سورة الزمر | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 465 من المصحف
57- "أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين" أي لو أن الله أرشدني إلى دينه لكنت ممن يتقي الشرك والمعاصي، وهذا من جملة ما يحتج به المشركون من الحجج الزائفة، ويتعللون به من العلل الباطلة كما في قوله: "سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا" فهي كلمة حق يريدون بها باطلاً.
ثم ذكر سبحانه مقالة أخرى مما قالوا فقال: 58- "أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة" أي رجعة إلى الدنيا "فأكون من المحسنين" المؤمنين بالله الموحدين له، المحسنين في أعمالهم، وانتصاب أكون إما لكونه معطوفاً على كرة فإنها مصدر، وأكون في تأويل المصدر: كما في قول الشاعر: للبس عباءة وتقر عيني أحب إلي من لبس الشفوف وأنشد الفراء على هذا: فما لك منها غير ذكرى وخشية وتسأل عن ركبانها أين يمموا وإما لكونه جواب التمني المفهوم من قوله: "لو أن لي كرة".
ثم ذكر سبحانه جوابه على هذه النفوس المتمنية المتعللة بغير علة فقال: 59-"بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين". المراد بالآيات هي الآيات التنزيلية وهو القرآن. ومعنى التكذيب بها قوله: إنها ليس من عند الله وتكبر عن الإيمان بها، وكان مع ذلك التكذيب والاستكبار من الكافرين بالله. وجاء سبحانه بخطاب المذكر في قوله: جاءتك وكذبت واستكبرت وكنت، لأن النفس تطلق على المذكر والمؤمن. قال المبرد: تقول العرب نفس واحد: أي إنسان واحد، وبفتح التاء في هذه المواضع قرأ الجمهور. وقرأ الجحدري وأبو حيوة ويحيى بن يعمر بكسرها في جميعها، وهي قراءة أبي بكر وابنته عائشة وأم سلمة، ورويت عن ابن كثير.
60- "ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة" أي ترى الذين كذبوا على الله بأن له شركاء وصاحبة وولداً وجوههم مسودة لما أحاط بهم من العذاب، وشاهدوه من غضب الله ونقمته، وجملة وجوههم مسودة في محل نصب على الحال. قال الأخفش: ترى غير عامل في وجوههم مسودة، إنما هو مبتدأ وخبر، والأول أن ترى إن كانت من الرؤية البصرية، فجملة وجوههم مسودة حالية، وإن كانت قلبية فهي في محل نصب على أنها المفعول الثاني لترى، والاستفهام في قوله: "أليس في جهنم مثوى للمتكبرين" للتقرير: أي ليس فيها مقام للمتكبرين عن طاعة الله، والكبر هو بطر الحق وغمط الناس كما ثبت في الحديث الصحيح.
61- "وينجي الله الذين اتقوا" أي اتقوا الشرك ومعاصي الله، والباء في "بمفازتهم" متعلقة بمحذوف هو حال من الموصول: أي ملتبسين بمفازتهم. قرأ الجمهور "بمفازتهم" بالإفراد على أنها مصدر ميمي والفوز: الظفر باخير والنجاة من الشر. قال المبرد: المفازة مفعلة من الفوز وهو السعادة، وإن جمع فحسن: كقولك السعادة والسعادات. والمعنى ينجيهم الله بفوزهم: أي بنجاتهم من النار وفوزهم بالجنة. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر "بمفازتهم" جمع مفازة، وجمعها مع كونها مصدراً لاختلاف الأنواع، وجملة "لا يمسهم السوء" في محل نصب على الحال من الموصول، وكذلك جملة "ولا هم يحزنون" في محل نصب على الحال: أي ينفي السوء والحزن عنهم، يوجوز أن تكون الباء في بمفازتهم للسببية: أي بسبب فوزهم مع انتفاء مساس السوء لهم وعدم وصول الحزن إلى قلوبهم لأنهم رضوا بثواب الله وأمنوا من عقابه. وقد أخرج ابن أبي حاتم قال السيوطي بسند صيحيح وابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت "قل يا عبادي الذين أسرفوا" الآية في مشركي أهل مكة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر قال: كنا نقول ليس لمفتتن توبة وما الله بقابل منه شيئاً، عرفوا الله وآمنوا به وصدقوا رسوله ثم رجعوا عن ذلك لبلاء أصابهم، وكانوا يقولونه لأنفسهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله فيهم "يا عبادي الذين أسرفوا" الآيات، قال ابن عمر: فكتبتها بيدي، ثم بعثت بها إلى هشام بن العاصي. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد قال: لما أسلم وحشي أنزل أنزل الله "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق" قال وحشي وأصحابه: قد ارتكبنا هذا كله، فأنزل الله "قل يا عبادي الذين أسرفوا" الآية. وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم على رهط من أصحابه وهم يضحكون ويتحدثون فقال: والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ثم انصرف وأبكى القوم، وأوحى الله إليه: يا محمد لم تقنط عبادي فرجع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشروا وسددوا وقاربوا". وأخرج ابن مردويه والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب أنها نزلت فيمن أفتن. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنها نزلت في مشركي مكة لما قالوه إن الله لا يغفر لهم ما قد اقترفوه من الشرك وقتل الأنفس وغير ذلك. وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه واليبيهقي في الشعب عن ثوبان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" إلى آخر الآية، فقال رجل ومن أشرك؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، قال ألا ومن أشرك ثلاث مرات". وأخرج أحمد وعبد بن حيمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أنه مر على قاض يذكر الناس فقال: يا مذكر الناس لا تقنط الناس، ثم قرأ "يا عبادي الذين أسرفوا" الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن سيرين قال: قال علي: أي آية أوسع؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن "من يعمل سوءاً أو يظلم نفسه" الآية ونحوها، فقال علي: ما في القرآن أوسع من "يا عبادي" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" الآية قال: قد دعا الله إلى مغفرته من زعم أن المسيح ابن الله، ومن زعم أن عزيزاً ابن الله، ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أن يد الله مغلولة، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة يقول لهؤلاء "أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم" ثم دعا إلى توبته من هو أعظم قولاً من هؤلاء من "قال أنا ربكم الأعلى" وقال "ما علمت لكم من إله غيري" قال ابن عباس، ومن آيس العباد من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله، ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أن تقول نفس" قال: أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوا، وعلمهم قبل أن يعلموا.
قوله: 62- "الله خالق كل شيء" من الأشياء الموجودة في الدنيا والآخرة كائناً ما كان من غير فرق بين شيء وشيء وقد تقدم تفسير هذه الآية في الأنعام "وهو على كل شيء وكيل" أي الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها وتدبيرها من غير مشارك له.
63- "له مقاليد السموات والأرض" المقاليد واحدها مقليد ومقلاد أو لا واحد له من لفظه كأساطير، وهي مفاتيح السموات والأرض والرزق والرحمة. قاله مقاتل وقتادة وغيرهما. وقال الليث: المقلاد الخزانة، ومعنى الآية له خزائن السموات والأرض والرزق والرحمة. قاله مقاتل وقتادة وغيرهما. وقال الليث: المقلاد الخزانة، ومعنى الآية له خزائن السموات والأرض، وبه قال الضحاك والسدي. وقيل خزائن السموات المطر وخزائن الأرض النبات. وقيل هي عبارة عن قدرته سبحانه وحفظه لها، والأول أولى. قال الجوهري: الإقليد المفتاح، ثم قال: والجمع المقاليد. وقيل هي لا إله إلا الله والله أكبر، وسبحان الله وبحمده، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقيل غير ذلك "والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون" أي بالقرآن وسائر الآيات الدالة على الله سبحانه وتوحيده، ومعنى الخاسرون: الكاملون في الخسران لأنهم صاروا بهذا الكفر إلى النار.
