تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 465 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 465

465- تفسير الصفحة رقم465 من المصحف
قوله تعالى: "أو تقول" هذه النفس "لو أن الله هداني" أي أرشدني إلى دينه. وهذا القول لو أن الله هداني لاهتديت قول صدق. وهو قريب من احتجاج المشركين فيما أخبر الرب جل وعز عنهم في قوله: "سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا" [الأنعام: 148] فهي كلمة حق أريد بها باطل؛ كما قال علي رضى الله عنه لما قال قائل من الخوارج لاحكم إلا لله. "لكنت من المتقين" أي الشرك والمعاصي. "أو تقول حين ترى العذاب" يعني أن هذه النفس تقول حين ترى العذاب "لو أن لي كرة" أي تتمنى الرجعة. "فأكون من المحسنين" نصب على جواب التمني، وإن شئت كان معطوفا على "كرة" لأن معناه أن أكر؛ كما قال الشاعر:
للبس عباءة وتقر عيني أحب إلي من لبس الشفوف
وأنشد الفراء:
فما لك منها غير ذكرى وخشية وتسأل عن ركبانها أين يمموا
فنصب وتسأل على موضع الذكرى؛ لأن معنى الكلام فما لك منها إلا أن تذكر. ومنه للبس عباءة وتقر؛ أي لأن ألبس عباءة وتقر. وقال أبو صالح: كان رجل عالم في بني إسرائيل وجد رقعة: إن العبد ليعمل الزمان الطويل بطاعة الله فيختم له عمله بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بمعصية الله ثم يختم له عمله بعمل رجل من أهل الجنة فيدخل الجنة؛ فقال: ولأي شيء أتعب نفسي فترك عمله وأخذ في الفسوق والمعصية، وقال له إبليس: لك عمر طويل فتمتع في الدنيا ثم تتوب، فأخذ في الفسوق وأنفق ماله في الفجور، فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان، فقال: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله؛ ذهب عمري في طاعة الشيطان، فندم حين لا ينفعه الندم؛ فأنزل الله خبره في القرآن. وقال قتادة: هؤلاء أصناف؛ صنف منهم قال: "يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله". وصنف منهم قال: "لو أن الله هداني لكنت من المتقين". وقال آخر: "لو أن لي كرة فأكون من المحسنين" فقال الله تعالى ردا لكلامهم: "بلى قد جاءتك آياتي" قال الزجاج: "بلى" جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي، ولكن معنى "لو أن الله هداني" ما هداني، وكأن هذا القائل قال ما هديت؛ فقيل: بل قد بين لك طريق الهدى فكنت بحيث لو أردت أن تؤمن أمكنك أن تؤمن. "آياتي" أي القرآن. وقيل: عنى بالآيات المعجزات؛ أي وضح الدليل فأنكرته وكذبته. "واستكبرت وكنت من الكافرين" أي تكبرت عن الإيمان "وكنت من الكافرين". وقال: "استكبرت وكنت" وهو خطاب الذكر؛ لأن النفس تقع على الذكر والأنثى. يقال: ثلاثة أنفس. وقال المبرد؛ تقول العرب نفس واحد أي إنسان واحد. وروى الربيع بن أنس عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: "قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين". وقرأ الأعمش: "بلى قد جاءته آياتي" وهذا يدل على التذكير. والربيع بن أنس لم يلحق أم سلمة إلا أن القراءة جائزة؛ لأن النفس تقع للمذكر والمؤنث. وقد أنكر هذه القراءة بعضهم وقال: يجب إذا كسر التاء أن تقول وكنت من الكوافر أو من الكافرات. قال النحاس: وهذا لا يلزم؛ ألا ترى أن قبله "أن تقول نفس" ثم قال: "وإن كنت لمن الساخرين" ولم يقل من السواخر ولا من الساخرات. والتقدير في العربية على كسر التاء "واستكبرت وكنت" من الجمع الساخرين أو من الناس الساخرين أو من القوم الساخرين.
