تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 466 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 466

466- تفسير الصفحة رقم466 من المصحف
قوله تعالى: "ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى" بين ما يكون بعد قبض الأرض وطي السماء وهو النفخ في الصور، وإنما هما نفختان؛ يموت الخلق في الأولى منهما ويحيون في الثانية وقد مضى الكلام في هذا في "النمل" و"الأنعام" أيضا. والذي ينفخ في الصور هو إسرافيل عليه السلام. وقد قيل: إنه يكون معه جبريل لحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن صاحبي الصور بأيديهما - أو في أيديهما - قرنان يلاحظان النظر متى يؤمران) خرجه ابن ماجة في السنن. وفي كتاب أبي داود عن أبي سعيد الخدري قال: ذكر رسول الله صاحب الصور، وقال: (عن يمينه جبرائيل وعن يساره ميكائيل). واختلف في المستثنى من هم؟ فقيل: هم الشهداء متقلدين أسيافهم حول العرش. روي مرفوعا من حديث أبي هريرة فيما ذكر القشيري، ومن حديث عبدالله بن عمر فيما ذكر الثعلبي. وقيل: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام. وروي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا: "ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله" فقالوا: يا نبي الله من هم الذين استثنى الله تعالى؟ قال: (هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت فيقول الله تعالى لملك الموت يا ملك الموت من بقي من خلقي وهو أعلم فيقول يا رب بقي جبريل وميكائيل وإسرافيل وعبدك الضعيف ملك الموت فيقول الله تعالى خذ نفس إسرائيل وميكائيل فيخران ميتين كالطودين العظيمين فيقول مت يا ملك الموت فيموت فيقول الله تعالى لجبريل يا جبريل من بقي فيقول تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام وجهك الباقي الدائم وجبريل الميت الفاني فيقول الله تعالى يا جبريل لا بد من موتك فيقع ساجدا يخفق بجناحيه يقول سبحانك ربي تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام) قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن فضل خلقه على خلق ميكائيل كالطود العظيم على الظرب من الظراب) ذكره الثعلبي. وذكره النحاس أيضا من حديث محمد بن إسحاق، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله جل وعز: "فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله" قال: (جبريل وميكائيل وحملة العرش وملك الموت وإسرافيل) وفي هذا الحديث: (إن آخرهم موتا جبريل عليه وعليهم السلام) وحديث أبي هريرة في الشهداء أصح على ما تقدم في "النمل". وقال الضحاك: هو رضوان والحور ومالك والزبانية. وقيل: عقارب أهل النار وحياتها. وقال الحسن: هو الله الواحد القهار وما يدع أحدا من أهل السماء والأرض إلا أذاقه الموت. وقال قتادة: الله أعلم بثنياه. وقيل: الاستئناء في قوله: "إلا من شاء الله" يرجع إلى من مات قبل النفخة الأولى؛ أي فيموت من في السماوات والأرضى إلا من سبق موته لأنهم كانوا قد ماتوا.
وفي الصحيحين وابن ماجة واللفظ له عن أبي هريرة قال: قال رجل من اليهود بسوقي المدينة، والذي اصطفى موسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه؛ قال: تقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (قال الله عز وجل: "ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون" فأكون أول من رفع رأسه فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله ومن قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب) وخرجه الترمذي أيضا وقال فيه: حديث حسن صحيح. قال القشيري: ومن حمل الاستثناء على موسى والشهداء فهؤلاء قد ماتوا غير أنهم أحياء عند الله. فيجوز أن تكون الصعقة بزوال العقل دون زوال الحياة، ويجوز أن تكون بالموت، ولا يبعد أن يكون الموت والحياة فكل ذلك مما يجوزه العقل، والأمر في وقوعه موقوف على خبر صدق.
قلت: جاء في بعض طرق أبي هريرة أنه عليه السلام قال: (لا تخيروني على موسى فان الناس يصعقون فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله) خرجه مسلم. ونحوه عن أبي سعيد الخدري؛ والإفاقة إنما تكون عن غشية وزوال عقل لا عن موت برد الحياة. والله أعلم.
