تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 468 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 468

468- تفسير الصفحة رقم468 من المصحف
قوله تعالى: "ربنا وأدخلهم جنات عدن" يروى أن عمر بن الخطاب قال لكعب الأحبار: ما جنات عدن. قال: قصور من ذهب في الجنة يدخلها النبيون والصديقون والشهداء وأئمة العدل. "التي وعدتهم" "التي" في محل نصب نعتا للجنات. "ومن صلح" "من" في محل نصب عطفا على الهاء والميم في قوله: "وأدخلهم". "ومن صلح" بالإيمان "من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم" وقد مضى في "الرعد" نظير هذه الآية. قال سعيد بن جبير: يدخل الرجل الجنة، فيقول: يا رب أين أبي وجدي وأمي؟ وأين ولدي وولد ولدي؟ وأين زوجاتي؟ فيقال إنهم لم يعملوا كعملك؛ فيقول: يا رب كنت أعمل لي ولهم؛ فيقال ادخلوهم الجنة. ثم تلا: "الذين يحملون العرش ومن حوله" إلى قوله: "ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم". ويقرب من هذه الآية قوله: "والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم" [الطور: 21].
قوله تعالى: "وقهم السيئات" قال قتادة: أي وقهم ما يسوءهم، وقيل: التقدير وقهم عذاب السيئات وهو أمر من وقاه الله يقيه وقاية بالكسر؛ أي حفظه. "ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته" أي بدخول الجنة "وذلك هو الفوز العظيم" أي النجاة الكبيرة.
الآية: 10 - 12 {إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون، قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل، ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير}
قوله تعالى: "إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم" قال الأخفش: "لمقت" هذه لام الابتداء وقعت بعد "ينادون" لأن معناه يقال لهم والنداء قول. وقال غيره: المعنى يقال لهم: "لمقت الله" إياكم في الدنيا "إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون" "أكبر" من مقت بعضكم بعضا يوم القيامة؛ لأن بعضهم عادى بعضا ومقته يوم القيامة، فأذعنوا عند ذلك، وخضعوا وطلبوا الخروج من النار. وقال الكلبي: يقول كل إنسان من أهل النار لنفسه مقتك يا نفس؛ فتقول الملائكة لهم وهم في النار: لمقت الله إياكم إذ أنتم في الدنيا وقد بعث إليكم الرسل فلم تؤمنوا أشد من مقتكم أنفسكم اليوم. وقال الحسن: يعطون كتابهم فإذا نظروا إلى سيئاتهم مقتوا أنفسهم فينادون "لمقت الله" إياكم في الدنيا "إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون" "أكبر من مقتكم أنفسكم" اليوم. وقال معناه مجاهد. وقال قتادة: المعنى "لمقت الله" لكم "إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون" "أكبر من مقتكم أنفسكم" إذ عاينتم النار. فإن قيل: كيف يصح أن يمقتوا أنفسهم؟ ففيه وجهان: أحدهما أنهم أحلوها بالذنوب محل الممقوت. الثاني أنهم لما صاروا إلى حال زال عنهم الهوى، وعلموا أن نفوسهم هي التي أبقتهم في المعاصي مقتوها. وقال محمد بن كعب القرظي: إن أهل النار لما يئسوا مما عند الخزنة وقال لهم مالك: "إنكم ماكثون" على ما يأتي. قال بعضهم لبعض: يا هؤلاء إنه قد نزل بكم من العذاب والبلاء ما قد ترون، فهلم فلنصبر فلعل الصبر ينفعنا، كما صبر أهل الطاعة على طاعة الله فنفعهم الصبر إذ صبروا، فأجمعوا رأيهم على الصبر فصبروا فطال صبرهم، ثم جزعوا فنادوا "سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص" [إبراهيم: 21] أي من ملجأ؛ فقال إبليس عند ذلك: "إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان" [إبراهيم: 22] إلى قوله: "ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي" [إبراهيم: 22] يقول: بمغن عنكم شيئا "إني كفرت بما أشركتمون من قبل" [إبراهيم: 22] فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم. قال: فنودوا "لمقت الله أكبر من مقتهم أنفسهم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون" إلى قوله: "فهل إلى خروج من سبيل" قال فرد عليهم: "ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير" ذكره ابن المبارك.