64- "قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون" الاستفهام للإنكار التوبيخي، والفاء للعطف على مقدر كنظائره، وغير منصوب بأعبد، وأعبد معمول لتأمروني على تقدير أن المصدرية، فلما حذفت بطل عملها، والأصل: أفتأمروني أن أعبد غير الله. قال الكسائي وغيره. ويجوز أن يكون غير منصوباً بتأمروني، وأعبد بدل منه بدل اشتمال، وأن مضمرة معه أيضاً. ويجوز أن يكون غير منصوبة بفعل مقدر: أي أفتلزموني غير الله: أي عبادة غير الله أو أعبد غير الله أعبد. أمره سبحانه أن يقول هذا للكفار لما دعوه إلى ما هم عليه من عبادة الأصنام وقالوا هو دين آبائك. قرأ الجمهور " تأمرنا " بإدغام نون الرفع في نون الوقاية على خلاف بينهم في فتح الياء وتسكينها. وقرأ نافع "تأمروني" بنون خفيفة وفتح الياء، وقرأ ابن عامر " تأمروني " بالفك وسكون الياء.
65- " ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك " أي من الرسل "لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين" هذا الكلام من باب التعريض لغير الرسل، لأن الله سبحانه قد عصمهم عن الشرك، ووجه إيراده على هذا الوجه التحذير والإنذار للعباد من الشرك، لأنه إذا كان موجباً لإحباط عمل الأنبياء على الفرض،. والتقدير فهو محبط لعمل غيرهم من أممهم بطريق الأولى. قيل وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: ولد أوحى إليك لئن أشركت وأوحى إلى الذين من قبلك كذلك. قال مقاتل: أي أوحى إليك وإلى الأنبياء قبلك بالتوحيد والتوحيد محذوف، ثم قال: لئن أشركت يا محمد ليحبطن عملك، وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقيل إفراد الخطاب في قوله: "لئن أشركت" باعتبار كل واحد من الأنبياء: كأنه قيل أوحي إليك وإلى كل واحد من الأنبياء هذا الكلام، وهو لئن أشركت، وهذه الآية مقيدة بالموت على الشرك كما في الآية الأخرى "ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم" وقل هذا خالص بالأنبياء لأن الشرك منهم أعظم ذنباً من الشرك من غيرهم، والأول أولى.
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بتوحيده، فقال: 66- "بل الله فاعبد" وفي هذا رد على المشركين حيث أمروه بعبادة الأصنام، ووجه الرد ما يفيده التقديم من القصر. قال الزجاج: لفظ اسم الله منصوب باعبد قال: ولا اختلاف في هذا بين البصريين والكوفيين. وقال الفراء: هو منصوب بإضمار فعل، وروي مثله عن الكسائي، والأول أولى. قال الزجاج: والفاء في فاعبد للمجازاة. وقال الأخفش: زائدة. قال عطاء ومقاتل معنى فاعبد وحد، لأن عبادته لا تصح إلا بتوحيده "وكن من الشاكرين" لإنعامه عليك بما هداك إليه من التوحيد والدعاء إلى دينه واختصك به من الرسالة.