الآية: 60 - 64 {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين، وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون، الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل، له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون، قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون}
قوله تعالى: "ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة" أي مما حاط بهم من غضب الله ونقمته. وقال الأخفش: "ترى" غير عامل في قوله: "وجوههم مسودة" إنما هو ابتداء وخبر. الزمخشري: جملة في موضع الحال إن كان "ترى" من رؤية البصر، ومفعول ثان إن كان من رؤية القلب. "أليس في جهنم مثوى للمتكبرين" بين رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى الكبر فقال عليه السلام: (سفه الحق وغمص الناس) أي احتقارهم. وقد مضى في "البقرة" وغيرها. وفي حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر المتكبرون يوم القيامة كالذر يلحقهم الصغار حتى يؤتى بهم إلى سجن جهنم).
قوله تعالى: "وينجي الله الذين اتقوا" وقرئ: "وينجى" أي من الشرك والمعاصي. "بمفازتهم" على التوحيد قراءة العامة لأنها مصدر. وقرأ الكوفيون: "بمفازاتهم" وهو جائز كما تقول بسعاداتهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير هذه الآية من حديث أبي هريرة، قال: (يحشر الله مع كل امرئ عمله فيكون عمل المؤمن معه في أحسن صورة وأطيب ريح فكلما كان رعب أو خوف قال له لا ترع فما أنت بالمراد به ولا أنت بالمعني به فإذا كثر ذلك عليه قال فما أحسنك فمن أنت فيقول أما تعرفني أنا عملك الصالح حملتني على ثقلي فوالله لأحملنك ولأدفعن عنك فهي التي قال الله: "وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون".
"الله خالق كل شيء" أي حافظ وقائم به. وقد تقدم.
قوله تعالى: "له مقاليد السماوات والأرض" واحدها مقليد. وقيل: مقلاد وأكثر ما يستعمل فيه إقليد. والمقاليد المفاتيح عن ابن عباس وغيره. وقال السدي: خزائن السماوات والأرض. وقال غيره: خزائن السماوات المطر، وخزائن الأرض النبات. وفيه لغة أخرى أقاليد وعليها يكون واحدها إقليد. قال الجوهري: والإقليد المفتاح، والمقلد مفتاح كالمنجل ربما يقلد به الكلأ كما يقلد القت إذا جعل حبالا؛ أي يفتل والجمع المقاليد. وأقلد البحر على خلق كثير أي غرقهم كأنه أغلق عليهم. وخرج البيهقي عن ابن عمر أن عثمان بن عفان رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله تعالى: "له مقاليد السماوات والأرض" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما سألني عنها أحد لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده استغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم هو الأول والآخر والظاهر والباطن يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير) ذكره الثعلبي في تفسيره، وزاد من قالها إذا أصبح أو أمسى عشر مرات أعطاه الله ست خصال: أولها يحرس من إبليس، والثانية يحضره اثنا عشر ألف ملك، والثالثة يعطى قنطارا من الأجر، والرابعة ترفع له درجة، والخامسة يزوجه الله من الحور العين، والسادسة يكون له من الأجر كمن قرأ القرآن والتوراة والإنجيل والزبور، وله أيضا من الأجر كمن حج واعتمر فقبلت حجته وعمرته، فإن مات من ليلته مات شهيدا. وروى الحارث عن علي قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير المقاليد فقال: (يا علي لقد سألت عن عظيم المقاليد هو أن تقول عشرا إذا أصبحت وعشرا إذا أمسيت لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله واستغفر الله ولا قوة إلا بالله الأول والآخر والظاهر والباطن له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير من قالها عشرا إذا أصبح، وعشرا إذا أمسى أعطاه الله خصالا ستا: أولها يحرسه من الشيطان وجنوده فلا يكون لهم عليه سلطان، والثانية يعطى قنطارا في الجنة هو أثقل في ميزانه من جبل أحد، والثالثة ترفع له درجة لا ينالها إلا الأبرار، والرابعة يزوجه الله من الحور العين، والخامسة يشهده اثنا عشر ألف ملك يكتبونها له في رق منشور ويشهدون له بها يوم القيامة، والسادسة يكون له من الأجر كأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وكمن حج واعتمر فقبل الله حجته وعمرته، وإن مات من يومه أو ليلته أوشهره طبع بطابع الشهداء. وقيل: المقاليد الطاعة يقال ألقى إلى فلان بالمقاليد أي أطاعه فيما يأمره؛ فمعنى الآية له طاعة من في السماوات والأرض.
قوله تعالى: "والذين كفروا بآيات الله" أي بالقرآن والحجج والدلالات. "أولئك هم الخاسرون" تقدم.
قوله تعالى: "قل أفغير الله تأمروني أعبد " ذلك حين دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما هم عليه من عبادة الأصنام وقالوا هو دين آبائك. و"غير" نصب بـ "أعبد" على تقدير أعبد غير الله فيما تأمرونني. ويجوز أن ينتصب بـ "تأمروني" على حذف حرف الجر؛ التقدير: أتأمروني بغير الله أن أعبده، لأن أن مقدرة وأن والفعل مصدر، وهي بدل من غير؛ التقدير: أتأمروني بعبادة غير الله. وقرأ نافع: "تأمروني" بنون واحدة مخففة وفتح الياء. وقرأ ابن عامر: "تأمرونني" بنونين مخففتين على الأصل. الباقون بنون واحدة مشددة على الإدغام، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأنها وقعت في مصحف عثمان بنون واحدة. وقرأ نافع على حذف النون الثانية وإنما كانت المحذوفة الثانية؛ لأن التكرير والتثقيل يقع بها، وأيضا حذف الأولى لا يجوز؛ لأنها دلالة الرفع. وقد مضى في "الأنعام" بيانه عند قوله تعالى: "أتحاجوني". "أعبد" أي أن أعبد فلما حذف "أن" رفع؛ قاله الكسائي. ومنه قول الشاعر:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
والدليل على صحة هذا الوجه قراءة من قرأ "أعبد" بالنصب.
الآية: 65 - 66 {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين، بل الله فاعبد وكن من الشاكرين}
قوله تعالى: "ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت" قيل: إن في الكلام تقديما وتأخيرا؛ والتقدير: لقد أوحي إليك لئن أشركت وأوحي إلى الذين من قبلك كذلك. وقيل: هو على بابه؛ قال مقاتل: أي أوحي إليك وإلى الأنبياء قبلك بالتوحيد والتوحيد محذوف. ثم قال: "لئن أشركت" يا محمد: "ليحبطن عملك" وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقيل: الخطاب له والمراد أمته؛ إذ قد علم الله أنه لا يشرك ولا يقع منه إشراك. والإحباط الإبطال والفساد؛ قال القشيري: فمن ارتد لم تنفعه طاعاته السابقة ولكن إحباط الردة العمل مشروط بالوفاة على الكفر؛ ولهذا قال: "من يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم" [البقرة: 217] فالمطلق ها هنا محمول على المقيد؛ ولهذا قلنا: من حج ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام لا يجب عليه إعادة الحج.
قلت: هذا مذهب الشافعي. وعند مالك تجب عليه الإعادة وقد مضى في "البقرة" بيان هذا مستوفى.
قوله تعالى: "بل الله فاعبد" النحاس: في كتابي عن أبي إسحاق لفظ اسم الله عز وجل منصوب بـ "اعبد" قال: ولا اختلاف في هذا بين البصريين والكوفيين. قال النحاس: وقال الفراء يكون منصوبا بإضمار فعل. وحكاه المهدوي عن الكسائي. فأما الفاء فقال الزجاج: إنها للمجازاة. وقال الأخفش: هي زائدة. وقال ابن عباس: "فاعبد" أي فوحد. وقال غيره: "بل الله" فأطع "وكن من الشاكرين" لنعمه بخلاف المشركين.