قوله تعالى: "قالوا ربنا أمتنا اثنتين" اختلف أهل التأويل في معنى قولهم: "أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين" فقال ابن مسعود وابن عباس وقتادة والضحاك: كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم، ثم أحياهم ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها في الدنيا، ثم أحياهم للبعث والقيامة، فهاتان حياتان موتتان، وهو قوله تعالى: "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم" [البقرة: 28]. وقال السدي: أميتوا في الدنيا ثم أحياهم في القبور للمسألة، ثم أميتوا ثم أحيوا في الآخرة. وإنما صار إلى هذا؛ لأن لفظ الميت لا ينطلق في العرف على النطفة. واستدل العلماء من هذا في إثبات سؤال القبر، ولو كان الثواب والعقاب للروح دون الجسد فما معنى الإحياء والإماتة؟ والروح عند من يقصر أحكام الآخرة على الأرواح لا تموت ولا تتغير ولا تفسد، وهو حي لنفسه لا يتطرق إليه موت ولا غشية ولا فناء. وقال ابن زيد في قوله: "ربنا أمتنا اثنتين..." الآية قال: خلقهم في ظهر آدم وأخرجهم وأحياهم وأخذ عليهم الميثاق، ثم أماتهم ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم. وقد مضى هذا في "البقرة". "فاعترفنا بذنوبنا" اعترفوا حيث لا ينفعهم الاعتراف وندموا حيث لا ينفعهم الندم. "فهل إلى خروج من سبيل" أي هل نرد إلى الدنيا لنعمل بطاعتك؛ نظيره: "هل إلى مرد من سبيل" [الشورى: 44] وقوله: "فارجعنا نعمل صالحا" [السجدة: 12] وقوله: "يا ليتنا نرد" [الأنعام: 27] الآية.
قوله تعالى: "ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم" "ذلكم" في موضع رفع أي الأمر "ذلكم" أو "ذلكم" العذاب الذي أنتم فيه بكفركم. وفي الكلام متروك تقديره فأجيبوا بأن لا سبيل إلى الرد. وذلك لأنكم "إذا دعي الله" أي وحد الله "وحده كفرتم" وأنكرتم أن تكون الألوهية له خاصة، وإن أشرك به مشرك صدقتموه وآمنتم بقوله. قال الثعلبي: وسمعت بعض العلماء يقول: "وإن يشرك به" بعد الرد إلى الدنيا لوكان به "تؤمنوا" تصدقوا المشرك؛ نظيره: "ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه". "فالحكم لله العلي الكبير" عن أن تكون له صاحبة أو ولد.
الآية: 13 - 17 {هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب، فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق، يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار، اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب}
قوله تعالى: "هو الذي يريكم آياته" أي دلائل توحيده وقدرته "وينزل لكم من السماء رزقا" جمع بين إظهار الآيات وإنزال الرزق؛ لأن بالآيات قوام الأديان، وبالرزق قوام الأبدان. وهذه الآيات هي السموات والأرضون وما فيهما وما بينهما من الشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب والبخار والأنهار والعيون والجبال والأشجار وآثار قوم هلكوا. "وما يتذكر" أي ما يتعظ بهذه الآيات فيوحد الله "إلا من ينيب" أي يرجع إلى طاعة الله. "فادعوا الله" أي اعبدوه "مخلصين له الدين" أي العبادة. وقيل: الطاعة. "ولو كره الكافرون" عبادة الله فلا تعبدوا أنتم غيره.
قوله تعالى: "رفيع الدرجات ذو العرش" "ذو العرش" على إضمار مبتدأ. قال الأخفش: ويجوز نصبه على المدح. ومعنى "رفيع الدرجات" أي رفيع الصفات. وقال ابن عباس والكلبي وسعيد بن جبير: رفيع السموات السبع. وقال يحيى بن سلام: هو رفعة درجة أوليائه في الجنة فـ "رفيع" على هذا بمعنى رافع فعيل بمعنى فاعل. وهو على القول الأول من صفات الذات، ومعناه الذي لا أرفع قدرا منه، وهو المستحق لدرجات المدح والثناء، وهي أصنافها وأبوابها لا مستحق لها غيره قال الحليمي. وقد ذكرناه في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى والحمد لله. "ذو العرش" أي خالقه ومالكه لا أنه محتاج إليه. وقيل: هو من قولهم: ثل عرش فلان أي زال ملكه وعزه، فهو سبحانه "ذو العرش" بمعنى ثبوت ملكه وسلطانه وقد بيناه في الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى. "يلقي الروح" أي الوحي والنبوة "على من يشاء من عباده" وسمي ذلك روحا لأن الناس يحيون به؛ أي يحيون من موت الكفر كما تحيا الأبدان بالأرواح. وقال ابن زيد: الروح القرآن؛ قال الله تعالى: "وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا" [الشورى: 52]. وقيل: الروح جبريل؛ قال الله تعالى: "نزل به الروح الأمين على قلبك" [الشعراء: 193] وقال: "قل نزله روح القدس من ربك بالحق" [النحل: 102]. "من أمره" أي من قوله. وقيل: من قضائه. وقيل: "من" بمعنى الباء أي بأمره. "على من يشاء من عباده" وهم الأنبياء يشاء هو أن يكونوا أنبياء وليس لأحد فيهم مشيئة. "لينذر يوم التلاق" أي إنما يبعث الرسول لإنذار يوم البعث. فقوله: "لينذر" يرجع إلى الرسول. وقيل: أي لينذر الله ببعثه الرسل إلى الخلائق "يوم التلاق". وقرأ ابن عباس والحسن وابن السميقع "لتنذر" بالتاء خطابا للنبي عليه السلام. "يوم التلاق" قال ابن عباس وقتاده: يوم تلتقي أهل السماء وأهل الأرض. وقال قتادة أيضا وأبو العالية ومقاتل: يلتقي فيه الخلق والخالق. وقيل: العابدون والمعبودون. وقيل: الظالم والمظلوم. وقيل: يلقى كل إنسان جزاء عمله. وقيل: يلتقي الأولون والآخرون على صعيد واحد؛ روي معناه عن ابن عباس. وكله صحيح المعنى.