67- "وما قدروا الله حق قدره" قال المبرد: أي ما عظموه حق عظمته، من قولك فلان عظيم القدر، وإنما وصفهم بهذا لأنهم عبدوا غير الله وأمروا رسوله بأن يكون مثلهم في الشرك. وقرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى بن عمر قدروا بالتشديد "والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة" القبضة في اللغة ما قبضت عليه بجميع كفك، فأخبر سبحانه عن عظيم قدرته بأن الأرض كلها مع عظمها وكثافتها في مقدوره كالشيء الذي يقبض عليه القابض بكفه كما يقولون: هو في يد فلان وفي قبضته للشيء الذي يهون عليه التصرف فيه وإن لم يقبض عليه، وكذا قوله: "والسموات مطويات بيمينه" فإن ذكر اليمين للمبالغة في كمال القدرة كما يطوي الواحد منا الشيء المقدور له طيه بيمينه، واليمين في كلام العرب قد تكون بمعنى القدرة والملك. قال الأخفش بيمينه يقول في قدرته، نحو قوله: "أو ما ملكت أيمانكم" أي ما كانت لكم قدرة عليه، وليس الملك لليمين دون الشمال وسائر الجسد، ومنه قوله سبحانه: "لأخذنا منه باليمين" أي بالقوة والقدرة، ومنه قول الشاعر: إذا ما راية نصبت لمجد تلقاها عرابة باليمين وقول الآخر: ولما رأيت الشمس أشرق نورها تناولت منها حاجتي بيمين وقول الآخر: عطست بأنف شامخ وتناولت يداي الثريا قاعداً غير قائم وجملة "والأرض جميعاً قبضته" في محل نصب على الحال: أي ما عظموه حق تعظيمه، والحال أنه متصف بهذه الصفة الدالة على كمال القدرة. قرأ الجمهور برفع "قبضته" على أنها خبر المبتدأ، وقرأ الحسن بنصبها، ووجه ابن خالويه بأنه على الظرفية: أي في قبضته. وقرأ الجمهور " مطويات " بالرفع على أنها خبر المبتدأ، والجملة في محل نصب على الحال كالتي قبلها، وبيمينه متعلق بمطويات، أو حال من الضمير في مطويات على الأرض، وتكون قبضته خبراً على الأرض والسموات، وتكون مطويات حالاً، أو تكون مطويات منصوبة بفعل مقدر، وبيمينه الخب{، وخص يوم القيامة بالذكر وإن كانت قدرته شاملة، لأن الدعاوى تنقطع فيه كما قال سبحانه "الملك يومئذ لله" وقال "مالك يوم الدين" ثم نزه سبحانه نفسه فقال: "سبحانه وتعالى عما يشركون" به من المعبودات التي يجعلونها شركاء له مع هذه القدرة العظيمة والحكمة الباهرة.
فتح القدير - صفحة القرآن رقم 465
46457- "أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين" أي لو أن الله أرشدني إلى دينه لكنت ممن يتقي الشرك والمعاصي، وهذا من جملة ما يحتج به المشركون من الحجج الزائفة، ويتعللون به من العلل الباطلة كما في قوله: "سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا" فهي كلمة حق يريدون بها باطلاً.
ثم ذكر سبحانه مقالة أخرى مما قالوا فقال: 58- "أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة" أي رجعة إلى الدنيا "فأكون من المحسنين" المؤمنين بالله الموحدين له، المحسنين في أعمالهم، وانتصاب أكون إما لكونه معطوفاً على كرة فإنها مصدر، وأكون في تأويل المصدر: كما في قول الشاعر: للبس عباءة وتقر عيني أحب إلي من لبس الشفوف وأنشد الفراء على هذا: فما لك منها غير ذكرى وخشية وتسأل عن ركبانها أين يمموا وإما لكونه جواب التمني المفهوم من قوله: "لو أن لي كرة".
ثم ذكر سبحانه جوابه على هذه النفوس المتمنية المتعللة بغير علة فقال: 59-"بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين". المراد بالآيات هي الآيات التنزيلية وهو القرآن. ومعنى التكذيب بها قوله: إنها ليس من عند الله وتكبر عن الإيمان بها، وكان مع ذلك التكذيب والاستكبار من الكافرين بالله. وجاء سبحانه بخطاب المذكر في قوله: جاءتك وكذبت واستكبرت وكنت، لأن النفس تطلق على المذكر والمؤمن. قال المبرد: تقول العرب نفس واحد: أي إنسان واحد، وبفتح التاء في هذه المواضع قرأ الجمهور. وقرأ الجحدري وأبو حيوة ويحيى بن يعمر بكسرها في جميعها، وهي قراءة أبي بكر وابنته عائشة وأم سلمة، ورويت عن ابن كثير.