الآية: 67 - 68 {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون، ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون}
قوله تعالى: "وما قدروا الله حق قدره" قال المبرد: ما عظموه حق عظمته من قولك فلان عظيم القدر. قال النحاس: والمعنى على هذا وما عظموه حق عظمته إذا عبدوا معه غيره وهو خالق الأشياء ومالكها. ثم أخبر عن قدرته وعظمته فقال: "والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه". ثم نزه نفسه عن أن يكون ذلك بجارحة فقال: "سبحانه وتعالى عما يشركون". وفي الترمذي عن عبدالله قال: جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد إن الله يمسك السماوات على إصبع والخلائق على إصبع ثم يقول أنا الملك. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال: "وما قدروا الله حق قدره". قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض). وفي الترمذي عن عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: "والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه" قالت: قلت فأين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال: (على جسر جهنم) في رواية (على الصراط يا عائشة) قال: حديث حسن صحيح. وقوله: "والأرض جميعا قبضته" (ويقبض الله الأرض) عبارة عن قدرته وإحاطته بجميع مخلوقاته؛ يقال: ما فلان إلا في قبضتي، بمعنى ما فلان إلا في قدرتي، والناس يقولون الأشياء في قبضته يريدون في ملكه وقدرته. وقد يكون معنى القبض والطي إفناء الشيء وإذهابه فقوله جل وعز: "والأرض جميعا قبضته" يحتمل أن يكون المراد به والأرض جميعا ذاهبة فانية يوم القيامة، والمراد بالأرض الأرضون السبع؛ يشهد لذلك شاهدان: قوله: "والأرض جميعا" ولأن الموضع موضع تفخيم وهو مقتضٍ للمبالغة. وقوله: "والسماوات مطويات بيمينه" ليس يريد به طيا بعلاج وانتصاب،وإنما المراد بذلك الفناء والذهاب؛ يقال: قد انطوى عنا ما كنا فيه وجاءنا غيره. وانطوى عنا دهر بمعنى المضى والذهاب. واليمين في كلام العرب قد تكون بمعنى القدرة والملك؛ ومنه قوله تعالى: "أو ما ملكت أيمانكم" [النساء:3] يريد به الملك؛ وقال: "لأخذنا منه باليمين" [الحاقة: 45] أي بالقوة والقدرة أي لأخذنا قوته وقدرته. قال الفراء والمبرد: اليمين القوة والقدرة. وأنشدا:
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
وقال آخر:
ولما رأيت الشمس أشرق نورها تناولت منها حاجتي بيمين
قتلت شنيفا ثم فاران بعده وكان على الآيات غير أمين
وإنما خص يوم القيامة بالذكر وإن كانت قدرته شاملة لكل شيء أيضا؛ لأن الدعاوى تنقطع ذلك اليوم، كما قال: "والأمر يومئذ لله" [الانفطار: 19] وقال: "مالك يوم الدين" [الفاتحة: 3] حسب ما تقدم في "الفاتحة" ولذلك قال في الحديث: (ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض) وقد زدنا هذا الباب في التذكرة بيانا، وتكلمنا على ذكر الشمال في حديث ابن عمر قوله: (ثم يطوي الأرض بشماله).