قوله تعالى: "فإذا هم قيام ينظرون" أي فإذا الأموات من أهل الأرض والسماء أحياء بعثوا من قبورهم، وأعيدت إليهم أبدانهم وأرواحهم، فقاموا ينظرون ماذا يؤمرون. وقيل: قيام على أرجلهم ينظرون إلى البعث الذي وعدوا به. وقيل: هذا النظر بمعنى الانتظار؛ أي ينتظرون ما يفعل بهم. وأجاز الكسائي قياما بالنصب؛ كما تقول: خرجت فإذا زيد جالسا.
الآية: 69 - 70 {وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون، ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون}
قوله تعالى: "وأشرقت الأرض بنور ربها" إشراقها إضاءتها؛ يقال: أشرقت الشمس إذا أضاءت وشرقت إذا طلعت. ومعنى: "بنور ربها" بعدل ربها؛ قاله الحسن وغيره. وقال الضحاك: بحكم ربها؛ والمعنى واحد؛ أي أنارت وأضاءت بعدل الله وقضائه بالحق بين عباده. والظلم ظلمات والعدل نور. وقيل: إن الله يخلق نورا يوم القيامة يلبسه وجه الأرض فتشرق الأرض به. وقال ابن عباس: النور المذكور ها هنا ليس من نور الشمس والقمر، بل هو نور يخلقه الله فيضيء به الأرض. وروي أن الأرض يومئذ من فضة تشرق بنور الله تعالى حين يأتي لفصل القضاء. والمعنى أنها أشرقت بنور خلقه الله تعالى، فأضاف النور إليه على حد إضافة الملك إلى المالك. وقيل: إنه اليوم الذي يقضي فيه بين خلقه؛ لأنه نهار لا ليل معه. وقرأ ابن عباس وعبيد بن عمير: "وأشرقت الأرض" على ما لم يسم فاعله وهي قراءة على التفسير. وقد ضل قوم ها هنا فتوهموا أن الله عز وجل من جنس النور والضياء المحسوس، وهو متعال عن مشابهة المحسوسات، بل هو منور السماوات والأرض، فمنه كل نور خلقا وإنشاء. وقال أبو جعفر النحاس: وقوله عز وجل: "وأشرقت الأرض بنور ربها" يبين هذا الحديث المرفوع من طرق كثيرة صحاح (تنظرون إلى الله عز وجل لا تضامون في رؤيته) وهو يروى على أربعة أوجه: لا تضامون ولا تضارون ولا تضامون ولا تضارون؛ فمعنى (لا تضامُون) لا يلحقكم ضيم كما يلحقكم في الدنيا في النظر إلى الملوك. و(لا تضارُون) لا يلحقكم ضير. و(لا تضامُّون) لا ينضم بعضكم إلى بعض ليسأله أن يريه. و(لا تضارُّون) لا يخالف بعضكم بعضا. يقال: ضاره مضارة وضرارا أي خالفه.
قوله تعالى: "ووضع الكتاب" قال ابن عباس: يريد اللوح المحفوظ. وقال قتادة: يريد الكتاب والصحف التي فيها أعمال بني آدم، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله. "وجيء بالنبيين" أي جيء بهم فسألهم عما أجابتهم به أممهم. "والشهداء" الذين شهدوا على الأمم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس" [البقرة: 143]. وقيل: المراد بالشهداء الذي استشهدوا في سبيل الله، فيشهدون يوم القيامة لمن ذب عن دين الله؛ قاله السدي. قال ابن زيد: هم الحفظة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم. قال الله تعالى: "وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد" [ق: 21] فالسائق يسوقها إلى الحساب والشهيد يشهد عليها، وهو الملك الموكل بالإنسان على ما يأتي بيانه في "ق]. "وقضي بينهم بالحق" أي بالصدق والعدل. "وهم لا يظلمون" قال سعيد بن جبير: لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم. "ووفيت كل نفس ما عملت" من خير أو شر. "وهو أعلم بما يفعلون" في الدنيا ولا حاجة به عز وجل إلى كتاب ولا إلى شاهد، ومع ذلك فتشهد الكتب، والشهود إلزاما للحجة.
