنزيل لمن يستحق العذاب بمن قد صار فيه، وتنزيل دعائه إلى الإيمان منزلة الإخراج له من عذاب النار.
ولما ذكر سبحانه فيما سبق أن لأهل الشقاوة ظللاً من فوقهم النار ومن تحتهم ظلل استدرك عنهم من كان من أهل السعادة فقال: 20- "لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية" وذلك لأن الجنة درجات بعضها فوق بعض، ومعنى مبنية أنها مبنية بناء المنازل في إحكام أساسها وقوة بنائها وإن كانت منازل الدنيا ليست بشيء بالنسبة إليها "تجري من تحتها الأنهار" أي مت تحت تلك الغرف، وفي ذلك كما لبهجتها وزيادة لرونقها، وانتصاب "وعد الله" على المصدرية المؤكدة لمضمون الجملة، لأن قوله "لهم غرف" في معنى وعدهم الله بذلك، وجملة "لا يخلف الله الميعاد"مقررة للوعد: أي لا يخلف الله ما وعد به الفريقين من الخير والشر. وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم" الآية. قال: هم الكفار الذين خلقهم الله للنار زالت عنهم الدنيا وحرمت عليهم الجنة. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: "خسروا أنفسهم وأهليهم" قال: أهليهم من أهل الجنة كانوا أعدوا لهم لو عملوا بطاعة الله فغيبوهم. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال: كان سعيد بن زيد وأبو ذر وسلمان يتبعون في الجاهلية أحسن القول والكلام لا إله إلا الله قالوا بها، فأنزل الله على نبيه"يستمعون القول فيتبعون أحسنه" الآية. وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد: "قال لما نزل. " فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً فنادى: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، فاستقبل عمر الرسول فرده فقال: يا رسول الله خشيت أن يتكل الناس فلا يعملون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو يعلم الناس قدر رحمة ربي لاتكلوا، ولو يعلمون قدر سخط ربي وعقابه لاستصغروا أعمالهم" وهذا الحديث أصله في الصحيح من حديث أبي هريرة.
لما ذكر سبحانه الآخرة ووصفها بوصف يوجب الرغبة فيها والشوق إليها أتبعه بذكر الدنيا ووصفها بوصف يوجب الرغبة عنها والنفرة منها، فذكر تمثيلاً لها في سرعة زوالها وقريب اضمحلالها مع ما في ذلك من ذكر نوع من أنواع قدرته الباهرة وصنعه البديع فقال: 21- "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء" أي من السحاب مطراً "فسلكه ينابيع في الأرض" أي فأدخله وأسكنه فيها، والينابيع جمع ينبوع من نبع الماء ينبع، والينبوع عين الماء والأمكنة التي ينبع منها الماء، والمعنى أدخل الماء النازل من السماء في الأرض وجعله فيها عيوناً جارية، أو جعله في ينابيع: أي في أمكنة ينبع منها الماء، فهو على الوجه الثاني منصوب بنزع الخافض. قال مقاتل: فجعله عيوناً وركايا في الأرض "ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه" أي يخرج بذلك الماء من الأرض زرعاً مختلفاً ألوانه من أصفر وأخضر وأبيض وأحمر، أو من بر وشعير وغيرهما إذا كان المراد بالألوان الأصناف "ثم يهيج" يقال هاج النبت يهيج هيجاً إذا تم جفافه. قال الجوهري: يقال هاج النبت هياجاً: إذا يبس، وأرض هائجة يبس بقلها أو اصفر، وأهاجت الريح النبت أيبسته. قال المبرد: قال الأصمعي: يقال هاجت الأرض تهيج: إذا أدبر نبتها وولى. قال: وكذلك هاج النبت "فتراه مصفراً" أي تراه بعد خضرته ونضارته وحسن رونقه مصفراً قد ذهبت خضرته ونضارته "ثم يجعله حطاماً" أي متفتتاً منكسراً، من تحطم العود إذا تفتت من اليبس " إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب " أي فيما تقدم ذكره تذكير لأهل العقول الصحيحة، فإنهم الذين يتعقلون الأشياء على حقيقتها فيتفكرون ويعتبرون ويعلمون بأن الحياة الدنيا حالها كحال هذا الزرع في سرعة التصرم وقرب التقضي، وذهاب بهجتها وزوال رونقها ونضارتها، فإذا أنتج لهم التفكر والاعتبار العلم بذلك لم يحصل منهم الاغترار بها والميل إليها وإيثارها على دار النعيم الدائم والحياة المستمرة واللذة الخالصة، ولم يبق معهم شك في أن الله قادر على البعث والحشر، لأن من قدر على هذا قدر على ذلك. وقيل هو مثل ضربه الله للقرآن ولصدور من في الأرض. والمعنى: أنزل من السماء قرآناً فسلكه في قلوب المؤمنين، ثم يخرجبه ديناً بعضه أفضل من بعض، فأما المؤمن فيزداد إيماناً ويقيناً، وأما الذي في قلبه مرض فإنه يهيج كما يهيج الزرع، وهذا بالتغيير أشبه منه بالتفسير. وقرأ الجمهور "ثم يجعله" بالرفع عطفاً على ما قبله، وقرأ أبو بشر بالنصب بإضمار أن، ولا وجه لذلك.