60- "ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة" أي ترى الذين كذبوا على الله بأن له شركاء وصاحبة وولداً وجوههم مسودة لما أحاط بهم من العذاب، وشاهدوه من غضب الله ونقمته، وجملة وجوههم مسودة في محل نصب على الحال. قال الأخفش: ترى غير عامل في وجوههم مسودة، إنما هو مبتدأ وخبر، والأول أن ترى إن كانت من الرؤية البصرية، فجملة وجوههم مسودة حالية، وإن كانت قلبية فهي في محل نصب على أنها المفعول الثاني لترى، والاستفهام في قوله: "أليس في جهنم مثوى للمتكبرين" للتقرير: أي ليس فيها مقام للمتكبرين عن طاعة الله، والكبر هو بطر الحق وغمط الناس كما ثبت في الحديث الصحيح.
61- "وينجي الله الذين اتقوا" أي اتقوا الشرك ومعاصي الله، والباء في "بمفازتهم" متعلقة بمحذوف هو حال من الموصول: أي ملتبسين بمفازتهم. قرأ الجمهور "بمفازتهم" بالإفراد على أنها مصدر ميمي والفوز: الظفر باخير والنجاة من الشر. قال المبرد: المفازة مفعلة من الفوز وهو السعادة، وإن جمع فحسن: كقولك السعادة والسعادات. والمعنى ينجيهم الله بفوزهم: أي بنجاتهم من النار وفوزهم بالجنة. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر "بمفازتهم" جمع مفازة، وجمعها مع كونها مصدراً لاختلاف الأنواع، وجملة "لا يمسهم السوء" في محل نصب على الحال من الموصول، وكذلك جملة "ولا هم يحزنون" في محل نصب على الحال: أي ينفي السوء والحزن عنهم، يوجوز أن تكون الباء في بمفازتهم للسببية: أي بسبب فوزهم مع انتفاء مساس السوء لهم وعدم وصول الحزن إلى قلوبهم لأنهم رضوا بثواب الله وأمنوا من عقابه. وقد أخرج ابن أبي حاتم قال السيوطي بسند صيحيح وابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت "قل يا عبادي الذين أسرفوا" الآية في مشركي أهل مكة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر قال: كنا نقول ليس لمفتتن توبة وما الله بقابل منه شيئاً، عرفوا الله وآمنوا به وصدقوا رسوله ثم رجعوا عن ذلك لبلاء أصابهم، وكانوا يقولونه لأنفسهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله فيهم "يا عبادي الذين أسرفوا" الآيات، قال ابن عمر: فكتبتها بيدي، ثم بعثت بها إلى هشام بن العاصي. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد قال: لما أسلم وحشي أنزل أنزل الله "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق" قال وحشي وأصحابه: قد ارتكبنا هذا كله، فأنزل الله "قل يا عبادي الذين أسرفوا" الآية. وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم على رهط من أصحابه وهم يضحكون ويتحدثون فقال: والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ثم انصرف وأبكى القوم، وأوحى الله إليه: يا محمد لم تقنط عبادي فرجع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشروا وسددوا وقاربوا". وأخرج ابن مردويه والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب أنها نزلت فيمن أفتن. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنها نزلت في مشركي مكة لما قالوه إن الله لا يغفر لهم ما قد اقترفوه من الشرك وقتل الأنفس وغير ذلك. وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه واليبيهقي في الشعب عن ثوبان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" إلى آخر الآية، فقال رجل ومن أشرك؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، قال ألا ومن أشرك ثلاث مرات". وأخرج أحمد وعبد بن حيمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أنه مر على قاض يذكر الناس فقال: يا مذكر الناس لا تقنط الناس، ثم قرأ "يا عبادي الذين أسرفوا" الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن سيرين قال: قال علي: أي آية أوسع؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن "من يعمل سوءاً أو يظلم نفسه" الآية ونحوها، فقال علي: ما في القرآن أوسع من "يا عبادي" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" الآية قال: قد دعا الله إلى مغفرته من زعم أن المسيح ابن الله، ومن زعم أن عزيزاً ابن الله، ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أن يد الله مغلولة، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة يقول لهؤلاء "أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم" ثم دعا إلى توبته من هو أعظم قولاً من هؤلاء من "قال أنا ربكم الأعلى" وقال "ما علمت لكم من إله غيري" قال ابن عباس، ومن آيس العباد من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله، ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أن تقول نفس" قال: أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوا، وعلمهم قبل أن يعلموا.
قوله: 62- "الله خالق كل شيء" من الأشياء الموجودة في الدنيا والآخرة كائناً ما كان من غير فرق بين شيء وشيء وقد تقدم تفسير هذه الآية في الأنعام "وهو على كل شيء وكيل" أي الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها وتدبيرها من غير مشارك له.
63- "له مقاليد السموات والأرض" المقاليد واحدها مقليد ومقلاد أو لا واحد له من لفظه كأساطير، وهي مفاتيح السموات والأرض والرزق والرحمة. قاله مقاتل وقتادة وغيرهما. وقال الليث: المقلاد الخزانة، ومعنى الآية له خزائن السموات والأرض والرزق والرحمة. قاله مقاتل وقتادة وغيرهما. وقال الليث: المقلاد الخزانة، ومعنى الآية له خزائن السموات والأرض، وبه قال الضحاك والسدي. وقيل خزائن السموات المطر وخزائن الأرض النبات. وقيل هي عبارة عن قدرته سبحانه وحفظه لها، والأول أولى. قال الجوهري: الإقليد المفتاح، ثم قال: والجمع المقاليد. وقيل هي لا إله إلا الله والله أكبر، وسبحان الله وبحمده، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقيل غير ذلك "والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون" أي بالقرآن وسائر الآيات الدالة على الله سبحانه وتوحيده، ومعنى الخاسرون: الكاملون في الخسران لأنهم صاروا بهذا الكفر إلى النار.
64- "قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون" الاستفهام للإنكار التوبيخي، والفاء للعطف على مقدر كنظائره، وغير منصوب بأعبد، وأعبد معمول لتأمروني على تقدير أن المصدرية، فلما حذفت بطل عملها، والأصل: أفتأمروني أن أعبد غير الله. قال الكسائي وغيره. ويجوز أن يكون غير منصوباً بتأمروني، وأعبد بدل منه بدل اشتمال، وأن مضمرة معه أيضاً. ويجوز أن يكون غير منصوبة بفعل مقدر: أي أفتلزموني غير الله: أي عبادة غير الله أو أعبد غير الله أعبد. أمره سبحانه أن يقول هذا للكفار لما دعوه إلى ما هم عليه من عبادة الأصنام وقالوا هو دين آبائك. قرأ الجمهور " تأمرنا " بإدغام نون الرفع في نون الوقاية على خلاف بينهم في فتح الياء وتسكينها. وقرأ نافع "تأمروني" بنون خفيفة وفتح الياء، وقرأ ابن عامر " تأمروني " بالفك وسكون الياء.
65- " ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك " أي من الرسل "لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين" هذا الكلام من باب التعريض لغير الرسل، لأن الله سبحانه قد عصمهم عن الشرك، ووجه إيراده على هذا الوجه التحذير والإنذار للعباد من الشرك، لأنه إذا كان موجباً لإحباط عمل الأنبياء على الفرض،. والتقدير فهو محبط لعمل غيرهم من أممهم بطريق الأولى. قيل وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: ولد أوحى إليك لئن أشركت وأوحى إلى الذين من قبلك كذلك. قال مقاتل: أي أوحى إليك وإلى الأنبياء قبلك بالتوحيد والتوحيد محذوف، ثم قال: لئن أشركت يا محمد ليحبطن عملك، وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقيل إفراد الخطاب في قوله: "لئن أشركت" باعتبار كل واحد من الأنبياء: كأنه قيل أوحي إليك وإلى كل واحد من الأنبياء هذا الكلام، وهو لئن أشركت، وهذه الآية مقيدة بالموت على الشرك كما في الآية الأخرى "ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم" وقل هذا خالص بالأنبياء لأن الشرك منهم أعظم ذنباً من الشرك من غيرهم، والأول أولى.