الآية: 71 - 72 {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين، قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين}
قوله تعالى: "وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا" هذا بيان توفية كل نفس عملها، فيساق الكافر إلى النار والمؤمن إلى الجنة. والزمر: الجماعات واحدتها زمرة كظلمة وغرفة. وقال الأخفش وأبو عبيدة: "زمرا" جماعات متفرقة بعضها إثر بعض. قال الشاعر:
وترى الناس إلى منزله زمرا تنتابه بعد زمر
وقال آخر:
حتى احزألت زمر بعد زمر
وقيل: دفعا وزجرا بصوت كصوت المزمار. "حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها" جواب إذا، وهي سبعة أبواب. وقد مضى في "الحجر". "وقال لهم خزنتها" واحدهم خازن نحو سدنة وسادن، "ألم يأتكم رسل منكم" يقولون لهم تقريعا وتوبيخا."ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم" أي الكتب المنزلة على الأنبياء. "وينذرونكم لقاء يومكم هذا" أي يخوفونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى" أي قد جاءتنا، وهذا اعتراف منهم بقيام الحجة عليهم "ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين" وهي قوله تعالى: "لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين" [السجدة: 13]. "قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها" أي يقال لهم ادخلوا جهنم. وقد مضى الكلام في أبوابها. قال وهب: تستقبلهم الزبانية بمقامع من نار فيدفعونهم بمقامعهم، فإنه ليقع في الدفعة الواحدة إلى النار بعدد ربيعة ومضر. "فبئس مثوى المتكبرين" تقدم بيانه.
الآية: 73 - 75 {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين، وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين، وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين}
قوله تعالى: "وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا" يعني من الشهداء والزهاد والعلماء والقراء وغيرهم، ممن اتقى الله تعالى وعمل بطاعته. وقال في حق الفريقين: "وسيق" بلفظ واحد، فسوق أهل النار طردهم إليها بالخزي والهوان، كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل، وسوق أهل الجنان سوق مراكبهم إلى دار الكرامة والرضوان؛ لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك، فشتان ما بين السوقين. "حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها" قيل: الواو هنا للعطف عطف على جملة والجواب محذوف. قال المبرد: أي سعدوا وفتحت، وحذف الجواب بليغ في كلام العرب. وأنشد:
فلو أنها نفس تموت جميعة ولكنها نفس تساقط أنفسا
فحذف جواب لو والتقدير لكان أروح. وقال الزجاج: "حتى إذا جاؤوها" دخلوها وهو قريب من الأول. وقيل: الواو زائدة. قال الكوفيون وهو خطأ عند البصريين. وقد قيل: إن زيادة الواو دليل على أن الأبواب فتحت لهم قبل أن يأتوا لكرامتهم على الله تعالى، والتقدير حتى إذا جاؤوها وأبوابها مفتحة، بدليل قوله: "جنات عدن مفتحة لهم الأبواب" [ص: 50] وحذف الواو في قصة أهل النار؛ لأنهم وقفوا على النار وفتحت بعد وقوفهم إذلالا وترويعا لهم. ذكره المهدوي وحكى معناه النحاس قبله. قال النحاس: فأما الحكمة في إثبات الواو في الثاني وحذفها من الأول، فقد تكلم فيه بعض أهل العلم بقول لا أعلم أنه سبقه إليه أحد، وهو أنه لما قال الله عز وجل في أهل النار: "حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها" دل بهذا على أنها كانت مغلقة ولما قال في أهل الجنة: "حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها" دل بهذا على أنها كانت مفتحة قبل أن يجيؤوها؛ والله أعلم. وقيل: إنها واو الثمانية. وذلك من عادة قريش أنهم يعدون من الواحد فيقولون خمسة ستة سبعة وثمانية، فإذا بلغوا السبعة قالوا وثمانية. قال أبو بكر بن عياش. قال الله تعالى: "سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام" [الحاقة: 7] وقال: "التائبون العابدون" [التوبة: 112] ثم قال في الثامن: "والناهون عن المنكر" [التوبة: 112] وقال: "ويقولون سبعة وثامنهم" [الكهف: 22] وقال "ثيبات وأبكارا" [التحريم: 5] وقد مضى القول في هذا في "براءة" مستوفى وفي "الكهف" أيضا.
قلت: وقد استدل بهذا من قال إن أبواب الجنة ثمانية؛ وذكروا حديث عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو فيسبغ الوضوء - ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء) خرجه مسلم وغيره. وقد خرج الترمذي حديث عمر هذا وقال فيه: (فتح له من أبواب الجنة ثمانية أبواب يوم القيامة) بزيادة من وهو يدل على أن أبواب الجنة أكثر من ثمانية. وقد ذكرنا ذلك في كتاب التذكرة وانتهى عددها إلى ثلاثة عشر بابا، وذكرنا هناك عظم أبوابها وسعتها حسب ما ورد في الحديث من ذلك، فمن أراده وقف عليه هناك.
قوله تعالى: "وقال لهم خزنتها" قيل: الواو ملغاة تقديره حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها "قال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم" أي في الدنيا. قال مجاهد: بطاعة الله. وقيل: بالعمل الصالح. حكاه النقاش والمعنى واحد. وقال مقاتل: إذا قطعوا جسر جهنم حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا وطيبوا قال لهم رضوان وأصحابه: "سلام عليكم" بمعنى التحية "طبتم فادخلوها خالدين".
قلت: خرج البخاري حديث القنطرة هذا في جامعه من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا) وحكى النقاش: إن على باب الجنة شجرة ينبع من ساقها عينان يشرب المؤمنون من إحداهما فتطهر أجوافهم وذلك قوله تعالى: "وسقاهم ربهم شرابا طهورا" [الإنسان: 21] ثم يغتسلون من الأخرى فتطيب أبشارهم فعندها يقول لهم خزنتها: "سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين" وهذا يروى معناه عن علي رضي الله عنه.
قوله تعالى: "وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده" أي إذا دخلوا الجنة قالوا هذا. "وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء" أي أرض الجنة قيل: إنهم ورثوا الأرض التي كانت تكون لأهل النار لو كانوا مؤمنين؛ قاله أبو العالية وأبو صالح وقتادة والسدي وأكثر المفسرين وقيل: إنها أرض الدنيا على التقديم والتأخير. "فنعم أجر العاملين" قيل: هو من قولهم أي نعم الثواب هذا. وقيل: هو من قول الله تعالى؛ أي نعم ثواب المحسنين هذا الذي أعطيتهم.
قوله تعالى: "وترى الملائكة" يا محمد "حافين" أي محدقين "من حول العرش" في ذلك اليوم "يسبحون بحمد ربهم" متلذذين بذلك لا متعبدين به؛ أي يصلون حول العرش شكرا لربهم. والحافون أخذ من حافات الشيء ونواحيه. قال الأخفش: واحدهم حاف. وقال الفراء: لا واحد له إذ لا يقع لهم الاسم إلا مجتمعين. ودخلت "من" على "حول" لأنه ظرف والفعل يتعدى إلى الظرف بحرف وبغير حرف. وقال الأخفش: "من" زائدة أي حافين حول العرش. وهو كقولك: ما جاءني من أحد، فمن توكيد. الثعلبي: والعرب تدخل الباء أحيانا في التسبيح وتحذفها أحيانا، فيقولون: سبح بحمد ربك، وسبح حمدا لله؛ قال الله تعالى: "سبح اسم ربك الأعلى" [الأعلى: 1] وقال: "فسبح باسم ربك العظيم" [الواقعة: 74]. "وقضي بينهم بالحق" بين أهل الجنة والنار. وقيل: قضى بين النبيين الذين جيء بهم مع الشهداء وبين أممهم بالحق والعدل. "وقيل الحمد لله رب العالمين" أي يقول المؤمنون الحمد لله على ما أثابنا من نعمه وإحسانه ونصرنا على من ظلمنا. وقال قتادة في هذه الآية: افتتح الله أول الخلق بالحمد لله، فقال: "الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور" [الأنعام:1] وختم بالحمد فقال: "وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين" فلزم الاقتداء به، والأخذ في ابتداء كل أمر بحمده وخاتمته بحمده. وقيل: إن قول "الحمد لله رب العالمين" من قول الملائكة فعلى هذا يكون حمدهم لله تعالى على عدله وقضائه. وروي من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر آخر سورة "الزمر" فتحرك المنبر مرتين.