قوله تعالى: "ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى" بين ما يكون بعد قبض الأرض وطي السماء وهو النفخ في الصور، وإنما هما نفختان؛ يموت الخلق في الأولى منهما ويحيون في الثانية وقد مضى الكلام في هذا في "النمل" و"الأنعام" أيضا. والذي ينفخ في الصور هو إسرافيل عليه السلام. وقد قيل: إنه يكون معه جبريل لحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن صاحبي الصور بأيديهما - أو في أيديهما - قرنان يلاحظان النظر متى يؤمران) خرجه ابن ماجة في السنن. وفي كتاب أبي داود عن أبي سعيد الخدري قال: ذكر رسول الله صاحب الصور، وقال: (عن يمينه جبرائيل وعن يساره ميكائيل). واختلف في المستثنى من هم؟ فقيل: هم الشهداء متقلدين أسيافهم حول العرش. روي مرفوعا من حديث أبي هريرة فيما ذكر القشيري، ومن حديث عبدالله بن عمر فيما ذكر الثعلبي. وقيل: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام. وروي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا: "ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله" فقالوا: يا نبي الله من هم الذين استثنى الله تعالى؟ قال: (هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت فيقول الله تعالى لملك الموت يا ملك الموت من بقي من خلقي وهو أعلم فيقول يا رب بقي جبريل وميكائيل وإسرافيل وعبدك الضعيف ملك الموت فيقول الله تعالى خذ نفس إسرائيل وميكائيل فيخران ميتين كالطودين العظيمين فيقول مت يا ملك الموت فيموت فيقول الله تعالى لجبريل يا جبريل من بقي فيقول تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام وجهك الباقي الدائم وجبريل الميت الفاني فيقول الله تعالى يا جبريل لا بد من موتك فيقع ساجدا يخفق بجناحيه يقول سبحانك ربي تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام) قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن فضل خلقه على خلق ميكائيل كالطود العظيم على الظرب من الظراب) ذكره الثعلبي. وذكره النحاس أيضا من حديث محمد بن إسحاق، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله جل وعز: "فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله" قال: (جبريل وميكائيل وحملة العرش وملك الموت وإسرافيل) وفي هذا الحديث: (إن آخرهم موتا جبريل عليه وعليهم السلام) وحديث أبي هريرة في الشهداء أصح على ما تقدم في "النمل". وقال الضحاك: هو رضوان والحور ومالك والزبانية. وقيل: عقارب أهل النار وحياتها. وقال الحسن: هو الله الواحد القهار وما يدع أحدا من أهل السماء والأرض إلا أذاقه الموت. وقال قتادة: الله أعلم بثنياه. وقيل: الاستئناء في قوله: "إلا من شاء الله" يرجع إلى من مات قبل النفخة الأولى؛ أي فيموت من في السماوات والأرضى إلا من سبق موته لأنهم كانوا قد ماتوا.
وفي الصحيحين وابن ماجة واللفظ له عن أبي هريرة قال: قال رجل من اليهود بسوقي المدينة، والذي اصطفى موسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه؛ قال: تقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (قال الله عز وجل: "ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون" فأكون أول من رفع رأسه فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله ومن قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب) وخرجه الترمذي أيضا وقال فيه: حديث حسن صحيح. قال القشيري: ومن حمل الاستثناء على موسى والشهداء فهؤلاء قد ماتوا غير أنهم أحياء عند الله. فيجوز أن تكون الصعقة بزوال العقل دون زوال الحياة، ويجوز أن تكون بالموت، ولا يبعد أن يكون الموت والحياة فكل ذلك مما يجوزه العقل، والأمر في وقوعه موقوف على خبر صدق.
قلت: جاء في بعض طرق أبي هريرة أنه عليه السلام قال: (لا تخيروني على موسى فان الناس يصعقون فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله) خرجه مسلم. ونحوه عن أبي سعيد الخدري؛ والإفاقة إنما تكون عن غشية وزوال عقل لا عن موت برد الحياة. والله أعلم.
قوله تعالى: "فإذا هم قيام ينظرون" أي فإذا الأموات من أهل الأرض والسماء أحياء بعثوا من قبورهم، وأعيدت إليهم أبدانهم وأرواحهم، فقاموا ينظرون ماذا يؤمرون. وقيل: قيام على أرجلهم ينظرون إلى البعث الذي وعدوا به. وقيل: هذا النظر بمعنى الانتظار؛ أي ينتظرون ما يفعل بهم. وأجاز الكسائي قياما بالنصب؛ كما تقول: خرجت فإذا زيد جالسا.