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بتوحيده، فقال: 66- "بل الله فاعبد" وفي هذا رد على المشركين حيث أمروه بعبادة الأصنام، ووجه الرد ما يفيده التقديم من القصر. قال الزجاج: لفظ اسم الله منصوب باعبد قال: ولا اختلاف في هذا بين البصريين والكوفيين. وقال الفراء: هو منصوب بإضمار فعل، وروي مثله عن الكسائي، والأول أولى. قال الزجاج: والفاء في فاعبد للمجازاة. وقال الأخفش: زائدة. قال عطاء ومقاتل معنى فاعبد وحد، لأن عبادته لا تصح إلا بتوحيده "وكن من الشاكرين" لإنعامه عليك بما هداك إليه من التوحيد والدعاء إلى دينه واختصك به من الرسالة.
67- "وما قدروا الله حق قدره" قال المبرد: أي ما عظموه حق عظمته، من قولك فلان عظيم القدر، وإنما وصفهم بهذا لأنهم عبدوا غير الله وأمروا رسوله بأن يكون مثلهم في الشرك. وقرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى بن عمر قدروا بالتشديد "والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة" القبضة في اللغة ما قبضت عليه بجميع كفك، فأخبر سبحانه عن عظيم قدرته بأن الأرض كلها مع عظمها وكثافتها في مقدوره كالشيء الذي يقبض عليه القابض بكفه كما يقولون: هو في يد فلان وفي قبضته للشيء الذي يهون عليه التصرف فيه وإن لم يقبض عليه، وكذا قوله: "والسموات مطويات بيمينه" فإن ذكر اليمين للمبالغة في كمال القدرة كما يطوي الواحد منا الشيء المقدور له طيه بيمينه، واليمين في كلام العرب قد تكون بمعنى القدرة والملك. قال الأخفش بيمينه يقول في قدرته، نحو قوله: "أو ما ملكت أيمانكم" أي ما كانت لكم قدرة عليه، وليس الملك لليمين دون الشمال وسائر الجسد، ومنه قوله سبحانه: "لأخذنا منه باليمين" أي بالقوة والقدرة، ومنه قول الشاعر: إذا ما راية نصبت لمجد تلقاها عرابة باليمين وقول الآخر: ولما رأيت الشمس أشرق نورها تناولت منها حاجتي بيمين وقول الآخر: عطست بأنف شامخ وتناولت يداي الثريا قاعداً غير قائم وجملة "والأرض جميعاً قبضته" في محل نصب على الحال: أي ما عظموه حق تعظيمه، والحال أنه متصف بهذه الصفة الدالة على كمال القدرة. قرأ الجمهور برفع "قبضته" على أنها خبر المبتدأ، وقرأ الحسن بنصبها، ووجه ابن خالويه بأنه على الظرفية: أي في قبضته. وقرأ الجمهور " مطويات " بالرفع على أنها خبر المبتدأ، والجملة في محل نصب على الحال كالتي قبلها، وبيمينه متعلق بمطويات، أو حال من الضمير في مطويات على الأرض، وتكون قبضته خبراً على الأرض والسموات، وتكون مطويات حالاً، أو تكون مطويات منصوبة بفعل مقدر، وبيمينه الخب{، وخص يوم القيامة بالذكر وإن كانت قدرته شاملة، لأن الدعاوى تنقطع فيه كما قال سبحانه "الملك يومئذ لله" وقال "مالك يوم الدين" ثم نزه سبحانه نفسه فقال: "سبحانه وتعالى عما يشركون" به من المعبودات التي يجعلونها شركاء له مع هذه القدرة العظيمة والحكمة الباهرة.
الصفحة رقم 465 من المصحف تحميل و استماع mp3