قوله تعالى: "يوم هم بارزون" يكون بدلا من يوم الأول. وقيل: "هم" في موضع رفع بالابتداء و"بارزون" خبره والجملة في موضع خفض بالإضافة؛ فلذلك حذف التنوين من "يوم" وإنما يكون هذا عند سيبويه إذا كان الظرف بمعنى إذ؛ تقول لقيتك يوم زيد أمير. فإن كان بمعنى إذا لم يجز نحو أنا ألقاك يوم زيد أمير. ومعنى: "بارزون" خارجون من قبورهم لا يسترهم شيء؛ لأن الأرض يومئذ قاع صفصف لا عوج فيها ولا أمتا على ما تقدم في "طه" بيانه. "لا يخفى على الله منهم شيء" قيل: إن هذا هو العامل في "يوم هم بارزون" أي لا يخفى عليه شيء منهم ومن أعمالهم "يوم هم بارزون". "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار" وذلك عند فناء الخلق. وقال الحسن: هو السائل تعالى وهو المجيب؛ لأنه يقول ذلك حين لا أحد يجيبه فيجيب نفسه سبحانه فيقول: "لله الواحد القهار". النحاس: وأصح ما قيل فيه ما رواه أبو وائل عن ابن مسعود قال: (يحشر الناس على أرض بيضاء مثل الفضة لم يعص الله جل وعز عليها، فيؤمر مناد ينادي "لمن الملك اليوم" فيقول العباد مؤمنهم وكافرهم "لله الواحد القهار" فيقول المؤمنون هذا الجواب" سرورا وتلذذا، ويقوله الكافرون غما وانقيادا وخضوعا. فأما أن يكون هذا والخلق غير موجودين فبعيد؛ لأنه لا فائدة فيه، والقول صحيح عن ابن مسعود وليس هو مما يؤخذ بالقياس ولا بالتأويل.
قلت: والقول الأول ظاهر جدا؛ لأن المقصود إظهار انفراده تعالى بالملك عند انقطاع دعاوي المدعين وانتساب المنتسبين؛ إذ قد ذهب كل ملك وملكه ومتكبر وملكه وانقطعت نسبهم ودعاويهم، ودل على هذا قوله الحق عند قبض الأرض والأرواح وطي السماء: "أنا الملك أين ملوك الأرض" كما تقدم في حديث أبي هريرة وفي حديث ابن عمر، ثم يطوي الأرض بشماله والسموات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون. وعنه قوله سبحانه: "لمن الملك اليوم" هو انقطاع زمن الدنيا وبعده يكون البعث والنشر. قال محمد بن كعب قوله سبحانه: "لمن الملك اليوم" يكون بين النفختين حين فني الخلائق وبقي الخالق فلا يرى غير نفسه مالكا ولا مملوكا فيقول: "لمن الملك اليوم" فلا يجيبه أحد؛ لأن الخلق أموات فيجيب نفسه فيقول: "لله الواحد القهار" لأنه بقي وحده وقهر خلقه. وقيل: إنه ينادي مناد فيقول: "لمن الملك اليوم" فيجيبه أهل الجنة: "لله الواحد القهار" فالله أعلم. ذكره الزمخشري.
قوله تعالى: "اليوم تجزى كل نفس بما كسبت" أي يقال لهم إذا أقروا بالملك يومئذ لله وحده "اليوم تجزى كل نفس بما كسبت" من خير أو شر. "لا ظلم اليوم" أي لا ينقص أحد شيئا مما عمله. "إن الله سريع الحساب" أي لا يحتاج إلى تفكر وعقد يد كما يفعله الحساب؛ لأنه العالم الذي لا يعزب عن علمه شيء فلا يؤخر جزاء أحد للاشتغال بغيره؛ وكما يرزقهم في ساعة واحدة يحاسبهم كذلك في ساعة واحدة. وقد مضى هذا المعنى في "البقرة". وفي الخبر: ولا ينتصف النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار.